«دون جيوفاني»... رحلة إنسانية في عالم الموسيقى الكلاسيكية

مكتبة الإسكندرية تستضيف الأوبرا العالمية

الأوبرا مستلهمة من سيرة متداولة بين نبلاء أوروبا عن نبيل من مدينة البندقية يدعى جياكومو كازانوفا (تصوير بثينة شعلان)
الأوبرا مستلهمة من سيرة متداولة بين نبلاء أوروبا عن نبيل من مدينة البندقية يدعى جياكومو كازانوفا (تصوير بثينة شعلان)
TT

«دون جيوفاني»... رحلة إنسانية في عالم الموسيقى الكلاسيكية

الأوبرا مستلهمة من سيرة متداولة بين نبلاء أوروبا عن نبيل من مدينة البندقية يدعى جياكومو كازانوفا (تصوير بثينة شعلان)
الأوبرا مستلهمة من سيرة متداولة بين نبلاء أوروبا عن نبيل من مدينة البندقية يدعى جياكومو كازانوفا (تصوير بثينة شعلان)

عندما قدم فولفغانغ أماديوس موتسارت، أوبرا «دون جيوفاني» على أحد مسارح مدينة براغ للمرة الأولى في القرن الثامن عشر، أكد أنه كتبها من أجل براغ، ولكي يستمتع به سكانها، لكن لم يتوقف الأمر عند هذا الحد الذي أراده لها الموسيقار النمساوي الشهير؛ فقد استمر تقديم الأوبرا التي تُعد من روائع الموسيقى الكلاسيكية على أعرق مسارح العالم على مدى عشرات السنوات، لتحفر بصمتها وتترك أثراً كبيراً على الأدب العالمي.

جاءت الليلة الأولى من عرض «دون جيوفاني» على مسرح مكتبة الإسكندرية، مساء الخميس، لتجسد لحظة التقاء استثنائية متجددة بين إبداع يعود إلى عدة قرون ومشروع ثقافي معاصر يدمج بين مجموعة من فناني الأوبرا العالميين وشباب الغناء الأوبرالي بمصر، عبر عمل فني مُفعم بالعواطف ويغوص في أعماق النفس البشرية.

عاش الجمهور المصري مع رائعة موتسارت وتتبع قصة «دون جيوفاني» من انغماسه في عالم الليل المعتم إلى نيله العقاب العادل في المشهد الأخير من الأوبرا، وخلال ذلك تأثروا بما يمكن أن يمر به المرء حين يعاني من اضطراب أخلاقي حاد يدفعه إلى أن يصبح «زير نساء»، ويبحث دوماً عن ضحايا جدد من الجميلات.

وأثناء ذلك التقى المشاهدون بشخصيات عدة، بما انطوت عليه هي الأخرى من مشاعر الشغف والحزن والترقب والعنف والسعادة المؤقتة، بينما سادت المسرح أجواء خاصة نسجتها موسيقى موتسارت ما بين آثام وارتباك «دون جيوفاني»، ومرح وهزلية المواقف الإنسانية، وهو ما تجلى في نهاية العمل خصوصاً حين رأينا «ونيا آنا» و«دون أوكتافيو» و«دونيا آلفيرا» و«زرليني» و«مازيتو» يسرعون لمشاهدة قتله بعد إصراره على المضي في عالم الآثام بدعوى ممارسة حريته كما يراها.

وفي حين أن الأوبرا من المفترض أنها تكشف ما يدور من خفايا القرن الثامن عشر في تخليه عن إنسانيته، فإن المشاهد قد يشعر في هذا العرض أنه أمام عمل يخترق ببراعة أسرار الحياة المعاصرة أيضاً بكل اضطراباتها وتبدلاتها.

ويُعد هذا العرض المستمر الذي يواصل عروضه الجمعة والسبت، هو العمل الثاني الذي يتم تقديمه في إطار مشروع فني ثقافي أطلقته مكتبة الإسكندرية، بدأ بتقديم أوبرا «كارمن» في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، ويستمد فكرته من أن لفن الأوبرا حضوراً مميزاً في مصر منذ القرن التاسع عشر، تحديداً مع افتتاح الأوبرا الخديوية، وفق المايسترو ناير ناجي، مدير أوركسترا مكتبة الإسكندرية، الذي قال لـ«الشرق الأوسط»: «جسدت الإسكندرية مكاناً مهماً لعرض الأوبرا في بداية القرن العشرين، لكن للأسف تراجعت مختلف الفنون الرفيعة في المدينة؛ بسبب التغيرات المجتمعية، وبالرغم من عملي في هذا المجال منذ أكثر من 30 سنة، إلا أنني اعتبرت أن الأمنية الأغلى لي هي إعادة عروض الأوبرا بالمدينة مع إسناد أدوار لفناني المدينة من الشباب».

