انتقام السيّدة الفرنسيّة الأولى

فيلم يروي رحلة صعود برناديت شيراك من الظلّ إلى الضوء

الممثلان كاترين دونوف وميشال فوييرموز بشخصيّتَي برناديت وجاك شيراك (شركة وارنر)
الممثلان كاترين دونوف وميشال فوييرموز بشخصيّتَي برناديت وجاك شيراك (شركة وارنر)
TT

انتقام السيّدة الفرنسيّة الأولى

الممثلان كاترين دونوف وميشال فوييرموز بشخصيّتَي برناديت وجاك شيراك (شركة وارنر)
الممثلان كاترين دونوف وميشال فوييرموز بشخصيّتَي برناديت وجاك شيراك (شركة وارنر)

يوم دخلت برناديت شيراك إلى قصر الإليزيه عام 1995 مرافقةً زوجها الرئيس، لم تُفتح أبواب القاعات المُتلألئة أمامها. وُضعت السيّدة الأولى الخجولة والمرتبكة في الظلّ، فاضطّرّت إلى ملء فراغ البدايات بالاعتناء بالحدائق والمطابخ، ورغم ذلك فهي لم تُمنَح سوى فُتات المائدة الرئاسية.

في فيلم «برناديت»، تعود المخرجة والكاتبة ليا دوميناك إلى 12 سنة من تاريخ الجمهورية الفرنسية، تحديداً إلى ولايتَي جاك شيراك الرئاسيتَين (1995 – 2007). كان بالإمكان تسمية الفيلم «انتقام السيّدة الأولى»، نظراً لحكاية التحوّل الملهمة التي يرويها، ولاحتفائه بصعود برناديت من قعر العتمة إلى ذروة الضوء.

يرتكز العمل السينمائي إلى الوقائع، ويلوّنها بحسٍّ عالٍ من الفكاهة وببعض الفنتازيا. لا يغوص في متاهات السياسة، بل يصبّ تركيزه على يوميات السيدة التي انتقلت من صفة «منبوذة»، إلى لقب «الشخصية النسائية المفضّلة لدى الفرنسيين».

كمَن يمنح نفسه صكّ براءةٍ مُسبَق، ينطلق فيلم «برناديت» بأغنية تقول: «ما سوف يلي هو في الأغلب قصة خياليّة». غير أن مَن واكبوا الرئيس الفرنسي الراحل جاك شيراك وزوجته برناديت (90 عاماً)، يعلمون كم أنه كان ممتلئاً بذاته، وقد نُقل عنه قوله المتكرّر لها: «كم أنتِ محظوظة لأنك تزوّجتِني».

برناديت شيراك وصديقتها سلحفاة حديقة الإليزيه (شركة كاري للإنتاج)

يُحكى أنّ شيراك لم يغازل برناديت يوماً، بل اكتفى بتشبيهها بالسلحفاة، معاتباً إياها على بطئها. وفي لفتة رمزيّة ضمن الفيلم، تطلّ سلحفاةٌ صغيرة من بين أعشاب الحديقة، لترافق السيّدة الأولى في رحلة شفائها من جراح الإهمال والاستخفاف بقدراتها.

يتّخذ الفيلم شكل الانتقام أما المضمون فيلعب على وتر النسويّة، من دون الغرق في رتابة السيرة الذاتية، وقد راقَ هذا الأمر كثيراً للممثلة الفرنسية كاترين دونوف. تبنّت «محبوبة الفرنسيين» مسيرة برناديت، بما فيها من لحظاتٍ طريفة ومواقف أليمة.

الملصق الرسمي لفيلم «برناديت» (شركة كاري للإنتاج)

هي سيّدة تجاوزت الـ60 من عمرها، وعليها أن تواجه رجال القصر، في طليعتهم زوجها. يتعمّق الصراع العائلي أكثر، إذ تقف ابنتها كلود في صفّ والدها مستشارةً له، فيشكّلان حلفاً ضدّ ظهور برناديت العلنيّ وتدخّلها في شؤون الرئاسة. ينزعج الجميع من تلك السيدة «القديمة الطراز»، وصاحبةِ اللسان السليط الذي لا يوفّر أحداً؛ تُشبّه رئيس الحكومة ألان جوبيه بـ«الفاكهة الجافّة»، وتلقّب خلَفَه دومينيك دو فيلبان بـ«نيرون».

لا شيء يخفض صوت برناديت، وعندما يأتون لها بمستشارٍ علّه يهدّئ من نبرتها، تتّخذ الأمور منحىً جديداً. يلعب مدير مكتب السيدة الأولى، برنارد نيكي، دوراً محورياً في معركتها الانتقاميّة. يتلاقيان على كونهما شخصَين مستبعدَين وغير مرغوبٍ فيهما، فينسجان معاً قصة نجاح تحجز للسيّدة شيراك مقعداً ذهبياً في قلوب الفرنسيين، ولاحقاً في قصر الإليزيه.

