خِياطة الجمال بالمادة المنبوذة والمُرسَلة إلى حتفها

التشكيلية اللبنانية ماجدة نصر الدين لـ«الشرق الأوسط»: الاستدامة تُلهم فنّي

وجوه ماجدة نصر الدين قلِقة ومُصابة بالمقتلة (صور الفنانة)
وجوه ماجدة نصر الدين قلِقة ومُصابة بالمقتلة (صور الفنانة)
TT

خِياطة الجمال بالمادة المنبوذة والمُرسَلة إلى حتفها

وجوه ماجدة نصر الدين قلِقة ومُصابة بالمقتلة (صور الفنانة)
وجوه ماجدة نصر الدين قلِقة ومُصابة بالمقتلة (صور الفنانة)

تصف الفنانة التشكيلية اللبنانية، ماجدة نصر الدين، مشاركتها في «مهرجان سكة للفنون 2024»، بالإمارات، حيث تقيم، بالفريدة. هذا حضورها الأول في حدث متنوّع قصده الجمهور للاستمتاع بتجربة إبداعية شاملة، وليس فقط لرؤية الأعمال الفنية. تُشارك «الشرق الأوسط» حكاية إيصال الأفكار باستخدام مواد بسيطة تُحاكي تيمة الاستدامة. فكيس الشاي المُستَعمل، الذي نتخلّص منه عادة من دون تفكير، يصبح «كانفاسها» الخاص. والقهوة التي نحتسيها تتحوّل تحدّياً شخصياً للتلوين بها.

فنُّ التشكيلية اللبنانية ماجدة نصر الدين تُلهمه قضايا البيئة والاستدامة (صور الفنانة)

يستوقفها «الدور الكبير للمتلقّي في إكمال العمل الفني، من خلال إسقاطاته وتأويلاته حول ما يراه. فاختلاف وجهات النظر يُغني العمل ليصبح أعمق». وترى في ارتباط الإبداع بقضايا البيئة والاستدامة مسألة «مُهمّة ومُلهمة» تمنح العمل الفني «ثقلاً إضافياً - إيجابياً، إنْ كان يحمل سمات النجاح من الأساس». تقول: «هذا لن تفعله المواد المُعاد تدويرها وحدها، إذ ثمة مقاييس للعمل الناجح تنبغي مراعاتها. فليس كل استخدام للمواد المُعاد تدويرها هو عمل فني بالضرورة».

نسألها كيف تصبح المادة المُهمَلة، أو المنبوذة، أو المتروكة لشأنها، مثل بقايا القهوة، أو كيش الشاي المُرسل عادةً إلى حتفه، أداةً للتشكيل؟ وكيف بدأ هذا الاهتمام وما أشعله فيها؟ تجيب أنها ابنة الطبيعة الخلّابة، المحيطة بالألوان من كل جانب: «اعتدتُ منذ طفولتي المجيء بورق العنب وأوراق الشجر المختلفة بألوانها البهيّة، وصناعة لوحات جميلة منها. منحتني المجلّات الملوّنة فرحاً خاصاً. لم أدرك حينها أنّ هذا يندرج تحت مُسمَّى الاستدامة. أنجزتُ بشكل فطري بعيداً عن كلّ نظريات الفنّ. أذكر الآن كلام أمي: (أنتِ تخيطين الجمال بمواد يكاد لا يلحظها أحد)».

القهوة التي نحتسيها تتحوّل تحدّياً شخصياً للتلوين بها (صور الفنانة)

تذكُر يوم زار عامل كهرباء منزلها في الشارقة للجباية. راح ينظر بطريقة غريبة إلى أشياء تفترش الأرض: البرتقال المُستَخدم، ونواة التمر... تساءل عما تفعله تلك «القمامة»؟ لم يعلم أنّ ماجدة نصر الدين تستخدمها لزخرفة جرار الفخار، وفي دروس الطباعة الفنية التي كانت تعطيها للسيدات في «جمعية الإمارات للفنون التشكيلية». فنُّها يرى كل ما حولنا، خصوصاً الأشياء المُهمَلة، احتمالاً لإبداع جديد.

