نيران القتال في السودان تهدّد حِرفاً عمرها آلاف السنين

قلادة تُستخدم لزينة المرأة السودانية
قلادة تُستخدم لزينة المرأة السودانية
TT

نيران القتال في السودان تهدّد حِرفاً عمرها آلاف السنين

قلادة تُستخدم لزينة المرأة السودانية
قلادة تُستخدم لزينة المرأة السودانية

استعادت حِرفة النقش على المعادن اعتبارها بعد أن صنّفتها منظمة الأمم المتحدة للثقافة والعلوم ضمن قائمة «التراث الثقافي غير المادي» حفاظاً عليها من الزوال بوصفها فنّاً حِرَفيّاً يعتمد على العمل اليدوي بمهارة استثنائية متوارَثة عن الأجداد، عرفها السودانيون منذ آلاف السنين، وتمكنوا رغم ظروف الحرب الدائرة حالياً من تسجيلها ضمن تراثهم غير المادي مع دول عربية أخرى.

يقول عبد الله موسى، خبير ومهتم بالآثار السودانية، في حديث لـ«الشرق الأوسط»: «تشير الدلائل إلى أن مملكة كوش كانت سبّاقة في استخراج المعادن، كما كانت مركزاً للفن والنقش عليها»؛ وتابع: «وجدت المملكة قرب النيل في شمال البلاد ووسطها».

تأسست المملكة سنة 1070 قبل الميلاد، على أجزاء من منطقة النوبة وتشمل منطقة جنوب الشلال الثاني، حيث قامت حضارة وادي النيل النوبية الكوشية. وبدأ الحكم النوبي الكوشي بعد انهيار العصر البرونزي، وتمركزت كوش في نبتة، مدينة مروي السودانية حالياً. وتشمل المنطقة كشوفات أثرية عدّة تُظهر مهارة النقش والزخرفة على القطع الأثرية والمجوهرات والأواني المعدنية وحتى الأسلحة.

وحسب موسى، فقد «تطوّر فن النقش خلال العصر المروي ليشمل الأواني المعدنية الكبيرة التي كانت تُستخدم في الطقوس الدينية والاحتفالات. وغالباً ما تضمّنت نقوش الأواني تصويراً للملوك والملكات في مشاهد العبادة». وتابع: «يُعتقد أن الأقنعة الجنائزية الذهبية التي تُظهر وجوه الملوك والملكات كانت تستخدم خلال مراسم الدفن، وتتميز بنقوش دقيقة تُظهر تفاصيل الوجه والزينة».

قطعة من الذهب منقوشة على شكل هلال تُربط على جبين العريس

ويشير موسى إلى أن الكثير من النماذج التي اكتُشفت في المواقع الأثرية مثل الكرو ومروي ونوري، تُظهر مستوى عالياً من الحرفية والإتقان في النقوش على القطع الفنية.

ولا يزال السودانيون يهتمون بالزينة المنقوشة على المعدن، وتدخل ضمن عادات الزواج مثل قطعة الذهب المنقوشة على شكل هلالٍ وتُربط على جبين العريس في إشارة إلى كثرة المال، ويستعمل في عملية نقش الهلال بعض رموز النماء والخير، وتأتي السيوف المنقوشة بوصفها تراثاً مميزاً لأهل شرق السودان، ومن أجمل إبداعات حرفيّي النقش على المعدن؛ كما يتفنّن عشاق النقش في زينة المرأة السودانية خصوصاً الأقراط أو ما يُعرف بالقمر بوبا المعمول على شكل هلال في داخله نقوشاً تحوي نجوماً وأشكالاً هرمية على طرف القرط ويعرف أيضاً بالفدوة (الفداية)، إذ يعُلّق في أعلى الأذن، ويكون من الذهب الخالص أو الفضة، ويتميز بثقل وزنه، وهذا النوع من الزينة سائد في عموم السودان، خصوصاً في شمال البلاد حيث تتنوع أشكال الزينة النسائيّة المنقوشة لتصل إلى ما يعرف بالخلخال (الحجول)، الذي يشبه الأساور لكنه يُلبس في القدم ويُصنع من الفضة أو النحاس، ويحتوي على نقوش تدلّ على الجمال، ويختلف من منطقة إلى أخرى في شكل النقوش.

يتفنن السودانيون في النقش على زينة المرأة

يقول د.إسماعيل الفحيل، مدير بيت التراث في الخرطوم في حديث لـ«الشرق الأوسط»: «لطالما اهتمّ السودانيون في منطقة سواكن، شرق البلاد، بالنقش على الأبواب الذي شكّل جزءاً من ديكورات المنازل، وتحمل هذه النقوش أشكالاً موروثة منذ قرون، وتعتمد على نحت زخارف بأشكال مختلفة بينها الهندسي وأشكال النباتات أيضاً.

