«السعادة الصغيرة»... مطعم لبناني من طاولة واحدة

الأستاذ الجامعي فرنسيس محاسب سلَّم منزله للمَّة الحلوة

مساحة تتيح الخصوصية وتَرْك الأثر (صور فرنسيس محاسب)
مساحة تتيح الخصوصية وتَرْك الأثر (صور فرنسيس محاسب)
TT

«السعادة الصغيرة»... مطعم لبناني من طاولة واحدة

مساحة تتيح الخصوصية وتَرْك الأثر (صور فرنسيس محاسب)
مساحة تتيح الخصوصية وتَرْك الأثر (صور فرنسيس محاسب)

وجد الأستاذ الجامعي فرنسيس محاسب أنّ منزله مهيّأ للتحوُّل إلى مطعم من طاولة واحدة. حجمه يتّسع، ومطبخه مجهَّز. في فرنسا، حيث كان قد غادر للدراسة، وضع لزملاء السكن معادلة: «أنا أطهو وأنتم تغسلون الصحون». يحبّ الطبخ وفنونه. بدأت الحكاية من الجدّات البارعات في التعامل مع النكهة. راح منذ الصغر يراقب بفضول أصناف المأكولات وما يُميّزها. ورث الحفيد العلاقة بالمطبخ، وأصرَّ على حضور لمساته في موائد العائلة وجَمعة الزوار. اليوم، حول طاولة تتّسع لـ12 شخصاً، يكون الشيف والمضيف والأمين على أحاديث ضيوفه وخصوصية اللَّمة.

حجم المنزل يتّسع ومطبخه مجهَّز (صور فرنسيس محاسب)

استدعته نساء طلبن منه إعداد الطعام لضيق الوقت، فبدأ بالطبخ لمدة أسبوع والحفظ في الثلاجة. ملوخية، مُغربية، كوسا... ثم تساءل: «لِمَ لا أنطلق من هنا؟». يُخبر «الشرق الأوسط» أنّ الظرف ساعد لولادة فكرة درَجَت في الغرب ولم يعلم برواجها: «كنتُ أول لبناني أحوّل منزلي إلى مطعم من طاولة. المنزل كبير، وديكوره جاهز. منظره يطلّ على البحر ويتيح شرود الخيال في الأفق. كان ذلك قبل عامين تقريباً. وضعتُ قوائم طعام من وجبة أولى، ووجبة رئيسية، وحلوى».

الطعام يمتاز بالهوية (صور فرنسيس محاسب)

منزله في منطقة غوسطا بمحافظة جبل لبنان على مسافة 10 دقائق من ملعب جونية البلدي. جارُها البحر، ومشهد غروب الشمس رفيق أمسياتها. اعتاد فرنسيس محاسب، المتخصّص في الكيمياء، استضافة الناس على مائدته. يقول: «لم أرتبك أمام ضيوف لا أعرفهم. الخبرة موجودة، وكلّ ما فعلته هو تنظيم الوقت».

لا يزجّ مطبخاً في آخر فيُضيِّع النكهة (صور فرنسيس محاسب)

الحدّ الأدنى لإتمام الحجز 6 أشخاص، والأقصى 12 شخصاً. لا يزجّ مطبخاً في آخر، فيُضيِّع النكهة: «المطبخ الإيطالي يعني الإيطالي وحده. كذلك الهندي مثلاً. الطاولة متجانسة، تمتاز بالهوية». يُغيِّب المطبخ اللبناني لسبب: «يحدُث الربط بين المازة اللبنانية والتدخين والنارجيلة. منزلي ليس للمدخّنين. إنه مساحة تتيح الخصوصية وتَرْك الأثر».

هو الشيف والمُنظِّم والمضيف وغاسل الصحون. يرى أنّ الضيف (الزبون) لا يأتي من أجل الطعام فقط، بل «ليشعر أنه في منزله، يجلس في الصالون والشرفة، يدخل المطبخ ليتابع التحضيرات، ويختار الموسيقى. الإحساس بالانتماء جمال التجربة».

إطلالة من منزلة على غوسطا جارة البحر (صور فرنسيس محاسب)

اسم طاولته «a_table_by_lepetitbonheur» يختزل مَنْح «السعادة الصغيرة». ذلك يُتاح حين يتعذّر على سيدة الاستضافة في منزلها، فتتصل لحجز منزله. يضيف أنها تتحقّق أيضاً حين لا تغفل السيدة عن الطبخة فتُسلّمها للاحتراق. «أتولّى عنها المَهمّة. من شراء المكوّنات إلى الطبخ والجلي». للبعض، هنا السعادة.

