التقاليد جزء لا يتجزأ من ثقافة الإنسان؛ تلعب دوراً مهماً في تشكيل هويته وتعزيز الروابط الاجتماعية، بل وتتيح له نقل المعرفة عبر الأجيال.
وهذه التقاليد الرمزية المتجذّرة في التاريخ تغمر الإنسان بإحساس الاستمرارية والاستقرار، في عالم لا يهدأ من التغيُّر، بينما يحاول فنانون تأمل هذه العلاقة الحيوية، واستكشاف جوانب مختلفة من حياة الإنسان بأعمال فنية تُجسِّد الممارسات الفولكلورية والعادات الاجتماعية والتقاليد المجتمعية، وما توارثه الأجيال من الأسلاف، والتغيرات التي يعاصرونها من خلال حركة دائبة من التحضُّر.
هذا ما يتسرب إليك وأنت تتجوَّل في فضاء واسع من الفنون، وأسبوع كامل من الفعاليات والمعارض والأنشطة التي احتفت بالثقافة والمجتمع، في «أسبوع مسك للفنون»، والتئام أكثر من 150 فناناً وخبيراً في مجال الفنون والثقافة، حوّلوا العاصمة السعودية إلى بيئة حيّة من التنوُّع والإبداع.
منصة إبداعية لعرض الأعمال الفنية والثقافية وتبادل الخبرات والحوار الثقافي والتفاعل مع الجمهور احتضنها «أسبوع مسك للفنون» الذي يختتم (الأحد)، في حدث فني يجمع أطياف الفنانين الشباب بخبراء الفنّ ومُتذوّقيه لتمكين إبداعاتهم والتحليق في فضاءات الفنون الأصيلة.
ومع انطلاق «أسبوع مسك للفنون»، الثلاثاء، في «صالة الأمير فيصل بن فهد للفنون»، الذي ينظِّمه «معهد مسك للفنون»، و«مؤسسة محمد بن سلمان (مسك)»، بدأت سلسلة من ورش العمل والفعاليات المصاحبة، بالإضافة إلى حوارات فنية ودورات تعليمية، ومعارض فنية، وعروض مباشرة من الفنانين المشاركين، والخبراء في المجال نفسه.
الماضي وقوداً للتقدم المجتمعي
ضمن برامج الأسبوع، اتّقدت نقاشات معمَّقة، بمشاركة خبراء تتصل تجاربهم بالمجالات الإبداعية، في «المنتدى الإبداعي» الذي دشن حوارات بين المبدعين والخبراء لتعزيز الوعي بالواقع والتاريخ وتسليط الضوء على مختلف التعبيرات الفنية، في رحلة إثراء وتجربة إلهام وقصة تروي صلة التقاليد بالحاضر والمستقبل.
يومان من الجلسات الحوارية والنقاشات الثرية حول الصلة بالتقاليد وانعكاسها على الواقع المعاصر قدّمها نخبة من المتخصصين في مختلف المجالات الإبداعية.
ركّز اليوم الأول من المنتدى الإبداعي على مسألة التقاليد والنظر إليها بصفتها بُعداً تعبيرياً عن الذات، وعُقدت 7 جلسات تنوعت في أبعاد موضوع التقاليد، وإعادة صياغتها والانتقال داخل ذاكرة العادات والتقاليد نحو التغيير الدائب والمستمر.
وركزت جلسة الدكتور جاسر الحربش، رئيس هيئة التراث في السعودية، على قدرة التوسع في التعبير على تشجيع تطور التقاليد وتكيُّفها مع السياقات المجتمعية والتاريخية المتغيرة، من منطلق ما تُشكّله التقاليد من هوية للمجتمعات وشعور أفرادها بالانتماء؛ إما بإحياء بعض الشعائر الدينية أو المناسبات الثقافية أو التعبير الفني أو حتى العادات الاجتماعية التي يمكن التعبير عنها بمختلف الوسائل، كاللغة والموسيقى والرقص والطعام وغيرها من الحِرف الثقافية، وهو ما يعكس استمرارية اتصالها بالماضي، ويؤثر على طريقة تفاعل الناس بعضهم مع بعض ومع العالم مِن حولهم.
وفي اليوم الثاني، استمرَّت الجلسات في تناول موضوع التقاليد، والنظر في أبعادها المتصلة بالموسيقى والكوميديا والتصاميم والأزياء والعمارة، وما طرأ على كل مجال من تحوَّلات أبقت على طيف من الماضي، ومحاولات استعادة تجديدية تحاول في تقديمها بعض الأطروحات والمنتجات الفنية والإبداعية، وجعل الماضي وقوداً للتقدُّم المجتمعي.
