ما حدود الواقع والخيال في حياة روبرت أوبنهايمر؟

بعد رواج فيلم يقدم معالجة لسيرة أبو القنبلة الذرية

روبرت أوبنهايمر في معهد الدراسات المتقدمة في برينستون بنيوجيرسي الأميركية (أ.ب)
روبرت أوبنهايمر في معهد الدراسات المتقدمة في برينستون بنيوجيرسي الأميركية (أ.ب)
TT

ما حدود الواقع والخيال في حياة روبرت أوبنهايمر؟

روبرت أوبنهايمر في معهد الدراسات المتقدمة في برينستون بنيوجيرسي الأميركية (أ.ب)
روبرت أوبنهايمر في معهد الدراسات المتقدمة في برينستون بنيوجيرسي الأميركية (أ.ب)

مع انطلاق وميض الكرة النارية التي أضاءت السماء فوق موقع الاختبار في لوس ألاموس بصحراء نيومكسيكو الأميركية، في يوليو (تموز) 1945، أصبح جوليوس روبرت أوبنهايمر، مدير مشروع مانهاتن لتطوير أول قنبلة ذرية بالعالم، أحد أشهر علماء جيله.

وأدى إنشاء القنابل الذرية وتدميرها مدينتَي هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين، في عام 1945 إلى قتل أكثر من 200 ألف إنسان، وبدء حقبة جديدة حولت أوبنهايمر أيقونةً تاريخية ينشغل العالم الآن، وبشغف كبير بها التعرف على كواليس حياتها، بفضل فيلم سينمائي أميركي يتناول سيرته، وسط تساؤلات عن حدود الواقع والخيال في حياة العالم الراحل.

احتاج مشروع مانهاتن إلى مجهود هائل، وإلى الآلاف من العلماء الذين عملوا بلا كلل أو ملل طوال فترة الحرب. لكن مع حلول الوقت وحين اكتمل صُنع القنبلة واختبروها بنجاح، انتابت أوبنهايمر حالة من الاضطراب وربما الندم، مستعيراً بالعبارة الهندوسية: «الآن أصبح الموت، مدمر العوالم». ومع ذلك، هو نفسه وفي الأسبوع نفسه، كان يعطي الجيش الأميركي المعلومات التي تمكّنه من تفجير القنبلة فوق اليابان بأكبر دقة ممكنة.

يقول كاي بيرد، المؤلف المشارك للكتاب الحائز جائزة «بوليتزر»، الذي تناول سيرة أوبنهايمر الذاتية، وكان مصدر إلهام صانعي الفيلم، في حوار مع موقع «لايف ساينس» في 15 يوليو: «إنها حكاية تمنحك إحساساً بالرجل وتعقيده وتناقضه فيما كان يفعل».

حقق أوبنهايمر ما كان يصبوا إليه، وشهد بعض من عملوا معه أنه لم يكن هذا ليحدث لو لم يكن هو من يدير المشروع، وفق بيرد، الذي قال: «لقد ألهمهم للعمل وبذل كل الجهد لحلّ المشكلات الهندسية المرتبطة بصناعة القنبلة بالوقت المناسب».

في حين يطلعنا ستيفن شابين، أستاذ أبحاث فرانكلين فورد لتاريخ العلوم، على جانب آخر من الصورة، عبر حواره مع صحيفة «ذا هارفارد غازيت» المنشور في 19 يوليو الحالي، قائلاً: «أوبنهايمر في الواقع كان خياراً غير مرجح تماماً للإدارة العلمية في لوس ألاموس، فقد كان يعتقد الكثيرون أنه يفتقر لأي قدرات تنظيمية وإدارية، قال أحد زملائه ذات مرة، إنه لا يستطيع إدارة كشك لبيع الهامبرغر».

وبينما اعتقد علماء لوس ألاموس أن نحافة أوبنهايمر بمنزلة «نموذج لزاهد ديني، لم يكن لديه لحم تقريباً، وأنه أصبح كله عقلاً، وكله روحاً، جراء حالة الزهد التي تسيطر عليه»، فسّر شابين ذلك «بأنه يعود لانشغاله الدائم بالعمل، وجزئياً بسبب المرض الذي ألمّ به، وبسبب حالة القلق الشديدة نتيجة إحساسه بالمسؤولية».

