«موسم باريس» للموضة للخريف والشتاء المقبلين والتنازع بين السياسة والرياضة

«شانيل» وإيلي صعب و«سكياباريللي»... مدارس مختلفة... أناقة واحدة

لم يكن صعباً على فريق العمل في «شانيل» تجاوز غياب مدير فني يقودها... كانت جينات الدار قوية وكافية (شانيل)
لم يكن صعباً على فريق العمل في «شانيل» تجاوز غياب مدير فني يقودها... كانت جينات الدار قوية وكافية (شانيل)
TT

«موسم باريس» للموضة للخريف والشتاء المقبلين والتنازع بين السياسة والرياضة

لم يكن صعباً على فريق العمل في «شانيل» تجاوز غياب مدير فني يقودها... كانت جينات الدار قوية وكافية (شانيل)
لم يكن صعباً على فريق العمل في «شانيل» تجاوز غياب مدير فني يقودها... كانت جينات الدار قوية وكافية (شانيل)

باريس مشغولة هذه الأيام بالانتخابات والاستعدادات الأولمبية. تأثير هذه الاستعدادات كان واضحاً على «أسابيع الموضة»؛ بدءاً من الأسبوع الرجالي إلى الـ«هوت كوتور» الذي انتهت فعالياته يوم الأربعاء الماضي. لم تكن مثيرة كما كانت عليه في السابق. سرقت منها الاستعدادات الانتخابية والأولمبية، وما سببته من زحمة سير خانقة، سحرها وبريقها المعهودين. الرحلة التي كانت لا تتعدى 15 دقيقة مثلاً، باتت تستغرق نحو 45 دقيقة أو أكثر. في كل رحلة تضطر لإظهار التعاطف مع سائقي التاكسيات وهم يتذمرون من «عشوائية التنظيم»؛ وفق رأيهم، وكيف أدت أعمال البناء والترميم؛ القائمة على قدم وساق، إلى إغلاق شوارع حيوية وإخفاء معالم جمال العاصمة الفرنسية خلف ورشات بناء رمادية.

على مستوى الموضة؛ وبما أن «أسبوع الأزياء الراقية» جزء من الثقافة الفرنسية، فقد توقع المنظمون في «فيدرالية الأزياء» والـ«هوت كوتور» تأثيرات هذه الاستعدادات، واستبقوها بتغيير تاريخ الأسبوع من شهر يوليوز (تموز) إلى شهر يونيو (حزيران) على أمل تفادي زحمة السير وحجوزات الفنادق والمطاعم وغيرها. باءت محاولاتهم بالفشل، لا سيما أن تغيير التاريخ كان له تأثير سلبي على عدد المشاركين الكبار. انسحبت مثلاً دار «بالمان» وغابت «فندي»؛ كذلك «فالنتينو». هذه الأخيرة بسبب الاستبدال بمصممها بيير باولو بيتشولي، أليساندرو ميكيلي الذي سيقدّم تشكيلته الأولى للدار في سبتمبر (أيلول) المقبل. كذلك ألغت دار «جيفنشي» مشاركتها إلى حين أن ترسو على مدير فني جديد يُعوض الأميركي ماثيو ويليامز الذي غادرها في شهر يناير (كانون الثاني) الماضي.

كلما زادت درجات الحرارة وتصبب العرق، يتبادر إلى الذهن سؤال عن مدى جدوى الـ«هوت كوتور» في حياتنا وأهمية هذه العروض المتناثرة حول المدينة للمصممين. سؤال أجاب عنه «ديمنا» مصمم دار «بالنسياغا» بقوله: «لا أحد يحتاج الكوتور»، ومع ذلك الكل ينتظر هذا الموسم بشغف؛ بمن فيهم من ليست لهم سوى فسحة الحلم. أما بالنسبة إلى المصممين، فإنه الموسم الذي يسمح لهم باختبار أفكار جامحة ومجنونة أحياناً.

