منذ نحو عقد من الزمن أو أكثر بقليل، بدأت بيوت المجوهرات الرفيعة تتسلل إلى «أسبوع باريس» للـ«هوت كوتور»، حاملة معها نفائس تحاكي في تفردها وأسعارها ما يعرض في هذا الموسم من أزياء. لم يُرحب بها الجميع. بالنسبة إلى بعض المصممين، كان هذا الحضور اقتحاماً لمساحتهم الخاصة، وبالنسبة إلى وسائل الإعلام، أضاف عملاً يستنزف وقتهم... يتذمرون منه لكن لا يستطيعون مواجهته أو تجاهل أهميته.
بيد أن ما لا يعرفه كثير منا عن عملية التسلل هاته؛ أنها كانت في الحقيقة عملية إنقاذ لأسبوع بدأ يفقد ثقله ومن تم توازنه. بعد أزمة 2008، تعرض موسم الـ«هوت كوتور» إلى وعكة اقتصادية، أصابت برنامجه الرسمي بالهزال. لم يعد بإمكان كل المصممين صرف مبالغ باهظة لإقامة عروض ضخمة تُضاهي تلك التي تنظمها بيوت الأزياء الكبيرة، مثل «شانيل» و«ديور» فانسحبوا واكتفوا بمعارض صغيرة. ذهب البعض حينها إلى حد نعي هذا الخط والقول إنه يحتضر، في ظل تقلص عدد زبونات الولايات المتحدة الأميركية. لحسن الحظ أن دخول صناع المجوهرات على الخط، وظهور أسواق جديدة، فتحا الأبواب على مصاريعها أما زبونات من جيل شاب ساهمن في إنعاشه. الآن تُعد الأزياء والمجوهرات عنصران يكمل كل منهما الآخر؛ لا يمكن للأول إنكار جميل الثاني والعكس صحيح إذا أخذنا في الحسبان أن عالم المجوهرات هو الآخر استفاد... وجد الأرضية مُعبدة وجاهزة لاستعراض إبداعاته.
لم تستغرق العملية سوى بضعة مواسم، بدأت بعدها سوق الأزياء الراقية تنتعش، بل تحقق الأرباح بشكل غير مسبوق. في الموسم الأخير الذي شهدته باريس لربيع وصيف 2024، ضم البرنامج الرسمي ما لا يقل عن 29 دار أزياء. غير أن اللافت هذه المرة أن كثيراً من بيوت المجوهرات تخلفت عن الموعد. الأسباب مختلفة؛ منها ما هو استراحة، ومنها ما هو إعادة ترتيب أوراق وتحضير للموسم المقبل. من بين بيوت المجوهرات التي غابت، نذكر «فان كليف آند آربلز» و«شانيل» و«بولغاري»، بينما حرصت كل من «بوشرون» و«ديور» و«لويس فويتون» على المشاركة كالمعتاد، إلى جانب «كارتييه» و«شوميه» و«دي بيرز» و«ديفيد موريس»، التي اكتفت بعروض صغيرة على الهامش.
هناك أيضاً من يجعل السبب تحضيرهم لـ«أسبوع الساعات» الذي يقام سنوياً في جنيف تحت اسم «ووتشرز آند وونردز»؛ أي «ساعات وعجائب»، في شهر أبريل (نيسان) المقبل. أما باريس فسيوجدون فيها خلال موسم الصيف. فهذا هو الفصل المفضل لزبونات الأزياء الراقية... من ناحية، لوجودهن إما في سان تروبيه وبورتوفينو، وإما في موناكو وغيرها من منتجعات البحر المتوسط القريبة من باريس؛ ومن ناحية أخرى لأن دفء الصيف يُحفز على الشراء أكثر.
وبما أن تحركات صناع الموضة تُحددها تحركات السوق في الغالب، فإنهم انتبهوا إلى أن زبائنهم أدمنوا الانغماس في تجربة يستمتع بكل تفاصيلها على غرار ما تقدمه بيوت الأزياء الكبيرة في خط الـ«كروز» الذي يتوجه بهم إلى أماكن بعيدة. من هذا المنظور، لم يعد وجود صناع المجوهرات يقتصر على باريس، وبدل التقيد ببرنامج الأسبوع الرسمي للـ«هوت كوتور»، أصبحوا يأخذون زبائنهم المهمين إلى وجهات مختلفة. هدفهم أن تشمل المتعة جمال الأمكنة وفرادة التصاميم ونفائس الأحجار. دار «لويس فويتون» مثلاً أخذتهم إلى اليونان، و«كارتييه» إلى فلورنسا الإيطالية، و«فان كليف آند آبلز» إلى بحيرة كومو الإيطالية، و«ديور» إلى شنغهاي. تتغير الوجهات والهدف واحد؛ يتمثل في خلق تجارب تبقى محفورة في الذاكرة؛ لأنها تربط إبداعاتهم بقصص أو جذور تضفي عليها بُعداً لا يُقدر بثمن.