أما بالنسبة لدوافع أوبنهايمر، فقد كانت واضحةً تماماً. عندما كان شاباً درس فيزياء الكم بألمانيا، وكان يعلم أن العلماء الألمان كانوا قادرين على فهم فيزياء القنبلة الذرية وامتلاك سلاح دمار شامل. ومن المنظور السياسي، كان رجلاً يسارياً يخشى أن يسلّم العلماء الألمان هذا السلاح إلى هتلر الذي ما كان ليتردد في استخدامه، وكما يصف بيرد الأمر بأنه: «كان هذا أسوأ كابوس له».

ملاحظات مكتوبة بخط يد أوبنهايمر عُرضت في متحف برادبري للعلوم (أ.ب)

بعد الحرب، أصبح أوبنهايمر أكثر منتقدي الأسلحة النووية صراحةً - قاوم الجهود المبذولة لصنع قنبلة هيدروجينية، وأشار إلى خطط سلاح الجو الأميركي لقصف استراتيجي مكثف بأسلحة نووية على أنها إبادة جماعية. يقول بيرد: «علمنا من رسائل كتبتها زوجته (كيتي) إلى أصدقائها أن أوبنهايمر أصابه الاكتئاب بعد فترة وجيزة من حادثة هيروشيما».

عاد أوبنهايمر إلى واشنطن، وكان قد عرف باقتراب اليابانيين من الاستسلام في سبتمبر (أيلول)، كما عرف عن موقف إدارة ترومان من السلاح الجديد، وأنهم يريدون جعل الأمن القومي الأميركي يعتمد كلياً على ترسانة ضخمة من تلك الأسلحة.

في وقت مبكر من أكتوبر (تشرين الأول) 1945، ألقى أوبنهايمر خطاباً عاماً في فيلادلفيا قال فيه: إن هذه الأسلحة كانت أسلحة للمعتدين. إنها أسلحة إرهاب وليست أسلحة للدفاع وتحتاج الولايات المتحدة إلى إيجاد طريقة لبناء آلية مراقبة دولية لمنع انتشارها. كان ذلك تهديداً مباشراً لوزارة الحرب والجيش والبحرية والقوات الجوية الأميركية، الذين طالبوا جميعاً بميزانيات أكبر للحصول على المزيد من هذه الأسلحة.

وفي أواخر عام 1953 أصبح أوبنهايمر مصدر تهديد مباشراً للحكومة الأميركية؛ ما أدى إلى تجريده من تصريحه الأمني، وتقديمه للمحاكمة وإهانته علانية. وعن ذلك يقول بيرد: «لقد أرادوا إذلاله على الملأ، حتى يكون عِبرة لمن خلفه، لقد بعثوا من خلاله برسالة إلى العلماء في كل مكان: (لا تخرج عن مسارك الضيق، وغير مسموح لك أن تصبح مثقفاً عاماً، كما أنه ليس لك الحق أن تتحدث في السياسة)».

مجد شخصي

من جانبه، قال العالم الفيزيائي، محمد ثروت حسن، أستاذ الفيزياء والضوء في جامعة أريزونا بالولايات المتحدة: «أعتقد أن أوبنهايمر لم يُجبر على الأمر، ولكن كان ذلك اختياره، وعلى العَالِم أن يركّز في البحث العلمي الذي يكون له دور في زيادة المعرفة البشرية وإنتاج تطبيقات مفيدة».

وكان حسن قد نشر على صفحته على «فيسبوك»، بأنه «لا يحب روبرت أوبنهايمر ولا يحترمه، وأنه يمثل له كل ما لا يحبه في شخصية العَالِم»، قائلاً في حديث لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعلم ماذا يفعل جيداً ويعي خطورته، وعلى الرغم من ذلك أقدَم عليه؛ بحثاً عن مجد شخصي ولو على حساب آلاف الأرواح من البشر».

وعن تراجع أوبنهايمر ومعارضته السلاح النووي بعد ذلك، أضاف: «أعتقد أنه لم يتوقع أن تكون النتائج بهذا السوء، بعدما رأى صنيع ما قام به على أرض الواقع»، مشدداً على أن «هناك بعض العلماء الذين تركوا المشروع بعد تأكدهم من عدم قدرة ألمانيا - هتلر - على صنع القنبلة النووية».