استوحى المصمم هذه القطعة من وشاح مصنوع من ريش الديك في الأربعينات... استعمل هو المعدن لصياغة الريش (سكياباريللي)

ورغم أن هذا الجموح غاب في السنوات الأخيرة بسبب الضغوطات التي تطالبهم بطرح تشكيلات واقعية تحقق الأرباح، فإن البعض يحاول إدخال قطع فنية يستعرضون عبرها إمكاناتهم الإبداعية. الأميركي دانييل روزبيري، المدير الفني لدار «سكياباريللي» واحد من هؤلاء. اتكأ هذا الموسم على جرأة مؤسسة الدار إلسا سكياباريللي، وكأنه يحتمى بتاريخها الفني ليُبرر قطعاً سريالية تبدو فيها العارضات نصباً تذكارية متحركة مثل «كاب» من الريش مصنوع من المعادن.

كانت إلسا سكياباريللي من أوائل المصممين الذين زاوجوا الموضة بالفن، وبالتالي حاولت إدخال الفن إلى حياتنا اليومية من خلال الأزياء والإكسسوارات. استماتت لتحقيق هذا الهدف، لكن توجهات السوق هزمتها في النهاية، لتتوارى عن المشهد الإبداعي وتعيش في الظل إلى مماتها. دانييل روزبيري، أحياها في تشكيلة أطلق عليها «طائر الفينيق»؛ في إشارة إلى إعادته أسلوبها الفني الجامح، الذي يلمس المشاعر أكثر مما يلمس العقل.

كان عرض سكياباريللي فنياً بكل المقاييس... عاد فيه الأميركي روزبيري إلى أسلوب المؤسسة إلسا وشغفها بكل ما هو فني ومبتكر (سكياباريللي)

وفق قول المصمم: «لقد قيل لي مؤخراً إن الناس لا يشترون سكياباريللي بل يقتنونها، وهذا ما يجعل تصميم خط الـ(هوت كوتور) مميزاً بالنسبة إليّ. إنه يُعبر عن رؤيتي للدار اليوم؛ رؤية بعيدة كل البعد عن التسويق والترويج. لكنه أيضاً طريقة لتكريم تلك العلاقة الحميمة التي أعطي فيها المرأة القدرة على أن تولد من جديد؛ مراراً وتكراراً».

بعد العرض صرح دانيال روزبيري بأنه تجنب إحداث الصدمات للحصول على مباركة وسائل التواصل الاجتماعي. اختار في المقابل أن يُقارب أسلوب إلسا بلغة فنية معاصرة. وكانت النتيجة القطعة المغطاة بالريش التي تُدوولت على نطاق واسع. شرح أنه استلهمها من رسمة لـ«دوناند (Dunand)»، ترجمتها المصممة في وشاح مصنوع من ريش الديك وضعته على كتفيها في الأربعينات، لدى حضورها حفل تكريم راقصة الباليه الراحلة آنا بافلوفا. كانت هذه القطعة كافية لمنح المصمم الحالي كل التغطيات الإعلامية التي يحتاجها روزبيري من دون أي حاجة إلى حيل أو خدع.

تاريخياً كانت هناك منافسة شرسة بين غابرييل شانيل وإلسا سكياباريللي وصلت إلى درجة العداوة. أمر كان يعرفه القريب والبعيد. نجحت غابرييل، أو «كوكو»، فيما فشلت فيه إلسا: قراءة تغيرات الثقافة في منتصف القرن الماضي، وتقبل إملاءات الموضة العملية آنذاك. غابرييل في المقابل احتضنت التغيير، بل يمكن القول إنها ساهمت في ظهوره والدفع به إلى الواجهة.