لكن المثير في أغلب المجموعات التي طُرحت في هذا الموسم، أنها لم تُدر ظهرها تماماً إلى «أسبوع باريس للأزياء». تركت خط الود مفتوحاً بأن جعلت الموضة مصدر إلهام، وهو ما ظهر في تقنيات تحاكي التطريز وجدل الضفائر والدانتيل، وأخرى تأخذ أشكالها من الأزرار والدبابيس وغيرها.
مجموعة «ديور ديليكا (Dior Délicat)»
الربط بين الأزياء والمجوهرات ليس جديداً على دار تخصصت في الـ«هوت كوتور» وتعدّ مؤسسة ثقافية بالنسبة إلى الفرنسيين. تظهر خيوطها المتشابكة في كثير من المجموعات التي أبدعتها مصممتها الفنية فيكتوار دو كاستيلان. لم تختلف الصورة هذه المرة عما سبق. كان التطريز بكل أشكاله هو المحور الذي تدور عليه مجموعة «ديور ديليكا». تتماهى هنا رقّة النسيج المُخرّم مع الترصيع، فيكشف عن تركيبات هندسية معقدة يُعززها توهج الياقوت والزمرّد، والصفير الأزرق، والترمالين، والتنزانيت، إلى جانب الأوبال؛ الحجر المفضل لدى المصممة. لم تسافر «ديور» بمجموعتها خارج باريس. اختارت في المقابل قصراً يقع على الضفة الغربية من نهر السين مسرحاً لاحتضان 79 قطعة؛ 5 منها فريدة، تتضمن عقداً مرناً مصنوعاً من خيوط متعددة من الألماس تشبه تقاطعات مأخوذة من صور زخرفية.
تقول فيكتوار دي كاستيلان إن «ديور ديليكا» تشكل نهجاً مختلفاً لعبت فيه «على عدم التماثل، لخلق نوع من التوازن». كل خيط أُبدع بحرص بحيث يبدو كما لو كان منعكساً على مرآة، وفي الوقت ذاته؛ فإنه لا يشبه أياً من الخطوط المجاورة له من اليمين أو اليسار.
مجموعة «بوشرون» Power Of Couture
كانت كلير شوازن؛ المصممة الفنية لدار «بوشرون»، أكثر من غاص في عالم الأزياء والخياطة هذا الموسم. كانت لها مُبرراتها... فما لا يعرفه كثير منا هو أن مؤسس الدار فريديريك بوشرون، كان نجل تاجر منسوجات مختص في الحرير والدانتيل، وهو ما كان له تأثير كبير على نهجه في تصميم المجوهرات. عمل طوال القرن التاسع عشر على صياغة الذهب والأحجار بإلهام من الأزياء الراقية ورقة الأقمشة.
عن ذلك، تُعلّق كلير شوازن: «عندما نظرت إلى الأرشيف، رأيت كثيراً من مفردات الخياطة والأزياء الراقية لم يجر التعامل معها على الإطلاق بشكل مباشر، لذلك أردت ربط كل ذلك معاً». أطلقت على المجموعة اسم «Power Of Couture»؛ أي «قوة الخياطة»، الأمر الذي يفسر معادن رُوّضت لتأخذ شكل ياقات عالية أو ضفائر وأشرطة أو أربطة وأوسمة مثل تلك التي يتزين بها الملوك في المناسبات الاحتفالية.
من بين القطع التي صممتها في هذه المجموعة واحدة بعنوان «تريكو»؛ وهي قلادة مرنة من 5 صفوف تبدو كأنها خيوط محبوكة. ومثلما الحال مع باقي عناصر المجموعة المكونة من 24 قطعة، صُنعت هذه القلادة والسوار المطابق لها بالكامل من الكريستال الصخري والألماس والمعادن الثمينة.