ويرى الروائي المصري أحمد سمير سعد، ومدرس في قسم التخدير بكلية الطب، جامعة القاهرة، أن الفيلم قد يكون حاول تبرئة أوبنهايمر، لكنه لم يبرئ أبداً ساحة الحكومة الأميركية.

وربط الفيلم بين أوبنهايمر ونوبل، الاثنان هرعا وراء السبق العلمي، حيث عاد الأول وحارب تصنيع القنبلة الهيدروجينية والتسليح النووي، كما صنع الثاني جائزة للسلام، لقد حاول الفيلم الفصل بين الإنجاز العلمي والاستخدام السياسي له.

وأضاف سعد: «لا أجد فارقاً كبيراً فيما قرأت عن أوبنهايمر وبين ما عرضه الفيلم من أحداث، إلا أن الفيلم كان متعاطفاً معه بالطبع، لقد سلط الضوء على تأثره النفسي الشديد ومعارضته اللاحقة للتسليح النووي حتى اتهموه بالخيانة».

ولكن هل كان العلماء المشاركون بالمشروع على دراية بكيفية الاستخدام المميت والمدمر للقنبلة كما حدث بالفعل، يرى شابين أن علماء لوس ألاموس: «لم يكونوا يفكرون فيما يجب فعله بهذا السلاح، سواء كان سيُستخدم ضد ألمانيا أو ما إذا كان التهديد باستخدامه سيكون كافياً».

وأضاف: لقد كانت مشكلة علمية وتكنولوجية صعبة للغاية، وكانوا منخرطين تماماً في إنجاح المشروع. لذا؛ فإن الألم الأخلاقي والسياسي بشأن القنبلة وما يجب فعله بها بدأ يطفو على السطح خلال فترة وجيزة في نهاية المشروع، وهي الفترة التي شارك فيها عدد قليل نسبياً من الأشخاص.

منظر جوي بعد أول انفجار ذري بموقع اختبار ترينيتي في نيو مكسيكو بالولايات المتحدة في 16 يوليو 1945 (أ.ب)

وبعد هزيمة ألمانيا النازية، اعتقد بعض علماء المشروع أنه ليست هناك حاجة إلى إسقاط القنبلة على اليابان، وأنه قد يتم إخبار اليابان بوضوح أن القنبلة موجودة وما يمكن أن تفعله، لكن أوبنهايمر، وفق شابين، لم يفعل سوى القليل أو ربما لا شيء لمساعدتهم. كما أنه ليس من الواضح أيضاً أن أوبنهايمر كان بإمكانه فعل الكثير للتأثير على استخدام القنبلة. كانت لديه سلطة علمية ولكن ليس لديه قوة سياسية كبيرة. كانت قرارات هيروشيما وناغازاكي قرارات عسكرية وسياسية.

سياسي ساذج

يحاول بيرد رسم صورة بانورامية لأوبنهايمر قائلاً: «كان متعدد المواهب وكان منجذباً إلى التصوف الهندوسي». مضيفاً: «نعم، كان سياسياً غبياً وساذجاً. لم يكن لديه أي فكرة عمّا كان على وشك الدخول فيه». وعلى الرغم من ذلك، علّق بيرد على موقف أوبنهايمر من انتشار السلاح النووي بقوله: «هذا بالضبط ما نحتاج إليه الآن. نحن في حاجة إلى المزيد من العلماء المستعدين للتحدث عن الحقائق الصعبة في كيفية دمج العلم بالحياة وجعله غير مدمر».

وجاوب بيرد عن السؤال الأهم، وهو كيف سيتذكر الناس إرث أوبنهايمر، وقد ارتبط بسلاح مروع وقاتل؟: يعتمد هذا على ما سيحدث في المستقبل، فإذا وقعت حرب نووية أخرى، بالطبع سيُنظر إليه على أنه العالِم المسؤول عن ذلك أيضاً.

ولد أوبنهايمر عام 1904 لعائلة ثرية في مدينة نيويورك الأميركية، وتخرج في جامعة هارفارد عام 1925، حيث تخصص في الكيمياء. وبعد ذلك بعامين، أكمل شهادة الدكتوراه في الفيزياء في جامعة غوتنغن، بألمانيا، إحدى المؤسسات الرائدة في العالم للفيزياء النظرية. وعلى الرغم من اعترافه بعدم اهتمامه بالسياسة عقب نجاحه في اختراع القنبلة الذرية؛ فقد أيّد أوبنهايمر علانية الأفكار التقدمية اجتماعياً. وكانت شريكته، كيتي بوينينغ، متطرفة ذات ميول يسارية وتضمنت دائرتهما الاجتماعية أعضاء ونشطاء الحزب الشيوعي. وربما هذا كان أحد أسباب اتهامه في وقت لاحق بأنه متعاطف مع الشيوعية، قبل أن يتوفى عن عمر ناهز 62 عاماً في 18 فبراير (شباط) عام 1967.


