بعد ظهر أحد الأيام الماطرة، وقف حشد كبير من الإعلاميين والضيوف الآتين من كل حدب وصوب تحت مظلاتهم أو من دونها ينتظرون إذن الدخول إلى عرض فيلم وسترن قصير عنوانه «طريقة غريبة للحياة» (A Strange Way of Life). المخرج ليس سوى الإسباني بيدرو ألمودوفار الذي يمتلك شعبية واسعة حول العالم كأحد صانعي الأفلام الأكْفاء. أولئك الذين يُكتب عن أفلامهم بإعجاب ويضع مؤلفون عنهم كتباً ومحاضرات.
وفق شهود، بدأ التجمّع من نحو 100 شخص ثم ارتفع سريعاً إلى أكثر من ضعفي العدد. فالفيلم القصير لا يعني أنه منبوذ بلا مهتمّين، خصوصاً إذا ما كان مخرجه من المصنّفين عالياً في مجال عملهم.
كان من المفترض أن يدخل الحشد الكبير الصالة الضخمة التي تستقبلهم كل يوم. لكن ما حدث بعد ساعة ونيّف من الانتظار، وتحت المطر المنهمر بلا هوادة، هو أنّ أحد موظفي الأمن رفع صوته قائلاً: «الصالة كومبليه. لا أماكن». هنا هاج الجمهور وماج. كيف امتلأت وبمن؟ ماذا عن التذاكر، التي حجزوها تحت تهديد أنه إذا ما تخلّف الحاجز عن الظهور من دون إلغاء تذكرته قبل نصف ساعة على الأقل ثلاث مرّات، فسيعاقب بمنعه من دخول الأفلام! في كل مرّة، على الآلة التقاط الكود لتبرهن للمسؤولين أنّ هذا المُشاهد أو ذاك لم يتخلّف عن الحضور. تساءل عديدون كيف يمكن إلغاء التذكرة قبل نصف ساعة بعدما أمّوا المكان وانتظروا لأكثر من ساعة؟
تلقى الحشد طلب الأمن الخاص بمغادرة المكان بالغضب والصراخ. حاول بعض من في المقدّمة اختراق الحاجز من دون نجاح. لم يكن هناك شيء يمكن لأحد منهم فعله. ولا المهرجان قدّم اعتذاراً. هو قلما يعتذر عن خطأ ارتكبه على أي حال، حتى إذا كان من نوع أنّ المناقشة التي تلت الفيلم السابق للفيلم الذي احتشد الناس لمشاهدته تخطّت مدّتها، عوض الالتزام بها.
حواجز نظامية
المهرجان من الكبر والأهمية بحيث لا يعلق شيئاً كثيراً في الأذهان. وإن فعل، فإنه لا يشكّل مادة للإعلاميين الفرنسيين على الأقل لكتابة ما حدث أو استهجانه خوفاً من سحب بطاقاتهم أو عدم قبولهم في العام المقبل. صحيح أنه لا يمكن فعل شيء حيال الطقس الماطر منذ بدء أيام المهرجان، لكن يمكن فعل الكثير لدى الإدارة لمزيد من النظام من دون محاولة تنظيم الوافدين إليه.
«هناك شعور من القهر عندما تنتظر تحت المطر ويتأخر الدخول عن موعده»، تقول موظّفة في شركة إنتاج كانت من ضحايا ذلك الموقف، وتضيف: «بالتأكيد يمكن للمهرجان احترام رغبة الجمهور وأوقاتهم، وليس معاملتهم كأمر مفروض عليهم القبول به».
صحافي أميركي شاب لم يسبق له حضور أي من دورات المهرجان، أفاد بأنه كان اختار دوماً المهرجانات الصغيرة لأنها تنجح في تنظيمها، «هنا اكتشفتُ أنني كنت على حق».
لتدخل الأفلام، عليك أن تفتح شبكة التسجيل على الإنترنت وتختار الأفلام التي تريد (إذا ما كانت لا تزال متوافرة) لليومين التاليين فقط. بعدها، تنتظر يوماً قبل الحصول على بطاقة فيلم الغد. هذه تخوّلك الوقوف في صف ينتفخ سريعاً كالبالون، والشاطر بشطارته!
