«فالنتينو»، «هيرميس»، «ماكسمارا»، «كلوي»، وطبعاً «شانيل» التي تعده لونها الخاص، وباقة من اليابانيين وغيرهم، اتفقوا هذا العام على عودة الأسود إلى الصدارة. شمل قرارهم هذا تشكيلات الخريف والشتاء والربيع والصيف، على حد سواء.
بيدَ أن قصة تربُّع الأسود على عرش الموضة ليست وليدة هذا الموسم أو ذاك، فهي تعود إلى عام 1926، عندما قدمت مصممة شابة اسمها كوكو شانيل للعالم فستاناً أسود ناعماً. أثار حينها ضجة وجدلاً في كل الأوساط، ليس لأنه كان أقصر مما كانت المرأة تألفه والأعراف تتفق عليه فحسب؛ بل لأنه كان قبل ذلك لون الحزن والحداد.
كانت مجلة «فوغ» الأميركية، من بين من لفتهم الفستان وتوقعوا نجاحه، حين كتبتْ معلِّقة عليه، أنه «سيكون القطعة التي ستلبسها كل نساء العالم». لم يخب توقعها. كان ثورة في زمانه، ولا يزال يتمتع بالوهج والإثارة نفسيهما، لدرجة تدفعنا للتساؤل: كيف لم ينتبه لجماله وإمكاناته أحد قبل الآنسة شانيل؟
لم يتبيَّن حتى الآن ما إذا كانت كوكو شانيل سوداوية الطبع أم لا؛ لكن المؤكد أنها آمنت بتأثيره وإثارته إلى حد أنها كررت في كثير من المناسبات أنها لن تتخلى عنه، حتى تجد ما هو أكثر قتامة منه: «حتى ذلك الحين، سأكتفي بارتداء الأسود». بعد 1926، أثبت نفسه؛ حيث كان من الممكن أن ينضم إلى قائمة الألوان الأنيقة الأخرى؛ لكنه تسلطن وتربَّع في خزانة المرأة. لم يتزعزع منها حتى عندما حصلت هجمة «الإنستغرام» وبقية وسائل التواصل الاجتماعي المتعطشة لألوان صارخة ونقشات متضاربة من أجل الحصول على صور أكثر وضوحاً وتأثيراً.
عمليات التجميل التي يظل خاضعاً لها على يد مصممين جُدد تساهم في ضخِّه بالشباب والكاريزما. ومع الوقت نسي الجميع أنه لون الحِداد. دخل مناسبات المساء والسهرة والأفراح. الراحل عز الدين علايا –مثلاً- قال: «إنه لون يثير الفرح في نفسه».
هذا لا يعني أنه لا يتوارى أو تتراجع أهميته أحياناً لصالح موجة أو لون جديد؛ لكن دائماً لفترة قصيرة يعود بعدها أقوى. وهذا ما حصل مؤخراً. عروض الأزياء للخريف والشتاء والربيع والصيف، على حد سواء، أكدت أن واقع الموضة الجديد ولسنوات مقبلة سيتلون به. يمكن القول إن ظهوره المكثف في معظم العروض حوَّله من مجرد موجة موسمية إلى ظاهرة.
في عرض «فالنتينو» مثلاً، لوَّن مصممها السابق بيير باولو بيكيولي كل التشكيلة (63 قطعة) به. لم يستثنِ إطلالة واحدة منه، وهو الذي تعوَّد إتحافنا بألوان شهية، فضلاً عن عروض كل من «برادا» و«ماكسمارا» و«شانيل» و«كلوي» و«هيرميس» وهلمَّ جراً. بالنسبة للمصمم بيكيولي، فهمنا فيما بعد أن الدافع وراء هذه السوداوية قد يكون شخصياً. فبعد فترة قصيرة من العرض، أُعلن خبر استغناء دار «فالنتينو» عنه، أو خروجه منها بعد 25 عاماً من العطاء والتفاني. ولأن الأرجح أنه كان على علم بهذا القرار من قبل، فإن الشكوك تدور حول أنه اختار الأسود رمزاً لنهاية فصل مهم من مشواره المهني. وليس ببعيد أنه فصَّل العرض حداداً على ربع قرن من عمره.
عرض «ماكسمارا» في المقابل كان بكل سواده احتفالياً. فالدار الإيطالية التي ارتبط اسمها في الأذهان بألوان تتباين عادة بين درجات العسل والكاراميل والبسكويت والسكر، مع نفحات من الرمادي والأزرق، فاجأت في تشكيلتها لخريف وشتاء 2024- 2025 الجميع، بإسناد دور البطولة للأسود.
وكما هي الحال في كل القصص السردية التي باتت ترافق عروض الأزياء -مثلها مثل الموسيقى والإضاءة- صرَّح مصممها البريطاني إيان غريفيث، بأن السبب يعود إلى الكاتبة والصحافية والممثلة الفرنسية كوليت: «كانت تلبس هذا اللون ولا تتخلى عنه، حتى أنه أصبح لونها الرسمي، وهذا ما أبهرني وأنا أتطلَّع إلى صورها». اكتشف أيضاً المساحات الكبيرة التي يتيحها للإبداع: «هذه المساحات تساعد على إبراز صورة ظلية أنيقة بخطوط سلسة» وفق قوله.