ولكن كيف بدأت قصّتها مع القهوة؟ تعود أيضاً للطفولة: «كنت ألوّن ببقايا فناجين القهوة (التِفِل)، وأصنع وجوهاً وأشكالاً غريبة لا تُشبه شيئاً. لم تغب القهوة يوماً عن لوحاتي، خصوصاً حين أستخدم الألوان المائية. عام 2020، بدأتُ بإعطاء دروس رسم عبر (يوتيوب) بهذه المادة. كانت أيام حَجْر، والقهوة متوافرة في كل بيت».

كيس الشاي المُستَعمل يصبح «كانفاسها» الخاص (صور الفنانة)

أخافها هاجس أن يقضي الوباء على حياة البشر بلا رجعة، فتذكُر: «حينها، تحدّيتُ الأسئلة المرعبة في رأسي، وأعدتُ تدوير الأقنعة الواقية من الفيروس التي ارتديتُها. حوّلتُها أعمالاً فنية عُرضت في أكثر من غاليري. أما أكياس الشاي، فلطالما استخدمتُها في تشكيل لوحاتي. المرة الأولى كانت عام 2019 في معرض عن طائر البوم بمقهى (عشّ البومة) في دبي. بعدها توالت أشكال الاستخدامات، لتُجسّد فكرة الوجوه التي قدّمتُها هذا العام في (سكة)، وفي معرض (جمعية الإمارات للفنون التشكيلية). إنجازها شاق، لرقّة الورق ودقّة العمل عليها. أحبُّ تحدّي نفسي بأشياء يصعب تنفيذها».

من لوحات كتاب «ذهان» للشاعرة لوركا سبيتي (صور الفنانة)

ترسم ماجدة نصر الدين الوجوه، وهي غالباً قلِقة، مُبهَمة، غامضة، وربما مصابة بالتشويه والمقتلة. أهذه مراياها الداخلية، أم انعكاس الواقع بعبثيته وحروبه على فنّها؟ وجوهها انعكاسٌ لما يحمله العالم من ظلم وقهر. ذاك الحزن الذي يلاقينا على أكثر من منعطف. تقول: «نحن كائنات هشة رغم اتّسامنا بالقوة والصمود. رحلتي مع الوجوه بدأت من خربشة وجه مشرذم أسميته (كأنّي أنت). أرسمُ تلك الوجوه بما يمليه عليَّ قلبي وحبري. وهذا لا علاقة له بقيمة اللوحة أو عدمها. ثمة وجوه حزينة لا تملك معنى أو قيمةً، والعكس صحيح. وثمة وجوه تضجّ بالفرح تملك كل القيمة الإبداعية. تفرض الذاكرة والواقع الراهن ببشاعته وفظاعته، التماهي والمحاكاة، وهما مِن مهمّات الفنّ على كل حال».

لكنه رغم حزن الوجوه وتشرذمها وقلقها، ثمة مجال لتحمل في طيّاتها كثيراً من الأمل والتحدّي بتجاوز الصعاب. المتعمّق في الملامح، يرى دائماً الاحتمال الآخر.

إعادة تدوير القناع الواقي من الوباء لرؤية الجمال في البشاعة (صور الفنانة)

وترسم أيضاً للأطفال. تقول إنهم أجمل ما في الحياة، فترسم لهم بقلبها الذي لا يزال يحبو. برأيها، «هذا لا يبتعد كثيراً عن الرسم بالأبيض والأسود». فالمسألتان تمنحانها الشعور بالطيران من الفرح، وأنها «الطفلة التي تستكشف اللون الأسود للمرة الأولى». ينبع هذا الفرح رغم السواد في اللوحة لإتاحته إحساس «التحليق في عوالم مغايرة تقود إلى عالم جديد من الدهشة».

