يُقال إن الذوق مسألة شخصية، ولا سيما حين يتعلّق الأمر بالطعام. فبينما يرى البعض في تجربة مطعم معين قمة المتعة والنكهة، قد يجدها آخرون مبالغاً فيها أو دون التوقعات. هذا التفاوت في الأذواق لا يعكس فقط اختلاف التفضيلات، بل أيضاً تنوّع التوقعات والثقافات التي يجتمع عليها عشاق المائدة الواحدة. المثال الأبرز هو مطعم «كاربون» Carbone النيويوركي - الإيطالي الذي افتتح أبوابه في فندق «تشانسيري روزوود» في لندن، وسط ضجة إعلامية كبيرة، ليصبح محور نقاش بين من اعتبره تحفة تستحق التجربة، ومن رآه مجرد استعراض فاخر يفتقر إلى الجوهر. وبين هذه الآراء المتباينة، يبرز السؤال: هل نجاح المطعم يُقاس بتميز نكهاته، أم بقدرته على إثارة الجدل حوله؟

«كاربون» معروف في لاس فيغاس، وهونغ كونغ، وميامي بيتش، ودالاس، والدوحة، والرياض، ودبي. فهو يمثل ظاهرة في عالم المطاعم، مطبخه إيطالي وروحه أميركية، وهذا يترجم في حجم الأطباق والأجواء العامة التي تحملك إلى حيوية مدينة نيويورك خلال حقبة خمسينيات وستينيات القرن الماضي.
اُفتتح الموقع الأصلي للمطعم في حي «غرينتش فيليدج» بمانهاتن عام 2012، وأُشيد به كونه المطعم الذي ارتقى بالمطبخ الإيطالي على طريقة نيويورك إلى آفاق غير مسبوقة، بينما منح مشهد تناول الطعام الفاخر جرعة تشتد الحاجة إليها من الطاقة والروح والمرح.

منذ الأيام الأولى لافتتاحه، أثار المطعم فضول عشاق المذاق لتجربته ومقارنته مع فروعه الأخرى. في هذا التقرير، نخوض تجربة تذوّق شاملة لاختبار أطباقه، أجوائه، وخدمته، لنكتشف ما إذا كان هذا المطعم الجديد يستحق مكانته بين نخبة مطاعم لندن.
لنبدأ بموقع المطعم في مبنى السفارة الأميركية السابق في «غروفنير سكوير»، سجادة حمراء بانتظارك، الدخول إليه يشبه دخولك إلى أحد المسارح الكبرى، سلم عريض يأخذك إلى الطابق السفلي، إضاءة خافتة، أسقف باللون الأحمر مع لمسة من الحواف الذهبية، أرائك من المخمل باللون الأحمر ولوحات عملاقة تزين الجدران، أرضية باللونين الأبيض والأسود لتضفي نوعاً من الدراما للمكان.

لطالما كانت لندن حلماً بالنسبة لمؤسسي المطعم، ماريو كاربون وجيف زالازنيك، وريتش تريسي، وها هو الحلم يتحقق والإقبال على المطعم كبير جداً والآراء متفاوتة، فهناك من يعتبر أطباقه غالية الثمن ومبالغاً بها، وهناك من ينتظر حصوله على حجز طاولة فيه ولا يزال على لائحة انتظار طويلة بعض الشيء.

برأيي هناك عدة أنواع من المطاعم: النوعية الأولى هي مطاعم قد نزورها مرة واحدة للاحتفال بمناسبة خاصة، أو بسبب صيتها وشهرتها غير آبهين فيها للطعام، والنوعية الثانية هي المطاعم التي يقصدها الذواقة للأكل فيها وليس بهدف التمتع بأجوائها، وهناك أيضاً المطاعم التي تمزج ما بين النوعين فتقدم الأطباق بنوعية عالية الجودة في أجواء جميلة لتصبح مقصداً دائماً للذواقة.