أيقونات الدار من تايورات التويد والفساتين الناعمة ظهرت بترجمة معاصرة وأنيقة (رويترز)

وهذا ما زلنا نلمسه في كل تشكيلة تطرحها الدار وتستند عليه بثقة. حتى خروج مديرتها الفنية فيرجيني فيار المفاجئ في 6 يونيو (حزيران) لم يؤثر عليها أو يُثنها عن تقديم عرضها. فهي مؤمنة بقوة جينات الدار وقدرتها على لمس مشاعر كل الأجيال. التشكيلة لا تحمل توقيع فيار، راهنت فيها الدار على مهارة استوديو العمل، وكسبت؛ إذ تميزت التشكيلة برؤية واضحة وخطوط سلسة. والأهم من هذا غلبت عليها روح شبابية غابت عنها نحو 5 سنوات، وهي الفترة التي قضتها فيرجيني فيار مديرةً إبداعية؛ علماً بأنها عندما عُيِنت بعد وفاة كارل لاغرفيلد في عام 2019، كان من المفترض أن يكون تنصيبها مؤقتاً حتى تجد الدار مديراً فنياً جديداً، لكنها ظلت 5 سنوات.

حتى تايورات التويد الكلاسيكية خضعت لعمليات تجميل خفيفة جداً تناسب كل الأجيال (شانيل)

في لقاء سابق مع «الشرق الأوسط»، قال برونو بافلوفسكي، الذي يُشرف على جانب الأزياء والإكسسوارات منذ أكثر من عقدين من الزمن وعايش تغيرات وتحديات عدة، إن «ما نقوم به الآن لا نستعجل ثماره غداً». من هذا المنظور، كان اختيارها بعد وفاة لاغرفيلد لضمان الاستمرارية، بحكم أنها عملت معه لأكثر من عقدين من الزمن، وبالتالي تحفظ جينات «شانيل» وثقافتها عن ظهر قلب. لكن المأخذ عليها أنها سلكت الطريق المضمونة، وكانت النتيجة أنها لم تُضف بصمة خاصة تُحسب لها. يوم الثلاثاء الماضي، تهامس كثير من الحضور بأن خروجها بث في الدار ديناميكية جديدة.

كان واضحاً أن فريق العمل لم يجد صعوبة في ضخ التشكيلة بنفَس شبابي تجسد في القصات والإكسسوارات على حد سواء. وهكذا، ولأول مرة منذ 5 سنوات بدت الأزياء كما لو أنها خضعت لعملية تجميل. قد تكون عملية خفيفة جداً، إلا إنها أنعشت كل قطعة، بما فيها جاكيت التويد الأيقوني والتنورات، التي أخذت أشكالاً تنوعت بين المستدير نوعاً ما والمستقيم كالعادة. الفستان الناعم أيضاً ظهر بأقمشة وألوان متنوعة وخطوط أكثر انطلاقاً تشم من بين كشاكشه وتطريزاته شقاوة طفولية.

أيقونات الدار من تايورات التويد والفساتين الناعمة ظهرت بترجمة معاصرة وأنيقة (شانيل)

كان منظر العارضات وهن يتنقلن بين ردهات قصر «غارنييه»؛ المكان الذي قدمت فيه الدار عرضها، كأنهن راقصات باليه في مقتبل العمر. حتى عندما كانت الواحدة منهن تظهر بتايور مفصل من التويد يبدو من بعيد كأنه مأخوذ من خزانة والدتها، كانت الفيونكات التي تُزيِن ضفائرهن والأحذية المريحة، تعيدهن إلى فترة الصبا. هذه الصورة لم تأت من فراغ. فقد رسمتها الدار بدقة وعناية لتُذكرنا بعلاقة غابرييل والدار من بعدها بالرقص. فهي الراعي الرئيسي لـ«أوبرا باريس الوطنية» منذ عام 2023، وراعية «باليه دو لوبرا» منذ عام 2021، وراعية الحفل الافتتاحي لموسم الرقص منذ عام 2018. هذا إضافة إلى تاريخها في هذا الفن منذ عام 1924، حين بدأت غابرييل شانيل تصميم أزياء مغنيات الأوبرا وراقصي الباليه. فريق التصميم استعاد هذا التاريخ ونسج خيوطه بالحاضر بخفة، في انتظار مدير فني يجمع باقي الخيوط معاً.