كان المهرجان لجأ إلى هذا النظام بسبب «كورونا» لتفادي التجمّعات في تلك المرحلة الخطرة. بعد زوال الوباء، بقي الحال على ما هو عليه. لكن حتى في العام الماضي، عندما استحدث هذا النظام، بقي الازدحام والصفوف طويلة. السبب هو أنّ النظام التكنولوجي للحصول على التذاكر لا يسمح للمرء بحجز كرسيه سلفاً. هو لو فعل، لَما كانت هناك حاجة لأن يأتي باكراً خوفاً من ألا يجد مقعده المفضّل، وبالتالي لا داعي لتكدّس البشر تحت المطر أو من دونه. هذا الربع الأخير من التنظيم مفقود في «كان»، موجود في «برلين» و«فينيسيا» بامتياز. الانتظار أمام البوّابات فيهما لا يمتد لأكثر من عشر دقائق في معظم الحالات.
تجرف الأيام اللاحقة الأحداث والمفارقات تباعاً. صحيح أنه لا يمكن فعل شيء حيال المطر، لكن يمكن فعل الكثير لو أراد المهرجان ذلك.
مأساة امرأة
هذا كله لا علاقة له بالجانب المتميّز لمهرجان فيه كل ما يبحث عنه أي قادم بصرف النظر عن طبيعة عمله. هو منصّة دولية بلا ريب للمخرج والممثل والفني والمنتج وللمؤسسات الكبيرة والصغيرة. وهو يحشد أفلاماً قد لا تتساوى في الجودة، لكنها محمولة فوق أسماء مخرجين معروفين تتمنى مهرجانات أخرى الفوز بهم.
تتوالى الأفلام المعروضة لتكشف عن كنز من المواضيع والاهتمامات التي تودّ طرحها. بعضها يطرحها بنجاح والآخر يتوسّم ذلك النجاح ولا يبلغه.
النجاح في الطرح هو فعل آخر مختلف عن النجاح في تحقيق الفيلم. كل هذه الأفلام التي نشاهدها يومياً لديها ما تودّ قوله، وغالباً ما تقوله على النحو الذي يرضي الجمهور العريض. بعضها يُرضي النخبة منهم أيضاً
«أربع بنات» (Four Daughters) للتونسية كوثر بن هنية، يشارك في المسابقة الرسمية بحضور لافت يوازي حضور فيلم نادين لبكي «كفرناحوم» في مسابقة عام 2018. هذا لجهة تمثيله دولة عربية في المهرجان ونجاحه في صوغ حبكة معنية بالقضايا الاجتماعية التي تشغل العديد من الأفلام العربية، ربما أكثر من اللزوم.
في «أربع بنات» (أو «بنات ألفة» كما سُمي بالفرنسية)، تجمع المخرجة بين الحديث النسوي ذي اللهجة شبه التسجيلية، الذي عمدت إليه في «زينب تكره الثلج» (2016)، وبين الصرخة التي أطلقتها في «على كف عفريت» (1917)، وهي تقدّمت كثيراً في مجال استخدام مفردات العمل البصرية والضمنية عما جاءت به تلك الأفلام الماضية.
هنا، تستخدم المخرجة أسلوباً مختلفاً لسرد حكاية مسجّلة تمزج الدراما بالعزوف عنها. «ألفة حمّوري» كانت في الواقع تلك المرأة التي طالبت عدم السماح لابنتين من بناتها الالتحاق بميليشيا «داعش»، وحين لم يأبه المسؤولون لطلبها، صبّت جام غضبها عليهم. يعكس الفيلم تلك الواقعة، لكنه يحفر عميقاً في جرح لا تزال الأم تعيشه بعدما خسرت فتاتيها إلى الأبد.
تلعب هند صبري دور «ألفة» بمقدرتها المشهودة على الاندماج، وهي كانت أدّت بطولة فيلم «زهرة حلب» لرضا الباهي (2018)، الذي تناول قصّة خيالية لامرأة التحق ابنها الوحيد بمجموعة تونسية متطرّفة أرسلته إلى سوريا للقتال ضد النظام. تقرّر الأم اللحاق به مدّعية أنها «جهادية» أيضاً بنيّة إيجاد ابنها المفقود. المعالجة في فيلم بن هنية الحالي تختلف كلياً، والأخيرة لا تفتفر إلى كيفية توظيف المضمون بأسلوب يعصر المأساة من دون السقوط في تعاطف فج أو ساذج.
