«مطبخ مريم» في بيروت... 1300 وجبة مجانية تُوزّع يومياً بحُب

حكاية العطاء الذي وحده يجعل الشفاء قابلاً للتحقُّق

هاني طوق يُعطي بالحبّ وبه يُعمِّم الرحمة (الشرق الأوسط)
هاني طوق يُعطي بالحبّ وبه يُعمِّم الرحمة (الشرق الأوسط)
TT

«مطبخ مريم» في بيروت... 1300 وجبة مجانية تُوزّع يومياً بحُب

هاني طوق يُعطي بالحبّ وبه يُعمِّم الرحمة (الشرق الأوسط)
هاني طوق يُعطي بالحبّ وبه يُعمِّم الرحمة (الشرق الأوسط)

بدأت الحكاية بطنجرة واحدة على درج الجمّيزة الشهير في 8 أغسطس (آب) 2020، بعد 4 أيام على الانفجار المروّع. أتى الكاهن هاني طوق إلى بيروت مع زوجته بإصرار على المؤازرة. لم يملك سوى طنجرة يعدّ بها طعاماً لمَن فرغَت معدته. شاء بسدّ الجوع القول للآخرين إننا يدٌ واحدة في الظرف الرهيب. مرَّ الوقت، وأصبح للرجل مطبخه بعدّته وناسه. سمّاه «مطبخ مريم» تيمّناً باسم والدته المقتولة، وبمريم العذراء التي تجمع اللبنانيين.

المطبخ شبيه بمنارة ضوء (الشرق الأوسط)

في منطقة الكرنتينا المجاورة لمرفأ بيروت المهشَّم، يقع المطبخ الشبيه بمنارة ضوء. يستقبل طوق «الشرق الأوسط» بقلبه المزيَّن بالحبّ. ذلك الحبّ الذي به يعطي ويُعمِّم الرحمة. العمّال منهمكون بإعداد ما يزيد على 1300 طبق تُوزَّع مجاناً على الجائعين. هذا يغسل الخضراوات. والشيف يضبط النكهات. والنساء يقطّعن ما يتطلّب تقطيعاً، ويتأكّدن من النظافة. يشدّد طوق عليها، ويرفض دخول مطبخه مَن لا يضع ما يقي من تساقُط شَعرة مُباغِتة. الجولة تشمل البرّادات وغرفة حفظ الحبوب والمعلّبات وسائر ما يُستعمَل في عدم ردّ مَن يطرق بابه إلا مسروراً، وكرامته محفوظة.

النساء يقطّعن ما يتطلّب تقطيعاً ويتأكّدن من النظافة (الشرق الأوسط)

يذكُر حين لم يملك سوى تلك الطنجرة ولوح خشب كان في الأصل باباً، وحوّله الانفجار إلى خراب. منه، صنع الطاولة الأولى. عدَّل وظيفته، ومنحه الحياة. من العزيمة، اشتعل فجأة شغف إعداد الطعام. تطلّع طوق حوله، فوجد الحزن وسيعاً كالمدى. ضحايا ومشرّدون وجرحى ومعطوبو الصحّة النفسية، فقرّر وزوجته أنّ تكون الوجبات ساخنة وشهيّة، لعلّها تُحدِث شيئاً من البلسمة وتداوي أرواحاً ورّطها الانفجار بالنزيف الأبدي.

راحت الطنجرة تصبح اثنتين، والمطبخ يكبُر. وجد خيِّرون في مبادرة هاني طوق عزاء إنسانياً، فقدّموا الدعم. بعضُ المال أتاح التوسُّع، وكلما زاد المبلغ، تنوّعت الوجبات وكثُر عددها لتُطعم مَن يسأل إطعامه. يقول طوق، وهو أستاذ جامعي مقيم في منطقة جبيل: «لا نسأل الآتين إلينا عن أسمائهم أو جنسياتهم أو طوائفهم. لا يهمّ. لا نسجّل بيانات ولا نضع شروطاً. نمنح الوجبات بلا شروط. ما يزيد على 1300 وجبة تُوزَّع يومياً بحُب. وإن نفدت، وطرق الباب جائعٌ، مددناه على الفور بما يتوافر من أجبان ومعلّبات. «يذهب الجميع وقد نال ما يريده».

