متحف «هنري بي بي» بيت مصنوع من منازل كثيرة

لوسيان شيّده بنفسه على الطراز البيروتي في بلدة كوبّا الشمالية

البيت من الخارج (الشرق الأوسط)
البيت من الخارج (الشرق الأوسط)
TT

متحف «هنري بي بي» بيت مصنوع من منازل كثيرة

البيت من الخارج (الشرق الأوسط)
البيت من الخارج (الشرق الأوسط)

قضى هنري لوسيان ما يقارب 14 عاماً وهو يجمع أجزاء المبنى الذي شيّده في منطقة البترون اللبنانية. ومن بقايا 100 منزل قديم، تمكّن من تشييد عمارة تراثية من ثلاثة طوابق حوّلها منزلاً ومتحفاً في وقت واحد، هو نموذج لبيت بيروتي عريق بهندسته وأثاثه.

أبواب، نوافذ، قناطر، أعمدة رخام، موزاييك، أسقف، بلاط، جمعها هنري لوسيان، كقطع «البازل» من بيوت قديمة كثيرة كانت تهدم، وشيّد منها منزله أو متحفه الذي يسكنه، ويفتحه لزيارة عشاق الفن، في قرية كوبّا الخلاّبة شمال لبنان.

ثلاث طبقات، يعلوها قرميد وتزينها القناطر والأعمدة القديمة، تحيط بها شرفات عتيقة مزدانة بالزجاج الملون. والبيت كله الذي يشبه القصر، محاط بالشجر والزهور والمشاهد الطبيعية الخلّابة.

صناديق لوي فيتون التي تعود لجدة صاحب المتحف (الشرق الأوسط)

يستقبلنا هنري وهو ليس متحمساً للكلام، يحاول أن ينكر أنه صاحب البيت، مدعياً أنه مجرد موظف، ولا يعترف إلا بعد أن يتأكد بأننا لسنا في منزله من باب الفضول والتطّفل، وإنما لأننا نعرف قيمة العمل التراثي المعماري الذي صرف له جهده. «تعبت من أولئك الذين يأتون لالتقاط الصور فقط، ولا يقدّرون ما يرون، كانوا كثراً، ومنذ وضعنا مبلغاً رمزياً للدخول، اختفوا وهذا هو المطلوب. الآن لا يأتينا غير المهتمين، وهذا ما نريده».

مائة بيت بيروتي قديم أنقذ منها هنري، هذا العاشق للتراث ما استطاع، لينجز بناء منزله هذا ويفرشه على طريقة الجدّات الأنيقات. «لا يوجد أي شيء جديد في البيت. هو مشيّد من قطع قديمة، لو لم آتِ بها إلى هنا، لتحولت ديكورات عبثية في مطاعم أو مقاهٍ أو منازل هجينة. أحببت أن أبني بيتاً بيروتياً، بكل مكوناته ومحتوياته، في بيئة طبيعية مشابهة لما كانت عليه بيروت قبل أن يغزوها الأسمنت، فاخترت هذه البقعة».

2009 بدأ العمار، لكن العمل لم ينته عملياً بعد، والورشة مستمرة. تعلّم لوسيان الرسم، وقضى ثماني سنوات، يرسم على الجدران والأسقف، ليكمل صورة المنزل البيروتي التراثي بـالأصيلة.

من الصفر بدأ. «تفضلوا إلى سحر بيروت» يقول لوسيان. وهو يقودنا في زيارة إلى عالمه الذي وهبه حياته. ندخل إلى صالة فسيحة تتوسط المنزل، مفتوحة على شرفة واجهتها من الحديد والزجاج ومزدانة بقناطر وأعمدة رخامية تطل على بساتين وأشجار محاطة بالأزهار، الهواء يتلاعب في المكان رغم الجو الحار. النسمات المنعشة تعيد للزائر الإحساس بقيمة أن يكون البناء متصالحاً مع جغرافيته. حول الصالة أبواب من كل الجهات تؤدي إلى باقي غرف المنزل. ليس مهندساً ولا معمارياً هنري، تعلم وهو يرى البيوت تُهدم، شاهدهم وهم يفككون القطع أمام عينيه فصار يعرف كيف يمكنه أن يعيد تركيبها، كما قطع «البازل».

هكذا كانت البيوت، التي نستطيع أن نجدها بوفرة في زحلة وطرابلس وبيروت. يخرج صوراً لمنزل اشترى منه شرفتين، وأخرى لسقف صوّره، وصنع هنا على مثاله. «تعلمت العمارة والنجارة والرسم، وزينت بنفسي الأسقف والحيطان».

