«فان كليف آند آربلز» تستعرض إرثها بكتاب للتاريخ ومجوهرات لملكات مصر

مجلد يسجل حركات فنية عاشتها الدار وأثّرت على إبداعاتها

من القطع التي صممتها الدار في عام 1907 لأحد هواة اقتناء التحف (فان كليف آند آربلز)
من القطع التي صممتها الدار في عام 1907 لأحد هواة اقتناء التحف (فان كليف آند آربلز)
TT

«فان كليف آند آربلز» تستعرض إرثها بكتاب للتاريخ ومجوهرات لملكات مصر

من القطع التي صممتها الدار في عام 1907 لأحد هواة اقتناء التحف (فان كليف آند آربلز)
من القطع التي صممتها الدار في عام 1907 لأحد هواة اقتناء التحف (فان كليف آند آربلز)

في بداية الشهر الماضي، أعلنت مجموعة «ريشمون»، المالكة لعدة دور ساعات ومجوهرات، تعيين كاثرين رينييه، الرئيس التنفيذي السابق في دار «جيجير لوكولتر» رئيساً تنفيذياً في دار «فان كليف آند آربلز» خليفة لنيكولاس بوس. هذا الأخير ترقَّى لمنصب رئيس «ريشمون» التنفيذي بعد محاولات كثيرة لإقناعه.

نيكولا بوس الرئيس التنفيذي السابق للدار والرئيس التنفيذي الحالي لمجموعة «ريشمون» (فان كليف آند آربلز)

فمن يعرف نيكولاس، يعرف مدى عشقه لدار «فان كليف آند آربلز». في أي لقاء يُجرى معه، تشعر بأنه موسوعة معلومات لا يمل أو يكل عن الكلام عن تاريخها وإرثها وفنياتها الفريدة. في دقائق، يُحوِّل محاوره إلى مُستمع... مستمتع.

ما يُحسب له أنه لم يترك الدار إلا بعد أن خلَّف بصمات مهمة فيها، من إسهاماته في وضع أسس مدرسة «L’École وVan Cleef & Arpels» في عام 2012، وهذا العام في افتتاح فرع جديد لها في فندق «دي ميرسيه-أرجانتو» (Hôtel de Mercy-Argenteau).

بمعماره الـ«نيوكلاسيكي» ورحابته وتاريخه العريق، كان الفضاء المناسب لاحتواء مساحة عرض، ومساحة لتنظيم دورات دراسية وتدريبية، يتعلّم فيها المهتم كل ما يتعلق بعلم الأحجار وتاريخ المجوهرات، إلى جانب تقنيات الترصيع والتصميم والطلاء. والأهم من هذا مكتبة يمكن لمرتادها أن يتعمق في كتبها المتخصصة في هذا المجال. بالنسبة له فإن ثقافة المجوهرات والإلمام بأسرارها جزء من ثقافة الحياة.

عقد صمم لملكة مصر السابقة نازلي من الألماس والبلاتين (فان كليف آند آربلز)

كان لافتاً خلال أسبوع باريس للـ«هوت كوتور» الأخير، أن الدار لم تُقدم في هذا الفندق الذي كان في يوم ما أيضاً قصراً فخماً ومسرحاً، جديدها كما جرت العادة. ففي هذا الأسبوع تتنافس عادة دور الأزياء الكبيرة مع صناع المجوهرات الرفيعة على استعراض المهارات العالية وجذب زبونات مخمليات. تغنَّت في المقابل بإرثها. استعرضته من خلال قطع مجوهرات تراثية كانت رائدة في زمنها، ولا تزال تُلهم الحرفيين والصاغة إلى الآن، مثل عقد من الألماس والبلاتين صممته الدار لملكة مصر السابقة، نازلي، وآخر لا يقل إبداعاً وفخامة للملكة فريدة، وهلم جراً من الابتكارات.

