«الباتيك»... فن قديم أم موضة حديثة

دمج تقاليد نسيج مختلفة مع أسلوب جمالي إندونيسي مبتكر

تقليدياً... لا يمكن ارتداء أنماط معينة من الباتيك إلا من قبل قلة متميزة (نيويورك تايمز)
تقليدياً... لا يمكن ارتداء أنماط معينة من الباتيك إلا من قبل قلة متميزة (نيويورك تايمز)
TT

«الباتيك»... فن قديم أم موضة حديثة

تقليدياً... لا يمكن ارتداء أنماط معينة من الباتيك إلا من قبل قلة متميزة (نيويورك تايمز)
تقليدياً... لا يمكن ارتداء أنماط معينة من الباتيك إلا من قبل قلة متميزة (نيويورك تايمز)

شعرت جوزفين كومارا بالاكتئاب، بعد أن انتهى زواجها بالطلاق منذ فترة قصيرة، وانتقلت إلى منزل صغير. كانت أعمالها بمجال توريد الأقمشة لأغطية المصابيح مربحة، لكنها لم تشعر بالتحقق فيها. وبعد أن تناولت كومارا رشفة من شراب أمامها ودخنت سيجارة، نزلت بجسدها إلى الأرض، وغمست يديها في صندوقين خشبيين مملوءين بمنسوجات إندونيسية عتيقة، حسب خدمة «نيويورك تايمز» الأميركية.

مصممة المنسوجات جوزفين كومارا (نيويورك تايمز)

وكانت كومارا قد تذكرت أن أحد الصندوقين يضم تصميمات «باتيك» من جزيرة جاوة، بينما يضم الآخر نسيجاً متقناً من جزر إندونيسية أخرى. وهنا، استنشقت دخاناً معبقاً برائحة القرنفل يتصاعد من سيجارة إندونيسية، وانطلقت تفكر في كيفية إثراء تراث أمة تعيش على أكثر من 17000 جزيرة.

ومنذ تلك الليلة التي مضى عليها نحو 4 عقود، عمدت كومارا إلى إعادة تشكيل فن قديم من خلال دمج تقاليد نسيج مختلفة مع أسلوب جمالي من ابتكارها، وذلك بهدف خلق فن إندونيسي حديث. ونجحت تصميمات «الباتيك» وتصميمات أخرى أبدعتها دار الموضة التي تملكها «بينهاوس» في إحداث تحول في تعبير ثقافي لطالما اتسم بالتعقيد والروعة، لكنه ظل محاصراً داخل دائرة التقاليد القديمة.

القماش الإندونيسي يتحدث عن نبضة ورائحة معينة لا توجد في مكان آخر (نيويورك تايمز)

اليوم، لم تعد كومارا، التي يعرفها المحيطون باسمها المستعار، أوبين، تعتمد على أغطية المصابيح في كسب قوتها، وذلك مع تحول «بينهاوس» إلى قوة عالمية تكرس مجهودها لنشر جمال وروعة «الباتيك».

وعن نفسها، قالت كومارا: «أنا لا أحب إندونيسيا فحسب، وإنما أعشقها. في اعتقادي، النسيج الإندونيسي الذي نصنعه ينبض بالحياة، إنه يتحدث ويعبر عن نفسه وعن هذه الأرض الجميلة، التي تتميز بنبض وعبق خاص لا يوجد بأي مكان آخر في العالم».

وتتحدث كومارا (67 عاماً) عن حماسها لإندونيسيا دونما خجل، وتبدي تصميمها على إبراز صورة أكبر دولة إسلامية في العالم من حيث عدد السكان وأكبر دولة أرخبيلية على وجه الأرض.

وعلى جانب الآخر، نجد أن وطن كومارا يتسم بوجود غير لافت على الساحة الدولية، رغم تعداد سكانه الذي يتجاوز 275 مليون نسمة. ولا تحظى إندونيسيا بأي علامات تجارية شهيرة على مستوى العالم. وإذا كان أي جزء من إندونيسيا يتميز بشهرة واسعة في الخارج، فهو جزيرة بالي.

