في عام 1979 قدم المخرج المصري يحيى العلمي مسلسلاً عن حياة الأديب الكبير عباس محمود العقاد بعنوان «العملاق»، وهو لقب يستحقه العقاد، مثلما يستحقه الفنان الكبير الراحل محمود مرسي صاحب «الشخصية المتفردة» الذي أدى دور العقاد في المسلسل، فهو أحد أساتذة فن التمثيل العظام، الذي يُدَرس أداؤه بمعاهد التمثيل.
وأثرى مرسي السينما المصرية بأفلام مهمة، تم اختيار 6 منها ضمن قائمة أفضل 100 فيلم مصري خلال القرن العشرين، علاوة على أعماله المسرحية والتلفزيونية والإذاعية التي قدمها بين إذاعات فرنسا وبريطانيا ومصر، ممثلاً ومخرجاً، وقد احتفى مهرجان الإسكندرية السينمائي خلال دورته الـ39 التي انقضت قبل أيام بذكرى مئوية ميلاده، وأصدر كتاباً يتناول مسيرته، بعنوان «العملاق» كتبه الدكتور وليد سيف، أستاذ النقد السينمائي في أكاديمية الفنون، الذي يُحلّل أداءه «الاستثنائي» حسب وصفه، ويكشف ملامح تفرده مع ثراء تجربته الفنية.
عاش محمود مرسي (1923: 2004) ابن مدينة الإسكندرية عازفاً عن الأضواء طوال مشواره الفني الذي يزيد على نصف قرن، إذ لا تجد له حواراً صحافياً أو تلفزيونياً إلا فيما ندر، ولا يكاد جمهوره يعرف عن حياته الخاصة سوى زواجه من الفنانة سميحة أيوب، الذي استمر نحو ثلاث سنوات، وأنجب ابناً منها هو الدكتور علاء، الفنان والطبيب النفسي.
يستهل المؤلف الكتاب بالحديث عن البدايات تحت عنوان «حكايات عن الكرامة والفن والغربة»، متناولاً طفولة الفنان القاسية بعد انفصال والديه، وقد ذكر مرسي في بعض حواراته النادرة السابقة، أن هذا الانفصال ترك في نفسه أثراً عميقاً على المديين القصير والطويل، على حد وصفه، إذ أدخله والده مدرسة داخلية ولم يكن مسموحاً له برؤية والدته إلا مرتين في الأسبوع، وجاء التحاقه بمدارس لغات متعددة خلال فترة الثلاثينات بمدينته الإسكندرية التي كانت تضجّ بالجاليات الأوروبية كمدينة «كزموبوليتانية».
لم يتوقع محمود مرسي أن تدفعه الحياة تجاه التمثيل، فخلال المرحلة الثانوية رشحه زملاؤه في المدرسة لبطولة مسرحية «لويس السادس عشر»، كما لعب أثناء دراسته للفلسفة في الجامعة دور البطولة في مسرحية «أوديب» لسوفوكليس، وصعد الدكتور طه حسين حينذاك للمسرح مشيداً بأداء مرسي لشخصية أوديب.
ويشير المؤلف إلى أن الفنان الراحل عمل مُدرساً لخمس سنوات، وفي عام 1951 نفّذ قراره بالاتجاه للفن، فباع منزله وسافر لدراسة الإخراج في معهد الدراسات العليا السينمائية (الأيديك) بفرنسا، ونجح في دراسته وعمل بالإذاعة الفرنسية، غير أنه تعرض خلال العدوان الثلاثي على مصر 1956 لضغوط لقراءة تعليقات جارحة عن مصر تمسّ الوطن والرئيس جمال عبد الناصر، فغادر فرنسا إلى بريطانيا ليرحل عنها أيضاً بعد أشهر قليلة، لرفضه وزملائه البقاء في بلد يعتدي على بلاده ويهاجم أراضيها، وهي بطولة تحدثت عنها الصحافة المصرية في ذلك الحين، وعُيّن عقب عودته مخرجاً بالإذاعة المصرية، حيث أخرج ومثل العديد من المسرحيات المصرية والعالمية، ليتفاجأ ذات يوم باستدعاء المنتج رمسيس نجيب له، ومنحه المخرج نيازي مصطفى أول دور سينمائي في حياته.
«لم أفكر ولم أرغب في أن أكون ممثلاً، ولكن كُتب علي التمثيل كما لو كان قدراً لا فكاك منه، وكلما كنت أهرب منه أفاجئ به يحاصرني من جديد»، حسب ما قاله مرسي، مضيفاً: «إن التمثيل بالنسبة لي في كل المراحل كان أقرب إلى الكرة التي كنت أحاول التخلص منها، فأقذفها بقوة إلى آخر مدى، فتعود لي بالقوة ذاتها».
يقول د. وليد سيف في كتابه: «رغم هذا فإنه لا يمكن تصوره في مهنة أخرى غير التمثيل».
كانت بداية مرسي من خلال فيلم «أنا الهارب»، ويرى مؤلف الكتاب أن نجاحه الكبير في هذا الدور كان سبباً في محاولة قولبته في أدوار الشر لبعض الوقت، لكنه استطاع أن يخرج من هذا الطوق سريعاً، وقدم أدواراً متنوعة تتناسب مع قدراته وموهبته في فيلميه التاليين «المتمردة» و«الباب المفتوح»، فيما جاء رابع أفلامه «الليلة الأخيرة» أمام فاتن حمامة مع المخرج كمال الشيخ، وهو ما يعدّه المؤلف بدايته الجادة، وهو الدور الأهم والأبرز له في تلك المرحلة، وقد ساهمت لغة الفيلم التي اعتمدت على الصمت والتعبير بالوجه والإيقاع المتوتر على إظهار قدراته ممثلاً.
وقدم مرسي خلال مسيرته السينمائية 25 فيلماً، وهو رقم صغير نسبياً حتى بالنظر لدخوله الساحة متأخراً في العمر، لكن من الملاحظ، حسب المؤلف، أن غالبية الأعمال التي شارك بها اتسمت بمستوى جيد، فهو لم ينزلق إلى مستوى الأعمال الرديئة أو ضعيفة المستوى، وقد جرى اختيار 6 من أفلامه ضمن قائمة أفضل 100 فيلم في تاريخ السينما المصرية، وهي «السمان والخريف»، و«شيء من الخوف»، و«أغنية على الممر»، و«زوجتي والكلب»، و«ليل وقضبان»، و«أبناء الصمت».
وشارك محمود مرسي بالتدريس في معهدي السينما، والفنون المسرحية، كما تولى إدارة المسرح القومي، وترجم العديد من الأعمال العالمية، من بينها كتاب «إعداد الممثل» للمخرج الشهير «ستانسلافسكي» بمشاركة صديقه وزميله د. محمد زكي عشماوي أستاذ الأدب العربي.
يحوي كتاب «العملاق» خمسة فصول من بينها «أفلام وشخصيات» التي تتضمن تحليل المؤلف لأعماله السينمائية، و«العملاق خارج السينما»، ويتناول أعماله التلفزيونية التي بدأها منذ أواخر الستينات، وترك بها أثراً لا ينسى، ومن بينها، «زينب والعرش»، و«رحلة السيد أبو العلا البشري»، و«عصفور النار»، و«بين القصرين»، الذي يُعد العمل الوحيد الذي شعر بالندم لقبوله حين قال عنه (إنه خسر هذه الجولة أمام يحيى شاهين، وكان مسلسل «وهج الصيف» 2004 آخر أعماله) الذي رحل أثناء تصويره.