غلاف الكتاب الأول الذي نُشر مؤخراً من منشورات «Atelier EXB» (فان كليف آند آربلز)

ولأن المعرض كان مؤقتاً، كان لا بد من مشروع طويل المدى يبقى شاهداً على مدى شغف نيكولاس بوس بتاريخ الدار من جهة، وقوة المجموعات التراثية الإبداعية فيها من جهة أخرى، لتولّد فكرة سلسلة مُجلدات كتب تعكس القيمة السردية والبصرية لهذا التاريخ والإرث، وتضعها في سياقها الزمني والثقافي. نُشر منها الكتاب الأول هذا العام. يتألف من 678 صفحة، ويتناول الفترة ما بين 1906 و1953 على أن يجري نشر كتب تتناول الحقب التالية تباعاً. تعاملت الدار، وفق قول نيكولاس، مع هذا الكتاب من الناحية البصرية «وكأنّه كتالوج لمعرض، تكمل فيها إبداعات المجوهرات ومواد الأرشيف بعضها بعضاً، كما أنتجنا أفلاماً لإثراء النسخة الرقمية منه».

أراد نيكولاس أن يأتي الكتاب من الناحية البصرية كأنّه كتالوج لمعرض حي (فان كليف آند آربلز)

لم يكن تنفيذ المشروع صعباً، حسب قوله، لأن قسم التراث وفّر كل المواد المطلوبة وهي كثيرة «تضمّ اليوم أكثر من 2700 قطعة، تمثّل ابتكارات ومصادر إلهام الدار وتطوراتها».

اختار نيكولاس وفريقه للكتاب عنواناً رئيسياً مباشراً هو «مجموعة فان كليف آند آربلز»، ونظراً لغزارة الصور والمعلومات، جرى تقسيمه إلى 3 فصول حسب التواريخ، وأهميتها بالنسبة للدار، والحركات الفنية والتاريخية التي عايشتها وأثرت عليها.

1- «الطفرة الإبداعية (1906-1925)»

سوار يعود إلى عام 1924 يجسد الحركة الزخرفية التي ظهرت في بداية القرن الماضي وتبنتها الدار (فان كليف آند آربلز)

يبدأ هذا الفصل بأول محل يفتتح في «بلاس فاندوم»، ويُختتم في 1925، العام الذي نُظِّم فيه ولأول مرة «المعرض الدولي للفنون الزخرفية والصناعية العصرية» في باريس. كان هذا الحدث بداية ظهور حركة «الآرت ديكو»، التي شكّلت نقطة تحوّل مهمة في مسيرة «فان كليف آند آربلز». تبنَّتها وسرعان ما ظهر تأثيرها في مجموعات وقطع أيقونية لم يؤثر الزمن على جمالها وقيمتها لحد اليوم، منها سوار «إنتوايند فلاورز، ريد آند وايت روز»، الذي كان بمثابة ثورة في مطلع العشرينات من القرن الماضي من الناحيتين التقنية والزخرفية. في الأولى جاء ملاصقاً للمعصم بشكل مريح ومرن، وفي الثانية زيَّنته أغصان ورد يؤطّرها خطّان من أحجار الألماس، إلى جانب الورود ذات بتلات مكونة من أحجار مرصوفة موحّدة وأخرى ترصّع تويجاتها بأحجار الياقوت المصقول، وقلوب من الألماس الأصفر. وتستكمل تركيبة الزهور بشبكة من الأغصان المصنوعة من الأونيكس تظهر منها أوراق وبراعم الزمرد والياقوت.

بروش على شكل باقة ورد مشكلة بالأحجار الكريمة يعود إلى عام 1938 (فان كليف آند آربلز)

كان اختيار الورود تحديداً شاهداً على اهتمام الدار بالفنون الزخرفية، التي ازدهرت في العقد الأول من القرن العشرين، وظهرت في شتى المجالات الفنية، بما في ذلك الموضة، من خلال منسوجات بول إيريب وتصاميم بول بواريه وغيره. فاز هذا السوار في عام 1925 خلال المعرض التاريخي بجائزة كبرى للمجوهرات.

2 - هوية فريدة (1926 و1937)

كان لتعيين رونيه بويسان في عام 1926 الفضل في ابتكارات متنوعة منها أول حقيبة مينوديير في (1933) (فان كليف آند آربلز)

يركز هذا الفصل على الفوران الإبداعي غير المسبوق الذي شهدته ورشات واستوديوهات الدار بعد نجاحها في العام 1925. في عام 1926، تم تعيين رونيه بويسان، وهي ابنة ألفريد فان كليف وإستير آربلز، مديرة فنية لـ«فان كليف آند آربلز». كان لها الفضل في التحفيز على ابتكار المزيد من القطع بما يتماشى مع تطورات الفنون الزخرفية والتقنيات. وكانت النتيجة مشبك سيركل (1930)، وأول حقيبة «مينوديير» يشهدها عالم الموضة (1933)، وسوار لودو (1934)، وساعة كادُنا (1935).