مقالات ذات صلة

«الملحد» للعرض في السينمات المصرية بعد معركة مع الدعاوى القضائية

يوميات الشرق «الملحد» تعرَّض لعدد من الدعاوى القضائية التي طالبت بمنع عرضه (الشركة المنتجة)

«الملحد» للعرض في السينمات المصرية بعد معركة مع الدعاوى القضائية

بعد معركة مع الدعاوى القضائية، أعلنت الشركة المنتجة لفيلم «الملحد» طرحه في دور العرض السينمائي بمصر يوم 31 ديسمبر الحالي.

داليا ماهر (القاهرة )
يوميات الشرق المخرجة المصرية سارة جوهر (الشرق الأوسط)

المخرجة سارة جوهر: «عيد ميلاد سعيد» ينافس بقوة على «الأوسكار»

تؤكد المخرجة المصرية سارة جوهر أن قوة فيلمها تكمن في قدرته على التأثير في المشاهد، وهو ما التقطته «فارايتي» بضمّها لها إلى قائمتها المرموقة.

انتصار دردير (القاهرة )
يوميات الشرق صوَّر المخرج الفيلم في ظروف صعبة (الشركة المنتجة)

«الشاطئ الأخير»... فيلم بلجيكي يرصد مأساة واقعية من قلب أفريقيا

رغم التحديات الأمنية واللوجيستية وعزلة القرية في غامبيا، فإن المخرج البلجيكي يشعر بالرضا عن التجربة التي خلّدت اسم «باتيه سابالي».

أحمد عدلي (الدوحة)
يوميات الشرق بوستر الوثائقي السعودي «سبع قمم» (الشرق الأوسط)

من «المنطقة المميتة» إلى شاشات جدة... حين تتحوَّل القمم إلى مرآة للإنسان

قدَّم وثائقي «سبع قمم» سيرة رجل فَقَد ملامح المدير التنفيذي عند «المنطقة المميتة» في "إيفرست"، ليبقى أمام عدسة الكاميرا إنساناً يسأل نفسه: لماذا أواصل؟

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق النجم الأميركي ليوناردو دي كابريو (رويترز)

ليوناردو دي كابريو يحذر الممثلين الشباب من خطأ واحد يضر بمسيرتهم

أصدر النجم ليوناردو دي كابريو تحذيراً للممثلين الشباب، موضحاً سبب رفضه عروضاً ضخمة في بداية مسيرته الفنية الحافلة.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

«صوت ملاك»... ترمب يشيد بأندريا بوتشيلي

المغني الأوبرالي الإيطالي أندريا بوتشيلي يقدم عرضاً خلال قرعة كأس العالم لكرة القدم 2026 (أ.ف.ب)
المغني الأوبرالي الإيطالي أندريا بوتشيلي يقدم عرضاً خلال قرعة كأس العالم لكرة القدم 2026 (أ.ف.ب)
TT

«صوت ملاك»... ترمب يشيد بأندريا بوتشيلي

المغني الأوبرالي الإيطالي أندريا بوتشيلي يقدم عرضاً خلال قرعة كأس العالم لكرة القدم 2026 (أ.ف.ب)
المغني الأوبرالي الإيطالي أندريا بوتشيلي يقدم عرضاً خلال قرعة كأس العالم لكرة القدم 2026 (أ.ف.ب)

أشاد الرئيس الأميركي دونالد ترمب، مساء أمس (الجمعة)، بالمغني الأوبرالي الإيطالي أندريا بوتشيلي، وقال إن لديه «صوت ملاك». ودخل الرئيس الغرفة الشرقية بالبيت الأبيض، برفقة زوجته السيدة الأولى ميلانيا ترمب وبوتشيلي.