عمّال منهمكون بإعداد ما يزيد على 1300 طبق تُوزَّع مجاناً (الشرق الأوسط)

يُقاطع الحديث رجلٌ يسأل طوق عن دواء، ويُكمل أنّ طفلة يقترب عيد ميلادها لكنّ قسوة أحوال عائلتها تحول دون الاحتفال. يجيبه أنّ الدواء يمكن إيجاده، فالمطبخ يتولّى أيضاً الرعاية الصحّية ويتيح استحمام مشرّدين وغسل ملابسهم. وأكمل أنّ صالة الطعام يمكن منحها للطفلة وعائلتها لإهدائها الفرح، على أن يتولّى بنفسه إعداد الحلوى وتحضير المأكولات الشهيّة. لم يسأل عن اسمها ولم يكترث لأي معلومة إضافية: «فلتأتِ وسنحتفل معاً. أبلغني بالموعد فقط»؛ فغادر السائل ببهجة مَن لم يُردَّ طلبه.

من العزيمة اشتعل فجأة شغف إعداد الطعام (الشرق الأوسط)

يبدأ العمل منذ السابعة صباحاً، وتُصفّ الوجبات على طاولة كبيرة قبل موعد توافُد الناس عند الحادية عشرة قبل الظهر. «مطبخ مريم» يمارس العطاء من الاثنين إلى السبت. يقول هاني طوق إنّ للعاملين قصصهم، فجمعهم المكان على أمل الشفاء: «هذه سيّدة مُعنّفة، وتلك حاربت لحضانة أولادها. وسيّدة ثالثة أرغمتها الحياة على التخفّي خلف شخصية صلبة، فإذا بالعطاء يُصالحها مع لين الأنثى. وهذا محارب سابق شهد الخيبات، يأتي إلى المطبخ ليستكين داخله. المكان مساحة رجاء، وأنا بعضُ هذه الحاجة إلى السلام الداخلي، فأعمل باندفاع لإسكات أوجاعي».

«مطبخ مريم» يمنح الوجبات بلا شروط (الشرق الأوسط)

ينتظر شبان من أصحاب الهمم بدء دوامهم اليومي للمشاركة في هذه المسيرة العلاجية: «إنهم موظّفون، يتقاضون راتباً شهرياً للمساعدة بما يمكنهم فعله خارج المطبخ، فلا يشكّل خطراً عليهم. هنا يُحاطون بالحبّ وجدوى الوجود. فهم يعملون في مساحة تتيح الدمج والتقبُّل». اليد العاملة تشمل أيضاً امرأة تقود سيارتها لتوزّع الوجبات لمَن يتعذَّر خروجهم من المنازل. «تاكسي درايفر» تطرق أبواب المصابين بشلل مثلاً، أو بعطوب الحياة الأخرى، تُقدِّم الوجبات وتغادر لتُكمل مهمّتها بإسعاد مَن يشعرون بتخلّي الأيام والبشر.

تُصفّ الوجبات على طاولة كبيرة قبل موعد توافُد الناس (الشرق الأوسط)

ساعات يمضيها هاني طوق في «مطبخ مريم» المُتّخذ شكله الحالي بعد تبرُّع شركة الشحن «CMA-CGM» بمئات آلاف الدولارات، مكّنته من توسيع صالة استقبال الضيوف، والتنويع بالأطباق، وتأهيل المطبخ بأحدث الأدوات وأجهزة السلامة. لا يخشى الغد؛ فيرفع إصبعه إلى السماء للقول إنه بأمانة الله، فهو مَن يتيح العطاء ويتكفّل به، فلا يشغله المجهول ما دام في عهدته. بالنسبة إليه، «فليأتِ أيٌّ كان ويحصل على طعامه، حتى مَن يملك المال. ذلك أنّ ما سيوفّره قد ينفقه على دفع اشتراك المولّد مثلاً أو شراء دواء، أو مثلّجات لأطفاله. الطعام مجاني وللجميع بلا تمييز».

«مطبخ مريم» يمارس العطاء من الاثنين إلى السبت (الشرق الأوسط)

درّبته والدته على الغفران حين خسر أباه بفعل وحشي، وشاء الزمن أن تُقتل تلك الأم النبيلة بيد شاب يقول إنها ربّته وأحسنت إليه، لكنه ضلَّ الطريق وغَدَر. «أنا هنا لأُشفى أيضاً. لا أزال أزوره في سجنه مُحمَّلاً بالطعام. لا مكان للكراهية في قلب مؤمن».