حبر على كانفاس... من تجربة ماجدة نصر الدين بالأبيض والأسود (صور الفنانة)

بعد زيارتها لبنان عام 2021، رسمت وجوهاً مأكولة بالحزن، وأرسلتها إلى الشاعرة اللبنانية وكاتبة قصص الأطفال لوركا سبيتي، لإنجاز مشروع إبداعي مشترك يجمع الشعر بالرسم. وُلد كتاب «ذهان 4:48» على هذا الشكل: «أرسمُ لوحة، فتكتب (لوركا) قصيدة؛ وتكتب قصيدةً فأرسمُ لوحة». وعن «شركة المطبوعات للتوزيع والنشر» في بيروت، أنجزت الصديقتان أيضاً كتاب «أنا أحلم» للأطفال. شكّلت الرسوم مرآة لأوجاع الشاعرة، والكلمات صدى لدواخل الرسامة. التقيتا على ضفاف كتاب.

من لوحات «ذهان» للشاعرة لوركا سبيتي (صور الفنانة)

عوالم ماجدة نصر الدين مزيجٌ من وعي ولا وعي، فكيف تستعيد العلاقة بالعالم حين يتلاشى كل شيء ويصبح طلاسم غير مفهومة؟ بالفنّ يحدُث التوازن، فتجيب: «حين أرسم، أراني وسط أسئلة لا تنتهي. بين الحبر واللون، أبحثُ عن وطن. أجمل ما في الأمر، ورغم مراكمة التجارب، هو شعوري أنني طفلة تتهجّأ اللون من جديد». إذن، الإقامة في اللوحة سعادة وليست تحايلاً على التعاسة؟ تجزم: «ليس أجمل من اللوحة يتّخذها الفنان وطناً لتصبح ملجأه حين تضيق الأوطان. أؤمن أنْ (على هذه الأرض ما يستحق الحياة). بالفنّ وشغفي بالإبداع، تحايلتُ على شعوري بالخذلان وحزني وغضبي وقهري مرات كثيرة. وهذه نعمة لا يُستهان بها».


مقالات ذات صلة

«المرايا» رؤية جديدة لمعاناة الإنسان وقدرته على الصمود

يوميات الشرق شخوص اللوحات تفترش الأرض من شدة المعاناة (الشرق الأوسط)

«المرايا» رؤية جديدة لمعاناة الإنسان وقدرته على الصمود

تُعدّ لوحات الفنان السوري ماهر البارودي بمنزلة «شهادة دائمة على معاناة الإنسان وقدرته على الصمود».

نادية عبد الحليم (القاهرة )
يوميات الشرق جانب من معرض أبوظبي للفنون (الشرق الأوسط)

القديم والحديث والجريء في فن أبو ظبي

احتفل فن أبوظبي بالنسخة الـ16 مستضيفاً 102 صالة عرض من 31 دولة حول العالم.

عبير مشخص (أبوظبي)
يوميات الشرق أبت أن تُرغم الحرب نهى وادي محرم على إغلاق الغاليري وتسليمه للعدمية (آرت أون 56)

غاليري «آرت أون 56» رسالةُ شارع الجمّيزة البيروتي ضدّ الحرب

عُمر الغاليري في الشارع الشهير نحو 12 عاماً. تدرك صاحبته ما مرَّ على لبنان خلال ذلك العقد والعامين، ولا تزال الأصوات تسكنها، الانفجار وعَصْفه، الناس والهلع...

فاطمة عبد الله (بيروت)
ثقافة وفنون العالم الجغرافي والمحقق اللغوي الكويتي د. عبد الله الغنيم شخصية معرض الكتاب لهذا العام

معرض الكويت الدولي للكتاب ينطلق غداً... وعبد الله الغنيم «شخصية العام»

ينطلق غداً (الأربعاء) معرض الكويت الدولي للكتاب في دورته الـ47، بمشاركة 544 دار نشر، من 31 دولة، منها 19 دولة عربية و12 أجنبية.

«الشرق الأوسط» (الكويت)
لمسات الموضة كان حب إيلي صعب الإنسان الخيط الذي جمع كل الفنانين الذين حضروا الاحتفالية (رويترز)

5 أشياء تدين بها صناعة الموضة العربية لإيلي صعب

المهتمون بالموضة، من جهتهم، يكنون له الاحترام، لرده الاعتبار لمنطقة الشرق الأوسط بوصفها تملك القدرة على الإبهار والإبداع.