استعمل إيلي الألوان وسيلة لتقسيم تشكيلته إلى مجموعات متنوعة كان القاسم المشترك بينها الرومانسية والأنوثة (إ.ب.أ)

في اليوم نفسه وفي عرض إيلي صعب، الذي أقيم بقاعة خلف متحف «اللوفر»، يأتي الرد على كل الأسئلة التي ظلت تراودنا منذ بداية الأسبوع، عن أهمية الـ«هوت كوتور» ومدى تأثيرها على حياتنا. يأتينا الرد بليغاً وشافياً من صوفيا؛ حفيدة إيلي صعب، البالغة من العمر نحو 3 سنوات. كانت تجلس بين والدها إيلي جونيور ووالدتها كريستينا تتابع العرض بانبهار. ردود الفعل لديها وعيونها وهي تتتبع كل عارضة، ثم حماسها الطفولي إثر ظهور فستان الزفاف الفخم في آخر العرض، تكفي لتؤكد أن هذا الموسم مهم لخلق توازن نفسي وروحي وعاطفي بين الواقع والخيال.

ألهب فستان الزفاف الخيال بلونه السكري وذيله الطويل وتطريزاته الغنية (إ.ب.أ)

فإذا كان لهذا الفستان السكري اللون بتطريزاته الغنية، وطرحته البالغ طولها أمتاراً، هذا التأثير على طفلة لا تتعدى الثالثة من العمر، فما البال بفتيات في عمر الصبا أو الشباب؟ فهنا تبرز قدرة إيلي صعب على نسج قصص ساحرة عن الأميرات والأساطير تتجلى في تصاميم تنسدل على الجسم بخامات مترفة مثل الأورغانزا والحرير والموسلين والمخمل وتطريزات سخية بلمسات شرقية. هذه المرة لعبت القفازات الطويلة دوراً مكملاً لفساتين السهرة والمساء... ظهرت بديلاً للأكمام، والجميل فيها أنها بجلدها الناعم وتناقضه مع الخامات الأخرى، أضافت إلى هذه الفساتين ديناميكية أخرجتها من الكلاسيكية. أما التطريزات التي زينت الأكتاف وأجزاء أخرى من كل تصميم، فلم تكن مجرد إضافة جمالية بقدر ما كانت تخدم القصة السردية.

ظهرت قفازات طويلة بديلاً للأكمام في مجموعة من الإطلالات الخاصة بمناسبات السهرة والمساء (إيلي صعب)

يقول إيلي إن الفكرة التي انطلق منها هي لحديقة غناء تبدأ بإيحاءات قوطية رومانسية، ثم تتفتح تدريجياً بالورود والريش. لم يتجاهل إيلي في هذه التشكيلة الرجل. قدم له هو الآخر مجموعة من البدلات والـ«كابات» المطرزة، استوحاها من أجواء الأوبرا الفخمة ووجهها للمناسبات المهمة.

يشرح إيلي أنه قسم العرض مستعملاً الألوان فاصلاً، أو بالأحرى فصلاً جديداً. استهل العرض بمجموعة بالأسود، أتبعه بمجموعة لحديقة غناء تتفتح بالأزهار والورود، وتباينت فيها الألوان بين الزيتي والبنفسجي والأخضر والأحمر القاني، لينتهي العرض على نغمة بريق تنبعث من ألوان البيج، والذهبي، والرمادي. لكنه رمادي مبهج أنسانا، ولو للحظات، ما كان ينتظرنا خارج القاعة من شمس حارقة وزحمة سير.

كان الأسود حاضراً في مجموعة لا يستهان بها من التشكيلة... قال إيلي إنه نتيجة إيحاءات قوطية رومانسية (إيلي صعب)

ما أكده إيلي صعب للمرة الألف أن للـ«هوت كوتور» لغة فريدة توقظ كثيراً من المشاعر الكامنة. قد تكون للمصممين مختبر أفكار، وللزبونات المقتدرات فرصة للحصول على قطع فريدة لن تمتلكها غيرهن، أما بالنسبة إلى الأغلبية من المتابعين، فهي غذاء للروح والعقل؛ لأنهم مثل رواد القاعات الفنية والمتاحف، يكتفون بالاستمتاع باللوحات والتحف المعروضة ولو من بعيد.