الرئيس الأميركي دونالد ترمب والسيدة الأولى ميلانيا يسيران أمام الموسيقي أندريا بوتشيلي وزوجته فيرونيكا بيرتي في البيت الأبيض (رويترز)

وقال ترمب إنه وبوتشيلي صديقان، وسأل قبل نحو 4 أسابيع عما إذا كان بوتشيلي سيغني في البيت الأبيض. وأشار إلى أن بوتشيلي وافق خلال «لحظة ضعف».

وحضر الحفل الخاص في البيت الأبيض مشرعون جمهوريون وأعضاء في حكومة ترمب.

وأفاد ترمب: «هذا شرف هائل. سوف نستمع إلى صوت، صوت ملاك».

أندريا بوتشيلي يغني خلال قرعة كأس العالم لكرة القدم 2026 (أ.ب)

وكان بوتشيلي قد قام بالغناء في وقت سابق يوم الجمعة، في حفل إجراء قرعة كأس العام لكرة القدم بمركز كيندي.


كريتي سانون تروي رحلتها من دروس شاروخان إلى شجاعة الاختيار

الفنانة الهندية تحدثت عن تجربتها في السينما (مهرجان البحر الأحمر)
الفنانة الهندية تحدثت عن تجربتها في السينما (مهرجان البحر الأحمر)
TT

كريتي سانون تروي رحلتها من دروس شاروخان إلى شجاعة الاختيار

الفنانة الهندية تحدثت عن تجربتها في السينما (مهرجان البحر الأحمر)
الفنانة الهندية تحدثت عن تجربتها في السينما (مهرجان البحر الأحمر)

في واحدة من أكثر الجلسات جماهيرية في مهرجان البحر الأحمر السينمائي هذا العام، حلّت الممثلة الهندية كريتي سانون في ندوة حوارية تحوّلت سريعاً من حوار تقليدي إلى عرض كامل تفاعل خلاله الجمهور بحماسة لافتة، حتى بدا المشهد وكأنه لقاء بين نجمة في ذروة تألقها وجمهور وجد فيها مزيجاً من الذكاء والعفوية والثقة.

منذ اللحظة الأولى، بدا واضحاً أن الجمهور جاء محملاً بأسئلته، فيما شجع التفاعل الجماهيري الممثلة الهندية على أن تجيب بصراحة عن كل ما يتعلق بمسيرتها، ومن بين كل أسماء الصناعة، لم يلمع في حديثها كما لمع اسم شاروخان. توقفت عند ذكره كما يتوقف شخص أمام لحظة صنعت في داخله تحولاً، وصفته بأنه «الأكثر ذكاءً وخفة ظل» ممن قابلتهم، ومثال حي على أن الفروسية والذوق الرفيع لا يزالان ممكنَين في صناعة صاخبة.

واستعادت كريتي كيف كان شاروخان ينظر إلى من يتحدث معه مباشرة، وكيف يمنح الجميع احتراماً متساوياً، حتى شعرت في بداياتها بأنها تلميذة تقع فجأة في حضرة أستاذ يعرف قواعد اللعبة من دون أن يستعرضها، ومع أن كثيرين يرون أن سانون دخلت عالم السينما من باب الجمال والأزياء، فإنها أكدت أن دراستها للهندسة لعبت دوراً في دخولها مجال الفن باعتبار أنها تعلمت منها أن كل شيء يجب أن يكون منطقياً وقائماً على أسئلة لماذا؟ وكيف؟

وأوضحت أن تحليل الأمور ومراجعتها منحتاها أدوات لم يمتلكها ممثلون آخرون، مروراً بتجارب وورشات تمثيل طويلة، فيما كانت هي تتعلم على أرض الواقع عبر طرح الأسئلة، حتى تلك التي قد يضيق منها البعض أو يعدها دليلاً على التردد.

الممثلة الهندية خلال جلستها الحوارية (مهرجان البحر الأحمر)

توقفت أيضاً في حديثها عند واحدة من أكثر محطاتها صعوبة، شخصية الروبوت «سيفرا» في فيلم «لقد وقعت في شرك كلامك»، شارحة أنها كانت لعبة توازن دقيقة بين أن تكون آلة بما يكفي ليصدّقها المشاهد، وإنسانة بما يكفي ليُصدّقها شريكها في الفيلم، مشيرة إلى أنها لم ترمش في أثناء الحوارات، وضبطت كل حركة لتكون دقيقة ومحسوبة، ورغم أنها معروفة بخفة الحركة و«العثرات الطريفة» كما وصفت نفسها، فإن أكثر ما أسعدها في الفيلم كان مشهد «الخلل» الذي ابتكرته بنفسها، لتمنح الشخصية ملمساً أكثر واقعية.