كانت هذه الابتكارات فاصلة في تاريخ الدار، وهذا ما يفسر اختيار الدار بروش «فلاور» من العام 1936 والمشغول بتقنية «ميستري ست» بوصفه غلافاً للكتاب.

بروش «فلور» كان اختياره لغلاف الكتاب طبيعياً لما يضمنه من إرث ثقافي وجمالي وفني يجسد حركة «الآرت ديكو» في أجمل حالاتها (فان كليف آند آربلز)

يشرح نيكولاس إنه يمثل نقلة محورية من الناحيتين الجمالية والتقنية على حد سواء «يستعرض بعض خصائص فن الآرت ديكو، مثل الخطوط الهندسية للزخرفة السفلية، وفي الوقت نفسه يشير إلى التطورات التي ستؤثر على فنون الصياغة فيما بعد، بمنحنياته المبسطة للورقة العلوية». ويتابع أن «الشكل الطبيعي لهذه الزخرفة يتمتع بتقنية (ميستري ست)، وهي مهارة تجعل الهيكل المعدني الأساسي غير مرئي للعين المجردة». تجدر الإشارة إلى أن هذه التقنية، التي أصبحت رمزاً للدار، حصلت على براءة اختراع لأول مرة في العام 1933، وجرى تكييفها مع أشكال ثلاثية الأبعاد في العام 1935، ليحصل هذا التطوير على براءة اختراع ثانية في العام 1936. «لهذه الأسباب رأينا أنها قطعة تعبر تمامًا عن جوهر هذا الكتاب. وكان من الطبيعي اختيارها للغلاف» وفق قوله.

3- من باريس إلى نيويورك (1938-1953)

تمثّل هذه الساعة من مجموعة «باس بارتو» تركيبة شاعرية للمبادئ الحداثية والساعات السرية (فان كليف آند آربلز)

يتناول الفصل الثالث والأخير من الكتاب، الفترة التي انتقلت فيها الدار إلى نيويورك. فبعد النجاح الذي حققته في المعرض العالمي بباريس عام 1937، كان معرض نيويورك العالمي في العام 1939 فرصةً للوجود والتوسع في أميركا. قدَّمت الدار في المعرض واحداً من أهم ابتكاراتها «باس بارتو». مجموعة تتميز بتقنيات عالية، تضفي على كل قطعة مرونة تجعلها قابلة للتحوُّل واتخاذ أشكال ووظائف مختلفة. كانت تجسيداً جريئاً يجمع بين الفنون الزخرفية من خلال أشكال الأزهار التقليدية والأسلوب الوظيفي الحداثي. طبعاً حصلت هذه الابتكارات هي الأخرى على براءة اختراع في عام 1938.

مشبك على شكل راقصة باليه يعود إلى عام 1953 يسجل مرحلة انتقال الدار إلى نيويورك (فان كليف آند آربلز)

نظراً لهذا النجاح، كان من الطبيعي أن تفكر العائلة في التوسع في الولايات المتحدة، لا سيما بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية، وما ترتب عليها من إغلاق مشاغل وورشات العمل وانخراط الحرفيين في أعمال الحرب. انتقل بعض من أفراد العائلة إلى نيويورك، وافتتحوا ورشات عمل لم تتوقف عن الابتكار والاندماج في حركات فنية جرى تجسيدها في قطع مبتكرة تظهر حيناً في شكل راقصة باليه وتارة في ساعات سرية وغيرها.

يختتم المجلّد الأول في العام 1953، وهذا العام يعدّ محورياً بالنسبة إلى «فان كليف آند آربلز»، لأنه يضع نقطة النهاية على مرحلة مهمة، ليفسح المجال لمراحل أخرى لا تقل أهمية وتأثيراً. ففي العام 1954، أطلق مفهوم «البوتيك» لأول مرة، وهو ما سيفتتح به المجلّد 3 من هذا الكتالوج لمجموعة «فان كليف آند آربلز».