ويوضح الفحيل أن النقش على الأبواب في سواكن شكّل جزءاً من العرض السياحي في شرق السودان.

وعلى الرغم من تسجيل عنصر النقش على المعادن للسودان في ملف مشترك مع عدد من الدول العربية، فإنّ هذا التراث يتعرّض اليوم لمخاطر كبيرة بسبب الحرب الدائرة في البلاد.

من جانبه، حذّر د.أسعد عبد الرحمن، الأمين العام للمجلس القومي للتراث والثقافة وترقية اللغات، من مخاطر القتال على التراث المادي وغير المادي السوداني، مشيراً إلى أن تسجيل عنصر النقش على المعادن ضمن التراث العالمي غير المادي للسودان، يؤكد أن التراث الحيّ يظلّ حيّاً ويسهم في إعطاء الأمل بالمقاومة والتعافي من تداعيات الحرب.

وقال د.عبد الرحمن، لـ«الشرق الأوسط»: إن «الحرب أحالت غالبية الفضاءات الثقافية في البلاد إلى رُكام. ورغم اتساع دائرة القتال في السودان فإن عدداً من علماء الآثار والمنسقين والأكاديميين والمتطوعين السودانيين يبذلون جهوداً كبيرة لحمايتها».

ويشتهر السودان بوجود المعابد النوبية القديمة، إلى جانب عددٍ كبير من الأهرامات، وينسب إليه كونه مسقط رأس تقنيات صناعة الفخار الحديثة، ولم تقتصر آثار الحرب المدمرة التي دخلت شهرها العاشر في العاصمة السودانية الخرطوم وعدد من الولايات والأقاليم السودانية على الأرواح والممتلكات الشخصية وحسب، بل امتدت إلى ذاكرة البلاد الثقافية التي تعود إلى حقب ما قبل الميلاد.

في شمال البلاد تتنوع أشكال الزينة النسائيّة المنقوشة

وحسب تقارير نشرتها «منظمة التراث من أجل السلام»، منظمة غير حكومية للتراث الثقافي على اتصال بباحثين وعلماء آثار محليين، استُهدف ما لا يقلّ عن 28 موقعاً ثقافياً وأثرياً في البلاد، أو تعرضت لأضرار جانبية. في حين لم يصدر أي تصريح رسمي حتى الآن لتقييم الأضرار التي وقعت على المباني الأثرية والإرث المادي وغير المادي السوداني جراء القصف وتبادل إطلاق النيران من الجانبين.

وقالت المنظمة: «إن الجهود التي يبذلها الخبراء والمتطوعون بإمكانها التقليل من خسائر البلاد وضياع ثرواته، إلا أنها تبقى غير كافية»، داعيةً المنظمات الدّولية والجهات المهتمة بالآثار وسلامتها إلى التعاون مع الجهات السودانية المختصة بحماية الآثار والتراث بشقيه المادي وغير المادي.


مقالات ذات صلة

شارع النبي دانيال التاريخي بالإسكندرية في حُلة جديدة

يوميات الشرق مشروع تطوير شارع النبي دانيال في الإسكندرية (رئاسة مجلس الوزراء)

شارع النبي دانيال التاريخي بالإسكندرية في حُلة جديدة

اكتسى شارع النبي دانيال التاريخي في محافظة الإسكندرية حلة جديدة ضمن أعمال التطوير التي تقوم بها الإدارة المحلية.

محمد الكفراوي (القاهرة )
يوميات الشرق يستغرق علماء الآثار العالميون في رحلة عبر الزمن (الشرق الأوسط)

آثار خيبر وعكمة ودادان تستقطب اهتمام علماء الآثار حول العالم

يضمّ المهرجان تجارب مغامرات تتيح لضيوف العلا اكتشاف أسرار طريق البخور الشهير.

عمر البدوي (العلا)
المشرق العربي جزء من قلعة بعلبك الأثرية في لبنان (رويترز)

معالم أثرية لبنانية تعرضت للدمار جراء القصف الإسرائيلي (إنفوغراف)

تتعرض العديد من المعالم الأثرية في لبنان لخطر التدمير وسط اشتداد القصف الإسرائيلي على البلاد منذ أكثر من شهر.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
يوميات الشرق كتاب «العلا موطن الحضارات» باللغة الإنجليزية

السعودية تقدم حضارتها وآثارها القديمة وموروثها الشعبي على ظهر جمل

قدّمت السعودية حضارتها وجوانب رائعة من آثارها ومعالمها التاريخية الخالدة إلى أطفال العالم من خلال مجموعة قصصية أبطالها حقيقيون وشواهدها ماثلة للعيان إلى اليوم.