لكن اللحظة الأكثر دفئاً كانت عندما تحدثت عن الموسيقى، وعن دورها في مسيرتها؛ حيث روت كيف كانت غرف التسجيل التي تعمل فيها مع الملحّنين تشبه «متجر حلوى»، وكيف كان اللحن يُولد من جلسة ارتجال بسيطة تتحول بعد دقائق إلى أغنية جاهزة، ومع أن الجلسة كانت مليئة بالضحك واللحظات الخفيفة، فإنها لم تخفِ الجانب العميق من تجربتها، خصوصاً عندما تحدثت عن انتقالها من الإعلانات والصدفة إلى البطولة السينمائية.

وروت كيف أن فيلم «ميمي» منحها مساحة أكبر مما حصلت عليه في أي عمل سابق، وغيّر نظرتها إلى نفسها بوصفها ممثلة، مؤكدة أن ذلك العمل حرّرها من الحاجة الدائمة إلى إثبات ذاتها، وأعطاها الشجاعة لاختيار أدوار أكثر مجازفة. ومنذ ذلك الحين -كما تقول- لم تعد في سباق مع أحد، ولا تبحث عن لائحة إيرادات، بل عن أن تكون أفضل مما كانت عليه أمس.

وحين سُئلت عن فيلمها الجديد «تيري عشق مين» وعن موجة النقاشات التي أثارها على مواقع التواصل، أكدت أنها تتابع الآراء بشغف، لأن السينما تشبه اللوحة الفنية التي يراها كل شخص من زاوية مختلفة، مشيرة إلى أن الناس يتفاعلون مع قصة الفيلم، لأنهم قد عرفوا في حياتهم شخصاً مثل الممثلين.

وأكدت أن جزءاً من التفاعل يرجع إلى كون العمل يعرض الحب السام من جهة، لكنه يتيح للشخصية النسائية أن تُسمّيه وتواجهه، وهذا ما تعدّه تطوراً مهماً في كتابة الشخصيات النسائية، فلم تعد المرأة مجرد ضحية أو محبوبة مثالية، «فالمرأة المعاصرة على الشاشة يمكن أن تكون معقدة، متناقضة، واقعية، ومحبوبة رغم كل ذلك»، حسب تعبيرها.


جيسيكا ألبا تكشف عن مشروع سينمائي مع هيفاء المنصور

جيسيكا ألبا خلال حضورها مهرجان البحر الأحمر (إدارة المهرجان)
جيسيكا ألبا خلال حضورها مهرجان البحر الأحمر (إدارة المهرجان)
TT

جيسيكا ألبا تكشف عن مشروع سينمائي مع هيفاء المنصور

جيسيكا ألبا خلال حضورها مهرجان البحر الأحمر (إدارة المهرجان)
جيسيكا ألبا خلال حضورها مهرجان البحر الأحمر (إدارة المهرجان)

كشفت الفنانة الأميركية جيسيكا ألبا عن ملامح مشروع سينمائي جديد يجمعها بالمخرجة السعودية هيفاء المنصور، مشيرة خلال ندوتها في «مهرجان البحر الأحمر السينمائي» إلى أن هذا التعاون لم يتشكل بين ليلة وضحاها، بل جاء نتيجة نقاشات طويلة امتدت على مدار سنوات.

وأوضحت في اللقاء الذي أقيم، الجمعة، أن الفكرة التي استقرتا عليها تدور حول قصة إنسانية عميقة تتناول علاقة ابنة بوالدها المتقدّم في العمر، ضمن سردية تقترب من تفاصيل العائلة وتحولاتها، وتسلّط الضوء على هشاشة العلاقات حين تواجه الزمن، وما يتركه ذلك من أسئلة مفتوحة حول الذاكرة والواجب العاطفي والمسؤولية المتبادلة.