يرينا بلاطة، وضعت جانباً تشبه البلاط الذي رصف الأرضية. «كل واحدة منها كانت تصل إلى لبنان، مكتوب عليها بيروت بالخط الأسود، من كارارا إيطاليا. لا شيء جديداً في المنزل سوى الأسمنت، كل ما عدا ذلك من بلاط ونوافذ ومغاسل وزخارف وأثاث وألعاب وأوانٍ كلها قديمة، وآتية من منازل أخرى. انسوا السؤال حول ما هو القديم والجديد. كل ما تراه أعينكم هنا هو منقول من منازل كثيرة».

أما لو سألت كيف لهنري لوسيان أن يبني منزلاً من عناصر غير متجانسة، أتى بها من عمارات مختلفة، يشرح: «في البداية اشتريت ما أعجبني وجمعته، ثم صرت أفصّل المبنى تبعاً لما في حوزتي من قطع، يمكنها أن تنسجم حين توضع إلى جانب بعضها بعضاً».

القطع الموجودة هنا، ترى في كثير من الأحيان، إلى جانبها، صورتها في المبنى الذي كانت موجودة فيه سابقاً، قبل أن تصبح في حوزة لوسيان. «هذه القناطر الثلاث في الصالة الرئيسية هي التي حكمتني بتحديد عرض الصالون؛ كي أتمكن من استخدامها».

جزء من الصالة (الشرق الأوسط)

وهنا بيروت الحلوة، في الصور عام 1900، نشاهد مرفأ بيروت مع الجميزة والأشرفية، في صور نادرة. ميناء طرابلس. خان بيروت كان موجوداً على المرفأ. وهنا قلعة طرابلس مع البيوت البديعة حولها. وهذه قلعة بيروت، التي لم نكن قد سمعنا بوجودها، رغم ما تبقى منها في ساحة الشهداء، من جهة البحر، ولكنها اختفت وراء مبنى جريدة «النهار» الشاهق، ولم يعد أحد يراها.

في المطبخ لا خزائن مغلقة وإنما هي رفوف مغطاة بستائر (الشرق الأوسط)

في المطبخ، لا خزائن مغلقة وإنما هي رفوف مغطاة بستائر كي تبقي المونة في حالة تهوية دائمة، كما كانت تفعل الجدات، وسلم خشبي يقود إلى ما يشبه شرفة علوية، ومنها درج آخر جهة القرميد، هناك كان يسكن خدم المنزل».

يخبرنا صاحب الدار الذي يريد أن يستعيد حياة جدته إيلين مرهج، أن صناديق «لوي فيتون» الكبيرة الحجم، التي يعرضها في الصالة مصطفة فوق بعضها بعضاً، تعود لجدته التي كانت تستخدمها للسفر، تضع بها حاجياتها وتنتقل بها إلى مرفأ بيروت ومن هناك إلى نيويورك. وهي سيدة نشطة، كانت بين الشخصيات التي حضرت افتتاح «قصر سرسق». في البيت - المتحف قنطرة عليها نجمة سداسية مزدانة بالزجاج الملون، أتى بها من وادي بوجميل، الحي اليهودي الذي كان عامراً في بيروت قبل نكبة عام 1948.

نمرّ على غرفة الأولاد ونرى ألعاب أيام زمان الخشبية متدلية من السقف وغرفة النوم الرئيسية بخزانتها الخشبية وسريرها الحديدي وناموسيتها، وحين نعرج على الحمام نرى البانيو القديم. وقبل أن نترك هذا الطابق يشير صاحب الدار إلى العوارض الخشبية التي تمتد على كامل أسقف الغرف، مشيراً إلى أنها جميعها من خشب الأرز تفادياً لأي سوس يمكن أن ينخرها. «خشب الأرز هذا يزرع خصيصاً في جورجيا، حيث يساعد البرد على نموه السريع واستخدامه في عمل الأسقف، وهو مختلف في نوعه عن الأرز اللبناني».

حين نزلنا إلى الطابق السفلي، حيث البيت الشخصي لهنري لوسيان، وجدنا زوجته تعكف على خياطة ملابس من تصاميمها، فهي الأخرى لها مشروعها الخاص. نسأله عن رأيها بهذا الشغف الذي أبعدها عن بيروت، ووضعها في منطقة ريفية، يقول: «هي شريكة في المشروع، وسعيدة أن تعود إلى تقاليدها المعمارية والتراثية».