بدر الخريف (الرياض)
يوميات الشرق تستهدف الندوة توسيع الفهم لأثر التنقل والترحال في تشكيل المجتمعات البشرية (هيئة العلا)

«ندوة العلا العالمية للآثار» تستكشف دور التنقل في تشكيل تاريخ البشرية

تهدف ندوة العلا العالمية إلى استكشاف الدور العميق للتنقل في تشكيل تاريخ البشرية، وتأمل السرديات حول القصص المتعددة عن أثر التنقل والترحال في حياة المجتمعات.

عمر البدوي (العلا)

رحلة بحث عن «الفستان الأبيض» تكشف خبايا «المهمشين»

أفيش الفيلم (الشركة المنتجة)
أفيش الفيلم (الشركة المنتجة)
TT

رحلة بحث عن «الفستان الأبيض» تكشف خبايا «المهمشين»

أفيش الفيلم (الشركة المنتجة)
أفيش الفيلم (الشركة المنتجة)

قبل يوم واحد من حفل زفاف «وردة»، جسّدت دورها الفنانة المصرية ياسمين رئيس، العروس الشابة ابنة الحي الشعبي، تُفاجَأ بأن فستان الزفاف قد تعرّض للحرق ولا يمكن إصلاحه، لتبدأ رحلتها مع ابنة خالتها، أسماء جلال، للبحث عن فستان جديد عبر شوارع القاهرة، وسط أضواء تخفي كثيراً من معاناة المهمشين بها.

كان هذا المشهد مدخلاً لرحلة مثيرة مليئة بالمفاجآت ضمن أحداث فيلم «الفستان الأبيض» الذي تقول مخرجته الشابة جيلان عوف إن رحلتها معه استغرقت 4 سنوات، كتبت خلالها 16 نسخة من سيناريو الفيلم الذي يُعد أول أفلامها الطويلة، وأشارت في حديثها لـ«الشرق الأوسط» إلى أنها تُعد نفسها محظوظة لأنها وجدت منتِجاً مثل محمد حفظي تحمّس لإنتاج الفيلم، كما أنها ممتنة لدخول بطلة فيلمها الفنانة ياسمين رئيس بوصفها منتجة مشاركة في الفيلم، لافتة إلى أن فترة عملها مساعدة مخرج لكبار المخرجين أمثال داود عبد السيد أفادتها كثيراً.

جانب من المؤتمر الصحافي الخاص لفيلم «الفستان الأبيض» (الجونة السينمائي)

وشهد مساء (الأربعاء) العرض الافتتاحي للفيلم في مهرجان «الجونة السينمائي» حيث يشارك بمسابقة الأفلام الروائية الطويلة بحضور فريق العمل وعدد كبير من الفنانين.

وبعد رحلة البحث المضنية تجد «وردة» أخيراً فستاناً قدمته إليها سيدة تعمل في تأجير ملابس الأفلام مجاناً، تحتضن العروس الفستان وترقص فرحاً في الشارع هي وابنة خالتها وصديقتهما فيواجهن تحرّشاً واعتداءً من بعض الشباب فتفقد فستانها للمرة الثانية، وتشعر بإحباط شديد هي وزوجها الذي لم تُزفّ إليه «أحمد خالد صالح»، والذي يعترف لها بأنه تسرّع في قرار الزواج وأنه غير مؤهل له. تفقد وردة حماسها لكل شيء، وتعكس رحلتها عن أزمات عديدة في المجتمع.

وحين تعود لبيت أسرتها تجد مفاجأة بانتظارها لتسود الفرحة حياتها من جديد، ويشاركها فرحتها جيرانها في الحي الشعبي، تظهر ياسمين رئيس عروساً بسيطة تغطي شعرها وقد خلا وجهها من المساحيق في كثير من المشاهد.

تطلّ الفنانة ميمي جمال بمشهد واحد مؤثر داخل قسم الشرطة حيث تلتقي «وردة» وتحكي لها أنها وقّعت «كمبيالات» لأجل تجهيز ابنتها وأنها معرّضة للسجن، وتتعاطف معها «وردة» فتخلع سواراً ذهبياً من يدها وتضعه في يد المرأة العجوز.