مقالات ذات صلة

درجة العام الجديد «موكا موس»… ما لها وما عليها

لمسات الموضة «موكا موس» له تأثير حسي دافئ ولذيذ من دون بهرجة (برونيللو كوتشينيللي)

درجة العام الجديد «موكا موس»… ما لها وما عليها

الألوان مثل العطور لها تأثيرات نفسية وعاطفية وحسية كثيرة، و«موكا موس» له تأثير حسي دافئ نابع من نعومته وإيحاءاته اللذيذة.

جميلة حلفيشي (لندن)
لمسات الموضة أنجلينا جولي في حفل «غولدن غلوب» لعام 2025 (رويترز)

«غولدن غلوب» 2025 يؤكد أن «القالب غالب»

أكد حفل الغولدن غلوب لعام 2025 أنه لا يزال يشكِل مع الموضة ثنائياً يغذي كل الحواس. يترقبه المصممون ويحضّرون له وكأنه حملة ترويجية متحركة، بينما يترقبه عشاق…

«الشرق الأوسط» (لندن)
لمسات الموضة في معمل كوجيما تعكف عاملة على كي قماش الدنيم (أ.ف.ب)

الجينز الياباني... طرق تصنيعه تقليدية وأنواله هشة لكن تكلفته غالية

على الرغم من تعقيد الآلات المستعملة لصنعه، فإن نسيجه يستحق العناء، ويتحول إلى قماش ناعم جداً بمجرّد تحويله إلى سروال جينز.

«الشرق الأوسط» (لندن)
لمسات الموضة بين ميغان ماركل وكايلي جينر قواسم مشتركة وفوارق عديدة في الوقت ذاته (أ.ف.ب)

ميغان ماركل وكايلي جينر والصراع على المرتبة الأولى

هناك فعلاً مجموعة من القواسم المُشتركة بين ماركل وجينر، إلى جانب الجدل الذي تثيرانه بسبب الثقافة التي تُمثلانها ويرفضها البعض ويدعمها البعض الآخر.

جميلة حلفيشي (لندن)
لمسات الموضة تُرسِخ تجربة العارضة كايت موس مع محلات «زارا» التغير الذي طرأ على عالم الموضة (زارا)

المحلات الشعبية تستعين بالنجوم لاستقطاب الزبائن

لم يعد تعاون المشاهير يقتصر على الترويج والظهور في المناسبات بل يشمل حالياً تصميم الأزياء

جميلة حلفيشي (لندن)

درجة العام الجديد «موكا موس»… ما لها وما عليها

«موكا موس» له تأثير حسي دافئ ولذيذ من دون بهرجة (برونيللو كوتشينيللي)
«موكا موس» له تأثير حسي دافئ ولذيذ من دون بهرجة (برونيللو كوتشينيللي)
TT

درجة العام الجديد «موكا موس»… ما لها وما عليها

«موكا موس» له تأثير حسي دافئ ولذيذ من دون بهرجة (برونيللو كوتشينيللي)
«موكا موس» له تأثير حسي دافئ ولذيذ من دون بهرجة (برونيللو كوتشينيللي)

بعد البني بدرجاته التي تتراوح بين القمحي والكاراميل والقهوة والشوكولاته، سمع الكل بإعلان معهد «بانتون» المختص في اختيار ألوان العام، أن لون 2025 سيكون من فصيلة «البُنيات»، لكن بدرجة قشدة القهوة، كما يشير اسمه «موكا موس». لهذا؛ ما عليكِ سوى أن تتخيلي قهوة أو شوكولاته مخفوقة بقليل من الكريمة لتعرفي الدرجة المقصودة. أول ما يتبادر إلى الذهن عند ذِكر «موكا موس» خفتها وذوبانها في الفم، وهذا تحديداً ما تعمّده المسؤولون على التسمية في معهد «بانتون». كان بالإمكان الاكتفاء بـ«موكا»، لكن وفق قول لوري بريسمان، نائبة رئيس معهد «بانتون» للألوان في بيان صحافي: «إن اسم اللون دائماً ما يكون مهماً لنقل الشعور الذي نلمسه ونتوخى إيصاله». إضافة كلمة «موس» زادت الإحساس بالنعومة والخفة. كان هذا هو المطلوب، وترجمه الكثير من المصممين لحد الآن في قطع مصنوعة من الساتان الحريري والصوف الناعم إلى جانب الجلد والشامواه، في الإكسسوارات تحديداً.