حوارات لا تنتهي
فيلم بن هنية أفضل من ذلك الذي وفّره للمسابقة التركي نوري بيلج شيلان بعنوان «حول العشب الجاف» (About Dry Grasses) المخرج الذي فاز بالسعفة الذهبية في عام 2014 عن «نوم شتوي» (Winter Sleep)، آثر دوماً الحوارات الطويلة، لكن في تلك الآونة التي حصد بها السعفة، وما قبلها، كان الحوار جزءاً مكمّلاً للصورة التي تتحدث بدورها عن الحياة التركية وشخصياته المركّبة من مشكلات اجتماعية. لم يغلب الحوار الصورة، بعكس فيلمه الحالي والسابق «شجرة الإجاص البرّي».
الفيلم دراما في أكثر من ثلاث ساعات مليئة بالنقاشات الفلسفية والأدبية والثقافية التي يضيع تأثيرها بسبب تكرارها. في نهايته، يلجأ المخرج إلى تعليق صوتي لا داعي له، أو ربما كان له داعٍ في باله هو، إذ يحاول عبره الخروج من الفيلم بإيضاح ما لم يعد مهماً.
مثله في التطويل وإثارة الملل، أكثر من الفضول، فيلم وانغ بينغ «ذباب أسود»، الذي يعرض، تسجيلياً، لحياة وشخصيات مصنع ثياب. مضجر صوتياً، وباهت في معالجته الفنية، وأطول بكثير مما يجب، خصوصاً أنّ الاستعراض واحد لا يتغير. الغاية منه قد تكون عرضاً اجتماعياً، لكن هذا ليس مهمّاً من دون إبداع فني مُصاحب.
فيلمان مغربيان
من المغرب، فيلمان جديدان: «الثلث الخالي» لفوزي بن السعيدي (ضمن تظاهرة «نصف شهر المخرجين») و«كلاب» لكمال الأزرق (مسابقة «نظرة ما»).
في الأول، حكاية رجلين يجوبان القرى المغربية البعيدة لدفع الإنتاج ورفع وتيرة الأرباح، فيستطيع الأهالي دفع الديون والأقساط المستحقة لمؤسسة مالية. إذا ما نجح الرجلان في المهمّة، ضمنا حفاظ الشركة عليهما كموظفين. هما ملزمان بابتداع أي أسلوب عمل يتيح الحفاظ على وظيفتهما. يسترسل الفيلم في حواراته رغم حبكة لا بأس بها. المشكلة هنا من نصيب رغبة المخرج في سرد حكاية تخلو من أحداث ومفاجآت تستدعي التقدير. إخراج مخيّب، إذ أنّ بن السعيدي أنجز أفلاماً أهم وأعلى طموحاً في الماضي، وحجز لنفسه مكانة جيدة في بلاده وخارجها. ومن المثير ملاحظة أنّ كلامه قبل عرض الفيلم جاء أفضل من الفيلم عينه.
يمرّ «الثلث الخالي» عبر كاميرا لا تودّ المشاركة بحياكة الشعور حيال ما تقع عليه. تبقى بعيدة في العديد من المشاهد، وحتى حين تلتقط بطلَي الفيلم في مشاهد قريبة، فإن ذلك لا يجلب معه سوى تغيير المسافة بين الكاميرا وما تصوّره.
أفضل منه فيلم كمال الأزرق «كلاب»، الذي يبدأ بكلاب فعلية يربيها أصحابها لدخول المسابقات الدموية. يعفينا الشريط عن مشهد لتلك المباريات الحيوانية، منطلقاً من حقيقة أنّ كلب أحدهم تسبّب في نفوق كلب آخر. مالك الكلب النافق يطلب من رجل وابنه خطف مالك الكلب القاتل بغرض الانتقام منه. لا يشمل الانتقام القتل، لكن المخطوف يموت على أي حال بعدما وضع الرجلان على رأس الضحية كيساً وحبسوه داخل صندوق السيارة الخلفي. عندما يكتشفان أنّ المخطوف بات جثة يحاولان التخلص منها بأي طريقة.
فيلم تشويقي يلمّ بالعالم التحتي في مدينة الدار البيضاء، ويعكس شرور الشخصيات المحيطة بهذين الرجلين. يتابع مشاهدوه رحلتهما اللاهثة وسط مشكلة خطرة باتت تهدد حياتهما.
إخراج واقعي النبرة والوسيلة، مع إخفاق في الانتباه إلى مسألة الزمن. فالفيلم يبدأ ليلاً وينتهي ليلاً، لكنه في تفاصيل أحداثه يبدو أنه استعار ساعات إضافية، خصوصاً أنه في أحد المشاهد يُظهر لقطات للفجر يليها مباشرة بقاء الفيلم معتماً كما بدأ في ليل لا ينتهي.