حمَّام على طريقة أيام زمان (الشرق الأوسط)

في غرفة النوم، خزانة خشبية صغيرة تكفي لملابس المتقشفَين اللذين يعيشان هنا، والسرير الحديدي، مع طاولة قديمة، كلها تخبرك بنمط زاهد. في طابق ثالث تنزل إليه ببضع درجات، يحضّر لوسيان منزلاً صغيراً سيصبح صالحاً لمن يريد استئجاره ومشاركة أصحاب المشروع حياتهم الهادئة الهانئة في «كوبّا» الشمالية، التي لا صلة لها بأميركا اللاتينية سوى التشابه بالاسم.

يعيش لوسيان مع زوجته حياة تبدو تقشفية. هذا الصنف من العمارة اللبنانية القديمة التي تجمع بين الغربي والشرقي، لا تحتاج إلى أن تملأ الغرف بالأثاث. الزخرف هو الذي يعطي الشعور بالامتلاء والغنى. زخرفة البلاط، رسوم الأسقف والجدران، حديد الدرابزين والقناطر الذي يصنع بأيدي فنانين. قليل من الأثاث يكفي. كنبتان في الصالة تشعرانك بأن المساحة المتبقية مكتفية بذاتها. تخرج إلى الشرفة وتطل منها، تشعر أن المشهد في الخارج يتسق مع ما في البيت وينسجم معه حد أنه يصبح امتداداً طبيعياً متصالحاً معه.


مقالات ذات صلة

يوميات الشرق مدخل جناح نهاد السعيد الجديد الملاصق للمتحف الوطني (جناح نهاد السعيد للثقافة)

جناح جديد لـدعم «المتحف الوطني اللبناني»

أراد القيّمون على جناح «نهاد السعيد للثقافة»، الجناح الجديد للمتحف الوطني اللبناني، أن يكون وجوده دعماً للتراث الذي يتعرّض اليوم للقصف والخراب.

سوسن الأبطح (بيروت)
يوميات الشرق لوحة تشير لمتحف الفنان نبيل درويش (إدارة المتحف)

أزمة هدم متحف الخزاف المصري نبيل درويش تتجدد

تجددت أزمة متحف الخزاف المصري نبيل درويش (1936 – 2002) الصادر قرار بهدمه؛ لدخوله ضمن أعمال توسعة محور المريوطية بالجيزة (غرب القاهرة).

حمدي عابدين (القاهرة )
يوميات الشرق عائشة القذافي ابنة الزعيم الليبي السابق معمر القذافي تعرض أعمالها الفنية الجديدة المخصصة لأخيها وأبيها القتيلين خلال معرض «ابنة ليبيا» في متحف الشرق بموسكو17 أكتوبر 2024

«ابنة ليبيا»: معرض لعائشة القذافي في موسكو تمجيداً لذكرى والدها

افتتحت عائشة القذافي، ابنة الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي، معرضاً فنياً في موسكو خصصته لتخليد ذكرى والدها، الذي حكم ليبيا لأكثر من أربعة عقود.

«الشرق الأوسط» (موسكو)
يوميات الشرق حساء الطماطم على لوحة «زهور عباد الشمس» لفان جوخ (غيتي)

نفد الصبر... «ناشونال غاليري» يضاعف إجراءاته الأمنية ضد محتجي المناخ

على مر الزمن كانت حركات الاحتجاج تلجأ إلى وسائل مستفزة وصادمة مثل إيقاف المرور في الطرق السريعة، أو استخدام الصمغ لإلصاق الأيدي بالحواجز وواجهات المحال…

عبير مشخص (لندن)

انطلاق المؤتمر العالمي لـ«موهبة» لتعزيز التعاون الإبداعي لـ«جودة الحياة»

المؤتمر يشكل منصة ملهمة تجمع العقول المبدعة من كل العالم (واس)
المؤتمر يشكل منصة ملهمة تجمع العقول المبدعة من كل العالم (واس)
TT

انطلاق المؤتمر العالمي لـ«موهبة» لتعزيز التعاون الإبداعي لـ«جودة الحياة»

المؤتمر يشكل منصة ملهمة تجمع العقول المبدعة من كل العالم (واس)
المؤتمر يشكل منصة ملهمة تجمع العقول المبدعة من كل العالم (واس)

انطلقت فعاليات النسخة الثالثة من المؤتمر العالمي للموهبة والإبداع بعنوان «عقول مبدعة بلا حدود» في العاصمة السعودية الرياض، الأحد، الذي يجمع نخبةً من الخبراء والموهوبين في مجالات العلوم والتقنية والابتكار، ويشارك فيه أكثر من 300 موهوب ومتحدثون محليون ودوليون من أكثر من 50 دولةً، وذلك برعاية خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز. ونيابة عنه، افتتح الأمير فيصل بن بندر بن عبد العزيز، أمير منطقة الرياض، فعاليات المؤتمر العالمي والمعرض المصاحب للمؤتمر الذي تنظمه مؤسسة الملك عبد العزيز ورجاله للموهبة والإبداع «موهبة»، في مركز الملك عبد الله للدراسات والبحوث البترولية «كابسارك» بالعاصمة السعودية، وشهد توقيع عدد من الاتفاقيات بين «موهبة» وعدد من الجهات.

