من بيئاتهم المحرومة إلى آفاق الموسيقى الواسعة

مشروع «إل سيستيما» يدرّب أطفال لبنان على العزف والغناء المحترفَين

«إل سيستيما» مبادرة اجتماعية لتعليم الأطفال اللبنانيين العزف والغناء الجماعي (الشرق الأوسط)
«إل سيستيما» مبادرة اجتماعية لتعليم الأطفال اللبنانيين العزف والغناء الجماعي (الشرق الأوسط)
TT
20

من بيئاتهم المحرومة إلى آفاق الموسيقى الواسعة

«إل سيستيما» مبادرة اجتماعية لتعليم الأطفال اللبنانيين العزف والغناء الجماعي (الشرق الأوسط)
«إل سيستيما» مبادرة اجتماعية لتعليم الأطفال اللبنانيين العزف والغناء الجماعي (الشرق الأوسط)

منذ 3 أشهر غادرت الطفلة ليلى جرجور قريتها الحدوديّة رميش جنوبي لبنان بعد اشتداد القصف هناك، وانتقلت مع عائلتها إلى بيروت. في المدينة، نسيت ليلى (8 أعوام) دويّ القذائف وأزيز طائرات الاستطلاع الإسرائيلية. فعلت الموسيقى فعلها على الصغيرة التي انضمّت إلى جوقة «إل سيستيما» المنبثقة عن جمعيّة «بيروت ترنّم»، حيث بدأت تعلُّم الغناء وتعرّفت إلى أصدقاء جدد.

تختار ليلى من بين الأغاني «نقّيلي أحلى زهرة» لزكي ناصيف كأفضل ما حفظت، وتنتقي رفيقةً قادمة من طرابلس لتصنّفها الأقرب إلى قلبها. أما والدة ليلى، فتروي لـ«الشرق الأوسط» كيف أنّ التمارين الأسبوعية انعكست على ابنتها ثقةً بالنفس وفرحاً.

ليلى (يسار الصورة) تغنّي مع زملائها في كورال «إل سيستيما» (الشرق الأوسط)
ليلى (يسار الصورة) تغنّي مع زملائها في كورال «إل سيستيما» (الشرق الأوسط)

نقطة ضوء في عيون الأطفال

ليست «إل سيستيما» فكرة تربويّة طارئة، بل هي تعود إلى عام 1975 وتحديداً إلى فنزويلا، عندما نشأ البرنامج المجّاني El Sistema لتعليم الموسيقى للأطفال الآتين من بيئات مهمّشة. أكثر من 60 بلداً حول العالم اقتبسوا المبادرة رافعين شعار «الموسيقى من أجل التغيير المجتمعي».

أما في لبنان، فقد انطلق المشروع منذ سنتَين بدعمٍ من «بيروت ترنّم» والسفارة الأميركية. يشبّه المدير المسؤول عن البرنامج ريشارد عازوري، الأمر بالأكاديمية الموسيقية غير الرسمية للأطفال، الذين يَفِدون من المناطق اللبنانية كافةً بهدف دراسة الموسيقى. يشكّل المشروع نقطة ضوء بالنسبة إلى المواهب الصغيرة، في وقتٍ باتت تُعتبر التربية الموسيقية من الكماليّات وسط المعاناة الاقتصادية لدى العائلات اللبنانية.

أطفال «إل سيستيما» خلال إحدى الحصص التدريبية (الشرق الأوسط)
أطفال «إل سيستيما» خلال إحدى الحصص التدريبية (الشرق الأوسط)

صحيح أنّ «إل سيستيما» بنسختها اللبنانية لم ترتدِ بعد طابعاً رسمياً، إلا أنّ القيّمين عليها وطلّابها على قدرٍ عالٍ من الجدّية في التعامل مع هذه الفرصة الفنية. «التدريب أسبوعيّ وينقسم ما بين عزف وغناء جماعي»، يشرح عازوري لـ«الشرق الأوسط». يتولّى 10 أساتذة متخصصون مسؤولية أكثر من 150 طفلاً تتراوح أعمارهم ما بين 5 و15 عاماً، فيعلّمونهم قراءة النوتات والعزف على آلات الكمان والباس والتشيللو، كما يدرّبونهم على الغناء الجماعيّ المحترف.

رحلة شاقّة فداءً للموسيقى

بعض أطفال المجموعة يتكبّد عناء الرحلة الأسبوعية من مدنٍ وقرى بعيدة عن العاصمة. ورغم المسافات الطويلة، فهم يصلون إلى الصفّ والبسمات تعتلي وجوههم، متحمّسين لقضاء 4 ساعات وسط النغمات والإيقاعات الشرقية والغربية.

«لدينا طلّاب يأتون من عنجر ورأس بعلبك بقاعاً، وآخرون من صيدا وطرابلس وجبيل وغيرها من المناطق البعيدة»، يوضح عازوري. «لا يتقاعسون إطلاقاً، بل هم الذين يصرّون على أهاليهم أن يوصلوهم»، مع العلم بأنّ الجمعية تتكفّل بتأمين بدل النقل للأهالي، في ظلّ ارتفاع أسعار المحروقات. أما عندما يعودون إلى بلداتهم وبيوتهم، فيحملون آلاتهم معهم ويتدرّبون خلال الأسبوع، مستبدلين العزف والغناء باللعب وشاشة الهاتف.