==


مقالات ذات صلة

الإبداع... فن أم صناعة؟

لمسات الموضة حافظ أسبوع باريس على مكانته بثقة رغم أنه لم ينج تماماً من تبعات الأزمة الاقتصادية (لويفي)

الإبداع... فن أم صناعة؟

الكثير من المصممين في موقف لا يُحسدون عليه، يستنزفون طاقاتهم في محاولة قراءة أفكار المسؤولين والمستهلكين، مضحين بأفكارهم من أجل البقاء.

جميلة حلفيشي (لندن)
الاقتصاد رسم تخيلي للمشروع المشترك بين «دار غلوبال» العقارية ودار «معوض» (الشرق الأوسط)

«دار غلوبال» و«معوّض» للمجوهرات تكشفان عن مشروع عقاري في الرياض بـ234.6 مليون دولار

دخلت شركة «دار غلوبال» العقارية في شراكة مع دار المجوهرات «معوّض» لإطلاق مشروع سكني بقيمة 880 مليون ريال في الرياض.

«الشرق الأوسط» (الرياض) «الشرق الأوسط» (الرياض)
لمسات الموضة ترأس النجمة الفرنسية المخضرمة لجنة تحكيم مهرجان فينيسيا السينمائي في دورته الـ81 (رويترز)

إيزابيل هيبار تشرح في مهرجان فينيسيا السينمائي معنى «لكل زي زمان ومكان»

ظهرت النجمة الفرنسية إيزابيل هيبار بإطلالات مختلفة تماماً، وكأنها تتقمّص في كل واحدة منها شخصية جديدة، على الرغم من أنها لمصمّم واحد.

«الشرق الأوسط» (لندن)
لمسات الموضة الساعة مصنوعة من مزيج من النحاس والفولاذ والألمنيوم وتأتي بعدة ألوان (إم بي&إف)

ساعة طاولة بمراوح جاهزة للإقلاع

يتم إطلاق ساعة «ألباتروس» في 5 إصدارات محدودة؛ كل منها يقتصر على 8 قطع فقط، بألوان: الأزرق، والأحمر، والأخضر، والعنبري، والأسود.

«الشرق الأوسط» (لندن)
لمسات الموضة المصممة إلسا بيريتي (تيفاني آند كو)

«تيفاني آند كو» تحتفل بـ50 عاماً من إبداعات إلسا بيريتي

كانت لإلسا نظرة مختلفة للطبيعة عن باقي مصممي المجوهرات في سبعينات القرن الماضي. كانت نابعةً من شغف بالأشكال العضوية.

«الشرق الأوسط» (لندن)

أسبوع لندن للموضة يسترجع أنفاسه... ببطء

عرض ريتشارد كوين كان مفعماً بالأمل والتفاؤل... وهو ما ترجمه بالورود والألوان الفاتحة (أ.ف.ب)
عرض ريتشارد كوين كان مفعماً بالأمل والتفاؤل... وهو ما ترجمه بالورود والألوان الفاتحة (أ.ف.ب)
TT

أسبوع لندن للموضة يسترجع أنفاسه... ببطء

عرض ريتشارد كوين كان مفعماً بالأمل والتفاؤل... وهو ما ترجمه بالورود والألوان الفاتحة (أ.ف.ب)
عرض ريتشارد كوين كان مفعماً بالأمل والتفاؤل... وهو ما ترجمه بالورود والألوان الفاتحة (أ.ف.ب)

هل كان يكفي الحضور المكثف للنجوم والمشاهير من أمثال عرّابة الموضة أنا وينتور، والمغني هاري ستايلز، والمغنية تشارلي إكس سي إكس، والعارضة المخضرمة جيري هول، أن يعيد لأسبوع لندن بريقه، أو يُنقذه من الركود الذي يعاني منه منذ عدة مواسم؟ الجواب وبكل بساطة أن أسبوع لندن كان ولا يزال يعتمد على نفسه. لربيع وصيف 2025 الأسبوع الماضي أكد مرة أخرى أن قوته تكمن في أبنائه وروحهم المتمردة أولاً وأخيراً.

