في صباحات أكتوبر (تشرين الأول)، تتنفس الطائف موسمها الأجمل. على سفوح جبالها المكسوّة بالخضرة، تتدلى عناقيد العنب اللامعة في ظلال الكروم، فيما تتفتح قشور الرمان لتكشف عن لآلئ حمراء براقة تلمع تحت أشعة الشمس.
في ساحات العرض، تختلط الروائح العذبة لعصائر العنب والرمان مع أصوات الباعة المنادين على منتجاتهم، بينما يتنقل الزوار بين الأجنحة لالتقاط الصور وتذوق ثمارٍ تحمل ذاكرة الأرض ويد المزارع. هنا، في مهرجان العنب والرمان بالطائف، لا تُعرض المحاصيل فقط، بل يُحتفى بها بوصفها جزءاً من هوية المدينة وثقافتها.

ذاكرة الأرض ووفرة الموسم
العنب والرمان ليسا محاصيل عابرة في الطائف، بل ركيزة تاريخية وثقافية شكلت هوية المكان. فالمواسم الزراعية قديماً كانت بمثابة أعياد صغيرة، يحتفل فيها الأهالي بالحصاد ويقيمون الأسواق الشعبية. واليوم، يعيد المهرجان الذي تنظمه وزارة البيئة والمياه والزراعة هذا المشهد بروح عصرية، جامعاً بين العرض والتسويق والتجربة السياحية.
وبلغة الأرقام، تشهد المملكة هذا الصيف وفرة في المحاصيل الزراعية، يتقدمها الرمان بإنتاج بلغ أكثر من 37.1 ألف طن، ليسهم في تعزيز الاكتفاء الذاتي ودعم منظومة الأمن الغذائي. وتوضح الوزارة أن الرمان السعودي يزرع في مناطق متعددة مثل عسير، مكة المكرمة، تبوك، القصيم، والباحة، بأصنافه المتنوعة: الطائفي، الحجازي، وندرفول، وإيفر سويت، التي تدعم الاستهلاك الطازج والصناعات التحويلية كالعصائر والحلوى والمثلجات.

5 أيام في قلب الطائف
المهرجان الذي انطلق مطلع أكتوبر ويستمر خمسة أيام، يحتضن معارض لعرض وتسويق العنب والرمان ومشتقاتهما، إضافة إلى فعاليات مصاحبة بهدف فتح قنوات تسويقية للمزارعين، وتعريف الزوار بالمواصفات النسبية الزراعية التي تميز الطائف عن غيرها من المناطق.

بحسب بيانات وزارة البيئة والمياه والزراعة، تضم المملكة أكثر من 7.13 مليون شجرة عنب، منها 6.18 مليون شجرة مثمرة. أصناف مثل الطائفي، الحلواني، البناتي، إيرلي سويت وكريمسون سيدلس دخلت بقوة إلى الصناعات التحويلية كالزبيب والعصائر. وتشير التقديرات إلى أن الاستهلاك المحلي سيصل إلى 180 ألف طن بحلول 2026، فيما ستبلغ قيمة سوق العنب السعودي نحو 186 مليون دولار بحلول 2028، ما يجعل القطاع واعداً اقتصادياً واستراتيجياً.
خبرة الأرض والمزارعين
لكن الأرقام وحدها لا تكفي لتفسير نجاح الطائف الزراعي. يقول جميل الطلحي المشرف على مزارع بن صالح الطلحي لـ«الشرق الأوسط»: «خصوبة التربة، وفرة المياه، ووجود مزارعين ذوي خبرة وشغف، كلها عوامل أساسية أسهمت في نجاح زراعة العنب في المملكة، وجعلتها تحتضن مجموعة واسعة من الأصناف التي تتأقلم مع بيئات مناخية مختلفة».
ويضيف: «هناك أكثر من عشرة أصناف مشهورة من العنب السعودي، إلا أن العنب البياضي يُعد من أفضلها من حيث الجودة والطعم، ويُزرع في بني سعد جنوب الطائف والشفا جنوب غربها».
وفي منطقة ثقيف، جنوب الطائف، يفتح المزارع هلال الحشيبري أبواب مزرعته للزوّار، قائلاً: «فضلنا أن نترك مزارعنا للسياح، نوزّع عليهم المحصول ليعيشوا التجربة الزراعية بأنفسهم. أردنا أن نعيد الحياة للمنطقة، ووجدنا إقبالاً كبيراً على هذه الفكرة».
مزرعته التي تضم العنب والرمان والخوخ والمانغو والتين الشوكي، تُدار بالطريقة التقليدية المتوارثة من الأجداد، وكأنها صفحة من تاريخ الأرض.

من الحقول إلى الأسواق العالمية
لم يقتصر نجاح العنب السعودي على الداخل، ففي عام 2023 بلغت صادراته 1.16 مليون دولار إلى أكثر من 150 دولة، بينها البحرين والكويت وأسواق أوروبية مثل بولندا والنمسا وألمانيا.
ويعلق المهندس معتصم أبو زنادة، رئيس طائفة دلالي حلقات الخضار والفواكه بجدة: «هذا الزخم التصديري يفتح آفاقاً واسعة لتعزيز انتشار العنب السعودي، خصوصاً في الأسواق الأوروبية، عبر بناء استراتيجيات مرنة ودراسات سوقية دقيقة».
وبيّن أبو زنادة أن وزارة البيئة والمياه والزراعة تولي اهتماماً خاصاً بتمكين المزارعين، عبر الدعم الفني والخدمات الإرشادية والتسهيلات التمويلية والتسويقية، إلى جانب تشجيعهم على التوسع في استخدام التقنيات الحديثة. هذه الجهود تنسجم مع مستهدفات رؤية السعودية 2030 لتنويع الاقتصاد، وتعزيز الأمن الغذائي، ودعم القطاعات الزراعية الواعدة.
هوية تُكتب بثمار الأرض
مع غروب الشمس خلف جبال الهدا، تبقى الطائف محمّلة برمزيتها، مدينة لا تُختصر في وردها الشهير، بل تُروى حكايتها بحبة رمان وعنقود عنب.
والمهرجان ليس مجرد فعالية موسمية، بل وعدٌ بمستقبل زراعي وسياحي واقتصادي يجعل الطائف مركزاً متجدداً للهوية السعودية، حيث يلتقي عبق الماضي بفرص المستقبل.










