بعد إدارة مخيم للنازحين في إدلب... «من احتملت الحرب تستطيع صنع المستحيل»

TT

بعد إدارة مخيم للنازحين في إدلب... «من احتملت الحرب تستطيع صنع المستحيل»

سهيلة من النساء القلائل اللواتي تسلّمن إدارة مخيم في الشمال السوري (الشرق الأوسط)
سهيلة من النساء القلائل اللواتي تسلّمن إدارة مخيم في الشمال السوري (الشرق الأوسط)

في ريف إدلب الشّمالي، على أرض طينية تتسرب بين ثناياها المياه الملوثة، تمشي سهيلة حاج يحيى تعلو وجهها نظرة جدية. مرّت شهور طويلة وهي تحاول إقناع المنظمات الإغاثية بتمديد خطوط للصّرف الصّحي في مخيمها الصغير، لكنها لم تفلح حتى الآن.

الحجة للتقاعس عن المساعدة دوماً واحدة وهي، نقص الدعم، «إنهم يصعبون عملي»، قالت سهيلة التي تقوم بدور مديرة مخيم عشوائي يتألف من 20 عائلة: «أصعب ما أواجهه أن يقول لي أحدهم أنا لا أملك المال لإطعام أطفالي، وأنا عاجزة أمامهم وغير قادرة على مساعدتهم. الميت لا يسعف ميتاً آخر».

منذ خمس سنوات، مع نهاية عام 2019، اضطرت سهيلة للنزوح مع عائلتها من ريف إدلب الجنوبي، بعد أن فقدت زوجها وابنها نتيجة إصابتهما بغارة جوية وهما يعملان في البناء.

تزور سهيلة أهل المخيم لتسمع احتياجاتهم وتطلع على أحوالهم (الشرق الأوسط)

عند وصول النازحين إلى الأراضي الخالية شمالاً، كان لا بد من إقامة مخيم اجتمعت فيه العائلات التي نجا أفرادها بحياتهم تاركين كل ممتلكاتهم وراءهم بحثاً عن الأمان.

«كانت إدارة المخيم صدفة بالنسبة لي»، قالت سهيلة لـ«الشرق الأوسط» شارحة كيف بدأ ابنها بإنشائه وكيف تصاعدت المشاحنات بين الرجال لأسباب بسيطة نتيجة الضغوط النفسية المتصاعدة التي عانوا منها بعد النزوح.

تدخلت سهيلة لتخفيف التوتر ولتسيير أمور المخيم بسلاسة، لتصبح واحدة من النسوة القلائل اللواتي تولين إدارة أحد المخيمات في شمال غربي سوريا، التي تزيد أعدادها على 1500 وفقاً للأمم المتحدة.

«أين الرجال؟»

تصف سهيلة ردود فعل الناس على دورها مديرة للمخيم بـ«المفاجأة والصدمة»، إذ غالباً لا يصدقونها ويطالبون بتقدم رجل ما للحديث معهم، ويتساءلون باستياء: «أين الرجال حتى تكوني أنت المديرة؟»، قالت السيدة (51 عاماً) ضاحكة: «أقول لهم، من لا يريد التعامل معي فبإمكانه الرحيل».

في رأيها، معظم من يطالبون بتولي أمور المخيم يظنون أنها تتقاضى أجراً، أو أنها تتحكم بتوزيع المساعدات البسيطة التي تصل لسكانه، «الواقع أن دوري هو الاستماع للشكاوى والمشاكل ومحاولة التخفيف منها وإيصال صوت سكان المخيم للمعنيين».

تطمئن سهيلة على سكان المخيم (الشرق الأوسط)

لا تنفي سهيلة وجود بعض المعارضين لتوليها أمور المخيم من ضمن العائلات الموجودة فيه، ولكنها تقول إن الأغلبية توافق على وجودها وترى فيه فائدة، خصوصاً لمساعدتها نساء المخيم ورعايتهن لهن في حال كن وحدهن.

تجتمع نساء المخيم عند سهيلة صباح كل يوم ويحكين لها مشاكلهن، التي تعانيها بدورها، فالخيام الرقيقة التي تؤويهم لا تكفي لصد عوامل الجو المتطرفة ولا الأمطار الغزيرة، وتصعب على النساء الاحتفاظ بخصوصيتهن والإحساس بالأمن وقضاء احتياجاتهن للنظافة الشخصية.