وبسبب التكلفة المرتفعة للعرض، دشن المايسترو شراكة مع معهد غوته الذي قدم له دعماً مادياً كبيراً، إضافة إلى الدعم الفني.

وعن سبب اختياره لـ«دون جيوفاني» يجيب، «بعد اختياري لـ(كارمن)، وهي من (الصف الأول للأوبرا)، وتحقيقها التأثير المرجو، تساءلت: كيف يمكن أن نستكمل هذا النجاح؟»، مضيفاً: «وجدت صعوبة في الاختيار؛ فقد بدأت بأوبرا رفيعة جداً، وبعد تفكير وجدت أننا ونحن بصدد تدشين هذه العروض بشكل سنوي علينا أن نقدم في البداية (أبجديات الفن) لجذب الجمهور، وذلك ما وجدته يتحقق في أعمال (موتسارت)».

لا تقل أهمية عن ذلك أن «دون جيوفاني» من «الأوبرات» القليلة في العالم التي منذ وقت كتابتها وتقديمها لأول مرة عام 1787، والمستلهمة من سيرة متداولة بين نبلاء أوروبا عن نبيل من مدينة البندقية يٌدعى جياكومو كازانوفا، لم تتوقف على مسارح العالم، ما يؤكد أنها أوبرا رصينة مشوقة تعتمد فكرة الثواب والعقاب، وتتميز بقالب اجتماعي تمتزج فيه الكوميديا والدراما الجادة.



«الجمل عبر العصور»... يجيب بلوحاته عن كل التساؤلات

جانب من المعرض (الشرق الأوسط)
جانب من المعرض (الشرق الأوسط)
TT

«الجمل عبر العصور»... يجيب بلوحاته عن كل التساؤلات

جانب من المعرض (الشرق الأوسط)
جانب من المعرض (الشرق الأوسط)

يجيب معرض «الجمل عبر العصور»، الذي تستضيفه مدينة جدة غرب السعودية، عن كل التساؤلات لفهم هذا المخلوق وعلاقته الوطيدة بقاطني الجزيرة العربية في كل مفاصل الحياة منذ القدم، وكيف شكّل ثقافتهم في الإقامة والتّرحال، بل تجاوز ذلك في القيمة، فتساوى مع الماء في الوجود والحياة.

الأمير فيصل بن عبد الله والأمير سعود بن جلوي خلال افتتاح المعرض (الشرق الأوسط)

ويخبر المعرض، الذي يُنظَّم في «مركز الملك عبد العزيز الثقافي»، عبر مائة لوحة وصورة، ونقوش اكتُشفت في جبال السعودية وعلى الصخور، عن مراحل الجمل وتآلفه مع سكان الجزيرة الذين اعتمدوا عليه في جميع أعمالهم. كما يُخبر عن قيمته الاقتصادية والسياسية والاجتماعية لدى أولئك الذين يمتلكون أعداداً كبيرة منه سابقاً وحاضراً. وهذا الامتلاك لا يقف عند حدود المفاخرة؛ بل يُلامس حدود العشق والعلاقة الوطيدة بين المالك وإبله.

الجمل كان حاضراً في كل تفاصيل حياة سكان الجزيرة (الشرق الأوسط)

وتكشف جولة داخل المعرض، الذي انطلق الثلاثاء تحت رعاية الأمير خالد الفيصل مستشار خادم الحرمين الشريفين أمير منطقة مكة المكرمة؛ وافتتحه نيابة عنه الأمير سعود بن عبد الله بن جلوي، محافظ جدة؛ بحضور الأمير فيصل بن عبد الله بن محمد بن عبد العزيز، رئيس مجلس أمناء شركة «ليان الثقافية»؛ وأمين محافظة جدة صالح التركي، عن تناغم المعروض من اللوحات والمجسّمات، وتقاطع الفنون الثلاثة: الرسم بمساراته، والتصوير الفوتوغرافي والأفلام، والمجسمات، لتصبح النُّسخة الثالثة من معرض «الجمل عبر العصور» مصدراً يُعتمد عليه لفهم تاريخ الجمل وارتباطه بالإنسان في الجزيرة العربية.

لوحة فنية متكاملة تحكي في جزئياتها عن الجمل وأهميته (الشرق الأوسط)

وفي لحظة، وأنت تتجوّل في ممرات المعرض، تعود بك عجلة الزمن إلى ما قبل ميلاد النبي عيسى عليه السلام، لتُشاهد صورة لعملة معدنية للملك الحارث الرابع؛ تاسع ملوك مملكة الأنباط في جنوب بلاد الشام، راكعاً أمام الجمل، مما يرمز إلى ارتباطه بالتجارة، وهي شهادة على الرّخاء الاقتصادي في تلك الحقبة. تُكمل جولتك فتقع عيناك على ختمِ العقيق المصنوع في العهد الساساني مع الجمل خلال القرنين الثالث والسابع.