وفي حين أن بعض الكلمات التي نشأت داخل هذا الجزء من جنوب شرق آسيا قد ترسخت في اللغة الإنجليزية، كأرز «بادي» و«جيكو» و«أموك»، فإن كلمة «باتيك» نادرة حيث إنها كلمة محلية تعبر عن ثقافة أصلية.

جدير بالذكر أنه في أحد أشكال صناعة «الباتيك» الشائعة في جزيرة جاوة، يطبق الحرفيون الشمع على القماش بدقة تنقيطية، ويقطرون السائل المقاوم للصبغة من وعاء نحاسي ضيق. وتزخر الأنماط التي يبدعونها بصور من الطبيعة؛ أزهار ذات تصميمات معقدة ووحوش أسطورية وأوراق شجر استوائية.

إعادة تشكيل فن قديم من خلال دمج تقاليد نسيج مختلفة مع أسلوب جمالي (نيويورك تايمز)

عام 2009، صنّفت اليونسكو «الباتيك» الإندونيسي باعتباره «تراثاً ثقافياً إنسانياً غير ملموس». ومع أن هذا الاعتراف يرمي إلى الحفاظ على الإرث الثقافي للأمة، لكن يمكنه كذلك أن يسبب حالة من الجمود في هذه التقاليد. وعندما حوّلت كومارا انتباهها نحو «الباتيك»، كانت الأخيرة تجابه هذا الخطر بالفعل، رغم اندماجها في نسيج المجتمع الإندونيسي.

وقد تكون القطع صندوقية الشكل المرسومة على قمصان «الباتيك» التي يرتديها الموظفون المدنيون مموهة بشكل مريح، لكنها تستحضر موضة جيل مضى. بجانب ذلك، فإن كثيراً من القطن المستخدم في صناعة «الباتيك» في إندونيسيا لم تجرِ زراعته داخل البلاد، ما تسبب في إضعاف أصالة الشكل الفني. أضف إلى ذلك العادات المقيدة التي اعتبرت أن بعض أنماط «الباتيك» يجب أن ترتديها قلة مميزة فقط. على سبيل المثال، جرى تخصيص تصميم يشبه الخنجر وجناح منفرد لطائر أسطوري، لأفراد العائلة المالكة حصراً. من جهتها، ضربت كومارا بمثل هذه الخطوط الحمراء عرض الحائط.

وفي هذا الصدد، قال توماس موراي، الباحث والتاجر المعني بالأعمال الفنية والمؤلف الرئيسي لكتاب «منسوجات إندونيسيا»، إن كومارا، إلى جانب عدد قليل من المصممين الإندونيسيين الآخرين، تمكنت من إعادة صياغة الشكل الفني لـ«الباتيك»، دون محو طابعه الأصلي. وأضاف: «إن الأمر أشبه بعملية تلقيح متعددة الثقافات وعابرة للأزمان، وهو أمر مثير حقاً».

جدير بالذكر أن كومارا تنتمي إلى العرق الصيني، وهي جزء من أقلية لطالما عملت بمجال تصميم وإنتاج «الباتيك». وقد عانى الإندونيسيون من العرق الصيني من موجات من الاضطهاد داخل إندونيسيا، من بينها موجات دموية في ستينات وتسعينات القرن الماضي. وجراء ذلك، اضطر كثيرون منهم للفرار من البلاد.

وعلى الصعيد الشخصي، توفي والد كومارا وهي في الـ12. وانتقلت أسرتها إلى جاكرتا، العاصمة الإندونيسية. وهناك، اعتادت كومارا التجول عبر الأرجاء، خاصة داخل الحي الصيني، وبالتحديد متاجر الأنتيكات هناك. وأكدت أن أعمال العنف التي كانت تستهدف الإندونيسيين من أبناء العرق الصيني من حين لآخر، الذين كان يجري النظر إليهم باعتبارهم يحتكرون المصالح التجارية، لم تفلح في إخافتها.