وأكّدت المخرجة جيلان عوف وهي أيضاً مؤلفة الفيلم في حوار لـ«الشرق الأوسط» أن التحضير للفيلم استغرق 4 سنوات بدأ بمرحلة الكتابة ثم رحلة البحث عن التمويل وهو أمر عدّته صعباً لأي مخرجة تقود فيلمها الأول، ثم جاءت أحداث «كوفيد 19» ليتوقف الفيلم، بينما كانت تواصل عملها عليه، وفي السنة الأخيرة خاضت التصوير والمونتاج، مشيرة إلى أن التصوير استغرق 24 يوماً غير متواصلة، لكنها تُعدّ نفسها محظوظة: «محظوظة أنا لأن المنتج محمد حفظي، تحمّس لفكرة الفيلم. وممتنّة كثيراً للفنانة ياسمين رئيس (بطلة الفيلم) التي شاركت أيضاً في إنتاجه، وسعيدة بمشاركة المُمثِّلَين أسماء جلال وأحمد خالد صالح اللذين منحاني ثقتهما وشجعاني على إخراج هذا العمل. فكلّ من شاهد الفيلم أحبه بالقدر نفسه، وأتمنى أن يُكلّل ذلك أيضاً بحب الجمهور له».

المخرجة جيلان عوف (الشرق الأوسط)

وعن اختيارها لتقديم فكرة الرحلة التي تقوم بها البطلة بحثاً عن الفستان الأبيض تقول جيلان: إن «رسالة الفيلم تكمن في هذه الرحلة وأن مساعدة الناس بعضهم لبعض هي التي تجعلنا نتخطى أزماتنا».

درست جيلان عوف القانون الدولي في الجامعة الأميركية كما درست السينما والمسرح فيها، لكنها تؤكد أن تعليمها الأساسي اكتسبته من عملها مساعد مخرج مع كبار المخرجين، وفي مقدمتهم داود عبد السيد الذي له فضل كبير عليها وفق قولها، فقد شاركت في فيلمه «رسائل حب» الذي لم يُصوّر، وفيلمه الأخير «قدرات غير عادية». وتتابع: «عملت مع مخرجين أحب أعمالهم ومن بينهم عمرو سلامة وتامر محسن وأحمد علاء وأحمد عبد الله الذي يشارك معي في فيلم (الفستان الأبيض)، بصفته منتجاً إبداعيا، وطوال الوقت كنت أستشيره في مشاهد ومواقف حتى في اختيار الممثلين، وهو أيضاً لديه خبرة إنتاجية كبيرة وكان داعماً لي».

وعملت جيلان مخرجة منفذة، كما خاضت تجارب إنتاجية، مؤكدة أنها متعدّدة وفد أفادتها كثيراً في إنجاز تجربتها الأولى، وأنها تعلّمت خلالها أنه كلّما كان الفيلم بسيطاً يكون أقرب لقلب المشاهد.

وقبل هذا الفيلم أخرجت عوف فيلمين روائيين قصيرين الأول «مهرجاني» الذي عُرض في أول دورة بـ«الجونة السينمائي»، وفيلم «لما جات 10» الذي شارك في مهرجانات عدة قادتها لفيلمها الطويل الأول.

وتُلفت المخرجة إلى سعادتها باختيار فيلم «الفستان الأبيض» ضمن الاختيارات الرسمية لمهرجان «البحر الأحمر السينمائي» في دورته المقبلة، مؤكدة أنه سيكون أول عرض خارج مصر.

وتشير جيلان إلى أنها اكتسبت مرونة في البحث عن بدائل لأنه لا يوجد مخرج ولا مخرجة يستطيع أن يقول إنه حقّق كل ما تمنى، لكن من المهم عدم تنازلي عن الأشياء المهمة وأن تكون لدي مرونة البدائل وأن أجد حلولاً لكل موقف خلال التصوير، وفي المونتاج هناك أشياء تحدث صدفة وحين يجري توليفها تحلّ بعض المواقف المعقدة.

أفيش الفيلم (الشركة المنتجة)

وخلال المؤتمر الصحافي الذي نُظّم (الخميس) تحدثت الفنانة ياسمين رئيس عن حماسها لدخول تجربة الإنتاج وقالت: «بعد فترة من عملي في الفن اكتشفت أن وجودي ممثلة لا يعتمد فقط على الموهبة، فهناك جانب تجاري وهناك أدوار قد أتحمّس لها بصفتي ممثلة، ولا يتحمّس لها منتج الفيلم. ووجدت الحل في أن أكون جزءاً من الفيلم». وذكر المنتج محمد حفظي أن ياسمين رئيس ستُطلق شركة إنتاج قريباً.

في حين ذكرت الفنانة أسماء جلال أن المخرجة اهتمت بالتحضيرات الجيدة للفيلم، واستعانت بامرأة من منطقة شعبية لتتكلّم أمامنا، وعلمنا منها تفاصيل لم نكن نعلمها.