تلمح الطفلة الأوكرانية ميلانا، في سنّ العاشرة، تمرّدها الأول. على أعتاب خطوة من المراهَقة، تُحمّل جدّتها الطيّبة شيئاً من العدائية. تفسّر الطبيبة النفسية الأمر للجدّة الحائرة حيال السلوك المستجدّ، وتلفت انتباهها إلى أنها الأمان الوحيد الذي يمكنه تحمّل نتائج خوض صراع الخروج من العباءة واكتشاف الذات خارج الحب الدافئ. وثائقي «مخيم الشجاعة» (Camp Courage- «نتفليكس»)، يسرد معاناة طفلة بُترت قدمها في 24 يناير (كانون الثاني) 2015 المعروف بـ«السبت الأسود» بمدينة ماريوبول في أوكرانيا. يرافقها إحساس بأنها موجوعة أينما حلَّت.
المخيّم في النمسا، حيث الجبال بديعة والأخضر مذهل. عظمة الطبيعة تغمر خلفية الشريط المشبَّع بالأسى. هدوء وصمت، ودرجة عالية من السلام النفسي. أطلَّ الصباح ليبعث مع الشمس دفئاً إنسانياً، والطفلة ترسم جبلاً تحلم بتسلّقه فتمنحه إطاراً ملوّناً للدلالة على الأمل. حين خلعت الطرف الاصطناعي، بدا واضحاً أنّ للحروب وجوهاً ملطّخة بالدم، والأقدار العنيفة ترسل الصغار إلى النضج المبكر، قاتل الطفولة.
ثلاث شخصيات في وثائقي ماكس لوي، المخرج والمنتج: الطفلة والجدّة ومؤسِّس المخيم. لا يهمّ مَن بطل السرد ومُتصدِّر الأحداث. كل قصة تحيل المتلقّي إلى التفكُّر. الصغيرة ميلانا النازحة خارج ديارها، برِجل مبتورة وإرادة تتأرجح بين الصلابة والهشاشة؛ الجدّة السند بعد خسارة، والمقاتل السابق في حرب العراق المسكون بالذنب. لمحاولة ترويض الصور المؤلمة، أسَّس مخيّماً يصفّر الخوف بالتسلُّق. حتى المرتكب يمكن التعاطف معه. «جميعنا نحتاج إلى فرصة ثانية»، يقول ووجهه اغتسل بدمعه: قاتل يوماً وآذى، وتسبّب لأطفال في ندوب وعاهات، لكنه يعلن الندم. حكايته يمكن سماعها، تحمل جانباً من الصدق. مسألة أخرى؛ الصفح، فهو شاق، لم يطلبه، لكنه يسعى من أجله، مُحدِثاً في الأطفال ضحايا الحروب تغييرات إيجابية.
تدلّ الجدّة بإصبعها: «انظري إلى تلك الجبال»، فتسري حماسة في الحفيدة المصرَّة على تسلّقها. الخوذة على الرأس، والحبال ترمز إلى القدرة على التكيُّف. فجأة، يدبّ خوف الماضي في الجسد الصغير المبتور طرفه. تبكي وترفض الصعود، وتشعر أنها خارج الإحاطة. هذه «ذروة» الوثائقي، تُظهر فداحة «التروما» حين تنغّص العُمر.
متسلّقو الجبال شجعان، يدركون أنهم سيواجهون ما يشكّل تحدياً. شاهدت ميلانا أفلاماً عن أشياء مخيفة تحدث في المغامرات، وأمام أول رجفة، انقضّت جميعها إلى الذهن. تعلم الجدّة مرارة ما قاسته الطفولة المبتورة وما يفوق قدرة الكبار على التحمُّل. لذا، تحتضن. تجعلها تشعر أنّ ثمة مَن يساند، ثم تدعها وحدها. تُبقيها على مسافة قريبة من النفس العصيّة على التجاوز، فلا تتعمّد أن تفرّق بينهما، أو تحيلها إلى النكران الأشدّ سوءاً من الحقيقة. الاحتضان، عِبرة القصة. العزلة واهتزاز الثقة، لا بدّ أن يقابلهما احتواء يدرك الفارق بين العناق والسيطرة.
في ذلك اليوم من يناير، فقدت أولغا إيفانوفيا ابنتها. شاءت المرأة الشابة اصطحاب صغيرتها ميلانا معها إلى العمل، فوقع انفجار خطف الأم وقَلَب حياة الطفلة. عُثر على ميلانا تحت الأنقاض، وكان قرار الطبيب استمرارها بطرف اصطناعي. يصاحب ذلك مزاج متقلّب وصور تنهض فجأة مُحدثة ألماً لا يليق بالأطفال. لم يبقَ للجدّة سوى حفيدتها. «إنها تنير حياتي وتمنعني من الانحدار إلى الظلمات. تُبقي روحي شابة». بروح الشباب اصطحبتها إلى المخيم لتَحدُث المواجهة مع الخوف أمام قوة الطبيعة.
صبَّحت الجدّة الشمسَ المشرقة، لكنّ الطفلة لم تلمح النور. «إنه يوم سيئ»، ردَّت على مشهد الشعاع المتسلّل من النافذة. حفاظ الجدّة على هدوئها، في خضمّ معارك الحفيدة الداخلية، درسُ الوثائقي. «إننا مَن نصنع مزاجنا الخاص يا أرنبتي»، تُطيّب خاطرها. يخلو العمل من الانزلاق إلى الشفقة أو الإفراط في التراجيديا. يُبيّن ثمن تفجُّر المخاوف وتناثر شظاياها على الروح والجسد.
بعدما تعافت ميلانا من الجراحة الثالثة عام 2021، نصحت الطبيبة النفسية الجدّة باصطحابها لزيارة قبر والدتها. ظنّت أنها ستتصرّف بهستيريا، وستسيطر عليها مشاعرها، لكن ذلك لم يحدث. تلفّظت بـ«مرحبا» فقط، واستوعبت بهدوء. هل حقاً استوعبت وانتهى كل شيء بلا وجع؟ لم يجب الشريط عن السؤال مباشرة، لكنه قدَّم إجابات مبطّنة عن تعذُّر التخلُّص من الصدمة.
يقرصها الطرف الاصطناعي ولا تزال تحاول اعتياده. تضحك في كل مرة تضع جدّتها مرهماً على ساقها، وتشعر بالدغدغة. «جدّتي تحميني. إنها أمي الثانية. أمٌ أفضل وأشدّ وفاء»، تُعاتب ببراءة. تُحوّل تردّدها إلى عزيمة حين تشعر بالاحتواء. لا مفرّ من استصعاب الخطوة الأولى نحو الشفاء. هي حارَّة وباردة، تصيب المرء بتضارب الشعور. لكنها مطلوبة لاستنهاض الخطوات الأخرى. ترفع قدمها باتجاه الجبل وتقرّر التسلُّق. بمرافقة أصدقاء المخيّم، تُغلّب الشجاعة. تصل لتعلن أنّ الحياة محاولات وبعض الصفحات يستحق أن يُطوى.
أمام هيبة المدى الشاسع، ترفع الجدّة رجاءها ليعمّ السلام أنحاء العالم. تذكر مَن فُقدوا وكل الأبرياء المقتولين. الاستمرار بالعيش يشكّل نداء الحياة، فنستمتع بالشمس والسماء ونواجه الخير والشر. «ليكن كل الأطفال سعداء»، تصلّي أولغا. يا لهذه الاستحالة!