بمساعدة مستشارها الإعلامي خرجت السيدة الأولى إلى الضوء (شركة كاري للإنتاج)

إنها

حرب الثنائيات بين برنارد وبرناديت من جهة، وجاك شيراك وابنته كلود في المقابل. لكن رغم الشخصيات المشحونة ضدّ بعضها البعض، فإنّ ذلك لا ينعكس ثقلاً على المشاهدين، إذ يمرّ الفيلم بسلاسةٍ مدعومةٍ بالكوميديا والفواصل الموسيقية الراقصة.

لم تكتفِ برناديت بمسؤولياتها السياسية كعضو بلديّة ومستشارة في بلدة كوريز الفرنسية، بل قادت حملاتٍ إنسانية على امتداد الجمهورية الفرنسية. فبعد اكتشافها خيانة شيراك لها مع امرأة إيطالية ليلة وفاة الأميرة ديانا في باريس صيف 1997، قلبت الجرح انتفاضة وأطلقت مجموعةً من المبادرات الاجتماعية. على رأس المشاريع التي تبنّتها، «عملية القطع النقديّة الصفراء» وهدفُها تشجيع طلّاب المدارس على التبرّع بالمال للأطفال المرضى القابعين في المستشفيات.

المواجهة المستمرة بين برناديت شيراك وابنتها كلود (شركة كاري للإنتاج)

صحيحٌ أنها انطلقت من رغبةٍ في التقرّب من الناس وكسر صورة السيدة الأولى الباردة والمملّة، إلا أنها في المقابل حملت تلك القضايا بعاطفةٍ واهتمامٍ كبيرَين. وبدعمٍ من مستشارها ومن المصمّم كارل لاغرفيلد الذي أشرف على تفاصيل إطلالتها، وصلت «السلحفاة» بسرعة إلى قلوب الفرنسيين واحتلّت المرتبة الأولى فيها خلال 7 سنوات متتالية، وفق استطلاعات الرأي آنذاك.

شكّلت برناديت شيراك علامة فارقة في قافلة زوجات الرؤساء الفرنسيين، إذ لم تستطع واحدة منهنّ منافسة شعبيّتها. فاجأت الجميع بالانقلاب الذاتيّ الذي حقّقته، لكنّ صدمة زوجها بها بقيت صامتة، فاكتفى بالمراقبة عن بُعد محاولاً الاستفادة من شعبيّتها المستجدّة خلال حملته الرئاسية الثانية. صمّ آذانه عن آرائها ونصائحها السياسية، وتحصّنَ خلف شخصية فولاذيّة جسّدها الممثل ميشال فوييرموز بقدرٍ كافٍ من الإقناع، ومع حرصٍ من قِبَل المخرجة على عدم إطلاق الأحكام على شيراك وتحريض المُشاهد على شخصه.

السيّدة الفرنسية الأولى برناديت شيراك خلال احتفال في قصر الإليزيه عام 2006 (أ.ف.ب)

في تسعينها اليوم، اعتزلت شيراك الحياة العامة وقد تراجعت صحّتها كثيراً خلال العامَين الماضيَين. هي لم تشاهد بالتالي عودتها السينمائية، إلا أنّ ردّة فعل ابنتها كلود على الفيلم جاءت سلبيّة. ومن أبرز أسباب الاعتراض العائلي على الفيلم، تصويره كواليس حياة ابنة الثنائي شيراك الكبرى لورانس، والتي أمضت معظم سنواتها في مصحّة بسبب إصابتها بمرض فقدان الشهية العصبي.

هذا الجرح الذي أضيف إلى جراح برناديت الزوجيّة، تطرّقت إليه علناً للمرة الأولى في مذكّراتها الصادرة عام 2001. وقد تزامن قرار إصدارها سيرتها الذاتية، مع حملة زوجها الانتخابية الثانية؛ الأمر الذي فاقم الصدام بينهما.

تزامن إصدار برناديت شيراك لمذكّراتها مع حملة زوجها الانتخابية الثانية (شركة وارنر)

حتى اللحظة الأخيرة، أخذ جاك برأي برناديت في كل شاردة وواردة صغيرة؛ ممّا سيأكل إلى ما سيرتدي. لكنه في الشؤون الكبيرة، غيّبها حتى نهاية العهد، وهو لم يتوانَ عن إهانتها. ففي أحد مشاهد الفيلم، وفيما كانت تلقي كلمة في الإيليزيه، أرسل إليها ورقة كتب عليها: «اصمتي».

أما هي فأحبّته بمثابرةِ السلحفاة التي فازت بالسباق إلى قلوب الفرنسيين، وحقّقت الانتقام لذاتها والانتصار للأنثى المقموعة.


