قليلة هي الأعمال التي تنتمي إلى «Art Brut» أو «الفن الخام»، في المشهد التشكيلي العربي، من بينها معرض الفنان أشرف الزمزمي بعنوان «وفرة» في غاليري «سفر خان» بالقاهرة، حيث نلتقي بمساحة متّسعة من هذا الاتجاه الذي أسّسه الفنان الفرنسي جان دوبوفيه في النصف الأول من القرن العشرين، ودشن به ما يُعرف أيضاً باسم «الفن الساذج» أو «الفن الخارجي» في دلالة إلى أنه يُجرَى خارج القواعد الأكاديمية للفنون الجميلة.
ورغم أنه شبيه بـ«الفن الفطري»، فهو ليس مرادفاً له. الأخير يقوم في الغالب على الإرث الاجتماعي والثقافي والفولكلوري لمبدعه، وبناءً على ذلك يزخر أيضاً بمفردات ورموز من التراث والبيئة، في حين أن المصطلح الفرنسي «Art Brut» لا يُقيّد بهذه الروافد التقليدية، ولا يُستمد من مؤثرات بعينها.
سطوح لونية ممتزجة بأطياف شخوص، وأحياناً كائنات غرائبية صاغها الفنان في أعماله، عبر طبيعة تركيبية، تغلب عليها التجريدية تارة، وتارة أخرى التعبيرية؛ لكنها تتلاقى في النهاية بحماسته التجريبية، ولمساته الخاطفة، ومسطحاته الهندسية التلقائية، وخطوطه شديدة الاختزال وبليغة البوح في آن واحد.
يعتمد الزمزمي «بالتة» ألوان زاهية ومتفائلة، كتلك التي يختارها الأطفال في أعمالهم؛ ما يساهم في تعميقه نظرية تجاوب الألوان بين بعضها البعض بما تحمله من معانِ وأحاسيس، فتتوافق الألوان الباردة مع الدافئة، والمتباينة مع المنسجمة، بما يمثل تطوّراً لافتاً لأعماله في تماهيه مع الفن الخارجي «Art Brut»، مستعيداً ذكريات الطفولة ما يزيد لوحاته بساطة.
يقول الزمزمي لـ«الشرق الأوسط»: «أحتفي بالبساطة وأعدّها روح أعمالي. كان دافنشي محقاً حين أكد أنّ (البساطة هي أقصى درجات التطوّر)».
إلى هذا، تغوص أعماله، وعددها نحو 40 لوحة، في عالمه الخاص وعبر أسلوبه الفردي، متجاوزاً في ذلك تجسيد الشكل الخارجي للشخصية، ومعبّراً عن الانفعالات الداخلية التي تسكن بداخلها، من خلال أداء حساس، تغلّفه مشاعر وأفكار بكر، أو «ساذجة»، تأخذنا من جديد إلى علاقة لوحاته بمفهوم الـ«Art Brut».
عندما رأى الفنان الفرنسي جان دوبوفيه أنّ الفنون الجميلة يهيمن عليها الطابع الأكاديمي اتجه إلى عدِّ الفن البسيط، الذي يتضمّن الكتابة على الجدران، تعبيراً خاماً عن رؤى وعواطف لا تقيّدها التقاليد، محاولاً دمج هذه الصفات في فنه الخاص، فجمع منذ عام 1945 أعمالاً لنزلاء مستشفيات وسجون الطب النفسي المختلفة، والأطفال، إضافة إلى أعمال الفنانين البدائيين والأشخاص المنعزلين والمنبوذين، ودرسها جيداً، ليخرج برأي مفاده أنّ إبداعاتهم هي عملية فنية نقية تماماً، يعيد المبدع اختراعها بالكامل في جميع مراحلها، مدفوعاً بشكل فريد بدوافعه الخاصة، بل أبدع دوبوفيه مجموعة كبيرة من الأعمال المنتمية إلى هذا الفن، ولا تزال مجموعته هذه موجودة في متحف «La Collection de l’Art Brut» في مدينة لوزان السويسرية.
وسار فنانون كثر حول العالم باتجاه «الفن بروت»، حتى لنعتقد حين نطالع أعمالهم أنها قطع ينفّذها أشخاص لم تمسّهم الثقافة الفنية، إذ لا يؤدّي التقليد أي دور في طرحهم الإبداعي، فيقدّمون كل شيء من أعماقهم الخاصة، لا من «كليشيهات» الفن الكلاسيكي أو العصري.
ذلك كله لا ينفي تأثرهم بالحضارات والإنسانية، لكنه يتم عبر عملية فنية نقية تماماً أو «خام»، أعيد اختراعها ببعض ملامحها، وهو ما تؤكده لوحات الزمزمي في معرضه المستمر حتى 28 نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي، فهي تقدم الرموز والأشياء العادية، إلى أشياء مختلفة عن صورتها النمطية.
يقول الفنان: «تأثرت بكل الحضارات السابقة، وتعلّمت من الناس والمقاهي والحضارات، ومن أمي، ربما ما لم أتعلّمه من الدراسة الأكاديمية، لكني قدّمته بطريقة تتجاوز شكلها الخارجي، لأنها تنبع من داخلي».