قصص فريدة تُروى
تضمن الأسبوع برنامجاً حافلاً على مدى 6 أيام من المعارض والعروض الفنية، والمنتدى الإبداعي، والدورات المختصة، وورش العمل وسوق الفن والتصميم، والعروض الموسيقية والأدائية، وعدداً من المعارض المصاحبة وفّرت فرصاً ثمينة للمبدعين الصاعدين لتطوير ممارساتهم، وسمحت للزائرين من حول العالم بالتفاعل مع المشهد الفني السعودي المزدهر.
وأتاحت 4 معارض، ضمن الأسبوع للفنانين المشاركين، من خلالها أن يعبّروا عن أفكارهم ويطلقوا طاقاتهم الكامنة لتشكِّل حوارات معاصرة تعبِّر بالتالي عن الإمكانيات والقدرات السعودية، وتعكس حيوية هذه المنطقة، كما تربط هذه المعارض الفنانين بقاعدة جماهيرية جديدة من زائري الأسبوع الفني.
وقدم «أسبوع مسك للفنون» في نسخة العام الحالي معرض «من حولهم» الذي يشارك فيه 20 فناناً من روّاد الفن التشكيلي السعودي يعرضون أعمالاً استلهموها مما حولهم، ويحيون من خلال هذا المعرض إرث الفن في السعودية مُجسّداً في 55 عملاً فنياً من عام 1959 حتى عام 1989، من منظور مجموعة من روّاد فنِّها الأوائل؛ 20 فناناً لعبوا دوراً محورياً في تشكيل هوية الفنون البصرية محلياً.
استمد الفنانون إلهامهم من محيطاتهم التي ترعرعوا بها ما بين مناظرها الطبيعية ومناطقها الحضرية وعِمارتها التقليدية، بل حتى تفاصيل العلاقات البشرية في ظل تأثير التنوع البيئي والثقافي والاجتماعي، بأساليب تُشكّل رؤيتهم لمحيطاتهم تلك وشدَّة تأثرهم بها، وتطرق أبواب المخيلة لتفكر في أوجه التعدد والاختلاف لبعض المظاهر في المملكة.
ويوقد معرض «مِرقاب» شرارة الفضول في العادات والممارسات اليومية، ويسلّط الضوء على الدور الذي تلعبه الطقوس بوصفها حجر أساس للذاكرة الجماعية، ومصدراً للهوية والاستمرارية، ونافذة ثقافية ووحدة للمجتمع في تقاليده وقيمه المشتركة على مرّ الزمان والمكان.
وابتكر فنانو معرض «مِرقاب» أنماطاً تشكِّل جزءاً لا يتجزَّأ من المشهد الثقافي، من مُنطلق التكرار الذي يُعد شرياناً حيوياً في قلب التقاليد والهوية المجتمعية، وبنوا بذلك مرقاباً يتطّلع الناظر من خلاله على مُختلف الطقوس التي اعتادت المجتمعات ممارستها، مُجسّدين دورها في تعزيز الشعور بالترابط والانتماء.
وفي معرض «أطروحات غائبة»، تأتي الأعمال الفنية نِتاجاً لرحلة استكشاف مستمرة وبحث يتمحور حول تلاشي الممارسات التقليدية والموروثات والعادات الاجتماعية الدائمة التي تُعد شرياناً حيوياً للهوية والنظر إلى ممارسات الأسلاف وتجسيد التقاليد من منظور الفن المعاصر، وخلق حوار بين الماضي والحاضر، وإعادة تفسيرها وإحيائها، في إطار تكاملي يمهّد طريق التقاليد لتحافظ على روحها في عالم معاصر وتتوافق مع طبيعة تناميه.
واستعرض الأسبوع أعمال الدورة السادسة من إقامة مساحة لعشرة فنانين وكتّاب، تظهر تناغم التراث مع النظرة المستقبلية، حيث جاء جوهر عرض أعمال إقامة مساحة الحوار بين الماضي والمستقبل، فصوّرت العملية الإبداعية بيئة الإقامة الشاملة التي كانت استكشافاً للفنانين والكتّاب شخصياً وجماعياً، حيث تجسد أعمالهم تذكيراً بأن المستقبل ليس مقصداً بعيداً وغريباً، بل ملاذ يمكن لجوهر تاريخنا أن يزهر من خلاله بطرق جديدة وغير متوقَّعة.