مقالات ذات صلة

الفواكه والخضراوات تتحول الى «ترند»

مذاقات فواكه موسمية لذيذة (الشرق الاوسط)

الفواكه والخضراوات تتحول الى «ترند»

تحقق الفواكه والخضراوات المجففة والمقرمشة نجاحاً في انتشارها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وتتصدّر بالتالي الـ«ترند» عبر صفحات «إنستغرام» و«تيك توك» و«فيسبوك»

فيفيان حداد (بيروت)
مذاقات طواجن الفول تعددت أنواعها مع تنوع الإضافات والمكونات غير التقليدية (مطعم سعد الحرامي)

الفول المصري... حلو وحار

على عربة خشبية في أحد أحياء القاهرة، أو في محال وطاولات أنيقة، ستكون أمام خيارات عديدة لتناول طبق فول في أحد صباحاتك

محمد عجم (القاهرة)
مذاقات الشيف أليساندرو بيرغامو (الشرق الاوسط)

أليساندرو بيرغامو... شيف خاص بمواصفات عالمية

بعد دخولي مطابخ مطاعم عالمية كثيرة، ومقابلة الطهاة من شتى أصقاع الأرض، يمكنني أن أضم مهنة الطهي إلى لائحة مهن المتاعب والأشغال التي تتطلب جهداً جهيداً

جوسلين إيليا (لندن)
مذاقات كعكة شاي إيرل جراي مع العسل المنقوع بالقرفة والفانيليامن شيف ميدو (الشرق الأوسط)

الشاي... من الفنجان إلى الطبق

يمكن للشاي أن يضيف نكهةً مثيرةً للاهتمام، ويعزز مضادات الأكسدة في أطباق الطعام، وقد لا يعرف كثيرٌ أننا نستطيع استخدام هذه النبتة في الطهي والخبز

نادية عبد الحليم (القاهرة)
مذاقات الشيف الفرنسي بيير هيرميه (الشرق الأوسط)

بيير هيرميه لـ«الشرق الأوسط»: العرب يتمتعون بالروح الكريمة للضيافة

بيير هيرميه، حائز لقب «أفضل طاهي حلويات في العالم» عام 2016، ويمتلك خبرةً احترافيةً جعلت منه فناناً مبدعاً في إعداد «الماكارون» الفرنسيّة.

جوسلين إيليا (لندن )

الشاي... من الفنجان إلى الطبق

كعكة شاي إيرل جراي مع العسل المنقوع بالقرفة والفانيليامن شيف ميدو (الشرق الأوسط)
كعكة شاي إيرل جراي مع العسل المنقوع بالقرفة والفانيليامن شيف ميدو (الشرق الأوسط)
TT

الشاي... من الفنجان إلى الطبق

كعكة شاي إيرل جراي مع العسل المنقوع بالقرفة والفانيليامن شيف ميدو (الشرق الأوسط)
كعكة شاي إيرل جراي مع العسل المنقوع بالقرفة والفانيليامن شيف ميدو (الشرق الأوسط)

«يمكن للشاي أن يضيف نكهةً مثيرةً للاهتمام، ويعزز مضادات الأكسدة في أطباق الطعام، وقد لا يعرف كثيرٌ أننا نستطيع استخدام هذه النبتة في الطهي والخبز بطرق غير متوقعة»، هكذا يتحدث الشيف المصري وليد السعيد، عن أهمية الشاي في وصفات لذيذة. أطباق كثيرة يتخللها الشاي وتتنوع بمذاقات مختلفة؛ من بينها فطائر الكريب، وكعكة «شاي إيرل غراي».

وينصح السعيد في تصريح لـ«الشرق الأوسط» بتجربة الشاي الزهري مثل الياسمين والبابونج، أو الأسود العادي، خصوصاً بالنسبة للمصريين، أو شاي بالقرفة والزنجبيل والقرنفل أو شاي دراغون ويل الأخضر الصيني برائحة الكستناء ونكهة الزبد والجوز، وغير ذلك من الأنواع.

الشيف وليد السعيد يستخدم الشاي بأنواعه في الكثير من الوصفات خاصة الحلويات (الشرق الأوسط)

ويرى السعيد أنه «في بعض الأحيان نستخدم نكهات صناعية من دون النظر إلى عواقب إضافة المواد الكيميائية والمضافة إلى طعامنا، في حين أنه يمكن الاستغناء عنها، واللجوء بدلاً من ذلك إلى استخدام الشاي، بوصفه يجمع بين كونه مكوناً طبيعياً، يجنبك تلك المواد الضارة، وكونه مُحمَّلاً بنكهات متنوعة تلائم الأطباق من الحلوة إلى المالحة، والساخنة والباردة».