مجموعة كبيرة من المشاهير تتوسطهم أنا وينتور حضروا أسبوع لندن بشكل مكثف (أ.ف.ب)

لا يختلف أي متابع على أن أسبوع لندن يمر منذ فترة بمرحلة عصيبة جعلته باهتاً وبارداً مقارنة بغيره. أسابيع الموضة العالمية الأخرى؛ باريس وميلانو ونيويورك، استطاعت أن تتخطى الأزمة الاقتصادية العالمية بخطوات أسرع منه. أما هو، فظل يتخبط بين شح الإمكانات وتبعات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

حتى دار «بيربري» التي كانت تُزوِّده بما يكفي من شحنات قوة وبريق، تشهد حالياً تراجعاً كبيراً في المبيعات والإيرادات، ورغم التحاق المصمم دانييل لي بها، وكل الآمال التي عُقدت عليه ليرتقي بها إلى مصاف الكبار، برفع أسعار منتجاتها، لم يحقق الأهداف المطلوبة منه؛ ليس لأنه يفتقد الإبداع، بل فقط لأن التوقيت ليس في صالحه، إضافة إلى أن استراتيجية رفع الأسعار لم تخدمه. المشكلة أن الدار تناست أن قوتها تكمن في مخاطبتها الطبقات المتوسطة المتعطشة لدخول نادي الأناقة.

في عرض «بيربري» عاد المصمم دانييل لي إلى البدايات ولعب على وظيفية الأزياء بلغة عصرية (بيربري)

استدركت الدار الموقف. ولأن المصمم دانييل لي مشهود له بالموهبة والإبداع، وجّهت انتباهها إلى الجانبين التسويقي والإداري؛ إذ عيّنت جاشوا شولمان رئيساً تنفيذياً جديداً لها، على أمل أن يُحقق لها ما حققه في دار «كوتش» التي عمل فيها رئيساً تنفيذياً، ولا سيما أن هناك نقاط تشابه كثيرة بين العلامتين. عرض الدار لربيع وصيف 2025، والذي أقيم في آخر يوم من أيام الأسبوع اللندني، أعطى إشارات قوية بالاتجاه الجديد. كانت الأزياء والأكسسوارات بنكهة تجارية، وفي الوقت ذاته عملية بالمعنى الوظيفي، تستحضر بدايات الدار. لكن دانييل لي أضفى عليها لمساته العصرية لتخاطب شريحة الشباب، من خلال القصات والتفاصيل، مثل السحابات التي ظهرت في أجزاء كثيرة والجيوب المتعددة التي لم يكتفِ بها المصمم في السترات والمعاطف، بل شملت البنطلونات التي امتدت فيها إلى أسفل الساق لتصل إلى الكاحل.

جنوح مصممي لندن للغرابة وإحداث الصدمة لم يختفِ تماماً (أ.ف.ب)

لكن ما يُحسب لأسبوع لندن دائماً هو روح التحدي التي يتحلى بها ولم تفارقه في أي فترة من فتراته. تشعر أحياناً أنه يتلذذ بالأزمات ويستمد منها أكسجين الابتكار. هذا العام يحتفل بميلاده الـ40. تاريخه يشهد أنه مر بعدة تذبذبات، لم تقضِ عليه بقدر ما زادته عزماً. في معرض استعادي للأسبوع، عُلّقت مقولة كتبتها محررة الأزياء كاثرين صامويل في عام 1993 تقول: «أثبت مصممو أسبوع لندن أن الشخصية البريطانية تزيد قوة في المواقف الصعبة».

اللافت أن المعرض لا يُسلط الضوء على النجاحات والإنجازات التي حققها الأسبوع بقدر ما يركّز على الأوقات الصعبة التي أثرت عليه، بدءاً من الركود في الثمانينات، إلى أحداث 11 سبتمبر (أيلول) والأزمة المالية في عام 2008، وأخيراً وليس آخراً الأزمة الحالية. فيها كلها، أكّد أن الإبداع يولد من رحم الأزمات، وأن مصمميه لا يستسيغون الهدوء أو السكينة. شارك في الأسبوع الحالي 72 مصمماً مال بعضهم للعصري بنكهة تجارية تباينت جرعاتها، وبعضهم جنح للغرابة بشكل غير آبه للتسويق؛ لأنهم يتوجهون لشريحة معينة وقليلة.

ريتشارد كوين قدم تشكيلة حالمة وفخمة كان واضحاً توجهه فيها إلى زبونات منطقة الشرق الأوسط (أ.ف.ب)

لكن غالبيتهم شحذوا ملكاتهم الإبداعية لبث التفاؤل والأمل بأن العاصفة مهما طالت ستمر بسلام. هذه الطاقة الإيجابية ظهرت في تشكيلة ريتشارد كوين في فساتين طبعتها ورود ضخمة وتصاميم تتراقص على نغمات كلاسيكية تستحضر حفلات النجوم والنخبة في ثلاثينات القرن الماضي. بفخامتها وتطريزاتها الغنية، كان واضحاً أنه يخاطب بها زبونات الشرق الأوسط. هذه الإيجابية ظهرت أيضاً في عروض روكساندا وجي دبليو أندرسون و«توغا» وإيرديم، وهلم جرا من الأسماء.

