المعلّم أنطوان ملتقى يغادر الخشبة إلى الدور الأخير

رائد، عصامي، معلّم، هو المسرحي أنطوان ملتقى، الذي خسره لبنان عن عمر 91 عاماً، بعد رحلة استثنائية على خشبة المسرح وفي كواليسها. ممثل حاذق، مخرج مجتهد، قضى عمره في البحث والتجريب، لبلوغ الأفضل.

هو ابن لبنان التكوين والتأسيس. ولد عام 1933 في «وادي شحرور». كان لا يزال طفلاً حين لعب دور مزارع صغير، ثم مثّل مع أبناء الحي. وكما في العديد من القرى اللبنانية، كان لوادي شحرور نوادٍ للرياضة والمسرح والسينما، ومن خلالها قدّم عام 1950 مسرحيته الأولى «آلزير» تمثيلاً وإخراجاً، مقتبساً إياها عن فولتير.

في الجامعة درس الفلسفة، لكنه غرق في كتب شكسبير، قرأه حتى الثمالة، وبقي مهجوساً به وبأبطاله ودرامية نصوصه. كانت الفاتحة العملية مع كاتبه الأثير عندما أخرج ومثّل «ماكبث» في الجامعة.

أنطوان ولطيفة ملتقى

تعرّف أنطوان على لطيفة شمعون، وتزوج بها بعد قصة حب عاصفة، لتصبح رفيقة دربه في الفن كما في الحياة، وليرتبط اسماهما معاً، ويعرفان بأعمالهما المشتركة. علماً أن لطيفة الحقوقية، دخلت المسرح معه بمحض صدفة، وبعد اختبار نجحت فيه وأكملت الطريق، وأنجبا ثلاثة أبناء، أحدهما زاد ملتقى الموسيقي والفنان التشكيلي.

كان لقاؤه بالمخرج منير أبو دبس انطلاقة جديدة، في التلفزيون ثم في المسرح، ومن خلال «فرقة المسرح الحديث»، لكن سرعان ما دب الخلاف بينهما، بسبب تباين المنهج والرؤية في العمل. أبو دبس يرى أن ثمة دوراً كبيراً للمخرج في قولبة أداء الممثل، وأنطوان يعتقد أن دور المخرج يقف عند تحفيز الممثل وإطلاق قدراته وإخراج أحسن ما لديه. وهذا يتناسب مع اهتمامه الشديد بالحالة النفسية لممثليه، ومساعدته لهم على تفجير الكوامن الداخلية للشخصية التي يؤدون دورها. وهو لشدة اهتمامه بتدريب من يعملون معه، لجأ إلى اليوغا كوسيلة لصقل مهاراتهم، كما عمل على تعليمهم النطق السليم، ومخارج الحروف، وكيفية التنفس، للتحكم في الصوت.

ملتقى الذي آمن بخصب العمل الجماعي، تعاون باستمرار مع فنانين من مختلف الاختصاصات، ومخرجين ذوي اتجاهات متباينة وأسس بعد أن ترك أبو دبس «حلقة المسرح اللبناني» ومن خلالها أحيا النقاشات، وعقد المؤتمرات ودرّب وقدم المسرحيات.

يصحّ القول إن أنطوان ملتقى نظر إلى دوره أبعد من مسرحي وفنان، فقد كان دينامو ثقافيا لا يهدأ عن العمل والتفكير والتعاون مع الآخرين. واحدة من أفكاره كانت «مهرجانات راشانا» التي تعدّ من أقدم المهرجانات اللبنانية. عكف على تنظيمها ميشال بصبوص في قريته التي حولها إلى محترف للنحت واستقبل الفنانين، مع أخوية الفريد وجوزيف. هناك في راشانا من بين ما قدمه ملتقى مسرحية «جريمة وعقاب» عن رواية دوستويفسكي عام 1963، و«ماكبث» عام 1962 وأقيمت المسرحيات والمعارض التشكيلية. وهناك أيضاً جاء جاك لانغ شاباً مع فرقة من فرنسا لتقديم عمل مسرحي، ليصبح بعد ذلك أحد أشهر وزراء الثقافة في بلاده.

أنطوان ملتقى

هذه الرغبة عند ملتقى في التعاون مع كتاب ومثقفين وتشكيليين، جعلته في حالة بحث دائم عن تكوين مجموعات عمل. فقد كان أحد المؤسسين لـ«مسرح الأشرفية» ومن بعد إغلاقه كان «المسرح الاختباري». وكان ملتقى أيضاً وراء تشكيل «تجمع المسرح المعاصر» الذي عمّر سنة واحدة. كما تعاون مع غالبية مسرحيي عصره، من برج فازليان إلى ميشال غريب وجلال خوري.