تُرجمت خفته ونعومته في قطع من الساتان الحريري في عرض «هيرميس» (فيليبو فيور)

كيف يتم اختيار لون العام؟

المتعارف عليه أن اختيار لون العام لا يقوم على أساس أن يكون لوناً أنيقاً يناسب الموضة أو يحدد توجهاتها فحسب. هو نتاج دراسات كثيرة تشمل خبراء وأشخاص عاديين على حد سواء. كلهم يقرأون أو يُعبّرون عن نبض الشارع: تغيراته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ومن ثم تأثيراتها على الحالة النفسية العامة. من هذا المنظور، جاء اختيار «موكا موس» تعبيراً عن الانسجام والعودة إلى الطبيعة باعتباره واحداً من الدرجات الترابية، ووفق قول بريسمان هو أيضاً محاولة «لترجمة سلوكيات الإنسان العادي الذي أصبح يُقدّر المتع الصغيرة ويرغب في أن يعيش اللحظة».

كما ظهر في عرض «هيرميس» لخريف وشتاء 2024 (فيليبو فيور)

لون السلام الداخلي

تضيف لوري بريسمان، أن هذه الدرجة الترابية تولد مشاعر الرضا وتُلهم حالة من السلام الداخلي والهدوء والتوازن على المستويات النفسية والجسدية والعقلية والروحية، كونها ترابية تتلاحم بحميمية مع الطبيعة.

في عامي 2023 و2024، مثلاً اختار المعهد لوني ماجنتا والمشمس. السبب أن العالم كان خارجاً لتوه من جائحة كورونا وكان يحتاج إلى أي شيء فيه بريق أمل يعكس الانعتاق والانفتاح. لم يختلف الهدف هذا العام، وإن كانت نسبة الرغبة في تحقيق التوازن النفسي أعلى»، حسب قول بريسمان «فتزايد الاضطرابات والتوترات التي يشهدها العالم الخارجي، انعكس على نفسيات الناس وسلوكياتهم. أصبحنا نبحث عن السلام الداخلي والتناغم مع محيطنا بأي ثمن».

استبقت «هيرميس» معهد «بانتون» واستعملته بسخاء في تشكيلتها لخريف وشتاء 2024 (فيليبو فيور)

من جهتها، تُشير لي آيزمان، المدير التنفيذي للمعهد ذاته، إلى تنوع الظل قائلة «ربما نطلق عليه لوناً ترابياً، لكن استخدامه بإيحاءات بملمس الحرير الناعم يجلب شعوراً جديداً نسميه الدفء الحسي من دون أن ننسى أنه متعدد الاستخدامات ويتناغم مع الكثير من الألوان الأخرى». ما تقصده آيزمان أنه عند تنسيقه مع ألوان مثل الأزرق الفاتح أو الفيروزي أو الوردي، فإنه لا يبقى محايداً، ويتحول ظلاً جريئاً ومثيراً. فـ«موكا موس» لن يُلغي درجات الدوبامين المتوهجة مثل الأخضر والأصفر والوردي وغيرها. فهذه لها مكانتها في ساحة الموضة وأيضاً تأثيراتها الإيجابية على ذائقة المستهلك.