أكثر ما شدني في مطعم «كاربون» هو الكرم في الضيافة، فعلى عكس الكثير من المطاعم الأخرى التي تندرج تحت نفس المستوى، ينتظر الزبون فترة طويلة لوصول الطبق الأولي، إنما في «كاربون» فتقدم عدة مقبلات مجانية مثل سلة الخبز اللذيذة (لا تفوق الفوكاتشيا) وطبق من القرنبيط المخلل وجبن البارميزان. الصفة الإيجابية الثانية هي أن الأطباق تأتي بأحجام كبيرة، فعلى سبيل المثال، إذا كانت ميزانيتك محدودة فيمكنك مشاركة طبق الريغاتوني أو حتى السمك لأن الحجم كبير. أما الملاحظة الثالثة واللافتة جداً هي حجم لائحة الطعام عينها، فيتعين عليك استخدام ذراعيك وفتحهما بالكامل لكي تتممكن من مسكها بيديك وقراءة ما كتب عليها، وهذا الشعور يطبع فعلياً على قائمة الطعام نفسها بالعبارة الإيطالية: «A Piacere»، وتعني «كما يحلو لك».

لفتتنا أيضاً الخدمة الجيدة والسريعة، فأعتقد بأنه من المهم جداً بأن يكون النادل على دراية تامة بلائحة الطعام والأطباق مع تقديم النصائح المفيدة في حال كانت تلك تجربتك الأولى في المطعم. ونجح في ذلك نادلنا الشاب «ساني» الذي شرح وبإسهاب تفاصيل الأطباق الخاصة غير الموجودة على لائحة الطعام الثابتة بالإضافة إلى الأطباق الأخرى.

تظهر جميع الأطباق المميزة لمطعم «كاربون» في فروعه العالمية في قائمة طعام لندن، بما في ذلك طبق ريجاتوني سبايسي؛ وشرائح العجل بالبارميزان؛ ومجموعة من الأطباق البارزة الأخرى مثل أخطبوط بيتزايولو، ولينجويني ڤونجولي، وعدة أنواع من اللحوم والأسماك المشوية على الفحم. وبما أن العنصر المسرحي موجود وبقوة في المطعم، فطريقة التقديم تكون مترافقة مع عرض خاص كتحضير سلطة سيزار أمامك، أو طبق الموتزاريلا والفلفل، كما خصص فرع لندن بأطباق خاص به مثل: «سكامبي ألا سكامبي» ويتم جلب الكركند يومياً من اسكوتلندا، بالإضافة إلى طبق كبير من ريزوتو جراد البحر آلا أرابياتا، وهي المرة الأولى التي يقدم في أي من فروع «كاربون»، وطبق نيويورك ستريب وفيليه يسلط الضوء على لحم البقر الإنجليزي الرائع المغذى على العشب من شركة «ليك ديستريكت ميت»، أما الحلوى الخاصة بفرع لندن فهي التيراميسو فراولة بانا كوتا.

جربنا طبق «برانزينو» المشوي وكان المذاق رائعاً جداً لأن السمك كان طازجاً وطريقة الطهي بسيطة، ولكنها مليئة بالنكهة، كما جربنا سلطة سيزار مع الأنشوجة والبارميزان، والأخطبوط مع الثوم.
وفي «كاربون» لا بد من تذوق الحلوى فهي الأخرى لها عرضها المبهج، فيتجول النادل في غرفة الطعام حاملاً صينية ضخمة من الحلويات فوق كتفه مثل كيك الجزر وكيك الليمون والباناكوتا وغيرها، تبدو وكأنها على وشك السقوط، لكنها لا تسقط أبداً.

في النهاية، يبقى الانقسام في الآراء حول «كاربون لندن» دليلاً صحياً على حيوية المشهد الطهوي في العاصمة، فاختلاف الأذواق يعني أن المطعم قد نجح في ترك أثر واضح لا يمكن تجاهله. ومع احتدام المنافسة في ساحة المطاعم الراقية، سيبقى الحكم الحقيقي للأيام المقبلة، فهي وحدها كفيلة بكشف من يملك المقومات للبقاء والتميز في عالم لا يرحم سوى الأقوى والأجدر.










