العمارة الشعبية إبداعٌ فني تلقائي، وثيق الارتباط بالبيئة المحلية، يعكس وحدة المزاج الإنساني والسلوك الفطري نحو الإنشاء. ومن خلال معرض تنظّمه وزارة الثقافة المصرية في «مركز الهناجر للفنون»، بساحة دار الأوبرا، تكريماً للمعماري المصري الدكتور عصام صفي الدين، يمكن رصد تاريخ هذه العمارة وأهم ملامحها في مصر.
يتناول المعرض الذي ينظّمه أيضاً الجهاز القومي للتنسيق الحضاري، برئاسة المهندس محمد أبو سعدة عبر 74 نموذجاً مجسّماً ولوحة توضيحية، العمارة الشعبية بأنماطها المختلفة، والتقسيمات الإقليمية لها، فضلاً عن إسهامات صفي الدين، مؤسِّس علم العمارة الشعبية، والذي عايش قلب مصر المعماري منذ أواخر الخمسينات؛ فكان يسافر إلى مختلف الأنحاء ليرصد سماتها وتفاصيلها ويصوّرها فوتوغرافياً، ويوثّقها عن طريق الرسم اليدوي، على مدى أكثر من 60 عاماً.
إلى هذا، يضيء المعرض على دوره في إقامة كيانات مهمة، مثل تأسيس «بيت المعمار المصري»، و«متحف الفنون الشعبية»، إضافة إلى جهوده في تأسيس منهج استخلاص الطابع المعماري. من خلال ذلك، يساهم أيضاً في تعزيز الثقافة المعمارية لدى الجمهور، والتأكيد على المفهوم الصحيح للعمارة الشعبية من دون خلطها بفنون وعلوم أخرى، منها العمارة البيئية والمستدامة؛ فتعكس المقتنيات تحايل الإنسان البسيط على استقراره المكاني، وتحقيق العزل الحراري والتعاون الجماعي لتحدّي الظروف البيئية. وفي هذا السياق تُعد مصر نموذجاً حياً عتيقاً للعمارة الشعبية، وفق صفي الدين.
يقول لـ«الشرق الأوسط»: «بدأت العمارة الشعبية تتفاعل مع بيئتها بالمواد المحلية المكانية، وتطوّرت نسبياً مع الاستقرار المكاني حتى من قبل الحضارة المصرية القديمة. كذلك، حافظت هذه العمارة الشعبية على المظاهر عينها تقريباً حتى الستينات في مصر، عندما بدأت الكثافات السكانية تزداد، وبدأ سكان البيئات الريفية والصحراوية والتاريخية العتيقة يهدمون ويبنون في الخرسانة؛ فتراجعت العمارة الشعبية وراحت تتدهور». يضيف صفي الدين: «من هنا، لا تقتصر أهمية هذا المعرض على تكريمي وتتبٌّع مسيرتي، بل يمثّل جزءاً من جهود التوثيق والتذكير بأصالة هذه العمارة».
تكشف الأعمال عن الأنماط المختلفة للعمارة الشعبية المصرية التي رصدها صفي الدين وسط تشجيع كبار المعماريين المصريين، أمثال رمسيس ويصا، وحسن فتحي. يوضح: «يبلغ عددها 5 أنماط؛ هي العمارة الريفية (ريف الدلتا وريف الصعيد)، والعمارة الصحراوية، وأغلبها في الواحات الغربية والقليل منها في الصحاري الشرقية وفي سيناء، أما النمط الثالث فتجسّده العمارة السواحلية، وهي قليلة، المتبقي منها في دمياط ورشيد والأحياء القديمة في الإسكندرية والسويس القديمة والقصير. يمثل إقليم النوبة النمط الرابع، بينما تجسّد الأحياء التاريخية القديمة في المدن المصرية العتيقة النمط الأخير».
من أهم ما يميّز المعرض المقام بعنوان «العمارة الشعبية... رؤى ومسيرة تحليلية للمعماري عصام صفي الدين»، استعادة دور العمل اليدوي في مجال العمارة؛ إذ تندرج جميع أعماله تحت قائمة اللوحات والرسوم الهندسية والمجسّمات اليدوية التي استُعير بعضها من القاعة المخصّصة باسمه في «متحف الفنون الشعبية».
يقول صفي الدين: «مؤسف أنّ غالبية الطلبة حديثي التخرّج، يدخلون مجالات الفن والإبداع من دون إتقان العمل اليدوي، بما فيه الرسم الفوري المباشر، والتقدير البصري للنسب والأشكال والخصائص، مع الملاحظة والتعايش للعمران والمعمار؛ فيعتمدون بدلاً من ذلك على برامج الحاسب الآلي. لذلك؛ فإنّ إبداعاتهم أصبحت محدودة، وأعمالهم جافة تفتقد الحيوية والعمق وروح المكان».