عندما قدم فولفغانغ أماديوس موتسارت، أوبرا «دون جيوفاني» على أحد مسارح مدينة براغ للمرة الأولى في القرن الثامن عشر، أكد أنه كتبها من أجل براغ، ولكي يستمتع به سكانها، لكن لم يتوقف الأمر عند هذا الحد الذي أراده لها الموسيقار النمساوي الشهير؛ فقد استمر تقديم الأوبرا التي تُعد من روائع الموسيقى الكلاسيكية على أعرق مسارح العالم على مدى عشرات السنوات، لتحفر بصمتها وتترك أثراً كبيراً على الأدب العالمي.
جاءت الليلة الأولى من عرض «دون جيوفاني» على مسرح مكتبة الإسكندرية، مساء الخميس، لتجسد لحظة التقاء استثنائية متجددة بين إبداع يعود إلى عدة قرون ومشروع ثقافي معاصر يدمج بين مجموعة من فناني الأوبرا العالميين وشباب الغناء الأوبرالي بمصر، عبر عمل فني مُفعم بالعواطف ويغوص في أعماق النفس البشرية.
عاش الجمهور المصري مع رائعة موتسارت وتتبع قصة «دون جيوفاني» من انغماسه في عالم الليل المعتم إلى نيله العقاب العادل في المشهد الأخير من الأوبرا، وخلال ذلك تأثروا بما يمكن أن يمر به المرء حين يعاني من اضطراب أخلاقي حاد يدفعه إلى أن يصبح «زير نساء»، ويبحث دوماً عن ضحايا جدد من الجميلات.
وأثناء ذلك التقى المشاهدون بشخصيات عدة، بما انطوت عليه هي الأخرى من مشاعر الشغف والحزن والترقب والعنف والسعادة المؤقتة، بينما سادت المسرح أجواء خاصة نسجتها موسيقى موتسارت ما بين آثام وارتباك «دون جيوفاني»، ومرح وهزلية المواقف الإنسانية، وهو ما تجلى في نهاية العمل خصوصاً حين رأينا «ونيا آنا» و«دون أوكتافيو» و«دونيا آلفيرا» و«زرليني» و«مازيتو» يسرعون لمشاهدة قتله بعد إصراره على المضي في عالم الآثام بدعوى ممارسة حريته كما يراها.
وفي حين أن الأوبرا من المفترض أنها تكشف ما يدور من خفايا القرن الثامن عشر في تخليه عن إنسانيته، فإن المشاهد قد يشعر في هذا العرض أنه أمام عمل يخترق ببراعة أسرار الحياة المعاصرة أيضاً بكل اضطراباتها وتبدلاتها.
ويُعد هذا العرض المستمر الذي يواصل عروضه الجمعة والسبت، هو العمل الثاني الذي يتم تقديمه في إطار مشروع فني ثقافي أطلقته مكتبة الإسكندرية، بدأ بتقديم أوبرا «كارمن» في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، ويستمد فكرته من أن لفن الأوبرا حضوراً مميزاً في مصر منذ القرن التاسع عشر، تحديداً مع افتتاح الأوبرا الخديوية، وفق المايسترو ناير ناجي، مدير أوركسترا مكتبة الإسكندرية، الذي قال لـ«الشرق الأوسط»: «جسدت الإسكندرية مكاناً مهماً لعرض الأوبرا في بداية القرن العشرين، لكن للأسف تراجعت مختلف الفنون الرفيعة في المدينة؛ بسبب التغيرات المجتمعية، وبالرغم من عملي في هذا المجال منذ أكثر من 30 سنة، إلا أنني اعتبرت أن الأمنية الأغلى لي هي إعادة عروض الأوبرا بالمدينة مع إسناد أدوار لفناني المدينة من الشباب».
وبسبب التكلفة المرتفعة للعرض، دشن المايسترو شراكة مع معهد غوته الذي قدم له دعماً مادياً كبيراً، إضافة إلى الدعم الفني.
وعن سبب اختياره لـ«دون جيوفاني» يجيب، «بعد اختياري لـ(كارمن)، وهي من (الصف الأول للأوبرا)، وتحقيقها التأثير المرجو، تساءلت: كيف يمكن أن نستكمل هذا النجاح؟»، مضيفاً: «وجدت صعوبة في الاختيار؛ فقد بدأت بأوبرا رفيعة جداً، وبعد تفكير وجدت أننا ونحن بصدد تدشين هذه العروض بشكل سنوي علينا أن نقدم في البداية (أبجديات الفن) لجذب الجمهور، وذلك ما وجدته يتحقق في أعمال (موتسارت)».
لا تقل أهمية عن ذلك أن «دون جيوفاني» من «الأوبرات» القليلة في العالم التي منذ وقت كتابتها وتقديمها لأول مرة عام 1787، والمستلهمة من سيرة متداولة بين نبلاء أوروبا عن نبيل من مدينة البندقية يٌدعى جياكومو كازانوفا، لم تتوقف على مسارح العالم، ما يؤكد أنها أوبرا رصينة مشوقة تعتمد فكرة الثواب والعقاب، وتتميز بقالب اجتماعي تمتزج فيه الكوميديا والدراما الجادة.