تتعامل جمعية «بيروت ترنّم» مع هذا المشروع على أنه «قضية اجتماعية»، إذ ليس الهدف منه تعليم الموسيقى فحسب، بل إنشاء روابط وثيقة بين أبناء المناطق اللبنانية.

تَحقّق الهدف فعلاً، فكما أنّ ليلى الآتية من أقصى الجنوب عثرت على الصداقة في زميلةٍ لها آتية من الشمال، كذلك أطفالٌ كثيرون بنَوا صداقاتٍ فيما بينهم، على اختلاف المدن والخلفيّات. ويلفت عازوري في هذا الإطار إلى أن روح التعاون هي السائدة ولا تنافس على الأفضليّة، بل هم يعلّمون بعضهم البعض، وإذا تقدّمَ أحدُهم على الآخر في استيعاب الدرس، يُسارع إلى مساعدة رفاقه.

أبعد من دروس الموسيقى، نشأت صداقات بين الأطفال الآتين من مختلف المناطق اللبنانية (الشرق الأوسط)
أبعد من دروس الموسيقى، نشأت صداقات بين الأطفال الآتين من مختلف المناطق اللبنانية (الشرق الأوسط)

آثار نفسية إيجابية بالجملة

كان لبرنامج «إل سيستيما» انعكاسٌ إيجابيّ كذلك على معنويّات الأطفال، فشكّل متنفّساً لهم على المستوى النفسي. «يكفي أن نسمع ضحكاتهم عندما يصلون إلى الدرس، حتى نتأكّد من الأثر النفسي الإيجابي الكبير عليهم»، يقول عازوري. وهم ليسوا المستفيدين الوحيدين على هذا الصعيد، فمدير المشروع نفسُه يقرّ بأنّ هاتَين السنتَين غيّرتا الكثير في حياته: «أعادتني هذه التجربة إلى أبوّتي. فبعد أن كبر أولادي، وجدتُ في هؤلاء الأطفال أبنائي الجدد».

قطع متدرّبو «إل سيستيما» أشواطاً في العزف على الكمان (الشرق الأوسط)
قطع متدرّبو «إل سيستيما» أشواطاً في العزف على الكمان (الشرق الأوسط)

منذ انضمامهم إلى البرنامج، اتّسعت آفاق الأطفال الآتي معظمهم من بيئات محرومة. أخذتهم الموسيقى إلى أماكنَ أجمل، كما سعى القيّمون على المشروع إلى إحاطتهم بأشكال جديدة من الثقافة.

أحد أهمّ لقاءاتهم مع الجمهور العريض الصيف الماضي، جرى بالتعاون مع فرقة «Black Alley» الأميركية المتخصصة في موسيقى الراب والروك. غنّوا وعزفوا معاً، وتآلفوا مع رهبة خشبة المسرح.

تعرّف الأطفال كذلك على أهمية الفنّ الذي يوظَّف في خدمة قضية إنسانية، يوم وقفوا على مقربة من مرفأ بيروت في صيف 2023. بأصواتهم وأوتارهم قدّموا التحية إلى أرواح مَن خسروا حياتهم في التفجير الذي استهدف العاصمة اللبنانية قبل سنتَين.

اختبر متدرّبو «إل سيستيما» مفهوم المسؤولية المجتمعية، من خلال حلقات تثقيفية حول أساسيات العيش المشترك، والانفتاح على الآخر، وحماية البيئة. وهم باتوا مُدركين أهمية إعادة التدوير والامتناع عن رمي النفايات في الشارع.

«على العجلات»

للثقافة السياحية حصّة ضمن برنامج «إل سيستيما»، إذ إن المجموعة بدأت منذ شهرَين سلسلة جولات على المناطق اللبنانية. «مَن ليس قادراً على زيارتنا، سنذهب نحن لزيارته»، يقول عازوري متحدّثاً عن مبادرة «On Wheels» (على العجلات). وتقوم الفكرة على أن يستقلّ الأطفال وأهاليهم وأساتذتهم الباصات بشكلٍ دوريّ، ويقصدون بلدةً من البلدات اللبنانية.

أطفال «إل سيستيما» خلال زيارتهم إلى بلدة أنفة الشمالية (الشرق الأوسط)
أطفال «إل سيستيما» خلال زيارتهم إلى بلدة أنفة الشمالية (الشرق الأوسط)

يزور الأطفال قريباً طرابلس ودوما وبشرّي شمالاً، وهم كانوا قد حطّوا رحالهم سابقاً في كلٍ من دير القمر في جبل لبنان وأنفة في الشمال.

