للفن قدرة على استنطاق الواقع الاجتماعي والسلوك المهني، وهو ما يرتكز عليه معرض «الأيادي الصامتة» الذي افتتح هذا الأسبوع في حي جميل بجدة، ويستكشف دراسات التأثير الاجتماعي والاقتصادي والنفسي والثقافي للأعمال التي لا تحظى بالتقدير الكافي، خصوصاً في أساليب العمل الافتراضية الجديدة، ومساحات عمل النساء، وحالات الهجرة وتوظيف العمالة المهاجرة.
يُركز «الأيادي الصامتة» على سرديات الأفراد والمجتمعات، ويُبرز مساحات العمل الأمامية وتشابكها مع الحياة المنزلية وأوقات الفراغ في آسيا وحالة تشتت الجالية الآسيوية، إذ يتشارك الفنانون معاً في عرض قصص عن البرغماتية والرغبة والنضال، ليستكشفوا الصدام مع تقنيات المراقبة، والأعمال المخفية في قطاع الضيافة داخل المنزل وخارجه.
تتحدث روتا شاكر القيّمة الفنية للمعرض، لـ«الشرق الأوسط» موضحة أن معرض «الأيادي الصامتة» ينظر لمساحات العمل ككل وليس للعمال فقط، سواء واقعياً أو افتراضياً، ويستكشف الفنانون خلاله علاقة هذه المساحات مع الجندرة، والاستقلال المالي، وتعزيز الوضع الاجتماعي، والقدرة على التنقل، والهجرة.
وعن شريحة واسعة من العُمال المهمشين في المجتمعات المعاصرة، تقول: «ربما لا نراهم ونعتقد أنهم غير مرئيين، أو أن الأماكن التي يعملون بها غير ظاهرة أو قد تكون مخفيّة»، مبينة أن كل هذه الاحتمالات لا تنكر حقيقة وجودهم التي أظهرها الفنانون السبعة المشاركون بأعمالهم، في المعرض الذي يستمر إلى 16 أكتوبر (تشرين الأول) المقبل.
تتابع شاكر حديثها موضحة أن العاملين على البنية التحتية الرقمية كثيراً ما يُنسوا، وقد يعتقد الكثيرون أن هذه الإجراءات تكون مؤتمتة بينما في الواقع هناك أناس يقفون خلف هذا العمل، وتردف: «هناك الكثير من الأفكار الفنية المختلفة حول ماهية العمل، بصورة متنوعة لفنانين من دول الشرق الأوسط وآسيا، بما يشبه القصص الفردية والمجتمعية».
عمال الياقات الزرقاء
الفنان الإماراتي محمد كاظم يقدم عمله «حتى ظلهم لا ينتمي لهم»، المتمثل في سلسلة من اللوحات اللونية التي تصور العمال المهاجرين الذين يعملون في مواقع البناء في جميع أنحاء بلاده، وتعكس الصورة التي التقطها الفنان الأشكال المرسومة بطلاء أكریلیك ومغمورة بالحبر، مما يجعل من الصعب قراءة المشهد الذي يعنيه بوضوح. وتعكس طريقة معالجته عبر اللوحات لقاء عاماً مع عمال يرتدون الياقات الزرقاء، الذين على الرغم من تواجدهم في جميع أنحاء المدينة إلا أنهم لا يشكلون جزءاً واضحاً من المشهد الحضري اليومي.
أما الفنانة باستيا أباد، فتسرد خلال لوحتها «فلبينيات في هونغ كونغ» جزءاً من تجربة الهجرة، التي تستكشف الواقع الذي يعيشه المهاجرون أمام المباني الشاهقة التي تحمل علامات تجارية معروفة لمؤسسات كبيرة، مثل «بنك هونغ كونغ» و«شانيل» وغيرها. كما يصور العمل الفني رحلة العاملات الفلبينيات في يوم إجازتهن الوحيد، وهن يحتشدن في شوارع المدينة وممرات مترو الأنفاق.
يتخلل ذلك، ظهور مراكز التسوق على خلفية أفق المدينة الجاذبة للعلامات التجارية الاستهلاكية العالمية، والتجارب التي غالباً ما تكون بعيدة عن متناول العديد من هؤلاء النساء. مع الإشارة إلى أن الفنانة آباد هي رسامة لديها العديد من الأعمال الفنية، وتعمل بتقنية أطلقت عليها اسم «ترابونتو»، وهي كلمة مشتقة من كلمة إيطالية تعني «الحشو والتبطين».
النسوة العاملات
وتصوّر الفنانة أنهار سالم في عملها «ما شاء الله، لماذا عبرتِ المحيط الهندي؟» مقابلتين جماعيتين مع والدتين وبناتهن من حضارم الهند اللاتي يعشن في جدة، حيث اعتادت النسوة على الاجتماع في غرفة معيشة (أم سالم) باعتبارها موقعاً للتجارة غير الرسمية للنساء القادمات من الدائرة المجتمعية نفسها للفنانة، حيث يشترين ويبعن مختلف السلع والأشغال اليدوية والمأكولات.