أمير الرياض خلال افتتاحه فعاليات المؤتمر العالمي والمعرض المصاحب للمؤتمر (واس)

ورفع أمين عام «موهبة» المكلف الدكتور خالد الشريف، كلمة رفع فيها الشكر لخادم الحرمين الشريفين على رعايته للمؤتمر، ودعمه المستمر لكل ما يُعزز ريادة السعودية في إطلاق المبادرات النوعية التي تمثل قيمة مضافة لمستقبل الإنسانية، مثمناً حضور وتشريف أمير منطقة الرياض لحفل الافتتاح.

وقال الدكتور الشريف: «إن قيادة السعودية تؤمن بأهمية الاستثمار برعاية الموهوبين والمبدعين باعتبارهم الركيزة الأساسية لازدهار الأوطان والطاقة الكامنة التي تصنع آفاقاً مستقبلية لخدمة البشرية»، مشيراً إلى أن العالم شاهد على الحراك الشامل لمنظومة تنمية القدرات البشرية في المملكة لبناء قدرات الإنسان والاستثمار في إمكاناته، في ظل «رؤية السعودية 2030»، بقيادة الأمير محمد بن سلمان ولي العهد رئيس مجلس الوزراء السعودي رئيس لجنة برنامج تنمية القدرات البشرية.

وأكد الدكتور الشريف أن هذا الحراك يواكب ما يزخر به وطننا من طاقات بشرية شابة موهوبة ومبدعة في شتى المجالات، يتجاوز إبداعها حدود بلادنا ليصل إلى العالمية، وهو ما مكن المملكة من أن تصبح حاضنة لألمع العقول العالمية الموهوبة والمبدعة، وحاضرة إنسانية واقتصادية واعدة بمستقبل زاهر ينعكس على العالم أجمع.

وأوضح أن المؤتمر العالمي للموهبة والإبداع بنسخته الثالثة يشكّل منصةً ملهمة تجمع العقول المبدعة من كل العالم، لتستلهم معاً حلولاً مبتكرة تعزز جودة الحياة في مجتمعاتنا، وتبرز الفرص، وتعزز التعاون الإبداعي بين الشعوب.

انعقاد هذا المؤتمر يتزامن مع احتفالية مؤسسة «موهبة» بيوبيلها الفضي (واس)

ولفت النظر إلى أن انعقاد هذا المؤتمر يتزامن مع احتفالية مؤسسة «موهبة» بيوبيلها الفضي؛ حيث أمضت 25 عاماً في دعم الرؤى بعيدة المدى للموهبة والإبداع، وباتت مشاركاً رئيسياً في المنظومة الداعمة لاكتشاف ورعاية الطاقات الشابة الموهوبة والمبدعة، بمنهجية تُعد الأكثر شمولاً على مستوى العالم لرعاية الأداء العالي والإبداع.

عقب ذلك شاهد أمير منطقة الرياض والحضور عرضاً مرئياً بمناسبة اليوبيل الفضي لإنشائها، وإنجازاتها الوطنية خلال الـ25 عاماً الماضية، ثم دشن «استراتيجية موهبة 2030» وهويتها المؤسسية الجديدة، كما دشن منصة «موهبة ميتا مايندز» (M3)، وهي منصة عالمية مصممة لربط ودعم وتمكين الأفراد الموهوبين في البيئات الأكاديمية أو قطاعات الأعمال، إلى جانب تدشين الموقع الإلكتروني الجديد لـ«موهبة»، الذي تواصل المؤسسة من خلاله تقديم خدماتها لجميع مستفيديها من الموهوبين وأولياء الأمور.

ويهدف المؤتمر العالمي للموهبة والإبداع إلى إظهار إمكانات الموهوبين، وتطوير نظام رعاية شامل ومتكامل للموهوبين، وتعزيز التكامل والشراكات الاستراتيجية، وتحسين وتعزيز فرص التبادل والتعاون الدولي، ويشتمل المؤتمر على 6 جلساتٍ حوارية، و8 ورش عمل، وكرياثون الإبداع بمساراته الـ4، ومتحدثين رئيسيين؛ حيث يسعى المشاركون فيها إلى إيجاد الحلول الإبداعية المبتكرة للتحديات المعاصرة، إلى جانب فعاليات مصاحبة، تشمل معرضاً وزياراتٍ ثقافيةً متنوعةً على هامش المؤتمر.