وأضافت أن ما شدّها إلى المشروع ليس موضوعه فقط، بل الطريقة التي تقارب بها هيفاء المنصور هذه العلاقات الحسّاسة وتحولها إلى لغة بصرية تتسم بالهدوء والصدق، لافتة إلى أن «هذا التعاون يمثّل بالنسبة لي مرحلة جديدة في اختياراتي الفنية، خصوصاً أنني أصبحت أكثر ميلاً للأعمال التي تمنح الشخصيات النسائية مركزاً واضحاً داخل الحكاية، بعيداً عن الأنماط التقليدية التي سيطرت طويلاً على حضور المرأة في السينما التجارية».

وأشارت إلى أنها تبحث اليوم عن قصص تستطيع فيها المرأة أن تظهر بوصفها شخصية كاملة، تملك مساحتها في اتخاذ القرارات والتأثير في مسار الحكاية، وهو ما تراه في مشروعها مع المنصور، الذي وصفته بأنه «قريب من قلبها»؛ لأنه يعيد صياغة علاقة الأم والابنة من منظور مختلف.

وخلال الندوة، قدّمت ألبا قراءة موسّعة لتغيّر مسارها المهني خلال السنوات الأخيرة، فهي، كما أوضحت، لم تعد تنظر إلى التمثيل بوصفه مركز عملها الوحيد، بل بات اهتمامها الأكبر موجّهاً نحو الإنتاج وصناعة القرار داخل الكواليس.

وأكدت أن دخولها عالم الإنتاج لم يكن مجرد انتقال وظيفي، وإنما خطوة جاءت نتيجة إحساس عميق بأن القصص التي تُقدَّم على الشاشة ما زالت تعكس تمثيلاً ناقصاً للنساء وللأقليات العرقية، خصوصاً للمجتمع اللاتيني الذي تنتمي إليه.

وتحدثت ألبا عن تجربة تأسيس شركتها الإنتاجية الجديدة، معتبرة أن الهدف منها هو خلق مساحة لصناع المحتوى الذين لا يجدون غالباً فرصة لعرض رؤاهم، موضحة أن «غياب التنوّع في مواقع اتخاذ القرار داخل هوليوود جعل الكثير من القصص تُروى من زاوية واحدة، ما أدّى إلى تكريس صور نمطية ضيّقة، خصوصاً فيما يتعلّق بالجاليات اللاتينية التي غالباً ما تظهر في الأعمال ضمن أدوار مرتبطة بالعنف أو الجريمة أو الأعمال الهامشية».

وشددت على أنها تريد أن تساهم في معالجة هذا الخلل، ليس عبر الخطابات فقط، بل من خلال إنتاج أعمال تظهر فيها الشخصيات اللاتينية والعربية والنساء بصورة كاملة، إنسانية، متنوّعة، لافتة إلى أن تنوّع التجارب الحياتية هو العنصر الذي يجعل صناعة السينما أكثر ثراء، وأن غياب هذا التنوع يجعل الكثير من الكتّاب والمخرجين عاجزين عن تخيّل شخصيات خارج ما اعتادوا عليه.

وأضافت أن مهمتها اليوم، من موقعها الجديد، هي فتح المجال أمام أصوات غير مسموعة، سواء كانت نسائية أو تنتمي إلى أقليات ثقافية واجتماعية، لافتة إلى أنها تعمل على تطوير فيلم جديد مع المخرج روبرت رودريغيز، يعتمد على مزيج من الكوميديا العائلية وأجواء أفلام السرقة، مع طاقم تمثيل لاتيني بالكامل.

وأوضحت أن هذا العمل يأتي امتداداً لرغبتها في دعم المواهب اللاتينية، وفي الوقت نفسه تقديم أعمال جماهيرية لا تُختزل في سرديات العنف أو الهوامش الاجتماعية، واصفة المشروع بأنه خطوة مختلفة على مستوى بنية الحكاية؛ لأنه يجمع بين الترفيه والأسئلة العائلية، ويقدّم الشخصيات اللاتينية في إطار طبيعي وغير مصطنع.

وتوقفت جيسيكا عند مشاركتها المرتقبة في فيلم «الشجرة الزرقاء»، ويتناول علاقة أم بابنتها التي تبحث عن استقلاليتها رغم حساسية ظروفها موضحة أن ما جذبها لهذا العمل هو طبيعته الهادئة، واعتماده على بناء علاقة حميمة بين شخصيتين، بعيداً عن الصراعات المفتعلة، معتبرة أن هذا النوع من الحكايات يمثّل مرحلة أصبحت قريبة جداً منها في هذه الفترة من حياتها.