لضيوفٍ خصوصية تفرضها مناصبهم، فيقابلهم صاحب البيت بالمراعاة: «ثمة مَن يدعونني للانضمام إلى السفرة. أجيبهم، ولكن مَن سيحضّر الطعام ويتولّى الاستضافة؟ أترك لهم مساحتهم الخاصة، لذا لا أُحضر مساعدين. أريد ألا تلفحهم غربة المكان. الطاولة هي الآن منزلهم مع لمسة أناقة».

الضيف يأتي ليشعر أنه في منزله (صور فرنسيس محاسب)

وماذا عن خصوصيته؟ هل لا يزال يشعر أنه في منزله؟ يجيب: «أستقبل ضيوفي لأيام فقط. أيام الأسبوع الأخرى للتنظيف والاستراحة ومتابعة عملي الجامعي». لم يحوّل فرنسيس محاسب منزله إلى «بزنس». يكتفي بجَعْله «فسحة للشغف» تتيح له مدخولاً إضافياً يُهدّئ قلق الأيام. وأمام سؤال «لماذا»، يصبح الجواب: «ولماذا لا؟».

الإحساس بالانتماء جمال التجربة (صور فرنسيس محاسب)

أي أصداء تتركها أفكار من هذا الصنف في المتلقّي؟ تُعلّمه التجربة أنّ الآتين إلى طاولته لا بدّ أنهم منفتحون على الآخر ويتقلّبون الخروج على المألوف. لن تستهويهم المطاعم التقليدية وزحمة البشر، ولا الدخان المسموم في الأرجاء. يأتون ليكون المكان لهم، ومن أجل طعام يختارونه ويثقون بمُعدِّه. برأيه، «الناس إما أن يتقبّلوا الفكرة أو يرفضوها. لا يمكن أن يتقبّلوها ثم يتصرّفون بغرابة. مجرّد الحضور يعني التحوُّل جزءاً من اللحظة».

حدث الانتشار أسرع من المُتخيَّل لمشروع يريد للطاولة إضفاء الألفة وجَعْل الجالسين إليها يقضون الوقت الذي يُحسَب: «لقمة طيّبة، جَمعة، ومكان مريح، فتبقى الذكريات».


مقالات ذات صلة

كيف أصبح البرغر رمز الولايات المتحدة الأميركية؟

مذاقات البرغر اللذيذ يعتمد على جودة نوعية اللحم (شاترستوك)

كيف أصبح البرغر رمز الولايات المتحدة الأميركية؟

البرغر ليس أميركياً بالأصل، بل تعود أصوله إلى أوروبا، وبالتحديد إلى ألمانيا.

جوسلين إيليا (لندن)
مذاقات الشيف دواش يرى أنه لا يحق للبلوغرز إعطاء آرائهم من دون خلفية علمية (انستغرام)

من يخول بلوغرز الطعام إدلاء ملاحظاتهم السلبية والإيجابية؟

فوضى عارمة تجتاح وسائل التواصل التي تعجّ بأشخاصٍ يدّعون المعرفة من دون أسس علمية، فيطلّون عبر الـ«تيك توك» و«إنستغرام» في منشورات إلكترونية ينتقدون أو ينصحون...

فيفيان حداد (بيروت)
مذاقات إبراهيم محمد حاول التكيُّف مع ارتفاع أسعار القصب الخام (الشرق الأوسط)

عصير القصب... مشروب شعبي في مصر يعاني «مرارة» الغلاء

يُعَدّ قصب السكر غنياً بالنوع الجيّد من الكربوهيدرات والبروتين والحديد والبوتاسيوم، والمواد المغذّية الأساسية الأخرى التي تجعل منه مشروب طاقة مثالياً.

عبد الفتاح فرج (القاهرة)
مذاقات الحواوشي حافظ على جودته وصموده بسعر مناسب لسنوات طويلة (حواوشي الرفاعي)

«الحواوشي» يتكيّف مع الغلاء في مصر

«لحمة وعليها خلطة خاصة»؛ جملة سينمائية وردت على لسان بطل فيلم «خلي الدماغ صاحي»، الفنان المصري مصطفى شعبان، مُحدثاً بها مرافقه «العفريت»

محمد عجم (القاهرة)
يوميات الشرق الشيف المصرية أميرة حسن (الشرق الأوسط)

الشيف أميرة حسن تجمع أطباق السعودية ومصر بـ«الحب»

منذ طفولتها ارتبطت شيف أميرة حسن، بالمطبخ الشرقي عامةً. فما بين مولدها ونشأتها في المملكة العربية السعودية، بالإضافة إلى إرثها الغذائي القادم من موطن أبيها.