فايز رجب الحجي، أحد سكان المخيم، يجد أن تولي سهيلة لإدارة المخيم هو مبعث للراحة والاطمئنان على زوجته حينما يغادر للعمل، وقال لـ«الشرق الأوسط»: «إن كان للمخيم مدير فستكون هنالك العديد من المشكلات»، مشيراً إلى الإحراج الذي سيعانيه مع زوجته في حال اضطرارها للتعامل مع الرجال.

في رأي فايز فإن الانتقاد المتعلق بتولي سهيلة لإدارة المخيم نابع من رغبة بالاستحواذ لدى البعض، ولا يتعلق بكفاءتها، لكنه يعتقد أن من عليها تولّي الإدارة يجب أن تكون ذات شخصية قوية قادرة على المطالبة بحقوقها وحقوق غيرها.

المرأة القائدة

تزيد نسبة النساء والفتيات في شمال غربي سوريا على 50 في المائة من أعداد النازحين، الذين ما زال أكثر من 800 ألف منهم يقيمون في الخيام العشوائية، حسب التقديرات الأممية، حيث كان عليهن تحمل قساوة العيش وتولي القيادة في كثير من الأحيان.

كان للنزوح واللجوء اللذين عاناهما أكثر من 12 مليوناً في سوريا، آثار متضاربة على النساء، إذ تحجم دور بعضهن نتيجة الخوف من الاختلاط بمجتمعات جديدة غير آمنة ودفعت الحاجة أخريات إلى العمل للمرة الأولى لرعاية أسرهن أو لتأمين مصدر العيش بعد فقدان المعيل.

يحتاج المخيم الذي تديره سهيلة لكثير من الدعم (الشرق الأوسط)

تولت نسبة من النساء إعالة عوائلهن بعد وفاة الزوج أو تعرضه للإعاقة أو البتر أو المرض أو الاكتئاب نتيجة الضغوط المتعلقة بالحرب والضغوط الاقتصادية، حسبما قالت سهيلة، التي ترى أن المرأة التي احتملت كل المصاعب الخاصة بخسارة الأحبة والنزوح والعيش في المخيمات «تستطيع صنع المعجزات».

سحر قداد، معلمة متقاعدة تقيم في المخيم قالت إن تولي امرأة لشؤون المخيم ضرورة، «لأن غالبيتنا من النساء ونحن من نضطر للتعامل مع المجتمع»، مشيرة إلى أنها تشعر بالأريحية في التعبير عن احتياجاتها والمشكلات التي تعانيها لسهيلة.

لا تلوم سحر مديرة المخيم على نقص الدعم وتراكم الاحتياجات في المخيم الصغير، إذ تحتاج العائلات إلى السلال الغذائية وخدمات الإصحاح والماء النظيف، وتغيير الخيام المهترئة. وترى أن الرجال الذين تولّوا الإدارة أيضاً غير قادرين على تأمين الدعم لمخيماتهم، «بالعكس المرأة تلح في الطلب أكثر من الرجل»، قالت لـ«الشرق الأوسط» مع ابتسامة واسعة.

تزور سهيلة أهل المخيم لتسمع احتياجاتهم (الشرق الأوسط)

لا يخطئ الزائر لمخيم سهيلة الإحساس العام بالأمومة الذي تشيعه المديرة بين السكان، هي تتعامل مع الكبار منهم كالإخوة، والصغار كالأبناء، وجميعهم يلبّون نداءها في لحظات، «هناك كثيرون ممّن يشجعونني على البقاء والعمل»، قالت مديرة المخيم: «في مجتمعنا نجد المعلمة والطبيبة والمحامية، ولا يمكن لمجتمع أن يستمر من دون امرأة».


مقالات ذات صلة

إيران: عيادة للصحة العقلية لعلاج النساء الرافضات للحجاب

شؤون إقليمية امرأتان تشربان الشاي في الهواء الطلق بمقهى شمال طهران (أ.ب)

إيران: عيادة للصحة العقلية لعلاج النساء الرافضات للحجاب

ستتلقى النساء الإيرانيات اللاتي يقاومن ارتداء الحجاب، العلاجَ في عيادة متخصصة للصحة العقلية في طهران.