لم تقتصر الزيارات على السياحة والتعرّف على أترابهم في المناطق، إذ إنّ الأطفال قدّموا عروضاً موسيقيّة غنائية في كل محطة حلّوا فيها ضيوفاً، وأفسحوا المجال أمام أطفال تلك المناطق البعيدة عن العاصمة لمشاركتهم الغناء.


مقالات ذات صلة

جائزة «اليونيسكو الفوزان الدولية» و«موهبة» تطلقان النسخة الثانية من «عين على المستقبل»

عالم الاعمال الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز وعبد الله الفوزان مع المشاركين في الملتقى (الشرق الأوسط)

جائزة «اليونيسكو الفوزان الدولية» و«موهبة» تطلقان النسخة الثانية من «عين على المستقبل»

انطلق يوم الاثنين 28 أبريل (نيسان) في مدينة الرياض، ملتقى «عين على المستقبل» في نسخته الثانية، والذي يهدف إلى تبادل الرؤى والأفكار وفتح آفاق جديدة في التعاون…

العالم العربي وزير التربية والتعليم المصري مع أحد طلاب الثانوية في أبريل 2025 (وزارة التربية والتعليم)

«استفتاء البكالوريا» يعيد الجدل حول الثانوية العامة في مصر

لطالما مثّلت الثانوية العامة في مصر مصدر قلق للطلاب والأهالي، حتى مع التغيرات العديدة التي شهدتها في السنوات الماضية.

رحاب عليوة (القاهرة)
إعلام  تسجيل في الجامعة الأميركية برأس الخيمة (الشرق الأوسط)

مساعٍ أكاديمية خليجية لمواجهة «الإعلام المضلِّل»

في ظل تصاعد التهديد الذي تفرضه المعلومات المضلّلة والروايات المصطنعة على المجتمعات، تبرز مساعٍ أكاديمية منهجية لمواجهة هذه الظاهرة المتنامية عبر برامج تعليمية

مساعد الزياني (دبي)
يوميات الشرق رئيس جامعة هارفارد آلان غاربر (موقع جامعة هارفارد)

رئيس هارفارد: لا خيار لدينا سوى مواجهة إدارة ترمب

كشف رئيس جامعة هارفارد، آلان غاربر، خلال مقابلة مع قناة «إن بي سي»، يوم الأربعاء، أنه لم يكن أمامه خيار سوى مواجهة إدارة ترمب.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
يوميات الشرق تستهدف الشراكة الأفراد والجهات الحكومية والشركات عبر مجموعة دورات تدريبية واسعة (الشرق الأوسط)

شراكة بين «أكاديمية SRMG» و«الخليج» في التدريب الإعلامي

أعلنت المجموعة السعودية للأبحاث والإعلام عن شراكة بين «أكاديمية SRMG» وشركة «الخليج للتدريب» لتقديم برامج تدريبية متقدمة للقادة والمحترفين في الإعلام والاتصال.

«الشرق الأوسط» (الرياض)

رجل يدهس أطفالاً باليابان... ويبرر للشرطة: «سئمت من كل شيء»

عناصر من الشرطة اليابانية (أرشيفية - رويترز)
عناصر من الشرطة اليابانية (أرشيفية - رويترز)
TT
20

رجل يدهس أطفالاً باليابان... ويبرر للشرطة: «سئمت من كل شيء»

عناصر من الشرطة اليابانية (أرشيفية - رويترز)
عناصر من الشرطة اليابانية (أرشيفية - رويترز)

ألقت الشرطة اليابانية القبض على رجل للاشتباه في قيامه بدهس سبعة أطفال بسيارته أثناء عودتهم إلى منازلهم، ما أدى إلى إصابتهم جميعاً، وأحدهم إصابته خطيرة.

وقال مسؤولون إن الشرطة تتعامل مع القضية على أنها محاولة قتل وليست قيادة متهورة، وذلك لأن المشتبه به، يوكي يازاوا (28 عاماً)، أخبر المحققين بأنه «سئم وتعب من كل شيء» وإنه قاد سيارته، اليوم الخميس، صوب الأطفال قاصداً قتلهم.

وقالت شرطة مقاطعة أوساكا إنه تم إلقاء القبض على يازاوا في مكان الحادث، وإنه يواجه اتهامات بالشروع في القتل. وأضافت أن أعمار التلاميذ المصابين تتراوح بين 7 و8 سنوات، وأنهم كانوا عائدين إلى منازلهم من مدرسة ابتدائية قريبة.

وأوضحت شرطة أوساكا أن فتاة (7 أعوام) أصيبت بكسر في الفك، بينما أصيب الستة الآخرون - وجميعهم من الصبيان - بجروح طفيفة، وفق ما نقلته وكالة «أسوشييتد برس» الأميركية.

وأظهرت لقطات تلفزيونية مشهداً لسيارات إسعاف متوقفة في شارع خلفي ضيق، فيما كان المسعفون يقدمون الإسعافات الأولية للأطفال.

يشار إلى أن جرائم العنف نادرة في اليابان، ولكن في السنوات الأخيرة شهدت البلاد عدداً من الهجمات التي استخدمت فيها سكاكين أو متفجرات بدائية الصنع.