نادية عبد الحليم (القاهرة)

من يخول بلوغرز الطعام إدلاء ملاحظاتهم السلبية والإيجابية؟

الشيف دواش يرى أنه لا يحق للبلوغرز إعطاء آرائهم من دون خلفية علمية (انستغرام)
الشيف دواش يرى أنه لا يحق للبلوغرز إعطاء آرائهم من دون خلفية علمية (انستغرام)
TT

من يخول بلوغرز الطعام إدلاء ملاحظاتهم السلبية والإيجابية؟

الشيف دواش يرى أنه لا يحق للبلوغرز إعطاء آرائهم من دون خلفية علمية (انستغرام)
الشيف دواش يرى أنه لا يحق للبلوغرز إعطاء آرائهم من دون خلفية علمية (انستغرام)

فوضى عارمة تجتاح وسائل التواصل التي تعجّ بأشخاصٍ يدّعون المعرفة من دون أسس علمية، فيطلّون عبر الـ«تيك توك» و«إنستغرام» في منشورات إلكترونية ينتقدون أو ينصحون خلالها كأنهم امتلكوا مفاتيح المعرفة. وتطول هذه الموضوعات المجتمع والصحة والأزياء والأناقة وأساليب المكياج. ولعلّ أكثر هذه المنشورات إثارة للجدل هي الخاصة بـ«بلوغرز الطعام». فهم يسمحون لأنفسهم بإعطاء آرائهم حول مطعم وطبق ومقهى، وأي منتج يمتّ للمأكولات بصلة.

وفاء مصطفى "فود بلوغر" أثارت الجدل بآرائها حول بائعة ذرة (انستغرام)

مؤخراً أثار فيديو مصور نشرته بلوغر الطعام وفاء مصطفى، عبر حسابها على «تيك توك»، الجدل. قدّمت البلوغر عرضاً مباشراً لزيارة قامت بها لبائعة طعام على عربة في بيروت. حصلت على طلبها من صحن فيه تشكيلة من الذرة والفول والترمس. وبعد تذوقها لمحتواه لم تتوانَ عن بصق حبوب الترمس، وانتقاد عدم نضج حبوب الذرة والفول بالحامض. المشهد أثار حفيظة المتابعين وانتقدوا أسلوبها لأنه يسهم في قطع رزق البائعة. وتساءلوا عمّن يعطي الحق لوفاء وأمثالها بتصوير وانتقاد منتجات معينة من الطعام. فالأمر قد ينبع عن سابق تصميم لمحاربة هذه البائعة أو غيرها. وقد يكون انتقاداً في محلّه، ولكن لا يصحّ إيصاله بهذه الطريقة القاسية.

أمثال وفاء كثر، وأعدادهم تفوق المئات على «السوشيال ميديا». يدخلون مطعماً ما لنراهم يثنون على أطباقه وخدماته. وفي مكان آخر يشنّون حملات ضده لعدم إعجابهم بأكله.

جومانا دموس سلامة، منظمة «صالون هوريكا» للخدمات الغذائية والطعام في لبنان والعالم العربي، تبدي رأيها بهذا الموضوع لـ«الشرق الأوسط»: «لا شك أن الفوضى تعمّ وسائل التواصل الاجتماعي وتنعكس سلباً على نواحٍ عدة.

جومانا دموس سلامة الساحة تغربل نفسها (انستغرام)

وفيما يخص موضوع بلوغرز الطعام فهو أحياناً يتجاوز قصة إبداء الرأي المنطقي ليصل إلى الأذيّة. وهو أمر غير مقبول. ولذلك على أصحاب المطاعم وكل من يعمل في مجال الأكل أن يختار الشخص المحترف والجدير بالثقة».

وتشير سلامة، في سياق حديثها، إلى أن تقاضي المال مقابل هذه الحملات، سلبية كانت أم إيجابية، تقف وراء غياب الآراء السليمة. وتتابع: «هناك مؤثرو طعام كثر بدأوا عملهم بشكل صحيح. فكانوا يتبعون قواعد معينة حول تذوقهم لطبق ما. فلاقوا شهرة واسعة ونسبة متابعين كبيرة. ثم ما لبث العنصر المادي أن أفسد مهمتهم. واليوم تمنعهم مطاعم كثيرة من دخول صالاتها».