وفي هذا العمل، تتم المقابلات بطريقة مرحة، إذ تجلس النساء لتناول وجبة الطعام معاً وأثناء ذلك يسردن تجاربهن في رحلة الهجرة إلى جدة، وبالتالي يكشفن عن ثقافة جديدة، ومن ثم يدعمن الرفاهية الاقتصادية والعاطفية والجسدية لأسرهن، مع الحفاظ على قيمهن وتقاليدهن الأمومية والتمسك بها.
وفي عمل آخر لأنهار سالم أسمته «سعر كويس»، تركز على مفهوم الأمومة الذي يربط بين أجيال عدّة، وهي ترسم أنماطاً على قطعة قماش تسمى بينغكونغ، شاع استخدامها في الثقافة الإندونيسية، إذ تستخدمها المرأة للف جسمها بعد الولادة. وتشير الأنماط والحروف الملونة في العمل إلى السلع المباعة في منزل والدة الأم، ومنها ملصقات من عبوات الأدوية الشعبية، وطبعات الباتيك على الملابس.
يحمل عمل الفنانة هانغاما أميري اسم «بهار، صالون تجميل»، وهو عبارة عن قطعة نسيج كبيرة الحجم تصور المناطق الداخلية لصالون تجميل في أفغانستان، اتخذت منه العميلات ملاذاً ومجتمعاً، باعتباره مكاناً يستمتعن فيه بالجمال ويجدن العناية والصداقة الحميمة. حيث تملك النساء غالباً الشركات وتديرها وتحمل أسماء ملاكهن، فإن هذه الصالونات تشير أيضاً إلى مساحة السلطة والنفوذ النسائي. كما تركز تركيبة هذا العمل على عروس ترتدي الزي التقليدي وتتزين على يد اختصاصي تجميل، في حين تأتي الفاتورة المسعرة بالدولار الأميركي التي تضعها العروس في حجرها لترمز إلى مكانتها الرفيعة، وتعكس الظروف الاجتماعية والاقتصادية لأفغانستان في فترة ما بعد الغزو. ومن هنا تخيط أميري أشياء مرجعية أخرى في عملها، مثل صور مغنية أفغانية شهيرة سميت على اسمها.
الفنانة السعودية مها ملوّح تشارك في المعرض بعملها الشهير «غذاء للفكر»، المكوّن من أطباق الشينكو التي كانت تستخدم غالباً في الطهي المنزلي، حيث يأخذ هذا العمل شكل المعلقات، وهو جزء من سلسلة أشمل تبحث في الطبيعة المتغيرة للحياة المجتمعية والعائلية في جميع أنحاء المملكة العربية السعودية.
وتستكشف الفنانة في هذه المنحوتة من خلال استخدام الأطباق في أغراض أخرى لتمثيلها علاقتنا المتغيرة بالأشياء بسبب ضخامة الإنتاج، وكثرة السلع المستوردة، وعدة الطبخ في المنازل بكثرة كالمعتاد. وتشير إيماءة الفنانة المتمثلة في التجميع والتكديس إلى محاولة الحفاظ على التقاليد وسط موجات التحوّل.
الطبقة العاملة
الفنانة خير الله رحيم تشارك في العمل «بوركو» المتمثل بتركيب فني متعدد الوسائط، مكوّن من بنية من السقالات المزينة بأقنعة على شكل رؤوس حمام وفواكه بلاستيكية وشاشات فيديو مدمجة. ويهتم هذا التركيب بمراقبة أجساد الطبقة العاملة والفصل بين واقع حياتهم وصورة سنغافورة المزخرفة.
ويشير عنوان العمل إلى نداء من طائر الحجل، في حين صوّر الفنان معظم هذا الفيديو في بون لاي، وهو أحد أحياء سنغافورة ذات الدخل المنخفض، وتظهر صور الحمام أكثر من مرة في مقاطع الفيديو، ويعتبر هذا الحمام آفة منتشرة يتخلص منها سكان ضواحي سنغافورة بعنف، لذا استخدم الفنان الحمام هنا كاستعارة مؤثرة يشير بها إلى الطبقة العاملة.
عُمال التكنولوجيا
وأخيراً، تقدم الفنانة آرتي ساندر عملها «النسخة الشبحية» الذي يلقي نظرة على برنامج الواجهة الخلفية لشركة أمازون ميكانيكال تورك، مستعينة في ذلك بالحوار مع عمال الشركة، حيث تكشف الفنانة كيف يعالج ملايين العاملين في مجال التكنولوجيا الخلفية التكنولوجيا الرقمية، مما يخلق وهماً بالتعلّم الآلي الذي يتسم بالسلاسة والسرعة.
ويصوّر الفيديو هنا مساحات العمل من المنزل، التي يصممها العاملون في منازلهم، حيث يأتي العمل بمثابة الوسيط الذي يجمع بين أسلوب السرد الوثائقي والخيال التأملي، مما يدفع إلى مناقشة كيف يمكن للذكاء الاصطناعي والأتمتة الآلية تغيير مساحات وإيقاعات العمل التي اعتدنا عليها.