«برونيللو كوتشينيللي» يستعمله منذ سنوات في تشكيلاته (برونيللو كوتشينيللي)

المؤكد أن «موكا موس»، مثل سابقيه من ألوان الأعوام الماضية، اختير ليعكس حالة مزاجية مهمة تمرّ بها الموضة حالياّ. هذه الحالة تتبنى أو تطمح لفخامة مبطنة يلمسها صاحبها قبل الناظر إليها، و لا تريد أن تتقيد بزمن أو مكان. وهذا ما يجعلها مستدامة شكلاً ومضموناً، ويُفسّر انتعاش درجات البني حتى الآن رغم حياديتها. بداية في معاطف شتوية وحقائب يد وأحذية، ليتمدد حديثاً إلى باقي الأزياء. فمنذ أن روَّجت النجمة وسيدة الأعمال غوينيث بالترو من دون قصد لأسلوب الفخامة الهادئة وهذا اللون يزيد قوة. ففي عام 2023، وخلال حضورها محاكمتها في قضية حادثة التزلج الشهيرة، كانت تظهر بأزياء بسيطة للغاية بألوان حيادية غير مثيرة للنظر، لكن عندما تتعرف على مصدرها تعرف أنها من ماركات تهمس بالترف والفخامة. وهكذا خرجت بالترو من المحاكمة منتصرة على رافع القضية ضدها، وفي الوقت ذاته منتصرة لأسلوب موضة يمكن اعتباره مضاداً حيوياً لموضة استهلاكية تتجنب «اللوغوهات» والتفاصيل الصارخة.

من تشكيلة «برونيللو كوتشينيللي لخريف وشتاء 2024 (برونيللو كوتشينيللي)

ما يؤكد استقواء هذا التوجه أن ماركات مثل «برونيللو كوتشينيللي» و«لورو بيانا» و«ذي رو» و«هيرميس» وما شابهها من بيوت أزياء راقية، تُسجِل أرباحاً عالية على عكس الكثير من المجموعات الضخمة التي تشهد تراجعاً مخيفاً. الفضل في نجاحهم، اعتمادهم على وصفة واحدة، تمتزج فيها الحرفية والجودة من ناحية الخامات والتفاصيل والتقنيات بالأناقة. كما استعاضوا فيها عن الدرجات الصارخة بأخرى، ربما تكون مطفية، لكنها كلاسيكية، مثل الأخضر الزيتوني والرمادي والأزرق الغامق والأسود وكل درجات البني من البيج إلى الشوكولاتي الغامق.

من اقتراحات «لورو بيانا» لربيع وصيف 2025 (لورو بيانا)

ولأن واحدة من ميزات الفخامة الهادئة أنها مستدامة، بمعنى أنها ليست موسمية تميل إلى الصرعات؛ فإن لون «موكا موس» حسب معهد «بانتون» للألوان مناسب جداً في ظل التغيرات التي يشهدها العالم حالياً. فهي درجة تبُث مشاعر الحذر والأمان، وهو «ما يحتاج إليه المستهلك حالياً». خبراء الموضة يوافقونهم الرأي ويضيفون أن ما يُحسب لدرجة «موكا موس» أنها تُفسح المجال لكل واحد منا باختيار الخلطة حسب الرغبة والهوى، بمزج نسبة القهوة أو الشوكولاته مع نسبة الحليب أو القشدة. فأكثر ما يمنحه البني هو تنوعه الكبير من لون البسكوت إلى لون الشوكولاته الغامقة، فضلاً عن سهولة تنسيقه مع ألوان أخرى.

«كلوي» نسّقته مع قطع بألوان وخامات مختلفة (كلوي)

ثم لا ننسى هنا عنصر اللذة الذي تثيره هذه الدرجة، وهو ما تؤكده الجدالات والتعليقات التي أثارتها هذه الدرجة منذ الإعلان عنها. فالتركيز منذ الإعلان عنها كان على اللذة التي تثيرها من دون التطرق إلى أي سلبيات، مثل أنها بحياديتها قد تكون باهتة على البشرة السمراء والحنطية. لكن يبقى هذا مأخذاً حله بسيط، يتلخص في إضافة لون قوي يعزّزه فيُضفي على البشرة ما تحتاج إليه من ألق والمظهر من تألق.