نجد مؤثراً يدخل مطعماً معيناً، ويبدأ في التحدث عن أطباقه المميزة وهو يتذوقها بشهية مفتوحة. الأمر الذي يدفع بكثيرين إلى تقليده، فيتوجهون إلى المطعم المذكور. ولكن يتفاجأون بأن مؤثّر الطعام بالغ في تقديراته.

وعندما سئلت المؤثرة وفاء، صاحبة الفيديو الشهير، عن بائعة الذرة والقاعدة التي تتكئ عليها لإبداء رأيها. أجابت ببساطة: «على فمي والمذاق الذي أشعر به، فالأمر لا يحتاج فلسفة».

ولكن للطهاة المعروفين رأياً مناقضاً لهذه القاعدة. فتذوق الطعام وتقدير جودته وطعمه اللذيذ ليس بالأمر السهل. فهو يحتاج لخبرة طويلة ودراسات مكثفة. وكذلك إلى خلفية علمية تخوّل المتذوق التفريق بين طبق تم تحضيره بجودة ودقة أو العكس.

يقول الشيف دواش، المعروف بأطباقه المبتكرة، لـ«الشرق الأوسط»: «شهرتي التي اكتسبتها على السوشيال ميديا جاءت بناء على خبرة لمسها متابعي. فقد درست لسنوات طويلة وحصلت على شهادات عدة في عالم الطبخ حتى صرت (شيف). ولذلك على من يريد دخول هذه المهنة، أن يكون قد عمل فيها. فالخبرة مهمة في عالم الطهي. كما أن هناك قواعد أساسية للطهي يجهلها العدد الأكبر من هؤلاء المؤثرين، ما لا يجيز لهم إبداء آرائهم بالطعام لمجرد تذوقه».

ويرى الشيف دوّاش أنه هو نفسه لا يسمح لنفسه بإعطاء رأيه بطبق لغيره: «أحرص على هذا الموضوع دائماً مع أن أطباقاً كثيرة أتذوقها في مطعم ما، تكون عندي ملاحظات كثيرة عليها. فهناك طرق خاصة لطهي اللحوم والأسماك والدجاج تؤثّر على المذاق. كما أن جودة المكونات تلعب دوراً أساسياً في الموضوع. فهذه المعايير لم تلد بالصدفة، بل من رحم خبرات طويلة وشاقة يمضيها الطاهي في العلم والتجربة. ويمكنني القول إن فوارق قليلة، يمكننا أن نشعر بها في طبق معين بين مطعم وآخر. وهذا الأمر يلزمه شخص بارع في مجاله ولديه خلفية علمية. ومع الأسف غالبية (الفود بلوغرز) لا يتمتعون بها».

ولكن كيف يمكن وضع حدّ لهذه الفوضى التي يثيرها «الفود بلوغرز» على وسائل التواصل الاجتماعي؟ تردّ جومانا دمّوس سلامة: «هناك وعي عند الناس يجعلهم يكتشفون المؤثر الجيد عن غيره. فالغربلة تحدث تلقائياً، لأن المتابع المفتوح على مواقع إلكترونية عدة، أصبحت لديه القدرة الكافية لإدراك الصح والخطأ في هذا الموضوع».

أما الشيف السعودي ياسر جاد، مستشار التغذية لرئيس الهيئة الملكية لمدينة الرياض، فلديه رأيه بالموضوع. ويقول لـ«الشرق الأوسط»: «أنا ضد هذه الظاهرة وأراها غير صحيّة. فمعظمهم يعملون مقابل أجر مادي للترويج لمطعم ما.

الشيف ياسر جاد يرى ظاهرة البلوغرز غير صحية (انستغرام)

وهذا الأمر يؤثّر مباشرة على بيزنس المطاعم والتغذية عامة. والأفضل لأصحاب المطاعم أن يصرفوا نفس المبالغ على حملات إعلانية متقنة. فهي تثمر نتائج أفضل وتكون مصدر ثقة أكبر. وللحدّ من هذه الظاهرة يجب برأيي استخدام (ريفيو سيستم) لمنظمات معترف بها عالمياً، تغيب عنها المصالح الخاصة، وتضع الأمور في نصابها ضمن منهج أكاديمي».

وفي النهاية، السؤال يطرح نفسه هنا في ظل غياب تنظيم محتوى وسائل التواصل الاجتماعي: «من يخول بلوغرز الطعام إدلاء ملاحظاتهم السلبية والإيجابية؟».