ويوضِّح السعيد أنه «يمكن لأي وصفة تحتوي على سائل أن تكتسب نكهة جديدة تماماً عند الاستعانة بالشاي في تحضيرها، وذلك عن طريق تحويل هذا السائل إلى شاي، سواء كنت تستبدله بدلاً من الماء أو الحليب أو الشوربة أو غير ذلك».

فطائرالكريب بالشاي الأخضر وجوز الهند من شيف ميدو (الشرق الأوسط)

لكن كيف يمكن استخدام الشاي في هذه الحالة؟ يجيب السعيد: «إذا كانت الوصفة تتطلب الماء مثل العصائر والسموذي، فقم بتحضير بعض الشاي بدلاً من الماء، عن طريق تحضير كمية كبيرة من الشاي وتجميدها، إما في برطمانات أو قوالب مكعبات الثلج، ثم إضافتها للطعام».

«أما إذا كانت الوصفة تحتوي على مرق أو حليب، فيمكنك نقع هذا السائل بالشاي؛ لإضافة نكهة إضافية مع الفوائد الغذائية: سخن السائل، وانقع الشاي واستخدمه حسب الحاجة في الوصفة، لكن عليك أن تراعي أنك ستحتاج إلى مزيد من استخدام الشاي، مع تجنب نقعه لفترة أطول حتى لا يصبح مراً». هكذا يوضح الشيف المصري.

ومن هنا عند دمج الشاي في الوصفات تحتاج إلى صنع نحو ربع كوب شاي أكثر من استخدامك المعتاد. على سبيل المثال، إذا كانت الوصفة تتطلب كوباً واحداً من السائل، فقم بغلي 1.25 كوب من الشاي.

امزج أوراق الشاي المطحونة مع الأعشاب، واستخدمها كفرك (تتبيل) جاف للحوم المشوية أو المطهوة، ولمزيد من الحرفية مثل الطهاة استخدم معه السكر البني والملح والفلفل الأسود وحبيبات أو بودرة البصل والثوم والزعتر وإكليل الجبل وقشر الليمون، والزنجبيل، وقشر البرتقال، ومسحوق الفلفل الحار، والبهارات، والقرفة أو القرنفل.

ويلفت الشيف السعيد إلى أنه يمكن استخدام الحليب أو الكريمة المنقوعة بالشاي لصنع صلصة البشاميل والصلصات الأخرى على شكل كريمة للفطائر والبطاطس المقلية، علاوة على حساء الكريمة والخضراوات الكريمية، على أن تستخدم للطعم الكريمي في هذه الأطباق شاياً بنكهة لذيذة، تكون من ضمن مكوناته الشاي الأخضر والأرز المنفوخ والذرة، ولذلك يفضل أن يكون شاياً يابانياً.

أما بالنسبة للحلويات فاستخدم مسحوق الماتشا في الخليط. إذا كنت تخبز البسكويت، فيمكنك أيضاً نقع الزبد المذاب بأوراق الشاي الكبيرة الطازجة، ثم تصفية ذلك، وفي حالة ما إذا كانت الوصفة تتطلب الحليب، فقم بنقع الشاي في الحليب الدافئ أو الماء لمدة من 5 إلى 10 دقائق، وأمامك خيار آخر، وهو طحن الشاي إلى مسحوق في محضر الطعام وخلطه مع المكونات الجافة.

«وإذا كنت تبحث عن الاستمتاع بنكهة حلوة خفيفة مع نكهات زهرية أو فاكهة، فجرب إحدى خلطات الشاي العشبية الكثيرة مثل شاي البابونج والحمضيات أو شاي الكركديه أو شاي التوت البري. اطحن الشاي السائب في مطحنة التوابل حتى يتحول إلى مسحوق، واستخدم ملعقتين كبيرتين لكل دفعة من العجين، ولأن الشاي يمتص السوائل، قلل من كمية الدقيق المطلوبة في الوصفة بملعقتين كبيرتين»، بحسب السعيد.

وليس بعيداً عن ذلك، ينصح الشيف ميدو الذي يعد واحداً من الطهاة المصريين الذين اعتادوا على استخدام الشاي في الطعام، ومن أشهر أطباقه في هذا المجال فطائر الكريب بالشاي الأخضر وجوز الهند، ويصف ذلك بـ«ثنائية اللون محشوة بكريمة الفانيليا ومغطاة باللون الأخضر»، وكذلك يقدم كعكة «شاي إيرل غراي» مع العسل المنقوع بالقرفة والفانيليا، يقول لـ«الشرق الأوسط»: «تمنح البقع السوداء الصغيرة من الشاي هذه الكعكة كثيراً من الطعم والرائحة».