جميلة حلفيشي (لندن)

العلاج لا يصل لـ91 % من مرضى الاكتئاب عالمياً

الاكتئاب يُعد أحد أكثر الاضطرابات النفسية شيوعاً على مستوى العالم (جامعة أوكسفورد)
الاكتئاب يُعد أحد أكثر الاضطرابات النفسية شيوعاً على مستوى العالم (جامعة أوكسفورد)
TT

العلاج لا يصل لـ91 % من مرضى الاكتئاب عالمياً

الاكتئاب يُعد أحد أكثر الاضطرابات النفسية شيوعاً على مستوى العالم (جامعة أوكسفورد)
الاكتئاب يُعد أحد أكثر الاضطرابات النفسية شيوعاً على مستوى العالم (جامعة أوكسفورد)

كشفت دراسة دولية أن 91 في المائة من المصابين باضطرابات الاكتئاب في جميع أنحاء العالم لا يحصلون على العلاج الكافي.

وأظهرت الدراسة، التي قادها فريق من جامعة كوينزلاند في أستراليا، ونُشرت نتائجها، الجمعة، في دورية «The Lancet Psychiatry»، أن كثيرين من المصابين بالاكتئاب لا يتلقون العناية اللازمة، ما يزيد من معاناتهم ويؤثر سلباً على جودة حياتهم.

ووفقاً لمنظمة الصحة العالمية، يعاني أكثر من 300 مليون شخص الاكتئاب، مما يجعله السبب الرئيسي للإعاقة عالمياً. وتشير التقديرات إلى أن 5 في المائة من البالغين يعانون هذا المرض. وضمّت الدراسة فريقاً من الباحثين من منظمة الصحة العالمية وجامعتيْ واشنطن وهارفارد بالولايات المتحدة، وشملت تحليل بيانات من 204 دول؛ لتقييم إمكانية الحصول على الرعاية الصحية النفسية.

وأظهرت النتائج أن 9 في المائة فقط من المصابين بالاكتئاب الشديد تلقّوا العلاج الكافي على مستوى العالم. كما وجدت الدراسة فجوة صغيرة بين الجنسين، حيث كان النساء أكثر حصولاً على العلاج بنسبة 10.2 في المائة، مقارنة بــ7.2 في المائة للرجال. ويُعرَّف العلاج الكافي بأنه تناول الدواء لمدة شهر على الأقل، إلى جانب 4 زيارات للطبيب، أو 8 جلسات مع متخصص.

كما أظهرت الدراسة أن نسبة العلاج الكافي في 90 دولة كانت أقل من 5 في المائة، مع تسجيل أدنى المعدلات في منطقة جنوب الصحراء الكبرى بأفريقيا بنسبة 2 في المائة.

وفي أستراليا، أظهرت النتائج أن 70 في المائة من المصابين بالاكتئاب الشديد لم يتلقوا الحد الأدنى من العلاج، حيث حصل 30 في المائة فقط على العلاج الكافي خلال عام 2021.

وأشار الباحثون إلى أن كثيرين من المرضى يحتاجون إلى علاج يفوق الحد الأدنى لتخفيف معاناتهم، مؤكدين أن العلاجات الفعّالة متوفرة، ومع تقديم العلاج المناسب يمكن تحقيق الشفاء التام. وشدد الفريق على أهمية هذه النتائج لدعم خطة العمل الشاملة للصحة النفسية، التابعة لمنظمة الصحة العالمية (2013-2030)، التي تهدف إلى زيادة تغطية خدمات الصحة النفسية بنسبة 50 في المائة على الأقل، بحلول عام 2030. ونوه الباحثون بأن تحديد المناطق والفئات السكانية ذات معدلات علاج أقل، يمكن أن يساعد في وضع أولويات التدخل وتخصيص الموارد بشكل أفضل.

يشار إلى أن الاكتئاب يُعد أحد أكثر الاضطرابات النفسية شيوعاً على مستوى العالم، حيث يؤثر على ملايين الأشخاص من مختلف الأعمار والفئات الاجتماعية، ويرتبط بشكل مباشر بمشاعر الحزن العميق، وفقدان الاهتمام بالنشاطات اليومية، مما يؤثر سلباً على الأداء الوظيفي والعلاقات الاجتماعية.