في عرض جي دبليو أندرسون، مثلاً، تجلت في تنورات قصيرة واسعة بشكل مبالغ فيه، وفساتين قصيرة يبدو بعضها وكأنه مصنوع من قماش تم تقطيعه بالتساوي بشكل مستطيل، ثم تجميعه من جديد.

لعب المصمم إيرديم على الازدواجية بين الذكوري والأنثوي بأسلوب سردي وفني جديد (إيرديم)

روح الدعابة التي سادت عرض أندرسون، غابت في تشكيلة «إيرديم». فهو بطبعه جاد يحب التاريخ ويستقي منه دائماً قصصاً ملهمة. هذه المرة ترجم رواية «بئر العزلة» (The well of Loneliness) للكاتبة رادكليف هول، بأسلوب جمع فيه التفصيل الذكوري بالتصميم الأنثوي في تداخل يحاكي الـ«هوت كوتور». فالرواية تحكي قصة امرأة عاشت كرجل طوال حياتها. تلبس ملابسه وتصممها في شارع «سافيل رو» الشهير. والطريف أن أمرها لم يُكشف حتى مماتها. رغم أنه كان من السهل وقوعه في المحظور ويقدم ترجمة حرفية، فإن إيرديم نجح في تقديم درس عن كيف يمكن أن يكتسب التفصيل الرجالي نعومة من دون أن يُرسل أي إيحاءات معينة.

لين فرنكس... الأم الروحية للأسبوع

انطلق أسبوع لندن على يد لين فرنكس، أقوى وأشهر امرأة في عالم العلاقات العامة إلى حد أنها ألهمت شخصية بطلته إيدينا مونسون التي لعبتها باقتدار الممثلة جينفر سوندرز في مسلسل «أبسولوتلي فابيلوس» (Absolutely Fabulous)، وهو واحد من المسلسلات الناجحة لحد الآن. يمكن القول إنها من أرست قواعد مهنة العلاقات العامة في بريطانيا. ولأنها كانت تمتلك وكالة تمثل مجموعة من المصممين البريطانيين وعارضات الأزياء، راودتها فكرة تأسيس منصة تستعرض مواهبهم وقدراتهم للعالم، أسوة بأسابيع نيويورك وباريس وميلانو. وهكذا وُلدت فكرة إطلاق أسبوع لندن للموضة في عام 1984. ما إن نجحت في إقناع عملائها ومعارفها لتمويله، حتى بدأت بالبحث عن مكان مناسب، وجدته في حديقة «معهد الكومنويلث» بهولاند بارك. هناك نصبت خيمة كبيرة احتضنت أول موسم لأسبوع طبعته لحد الآن جينات شبابية تميل إلى التمرد والاختلاف الصادم أحياناً. بعد ثلاث سنوات، تغير المكان إلى ما أصبح يعرف الآن بقاعة «ساتشي» بالقرب من محطة «سلوان سكوير».

كان هذا نقلة إيجابية غيّرت مصير الموضة؛ إذ وفّر المكان مساحة أكبر، وبدأ يجذب أنظار مشاهير مثل الأميرة الراحلة دايانا، والمغني بوي جورج، وحتى مادونا أنذاك، الأمر الذي شجع على دخول ممولين جدد، ومن ثم زيادة ميزانيته.

هذا النجاح تطلب مكاناً أكبر، توفر في قاعة «أولميبيا»، ودخل خريطة الموضة العالمية بشكل رسمي. بين عامي 1988 و1989، مثلاً، شهد الأسبوع أول ظهور لكل من ناعومي كامبل وكايت موس قبل أن يسطع نجمهما للعالمية.