«الشرق الأوسط» (لندن)
شمال افريقيا صورة جرى توزيعها في يناير 2024 لنساء وأطفال بمخيم زمزم للنازحين بالقرب من الفاشر شمال دارفور (رويترز)

شهادات «مروعة» لناجيات فررن من الحرب في السودان

نشرت «الأمم المتحدة»، الثلاثاء، سلسلة من شهادات «مروعة» لنساء وفتيات فررن من عمليات القتال بالسودان الذي يشهد حرباً منذ أكثر من عام.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
آسيا صورة من معرض الصور الفوتوغرافية «نو وومنز لاند» في باريس للتعرُّف إلى العالم الخاص للنساء الأفغانيات (أ.ف.ب)

معرض صور في باريس يلقي نظرة على حال الأفغانيات

يتيح معرض الصور الفوتوغرافية «نو وومنز لاند» في باريس التعرُّف إلى العالم الخاص للنساء الأفغانيات، ومعاينة يأسهن وما ندر من أفراحهنّ.

«الشرق الأوسط» (باريس)
آسيا امرأة يابانية مرتدية الزي التقليدي «الكيمونو» تعبر طريقاً وسط العاصمة طوكيو (أ.ب)

نساء الريف الياباني يرفضن تحميلهنّ وزر التراجع الديموغرافي

يعتزم رئيس الوزراء الياباني شيغيرو إيشيبا إعادة تنشيط الريف الياباني الذي انعكست هجرة السكان سلباً عليه.

«الشرق الأوسط» (هيتاشي (اليابان))
الولايات المتحدة​ صورة للصحافية الأميركية - الإيرانية مسيح علي نجاد مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون (صفحتها على موقع «إكس»)

واشنطن تتهم مسؤولاً في الحرس الثوري الإيراني بالتخطيط لاغتيال صحافية في نيويورك

وجّهت الولايات المتحدة اتهامات جديدة إلى مسؤول في الحرس الثوري الإيراني وآخرين بمحاولة خطف صحافية أميركية من أصل إيراني في نيويورك واغتيالها.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

غاليري «آرت أون 56» رسالةُ شارع الجمّيزة البيروتي ضدّ الحرب

أبت أن تُرغم الحرب نهى وادي محرم على إغلاق الغاليري وتسليمه للعدمية (آرت أون 56)
أبت أن تُرغم الحرب نهى وادي محرم على إغلاق الغاليري وتسليمه للعدمية (آرت أون 56)
TT

غاليري «آرت أون 56» رسالةُ شارع الجمّيزة البيروتي ضدّ الحرب

أبت أن تُرغم الحرب نهى وادي محرم على إغلاق الغاليري وتسليمه للعدمية (آرت أون 56)
أبت أن تُرغم الحرب نهى وادي محرم على إغلاق الغاليري وتسليمه للعدمية (آرت أون 56)

عاد إلى ذاكرة مُؤسِّسة غاليري «آرت أون 56»، نهى وادي محرم، مشهد 4 أغسطس (آب) 2020 المرير. حلَّ العَصْف بذروته المخيفة عصر ذلك اليوم المشؤوم في التاريخ اللبناني، فأصاب الغاليري بأضرار فرضت إغلاقه، وصاحبته بآلام حفرت ندوباً لا تُمحى. توقظ هذه الحرب ما لا يُرمَّم لاشتداد احتمال نكئه كل حين. ولمّا قست وكثَّفت الصوتَ الرهيب، راحت تصحو مشاعر يُكتَب لها طول العُمر في الأوطان المُعذَّبة.

رغم عمق الجرح تشاء نهى وادي محرم عدم الرضوخ (حسابها الشخصي)

تستعيد المشهدية للقول إنها تشاء عدم الرضوخ رغم عمق الجرح. تقصد لأشكال العطب الوطني، آخرها الحرب؛ فأبت أن تُرغمها على إغلاق الغاليري وتسليمه للعدمية. تُخبر «الشرق الأوسط» عن إصرارها على فتحه ليبقى شارع الجمّيزة البيروتي فسحة للثقافة والإنسان.