مقالات ذات صلة

«تسجيلي» مصري يوثّق تاريخ الأقصر «أقوى عواصم العالم القديم»

يوميات الشرق معابد الأقصر تحتضن آثار الحضارة القديمة (مكتبة الإسكندرية)

«تسجيلي» مصري يوثّق تاريخ الأقصر «أقوى عواصم العالم القديم»

لم تكن قوة الأقصر ماديةً فحسب، إنما امتدّت إلى أهلها الذين تميّزوا بشخصيتهم المستقلّة ومهاراتهم العسكرية الفريدة، فقد لعبوا دوراً محورياً في توحيد البلاد.

محمد الكفراوي (القاهرة )
يوميات الشرق مشهد من الفيلم السعودي «ثقوب» (القاهرة السينمائي)

المخرج السعودي عبد المحسن الضبعان: تُرعبني فكرة «العنف المكبوت»

تدور الأحداث حول «راكان» الذي خرج إلى العالم بعد فترة قضاها في السجن على خلفية تورّطه في قضية مرتبطة بالتطرُّف الديني، ليحاول بدء حياة جديدة.

أحمد عدلي (القاهرة )
سينما  مندوب الليل (آسيا وورلد فيلم فيستيڤال)

«مندوب الليل» لعلي الكلثمي يفوز في لوس أنجليس

في حين ينشغل الوسط السينمائي بـ«مهرجان القاهرة» وما قدّمه وما نتج عنه من جوائز أو أثمر عنه من نتائج وملاحظات خرج مهرجان «آسيا وورلد فيلم فيستيڤال» بمفاجأة رائعة

محمد رُضا‬ (القاهرة)
سينما دياماند بوعبّود وبلال حموي في «أرزة» (مهرجان أفلام آسيا الدولي)

شاشة الناقد: فيلمان من لبنان

أرزة هي دياماند بو عبّود. امرأة تصنع الفطائر في بيتها حيث تعيش مع ابنها كينان (بلال الحموي) وشقيقتها (بَيتي توتَل). تعمل أرزة بجهد لتأمين نفقات الحياة.

محمد رُضا (لندن)
يوميات الشرق الفنان المصري أحمد زكي قدم أدواراً متنوعة (أرشيفية)

مصر تقترب من عرض مقتنيات أحمد زكي

أعلن وزير الثقافة المصري الدكتور أحمد فؤاد هنو عن عرض مقتنيات الفنان المصري الراحل أحمد زكي، ضمن سيناريو العرض الخاص بمركز ثروت ‏عكاشة لتوثيق التراث.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )

الصراع بين المنطق والعاطفة... لماذا لا نستطيع مقاومة التسوق في «بلاك فرايداي»؟

«بلاك فرايداي» لديه طريقة فريدة لإثارة سلوكيات غير عقلانية (رويترز)
«بلاك فرايداي» لديه طريقة فريدة لإثارة سلوكيات غير عقلانية (رويترز)
TT

الصراع بين المنطق والعاطفة... لماذا لا نستطيع مقاومة التسوق في «بلاك فرايداي»؟

«بلاك فرايداي» لديه طريقة فريدة لإثارة سلوكيات غير عقلانية (رويترز)
«بلاك فرايداي» لديه طريقة فريدة لإثارة سلوكيات غير عقلانية (رويترز)

هل شعرت يوماً بصراع بين المنطق والعاطفة أثناء البحث عن تنزيلات للتبضع، خصوصاً فيما يعرف بـ«يوم الجمعة الأسود» (Black Friday)؟

وفق تقرير لموقع «سايكولوجي توداي»، فإن «بلاك فرايداي» لديه طريقة فريدة لإثارة سلوكيات تبدو غير عقلانية تماماً.

وأشار التقرير إلى أن هذه التفاعلات ليست عشوائية؛ فهي متجذرة بعمق في علم النفس البشري.

فلماذا إذن يمتلك هذا الحدث السنوي للتسوق القدرة على جعل ملايين الناس يتصرفون وكأن الحصول على أداة مخفضة السعر مسألة حياة أو موت؟

وتحدث التقرير عن أنه غالباً ما لا تكون عروض «بلاك فرايداي» أفضل الخصومات في العام. تستخدم العديد من الشركات التسعير الديناميكي القائم على الخوارزميات استناداً إلى بيانات المستهلكين؛ مما يعني أن بعض العناصر قد تكون أسعارها مماثلة - أو حتى أقل - خلال مبيعات أخرى طوال العام.

ومع ذلك، سنة بعد سنة، نصطف بفارغ الصبر خارج المتاجر عند الفجر، أو نعطل خوادم التجارة الإلكترونية بنقراتنا المحمومة. هذا لا يتعلق بالمنطق، بل يتعلق بالعاطفة. «بلاك فرايداي» ليس مجرد حدث تسوق، إنه ساحة معركة نفسية حيث تتولى غرائزنا زمام الأمور.