ومن المفارقات الجميلة أن المعرض يقام بمنطقة «أبرق الرغامة» شرق مدينة جدة، التي كانت ممراً تاريخياً لطريق القوافل المتّجهة من جدة إلى مكة المكرمة. وزادت شهرة الموقع ومخزونه التاريخي بعد أن عسكر على أرضه الملك عبد العزيز - رحمه الله - مع رجاله للدخول إلى جدة في شهر جمادى الآخرة - ديسمبر (كانون الأول) من عام 1952، مما يُضيف للمعرض بُعداً تاريخياً آخر.

عملة معدنية تعود إلى عهد الملك الحارث الرابع راكعاً أمام الجمل (الشرق الأوسط)

وفي حديث لـ«الشرق الأوسط»، قال الأمير فيصل بن عبد الله، رئيس مجلس أمناء شركة «ليان الثقافية»: «للشركة رسالة تتمثّل في توصيل الثقافة والأصالة والتاريخ، التي يجهلها كثيرون، ويشكّل الجمل جزءاً من هذا التاريخ، و(ليان) لديها مشروعات أخرى تنبع جميعها من الأصالة وربط الأصل بالعصر»، لافتاً إلى أن هناك فيلماً وثائقياً يتحدّث عن أهداف الشركة.

ولم يستبعد الأمير فيصل أن يسافر المعرض إلى مدن عالمية عدّة لتوصيل الرسالة، كما لم يستبعد مشاركة مزيد من الفنانين، موضحاً أن المعرض مفتوح للمشاركات من جميع الفنانين المحليين والدوليين، مشدّداً على أن «ليان» تبني لمفهوم واسع وشامل.

نقوش تدلّ على أهمية الجمل منذ القدم (الشرق الأوسط)

وفي السياق، تحدّث محمد آل صبيح، مدير «جمعية الثقافة والفنون» في جدة، لـ«الشرق الأوسط» عن أهمية المعرض قائلاً: «له وقعٌ خاصٌ لدى السعوديين؛ لأهميته التاريخية في الرمز والتّراث»، موضحاً أن المعرض تنظّمه شركة «ليان الثقافية» بالشراكة مع «جمعية الثقافة والفنون» و«أمانة جدة»، ويحتوي أكثر من مائة عملٍ فنيّ بمقاييس عالمية، ويتنوع بمشاركة فنانين من داخل المملكة وخارجها.

وأضاف آل صبيح: «يُعلَن خلال المعرض عن نتائج (جائزة ضياء عزيز ضياء)، وهذا مما يميّزه» وتابع أن «هذه الجائزة أقيمت بمناسبة (عام الإبل)، وشارك فيها نحو 400 عمل فني، ورُشّح خلالها 38 عملاً للفوز بالجوائز، وتبلغ قيمتها مائة ألف ريالٍ؛ منها 50 ألفاً لصاحب المركز الأول».

الختم الساساني مع الجمل من القرنين الثالث والسابع (الشرق الأوسط)

وبالعودة إلى تاريخ الجمل، فهو محفور في ثقافة العرب وإرثهم، ولطالما تغنّوا به شعراً ونثراً، بل تجاوز الجمل ذلك ليكون مصدراً للحكمة والأمثال لديهم؛ ومنها: «لا ناقة لي في الأمر ولا جمل»، وهو دلالة على أن قائله لا يرغب في الدخول بموضوع لا يهمّه. كما قالت العرب: «جاءوا على بكرة أبيهم» وهو مثل يضربه العرب للدلالة على مجيء القوم مجتمعين؛ لأن البِكرة، كما يُقال، معناها الفتيّة من إناث الإبل. كذلك: «ما هكذا تُورَد الإبل» ويُضرب هذا المثل لمن يُقوم بمهمة دون حذق أو إتقان.

زائرة تتأمل لوحات تحكي تاريخ الجمل (الشرق الأوسط)

وذُكرت الإبل والجمال في «القرآن الكريم» أكثر من مرة لتوضيح أهميتها وقيمتها، كما في قوله: «أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ» (سورة الغاشية - 17). وكذلك: «وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ» (سورة النحل - 6)... وجميع الآيات تُدلّل على عظمة الخالق، وكيف لهذا المخلوق القدرة على توفير جميع احتياجات الإنسان من طعام وماء، والتنقل لمسافات طويلة، وتحت أصعب الظروف.