40 عاماً من النجاحات والتذبذبات

المصمم الآيرلندي الأصل واكب أسبوع لندن منذ تأسيسه في عام 1984 (رويترز)

لم يشهد أي أسبوع التذبذبات التي شهدها أسبوع لندن ولا عزيمته على البقاء، منذ انطلاقه في عام 1984. بدأ متواضعاً لكن جامحاً بفورة الشباب. كان كل المصممين المشاركين حديثي التخرج في معاهد تعلموا فيها أن الإبداع هو الجوهر، وكل شيء سواه يجب ألا يدخل في حساباتهم مهما كان الثمن الذي سيدفعونه. وهكذا جنّدوا جموحهم الإبداعي لدعم الأسبوع.

أعطى المصمم إيرديم درساً في كيف يمكن تنعيم التفصيل الذكوري (إيرديم)

لكن هذا الصعود سرعان ما تعرض للكبوة الأولى في التسعينات بسبب الأزمة الاقتصادية. في هذه الفترة بدأت تتسلل قوى جديدة في باريس وميلانو ونيويورك، تُرجّح الجانب التجاري أكثر، الأمر الذي وضع لندن في مأزق. لم يكن لمصمميها إلمام بهذا الجانب ولا قابلية لتقبّل فكرته. كانوا متشبّعين بفكرة أن الابتكار يأتي على حساب أي شيء آخر.

تقلُّص الميزانية لم يثنِ المسؤولين عن الاستمرار. ففي عام 1993، تم إطلاق مشروع «نيو جين»، أو الجيل الجديد، لدعم المصممين الشباب الذين لا تتوفر لهم إمكانات مادية للاستمرار، وكان من أوائل من استفادوا منه مصمم جديد اسمه ألكسندر ماكوين، وبعده كثيرون مثل إيرديم وغيره. كل من أتوا بعد لين فرنكس احترموا فكرتها أن الوسيلة الوحيدة التي يمكن أن يتميز بها الأسبوع عن باقي أسابيع الموضة العالمية هي احتضان الشباب. وبالفعل لا تزال العاصمة البريطانية ولّادة للنجوم لحد الآن. لا تحتضنهم وتفتح لهم أبوابها فحسب، بل تصدّرهم أيضاً إلى باريس.

ريتشارد كوين عاد إلى الثلاثينات ليستقي منها تصاميم خاصة بالحفلات والأعراس (رويترز)

لكن شتان بين أزمات الماضي وأزمة اليوم. فهي الآن أكثر تعقيداً؛ لأنها عالمية أثرت على صنّاع الموضة في كل مكان، الأمر الذي جعل المنافسة أكثر شراسة لنيل قسط من الأرباح. كل العواصم في فترة من الفترات صارعت للبقاء والنجاح، حتى من ينضوون تحت مجموعات ضخمة مثل «إل في إم إش» و«كيرينغ» و«ريشمون». الفرق أن هؤلاء لديهم الإمكانات التي تغطي أي تباطؤ في النمو أو الخسارة لسنوات، في حين أن أغلب المصممين في بريطانيا شباب مستقلون. «روكساندا» مثلاً كانت ستُعلن إفلاسها لولا تدخل مستثمرين مؤخراً.

كيف يواجه المسؤولون الأزمة؟

بعد أربعين عاماً، كان لا بد أن يستوعب المشرفون على مجلس الموضة البريطانية أن الابتكار والأفكار الجديدة لا يكفيان. كان الحل هو تبني مفهوم الاستدامة والحث على إعادة النظر في سلوكيات الاستهلاك للحد من سلبياتها، وخصوصاً أن الجيل الصاعد الذي تُعوّل عليه مستاء من فكرة أن الموضة من بين أكثر القطاعات تلويثاً للبيئة.

من هذا المنظور افتتح الأسبوع هذا الموسم، بعروض لأزياء مستعملة بالتعاون مع منصة «إي باي» و«مؤسسة أوكسفام الخيرية» وموقع بيع السلع المستعملة الليتواني «فينتد» (Vinted)، وهو ما علّقت عليه ماريان جيبلز من موقع «فينتد» بقولها إن مواجهة الأفكار المسبقة ضرورية؛ «إذ يمكن أن تكون الأزياء المستعملة أنيقة وبأسعار معقولة».

المصممة والناشطة البريطانية كاثرين هامنيت (77 عاماً) أيضاً شاركت في هذه العروض المستدامة بأحد قمصانها الشهيرة التي تحمل رسالة: «لا مزيد من ضحايا الموضة»، بعد مرور 40 عاماً على أول عرض لها خلال أسبوع الموضة في عام 1984.