الإثارة والخوف من تفويت الفرصة

على سبيل المثال: أنت تتطلع إلى ساعة ذكية محدودة الإصدار، ولا يوجد سوى «ساعتين متبقيتين في المخزون». ينبض قلبك بسرعة، وتتعرق راحتا يديك، وتنقر فوق «اشترِ الآن» أسرع مما تتخيل.

يتم هندسة هذا المزيج الغامض من الإثارة والقلق بعناية من قبل المسوقين. تخلق إشارات الندرة - مثل تحذيرات انخفاض المخزون ومؤقتات العد التنازلي - إلحاحاً؛ مما يؤدي إلى إثارة خوفنا من تفويت الفرصة.

والخوف من تفويت الفرصة ليس مجرد اختصار جذاب، بل هو استجابة نفسية متجذرة في نفور الخسارة. وهو يصف كيف أن الألم الناتج عن فقدان الفرصة أقوى بكثير من فرحة الحصول على شيء ما. ولكن هناك المزيد من العوامل التي تلعب دوراً هنا؛ إذ يستغل يوم «بلاك فرايداي» أيضاً رغبتنا في الشعور بالنصر. فالحصول على صفقة يشبه الفوز بلعبة ــ وهو الشعور الذي يتضخم بفعل الأجواء الاحتفالية والحشود والديناميكيات التنافسية. فنحن لا نشتري المنتجات فحسب، بل «نتفوق» على الآخرين في الفوز بجائزة.

مبدأ الندرة

يفترض مبدأ الندرة أن الناس يعطون قيمة أكبر لأقل الفرص توفراً. وفي يوم «الجمعة السوداء»، يستغل تجار التجزئة هذا من خلال تقديم صفقات «محدودية الوقت» ومنتجات «حصرية». وعندما ندرك أن شيئاً ما نادر، تشتد رغبتنا في الحصول عليه. غالباً ما يؤدي هذا الاستعجال إلى اتخاذ قرارات شراء متهورة؛ إذ نخشى أن يؤدي التأخير إلى تفويت الفرصة بالكامل.

الدليل الاجتماعي

يشير مفهوم الدليل الاجتماعي إلى أن الأفراد ينظرون إلى سلوك الآخرين لتحديد أفعالهم الخاصة.

خلال «بلاك فرايداي» يخلق مشهد المتاجر المزدحمة والطوابير الطويلة ومنشورات وسائل التواصل الاجتماعي التي تعرض المشتريات، تأثيراً يشبه تأثير عربة الموسيقى.

ونفترض أنه إذا شارك الكثير من الأشخاص، فيجب أن تكون الصفقات تستحق العناء. يعزز هذا السلوك الجماعي قرارنا بالانضمام، حتى لو لم نخطط للتسوق في البداية.

نظرية السعر المرجعي

وفقاً لنظرية السعر المرجعي، يقيم المستهلكون الأسعار بناءً على «سعر مرجعي» داخلي - وهو معيار يعتقدون أنه عادل. يتلاعب تجار التجزئة بهذا من خلال عرض أسعار أصلية مبالغ فيها إلى جانب أسعار مخفضة. حتى لو لم يكن السعر النهائي صفقة حقيقية، فإن التباين يجعل الخصم يبدو أكثر أهمية؛ مما يجبرنا على إجراء عملية شراء قد نتخطاها بخلاف ذلك.

قرارات مبنيّة على العاطفة

تلعب العواطف دوراً محورياً في قرارات الشراء الخاصة بنا. إن عقوداً من أبحاث المستهلكين تخبرنا أن الاستجابات العاطفية يمكن أن تؤثر بشكل كبير على سلوك المستهلك. فالأجواء الاحتفالية في «الجمعة السوداء» ــ بما في ذلك موسيقى الأعياد والعروض النابضة بالحياة وإثارة المنافسة ــ تثير ردود فعل عاطفية قوية.

ويمكن لهذه المشاعر أن تتغلب على التفكير العقلاني؛ مما يدفعنا إلى إجراء عمليات شراء مدفوعة بالإثارة وليس الضرورة. فما هو الاستهلاك في نهاية المطاف إن لم يكن تجربة مثيرة؟!

تأثير الهِبَة

بمجرد أن نضيف عنصراً إلى عربة التسوق ــ سواء كان موجوداً في عربة تسوق مادية أو في تجاويف رقمية لعربة تسوق على الإنترنت ــ يبدأ الشعور وكأنه ملك لنا بالفعل. ويطلق علماء النفس على هذا تأثير الهبة؛ ولهذا السبب يصبح التخلي عنه أكثر صعوبة.