تغيير توجه الدار بهذه الدرجة كان جريئاً بالنسبة لدار أزياء، تكمن قوتها في معاطفها ذات الألوان الشهية؛ لكنه تغيير محسوب، تشعر فيه بأن الأسود هنا يحتفل بعلاقته المثيرة بالمرأة والممتدة على مدى قرن، وتحديداً تلك العلاقة الجريئة التي زرعتها فيه كوكو شانيل وتميَّزت بها كوليت. امرأتان خضَّتا المتعارف عليه في عصرهما، بذكائهما وثقافتهما الواسعة، وتعدد مواهبهما. كانت كوليت صحافية وكاتبة سيناريو، وفي بعض الأحيان خبيرة تجميل، وموسيقية. كانت أيضاً متمرِّدة لا تتقيد بإملاءات المجتمع والتقاليد، كما صرَّح غريفيث: «كانت تتمتع بروح متوثبة ومشاعر إنسانية تلامس القلب، وهذا ما أطمح إلى تحقيقه في (ماكسمارا) بوصفي مصمماً».
لم يكن تبنِّي كوليت الأسود لوناً رسمياً هو وحده ما يُميِّزها. كانت أيضاً تميل إلى الملابس ذات اللمسات الذكورية، وهذا ما ترجمه المصمم في معاطف مستوحاة من التصاميم العسكرية وأخرى بأحجام سخية، كما في بنطلونات واسعة بخصور عالية. ربما يكون الماكياج وظهورها بأزياء محددة في بعض الأحيان ما يُذكِّرنا بأنوثتها. أمر ترجمه غريفيث من خلال تنورات بأطوال مختلفة، وقطع منفصلة أخرى أضفى عليها حداثة وعملية باعتماده أسلوب الطبقات المتعددة.
غني عن القول، إن الأسود هو الحاضر الدائم في عروض «شانيل». مثله مثل الأبيض، لصيق بها. تستعملهما الدار في ديكورات محالِّها، وفي تغليف مستحضراتها، كما في أزيائها وإكسسواراتها. هما الآن ماركتها المسجلة، مثلما اللون البرتقالي لدار «هيرميس»، والأحمر الغامق لـ«كارتييه»، والفيروزي لـ«تيفاني أند كو»، والرمادي لـ«ديور». كانت القطع التي تلوَّنت به هذا الموسم لافتة وراقية كما العادة. استعملت فيها المصممة فيرجيني فيارد خامات متنوعة، تم تنسيق بعضها مع بعض، ليتحول الممتنع إلى سهل، والتضارب إلى تناغم.
لم يغِبْ أيضاً في عرض «برادا». برز في كنزات بياقات عالية وتنورات مستقيمة تغطي الركبة، وتايورات مستوحاة من بدلات رجالية مصنوعة من الصوف من الأمام، ومن الحرير والدانتيل من الخلف. قالت ميوتشا إنها «بمثابة عودة إلى الرومانسية التي ربما أصبحت من التابوهات». الفرق في عرض «برادا» أنه كان الأرضية التي أسندت ألواناً أخرى، وتناغمت معها لتخلق بالنتيجة صورة متنوعة تخاطب كل الأذواق.
الحركة اليابانية
هذه الموجة القوية للأسود، تعود بنا إلى حقبة الثمانينات، مع استقواء حركة يابانية قادها كل من إيسي مياكي، وراي كاواكوبو، مصممة «كوم دي غارسون»، ويوجي ياماموتو، وآخرون. هذه الحركة حوَّلته من مجرد لون تُقبل عليه المرأة للحصول على أنوثة ونحافة، إلى مفهوم قائم بذاته وأسلوب حياة. يكفي بخطوطه البسيطة الخالية من أي بهرجة للارتقاء بإطلالة أي امرأة، لا سيما في حقبة كانت تتسم بالمبالغات والبهرجة التي فرضها أسلوب «الماكسيماليزم»، مثل الأكتاف العريضة والعالية وألوان النيون والألوان المعدنية والزخرفات، وغيرها. كانت الحركة اليابانية مضادة، لعب فيها الأسود دوراً حيوياً.
المصمم ياماموتو وصفه حينذاك باللون «المتواضع والمتغطرس، الكسول والسهل. إنه غامض؛ لكن قبل كل شيء هو لون يقول: أنا لا أزعجك فلا تزعجني». هذا القول تُرجم في أرض الواقع بأنه مضمون لا يثير الجدل السلبي أياً كان تصميمه، وبالتالي وظَّفه كل مصمم برؤيته الخاصة لرسم اللوحة التي يريد بيعها لنا.
جوليان دوسينا، مصمم دار «باكو رابانا» عبَّر عن هذه الرؤية قائلاً: «عندما أشاهد شخصاً يرتدي اللون الأسود في الشارع، أشعر وكأنني أرى لوحة من الفن التجريدي. تجعلني أركز أكثر على الحركة والشخصية».
تحوله إلى ظاهرة هذا الموسم يجعلنا نتوقف ونتساءل عند أسباب أخرى، حسب رأي أندرو بولتون، أمين قسم الأزياء في «متحف متروبوليتان للفنون» بنيويورك، قائلاً إن «عودته بهذه القوة يمكن أن تُعزى إلى الاضطرابات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي نعيشها حالياً». فهو لون قوي يضمن الجاذبية، كما يمنح الثقة في كل الظروف.