وقالت كومارا: «نحن في أرض الكوارث الطبيعية؛ براكين وزلازل وموجات تسونامي، فكر في أي كارثة طبيعية وستجدها لدينا. كما أننا في الوقت ذاته أرض تنوع لا يمكن لشخص واحد استيعابها، فأثناء قيادتك السيارة لمدة ساعة مثلاً، ستلقى في طريقك أناساً يتحدثون لهجة مختلفة ويتناولون طعاماً مختلفاً. وليس عليك سوى الاستمتاع بالأمر والانغماس فيه».


مقالات ذات صلة

في حفل افتتاح «أولمبياد باريس 2024» أكدت الموضة أنها الوجه الجميل لفرنسا

لمسات الموضة إطلالة لايدي غاغا وفريقها صُممت ونُفذت في ورشات «ديور» لتعكس أجواء ملاهي باريس الراقصة (صوفي كار)

في حفل افتتاح «أولمبياد باريس 2024» أكدت الموضة أنها الوجه الجميل لفرنسا

كانت تصاميم ماريا غراتزيا تشيوري، المديرة الإبداعية لـ«ديور»، أنيقة، لكنها افتقرت للقوة الكافية لكي تسرق الأضواء من النجمات.

جميلة حلفيشي (لندن)
لمسات الموضة أقراط أذن من مجموعة «شوتينغ ستار» من الماس والذهب الأصفر والجمشت (تيفاني أند كو)

«تيفاني أند كو» تُشعل مجوهراتها بالنيران والشهب

للكثير من بيوت الأزياء أو المجوهرات ولادتان: ولادة تأسيسية؛ بمعنى تاريخ انطلاقها، وولادة ثانية تكون في الغالب إبداعية تبث فيها روحاً فنية تغير مسارها وتأخذها…

«الشرق الأوسط» (لندن)
لمسات الموضة حشد من رجال الشرطة والجيش لتأمين العاصمة الفرنسية قبل افتتاح ألعاب باريس (رويترز)

ماذا أرتدي في الأولمبياد؟ كن أنيقاً وابقَ مرتاحاً

الإرشادات المناسبة للملابس لتحقيق التوازن بين الأناقة والراحة عند حضور الألعاب الأولمبية الصيفية هذا العام.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
لمسات الموضة من مجموعة "عريس صيف 2024" للمصمّم اللبناني نمر سعادة (دار أزياء نمر سعادة)

«عرسان» نمر سعادة يرتدون البدلة الملوّنة

ذهب مصمّم الأزياء اللبناني المتخصّص في الموضة الرجاليّة إلى أقصى الجرأة، عندما قرّر أن يُلبِس عريس الموسم بدلة ملوّنة.

كريستين حبيب (بيروت)
لمسات الموضة يقدر سعرها بأكثر من مليون دولار والأحجار هي السبب (فابيرجيه)

بيضة «فابيرجيه» الجديدة بمليون دولار… فمن يشتري؟

بيضة بمليون دولار.

جميلة حلفيشي (لندن)

«مهرجان القدس» يوثق مأساة أهالي غزة تحت القصف

جانب من عروض الأفلام (إدارة المهرجان)
جانب من عروض الأفلام (إدارة المهرجان)
TT

«مهرجان القدس» يوثق مأساة أهالي غزة تحت القصف

جانب من عروض الأفلام (إدارة المهرجان)
جانب من عروض الأفلام (إدارة المهرجان)

على عمود خرساني باقٍ من أطلال بيت محطم، انتصبت شاشة عرض «مهرجان القدس السينمائي» في غزة، لتقدّم مشاهد من مأساة يعيشها أهالي القطاع المنكوب منذ نحو 10 أشهر.

يعرض المهرجان، في دورته الثامنة، أفلاماً فلسطينية؛ من بينها مشروع أفلام «من المسافة صفر»، الذي يشرف عليه المخرج رشيد مشهراوي، والذي شهد إقبالاً من سكان مدينة دير البلح، وسط قطاع غزة.