تُقلِّص ساعات هذا الفَتْح، فتعمل بدوام جزئي. تقول إنه نتيجة قرارها عدم الإذعان لما يُفرَض من هول وخراب، فتفضِّل التصدّي وتسجيل الموقف: «مرَّت على لبنان الأزمة تلو الأخرى، ومع ذلك امتهنَ النهوض. أصبح يجيد نفض ركامه. رفضي إغلاق الغاليري رغم خلوّ الشارع أحياناً من المارّة، محاكاة لثقافة التغلُّب على الظرف».

من الناحية العملية، ثمة ضرورة لعدم تعرُّض الأعمال الورقية في الغاليري لتسلُّل الرطوبة. السماح بعبور الهواء، وأن تُلقي الشمس شعاعها نحو المكان، يُبعدان الضرر ويضبطان حجم الخسائر.

الفنانون والزوار يريدون للغاليري الإبقاء على فتح بابه (آرت أون 56)

لكنّ الأهم هو الأثر. أنْ يُشرّع «آرت أون 56» بابه للآتي من أجل الفنّ، يُسطِّر رسالة ضدّ الموت. الأثر يتمثّل بإرادة التصدّي لِما يعاند الحياة. ولِما يحوّلها وعورةً. ويصوّرها مشهداً من جهنّم. هذا ما تراه نهى وادي محرم دورها في الأزمة؛ أنْ تفتح الأبواب وتسمح للهواء بالعبور، وللشمس بالتسلُّل، وللزائر بأن يتأمّل ما عُلِّق على الجدران وشدَّ البصيرة والبصر.

حضَّرت لوحات التشكيلية اللبنانية المقيمة في أميركا، غادة جمال، وانتظرتا معاً اقتراب موعد العرض. أتى ما هشَّم المُنتَظر. الحرب لا تُبقى المواعيد قائمة والمشروعات في سياقاتها. تُحيل كل شيء على توقيتها وإيقاعاتها. اشتدَّت الوحشية، فرأت الفنانة في العودة إلى الديار الأميركية خطوة حكيمة. الاشتعال بارعٌ في تأجيج رغبة المرء بالانسلاخ عما يحول دون نجاته. غادرت وبقيت اللوحات؛ ونهى وادي محرم تنتظر وقف النيران لتعيدها إلى الجدران.

تفضِّل نهى وادي محرم التصدّي وتسجيل الموقف (آرت أون 56)

مِن الخطط، رغبتُها في تنظيم معارض نسائية تبلغ 4 أو 5. تقول: «حلمتُ بأن ينتهي العام وقد أقمتُ معارض بالمناصفة بين التشكيليين والتشكيليات. منذ افتتحتُ الغاليري، يراودني هَمّ إنصاف النساء في العرض. أردتُ منحهنّ فرصاً بالتساوي مع العروض الأخرى، فإذا الحرب تغدر بالنوايا، والخيبة تجرّ الخيبة».

الغاليري لخَلْق مساحة يجد بها الفنان نفسه، وربما حيّزه في هذا العالم. تُسمّيه مُتنفّساً، وتتعمّق الحاجة إليه في الشِّدة: «الفنانون والزوار يريدون للغاليري الإبقاء على فتح بابه. نرى الحزن يعمّ والخوف يُمعن قبضته. تُخبر وجوه المارّين بالشارع الأثري، الفريد بعمارته، عما يستتر في الدواخل. أراقبُها، وألمحُ في العيون تعلّقاً أسطورياً بالأمل. لذا أفتح بابي وأعلنُ الاستمرار. أتعامل مع الظرف على طريقتي. وأواجه الخوف والألم. لا تهمّ النتيجة. الرسالة والمحاولة تكفيان».

الغاليري لخَلْق مساحة يجد بها الفنان نفسه وربما حيّزه في العالم (آرت أون 56)

عُمر الغاليري في الشارع الشهير نحو 12 عاماً. تدرك صاحبته ما مرَّ على لبنان خلال ذلك العقد والعامين، ولا تزال الأصوات تسكنها: الانفجار وعَصْفه، الناس والهلع، الإسعاف والصراخ... لـ9 أشهر تقريباً، أُرغمت على الإغلاق للترميم وإعادة الإعمار بعد فاجعة المدينة، واليوم يتكرّر مشهد الفواجع. خراب من كل صوب، وانفجارات. اشتدّ أحدها، فركضت بلا وُجهة. نسيت حقيبتها في الغاليري وهي تظنّ أنه 4 أغسطس آخر.