تشهد صناعة الموضة العالمية موجة حنين واضحة نحو الحرف اليدوية. الأزياء المنسوجة بالخيوط مثل الكروشيه واحدة من هذه الموجات. ظهرت على منصات عروض عالمية، مثل «ماكس مارا»، و«كارولينا هيريرا»، و«ستيلا مكارتني»، و«برادا»، و«بروانزا سكولر»، و«زيمرمان»، و«غوتشي»، و«كلوي»، و«إيلي صعب» وغيرهم، وسرعان ما انتقلت إلى موضة الشارع بعد أن التقطت خيوطها المحلات الشعبية. الجدير بالذكر هنا أن تصاميمها لا تقتصر على ملابس البحر والشواطئ، بل تشمل كل المناسبات، بما فيها فساتين السهرات الصيفية. فما سر هذا الحضور اللافت؟.

موقع Business of Fashion يُفسر هذه العودة على أنها «ردة فعل» لصيحات الموضة السريعة، مشيراً إلى أن الموضة البطيئة -القائمة على الجودة والحرفية والتنوع- بدأت تستعيد زخمها وسط ثقافة استهلاكية باتت متكررة ومُرهقة.
الرأي نفسه يردده مصمم الأزياء اللبناني والمستشار المتخصص في تحليل الموضة، أحمد عبد اللطيف، في حديثه إلى «الشرق الأوسط». يقول: «الكروشيه وصناعة المنسوجات اليدوية عموماً هي حركة تعكس رغبة في العودة إلى الجذور، والبحث عن لمسة إنسانية حقيقية وسط عالم يغفل فرادة ما تصنعه الأنامل الناعمة».
ويتابع: «الفضل يعود إلى (جيل زد) الذي خرج بالكروشيه من المساحات التقليدية التي تربطه بالماضي، وأعاده إلى الواجهة بروح أكثر عصرية وتنوعاً. هذا الجيل لا يبحث عن القطع المكررة بل عن تصميمات تعبر عن شخصيته وتمنحه شعوراً بالتميز، وهو ما يُطلق عليه (التفرد الذاتي)».

ويضيف عبد اللطيف أن «جيل زد يُولي أهمية كبرى لقيم الاستدامة ويُقدر العمل الحرفي، وبالتالي هو مستعد لدفع مبالغ أعلى مقابل قطع فريدة وفنية. فالهدف بالنسبة له ليس امتلاك قطعة فاخرة فقط، بل التعبير عن الذات بأسلوب مختلف، يحمل طابعاً شخصياً». لم ينس أن يلفت النظر أيضاً إلى جانب «النوستالجيا»، التي كانت أحد أسباب عودة الكروشيه «فجميعنا لدينا ذكريات مع قطع نُسجت من الكروشيه بأنامل الجدات، تأخذنا إلى أيام الطفولة بدفئها وجمالها».
النوستالجيا تُعيد الكروشيه
تعود أصول الكروشيه إلى حضارات قديمة، حيث اكتُشفت في مصر بعض الأمثلة لأعمال نسيجية شبيهة بالكروشيه داخل المقابر التاريخية، استخدمت فيها تقنية سبقت الحياكة والكروشيه. كما ظهرت منسوجات في بيرو أنُجزت بتقنيات مشابهة. لكن الجذور المباشرة للكروشيه بنمطه الحديث يعود إلى أوروبا، حيث ظهرت تقنية «تطريز الطنبور» في القرن الثامن عشر، وهي طريقة معروفة باستخدام إبرة معقوفة لصنع غرز متسلسلة على القماش، لتتطور لاحقاً إلى الكروشيه كما نعرفه اليوم.

خلال مجاعة البطاطس في القرن التاسع عشر، أصبح الكروشيه مصدر دخل لكثير من العائلات الآيرلندية، وأسهم الدانتيل الآيرلندي في نشر الحرفة عالمياً. ومن هناك، انتقل إلى بقية أنحاء أوروبا والأميركتين، لتضيف كل قارة ثقافتها وأساليبها الخاصة على هذه التقنية.
ويؤكد عبد العزيز أن «دور الأزياء الكبرى مثل (فالنتينو) و(بوتيغا فينيتا) و«أوسكار دي لارونتا» وغيرها تلجأ حالياً إلى الحياكة اليدوية لتقديم تصاميم معاصرة تشمل الحقائب، والفساتين، والتنانير، وحتى الأحذية».
رمزية للنسوية
يرتبط الكروشيه تاريخياً بالنساء، كحرفة تقليدية كانت تُمارس في المنازل. من هذا المنظور يرى عبد اللطيف أنه كان ولا يزال رمزاً للتمكين النسوي، الأمر الذي يفسر أن «العديد من المصممات حول العالم يعتبرن إعادة إحياء الكروشيه استعادة لصوت المرأة في صناعة طالما هيمن عليها الذكور».

توافق مصممة الأزياء البولندية ماجدة بوترم، مؤسسة علامة الأزياء التي تحمل اسمها، هذا الرأي وتؤكد أن الكروشيه الذي كان ضمن مجموعتها لصيف العام الجاري، لم يعد مجرد تراث قديم، بل أصبح وسيلة للتعبير الفني بلغة اليوم.
تتابع: «رغم أن التصاميم تحتفظ بطابعها الرومانسي والتراثي، فإن المصممين أعادوا تقديمها بروح عصرية جريئة عبر فساتين شفافة، وسترات هندسية، وتفاصيل مستوحاة من العمارة الحديثة».
وتضيف كذلك إلى أن عودة الكروشيه تندرج أيضاً ضمن فلسفة «الموضة البطيئة» التي تقوم على تقليل الإنتاج، ورفع جودة التصنيع، وتشجيع الاستهلاك الواعي. فكل قطعة كروشيه تتطلب وقتاً وجهداً ومهارة حرفية، وتُنتج بكميات محدودة، ما يضيف لها قيمة معنوية ومادية.

مبيعات هذا الصيف بدورها جاءت لتدلل على مكانة الكروشيه في خزانة الصيف، حيث سجلت منصات التسوق العالمية مثل Net-a-Porter وMatches Fashion ارتفاعاً ملحوظاً في طلبات شراء الفساتين والإكسسوارات المصنوعة بالكروشيه.
وأظهرت محركات البحث زيادة بنسبة 40 في المائة في الكلمات المفتاحية المرتبطة بهذه المنتجات خلال موسم الربيع وحده، بحسب مجلة «فوغ»، التي أشارت إلى أن الأرقام ترمز إلى أن الزبائن باتوا يبحثون عن ملابس تحكي قصة، تعكس الحرفية، وتبتعد عن الإنتاج الآلي المكرر.
