ويقام مهرجان القدس السينمائي في غزة منذ عام 2009، لكنه توقّف بسبب الحروب التي عاناها القطاع، وعاد مرة أخرى عام 2017، وفق الدكتور عز الدين شلح، رئيس المهرجان، الذي شدّد على حرصه على تنظيم المهرجان رغم الحرب.

وأضاف شلح، لـ«الشرق الأوسط» قائلاً: «يشاهد العالم كلّه حرب الإبادة التي تتعرض لها غزة ويحاصرها الموت من كل الزوايا، ونحن نؤمن بأن السينما حياة، ففكرنا بمواجهة الموت بها».

أفلام المهرجان تحكي معاناة أهالي غزة (إدارة المهرجان)

واختير مكان المهرجان بعد اجتماع إدارته مع عدد من المثقفين والسينمائيين، الذين أجمعوا على إقامة الدورة الثامنة بشكل استثنائي، وبالفعل بدأت الفعاليات يوم 25 يوليو (تموز) الحالي، وتستمر لمدة 4 أيام.

وعن الصعوبات التي واجهها عز الدين شلح ورفاقه في تنظيم هذه الدورة الاستثنائية، يقول: «المقر الذي كنا نعرض فيه كان مدمَّراً، وهناك مكان آخر بديل وجدناه مدمراً أيضاً، حتى (البروجوكتور) الذي نعرض عليه كان في مؤسسة استهدفها القصف، فلا كهرباء أو إمكانيات، ورغم ذلك أصررنا على تنظيم المهرجان».

ولم يغِب عن منظميه أن يستعيدوا بعض مظاهر المهرجانات السينمائية، ولكن بطريقة «مأساوية»، إذ يقول رئيس المهرجان: «فردنا السجادة الحمراء بين الخيام، ولم تكن هناك أي إمكانيات متاحة».

أفلام مهرجان القدس تُعرض وسط الأنقاض (إدارة المهرجان)

وتابع شلح: «اخترنا موقع العرض في مركز إيواء بجواره منزل مدمَّر، وضعنا الشاشة على هذا المنزل، وحضر كل من في المخيّم المهرجان، وهناك أشخاص جاؤوا من خارجه، وافتتحنا المهرجان بأفلام (المسافة صفر)، وهي 22 فيلماً، عرضنا منها 10 أفلام في الافتتاح، وستُعرض الأفلام الباقية في الختام». وأوضح أن «هذه الأفلام لمخرجين من غزة، وصُنعت عن غزة والحرب، فالجمهور الموجود كان يرى نفسه من خلال هذه الأفلام، ولكن بعمق وبصورة مختلفتين، وبرؤية مخرج يفكر بإحساس آخر أكثر عمقاً».

ويضم المهرجان كثيراً من الأفلام الفلسطينية الأخرى التي تُعرَض في مراكز إيواء أخرى بدير البلح، وفق ما يؤكد رئيس المهرجان، ويشير إلى أنهم كانوا جاهزين لإطلاق الدورة الثامنة يوم 29 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، الذي يصادف اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني، و«بسبب الحرب لم نتمكن من إقامة الدورة، إلى أن قررنا تنظيمها، سواء انتهت الحرب أم لم تنتهِ».

المهرجان افتُتح وسط خيام الإيواء (إدارة المهرجان)

ونشر المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي صوراً من المهرجان، على صفحته بـ«فيسبوك»، وكتب معلقاً: «يسعدني عرض أفلام (من المسافة صفر) في غزة، خلال افتتاح (مهرجان القدس السينمائي)، على الرغم من كل ما يحدث هناك. وتُسعدني النقاشات التي تثيرها العروض حول العالم، وموضوعات الأفلام التي تؤكد، بلغة سينمائية، أننا شعبٌ اختار الحياة ويضحّي من أجلها في جميع المجالات، بما في ذلك السينما والفن والثقافة»، كما استعاد جملة شعرية لمحمود درويش تقول: «هزَمَتك يا موت الفنون جميعها».