قُطِعت كل بلورة وصُقلت بطريقة تستهدف ألا تكون الصورة النهائية لامعة، فيما تخللتها وصلات «شيفرون»، وهي النقشة الشهيرة في عالم الأقمشة المحبوكة، مرصعة بالألماس على أحبال من الننتول، وهي سبيكة خفيفة الوزن من التيتانيوم والنيكل اكتشفتها البحرية الأميركية. أما السمة الرئيسية للقلادة، فماسة بوزن قيراطين تتوسط دوائر من الكريستال الصخري وماسات مستديرة. استغرق صنع هذه القلادة 1070 ساعة، ويقدر ثمنها بـ1.6 مليون يورو؛ أي ما يعادل 1.7 مليون دولار.
هناك أيضاً طقم «نو»، الذي يأتي على شكل شريط معقود، وهو رمز من رموز الأزياء الراقية. ترجمته كلير بأسلوب هندسي متناغم بين نسيج الكريستال الصخري غير اللامع وبريق الألماس، حيث تحيط بقطع الكريستال وعددها 435 قطعة، أكثر من 4 قراريط من الألماس. عند تفكيكها، يمكن ارتداء الشريط مع القلادة على هيئة بروش أو سوار، ويمكن تركيب الألماسة المتدلية على حلقة. هذه التفاصيل تُبرر سعرها البالغ 1.9 مليون يورو.
«كارتييه» - «لو فوياج روكومانسيه»
كانت تيمة دار «كارتييه» هي السفر والطبيعة، لكن لم تخل من التفاتات إلى فنون الأزياء، بألوانها المتوهجة والتي تتضارب في تناغم، بما فيها القطع ذات الأشكال غير المتناظرة. لم يكن سلاح «كارتييه» الأحجار الكريمة في أصفى حالاتها فقط؛ بل أيضاً الألوان المتوهجة مزجتها في القطعة الواحدة لتخلق لوحة فنية، الأمر الذي جعل الفرق بين هذه المجموعة وغيرها أنها لا تحتاج إلى أن تساير الموضة، فهي تضج بأناقة يمكن أن ترتقي، في ثانية، بأي قطعة أزياء مهما كانت بساطتها ورتابة لونها. قلادة «ميراجيو»، مثلاً، تتمحور حول خط من الياقوت السريلانكي تدور في فلكه جميع المكونات الأخرى، مثل زخارف من الياقوت والزمرّد تبدو كأنها شبكة متناظرة تستحضر نمط ريش الطاووس الملوّن.
وفي سياق متصل بعالم الأزياء والأناقة، كشفت «كارتييه» أيضاً عن عقد «سبينا»، المؤلف من نسيج شبكي من الياقوت والألماس. يضم ياقوتة «سيلان» تزن أكثر عن 29 قيراطاً. ويعدّ هذا العقد إضافة إلى مجموعة «لو فوياج روكومانسيه» التي طرحته في مايو (أيار)، ويمكن وضعه أيضاً على هيئة تاج بوضع الياقوتة لأعلى.
مجموعة «شانيل» Lion Solaire
لكن ربما تبقى «شانيل» أكثر المُتعلقين بعالم الأزياء وفنونه. في أغلب مجموعاتها الخاصة بالمجوهرات الرفيعة يعود حرفيوها إلى المنبع، وتحديداً إلى الـ«هوت كوتور» يستقون منهم أشكالاً تحاكي الأزياء، أقمشة وحياكة وحبكة. في العام الماضي أتحفتنا الدار بمجموعة مستوحاة من التويد، القماش الذي يرتبط بها، وهذا العام، أتحفتنا بمجموعة أطلقت عليها Lion Solaire de CHANEL. قالت إنه برج الآنسة شانيل، مما يجعله رمزاً قوياً من مفردات الدار. دخل أول مرة قسم المجوهرات في عام 2012 من خلال قلادة Constellation du Lion، التي أصبحت اليوم واحدة من أهم قطع المجوهرات الراقية المحفوظة ضمن تراث شانيل وفي عامي 2013 و2018، تم تخصيص مجموعات المجوهرات الراقية Sous le Signe du Lion وL’esprit du Lion بالكامل له. وفي عام 2024، يظهر مرة أخرى في مجموعة Lion Solaire de CHANEL، من خلال خمس قطع جديدة؛ قلادة وخاتمين وزوجين من الأقراط.