وإلى جانب المسرح لم ينقطع ملتقى عن التعليم، أستاذاً للفلسفة والرياضيات في ثانوية فرن الشباك الرسمية، منذ العام 1958 حتى 1966، كما أصبح أستاذاً في الجامعة اللبنانية منذ إنشاء معهد الفنون الجميلة عام (1965) ولغاية تقاعده (1996)، وهو الذي أسس معهد التمثيل، وأداره لسنوات.

ودور ملتقى كأستاذ خرّج أجيالاً من الفنانين، يبقى من بين أدواره المؤثرة. وقد نعاه طلابه إثر ذيوع خبر وفاته، وتحدثوا بإسهاب عن مآثره، وعطاءاته، وإخلاصه في نقل تجربته إلى الأجيال الجديدة.

النزعة الشكسبيرية عند ملتقى جعلته يقبل على تقديم مسرحيات عبقري المسرح الإنجليزي ويعيد تقديمها باستمرار لا سيما «ماكبث» أضف إليها «ريتشارد الثالث» و«كوميديا الأخطاء». وعرف عنه أنه من بين الأوائل الذين قدموا مسرحاً ناطقاً بالعربية، بعد أن كنت لغة الخشبة في غالبيتها فرنسية في ذلك الوقت. وأخذ عليه أنه كان يقدم مسرحيات مقتبسة عن نصوص ذات أصول أجنبية، لكن كانت له تبريراته.

وبعد «عرس الدم» التي عرضها على رأس جبل في بلدة إهدن الشمالية، واستخدم الطبيعة والمرتفعات كجزء من الديكورات التي اعتلاها الممثلون، وما رافقها من تأثر الحاضرين، وانفعالاتهم، قرر أن يعنى بالمشكلات الاجتماعية، كجزء من رسالته كفنان، وأدرك أهمية انصهاره في هموم جمهوره، فكانت «سوء تفاهم» و«كاليغولا» لألبير كامو و«الذباب» لجان بول سارتر.

في مسلسل عشرة عبيد صغار

وعرف الجمهور العريض ملتقى حين شارك في تمثيل المسلسل التلفزيوني اللبناني «عشرة عبيد صغار» حيث دخل إلى كل بيت.

حيوية أنطوان ملتقى جعلته متعدد الأدوار، فهو الذي يقتبس، وأحياناً يمثل، وغالباً ما يفضّل التركيز على الإخراج، ويتدخّل في كل شاردة وواردة. يعتبر أن نظرته كمخرج إلى السينوغرافيا التي كان يفضلها متقشفة، لا بد أن تؤخذ بعين الاعتبار، من قبل مصمم الديكور. كذلك كان يولي وهو الذي يحب الخشبات العارية، الضوء دوراً محورياً في إبراز حركة الممثلين ومشاعرهم. لكن الذي لم يكن يحبذه هما الغناء والموسيقى على المسرح، لأنهما لا يتناسبان ونزعته الفلسفية في بناء الحوارات وتحريك الشخصيات.

ومع أن الرجل مال باستمرار لتعريب نصوص أجنبية واقتباسها وتقديمها باللغة العربية، إلا أنه بقي متمسكاً وهو يقدم أعماله بتمايزه كشرقي، وباختلافه في الهوية. وبالتالي، لم يكن ملتقى الذي بدأ التمثيل على خشبة في الهواء الطلق، وهذا ما كان شائعاً، بسبب عدم وجود المسارح المغلقة، يغيب عن باله، أنه يخاطب جمهوراً مختلفاً تماماً عن الذي كان يتواصل معه شكسبير. لهذا لجأ أحياناً إلى المسرح الذي يتوسط الجمهور، والذي يلتف حوله المتفرجون من كل الزوايا، ويحتم على الممثل أداءً خاصاً يختلف عن الأداء في المسرح الغربي.

هكذا يمكن القول إن أنطوان ملتقى الذي يعتبر أحد رواد «المسرح اللبناني الحديث» انطلق من الصفر تقريباً، في غياب أي بنى مسرحية، وفي لحظة تعرّف على المسرح الغربي بأصوله ونظرياته. وكان ممن أسسوا بدءاً من منتصف القرن الماضي، باجتهادهم وتجاريبهم، ومغامراتهم، وجرأتهم، لقواعد مسرحية سواء في التدريب والتعليم ضمن الحلقات، أو في التدريس الأكاديمي، أو في فتح المجال أمام نقاشات مستمرة، حول دور الممثل، وحدود عمل المخرج، وقيمة الإضاءة، وإمكانية الاستفادة من رسامين، وشعراء ونحاتين في عالم المسرح.

بصرف النظر عن طبيعة النتاجات التي قدمها أنطوان ملتقى، فقد فتح الباب واسعاً أمام التفكير، والسؤال، والتجاريب الإبداعية.