سارة شرايبي لـ«الشرق الأوسط»: أنا شرقية ولست مستشرقة

المصممة التي حوَلت هويتها وتشبثها بالجذور إلى ورقتها الرابحة

لقطة من مشاركتها في أسبوع دبي للموضة (خاص)
لقطة من مشاركتها في أسبوع دبي للموضة (خاص)
TT

سارة شرايبي لـ«الشرق الأوسط»: أنا شرقية ولست مستشرقة

لقطة من مشاركتها في أسبوع دبي للموضة (خاص)
لقطة من مشاركتها في أسبوع دبي للموضة (خاص)

سارة شرايبي من بين قلة من المصممين العرب تستضيفهم الفيدرالية الفرنسية للأزياء الراقية في ناديها النخبوي، وأول مصممة مغربية تدخله حاملة شعار «الأصالة والمعاصرة». قدمت خلال أسبوع باريس الأخير لربيع وصيف 2024 ثالث تشكيلة لها بصفتها ضيفة «بعد أن أقنعت كل الأطراف المسؤولة برؤيتها الفنية وأسلوبها»، حسب قولها.

سارة شرايبي تحيي ضيوفها بعد انتهاء عرضها الأخير في باريس (أ.ف.ب)

يبدأ الحديث معها لتؤكد أن اعتزازها بشرقيتها وأصالتها المغربية لا يتعارضان مع انفتاحها على العالم. إتقانها لأربع لغات: الإنجليزية والفرنسية والإسبانية وطبعاً العربية، ساعدها على مخاطبة كل الأذواق والجنسيات بسلاسة لكن دائماً بـ«لكنة» عربية قوية. بيد أنها تشير في حديثها مع «الشرق الأوسط» إلى أن التوقيت كان في صالحها وبأنها محظوظة مقارنة بغيرها من المصممين الذين سبقوها. انطلاقتها تزامنت مع انتشار ثقافة تقبل الآخر والانفتاح عليه بدرجة تصل أحياناً إلى الفضول. لم تحتج كونها مصممة عربية إلى التخفي بأسلوب غربي. بالعكس كانت هويتها مكمن قوتها. اعتمدتها بأناقة وبساطة، ففتحت لها أبواب العالمية.

أسألها كيف أقنعت الفيدرالية الفرنسية للـ«هوت كوتور»، وهي التي تعمل بهدوء وصمت في مدينة الرباط؟ فيأتيني صوتها عبر الهاتف، إن ما أسعدها أكثر عندما قدمت طلبها أنه لم يعترض أحد على مشاركتها. كانت متخوفة أن تكون العلاقة الحميمة التي تربطها بجذورها المتمثلة في تقاليد الصنعة المغربية عائقاً، لكن العكس حصل. تقول: «باريس ساحة فنية لها خصوصيتها وتاريخها، ولا أخفيك أني كنت متخوفة من نظرة صناع الموضة فيها لأسلوبي، كونه مختلفاً عما تعودوا عليه. المفاجأة أن كل الأطراف المعنية تحمَست لمشاركتي، والأسباب التي كنت متخوفة منها كانت هي نفسها الدافع لسرعة قبولي».

التزمت المصممة بموضوع العرض بإدخال ألوان الأخضر والأزرق المائي تعبيراً عن جوهر الحياة على الأرض (أ.ف.ب)

يوم 5 فبراير (شباط) الحالي وفي الساعة 8.30 قدمت تشكيلتها في دبي. كانت المناسبة أسبوع دبي للموضة في نسخته الثالثة. كانت هذه أول مرة تقابل فيها جمهوراً عربياً. لم تكتف بالتصاميم التي قدمتها خلال أسبوع الأزياء الراقية (هوت كوتور) بباريس لربيع وصيف 2024. أضافت خمس قطع جديدة. تعترض بشدة عندما أسألها عن السبب الذي يجعل المصممين يفكرون في تصميم أزياء خاصة بالمنطقة العربية، وتُذكرني بأنه من شيم العرب أن يقدموا هدايا لمستضيفيهم «وهذا أقل ما يمكن أن أقوم به». تتابع: «أريد أن أنوِه هنا بأني شرقية ولست مستشرقة. تصاميمي محتشمة بالأساس لا تحتاج إلى إضافة أي تغييرات عليها لكي تناسب المرأة العربية. لهذا كان هدفي الأول والأخير من هذه الإضافة أن أُكرِم المنطقة وأهديها تصاميم أعبر من خلالها عن اعتزازي وامتناني لها».

تستمد التشكيلة إلهامها من تفاصيل الأرض الدقيقة مثل الشقوق الأرضية والرواسب الملونة والعروق البارزة والمنحنيات (أ.ف.ب)

تُكرر سارة شرايبي كثيراً أنها مصممة تحتضن عُروبتها بفخر، وبأنها تعشق الشرق عموماً والثقافة المغربية خصوصاً. «هناك عدة نقاط التقاء واختلاف بينهما» حسب قولها «على رأسها الانتماء والارتباط بالأرض». هذا التشبُث جعلها تطلق على التشكيلة التي قدمتها خلال أسبوع باريس للـ«هوت كوتور» وبعده أسبوع دبي الذي ينظمه حي دبي للتصميم ومجلس الأزياء العربي، «الأرض» عنواناً. قالت إنها تأثرت فيها بالزلزال الذي تعرضت له منطقة الحوز بالمغرب في شهر سبتمبر (أيلول) الماضي. عاشته بكل تفاصيله. «المصمم ابن بيئته ولا يمكن أن يعيش بمنأى عنها»، وفق قولها: «كنت في المغرب عندما حصل الزلزال... عشناه جميعاً بكل قصصه المأساوية والمُلهمة إنسانياً. لا أنسى أبداً تشبث المتضررين بأرضهم. فقدوا بيوتهم وكل ما يملكون، ومع ذلك رفضوا تركها، وأصروا على البقاء فيها، ولو في العراء. كانوا عفويين وإيجابيين في الوقت ذاته، وهو ما حاولت ترجمته بأسلوب بسيط يعكس رُقي نفسياتهم».

تدرجات الألوان الترابية تماوجت مع الأرغواني الداكن والأزرق والذهبي والبرونزي والنحاسي (أ.ف.ب)

كل تصميم في هذه التشكيلة أكد أنه من رحم الفوضى والألم يمكن أن يولد الجمال. أكدت فيها شرايبي أنها ليست ابنة بيئتها فحسب، بل أيضاً ابنة عصرها «لأن التشبُت بالأرض معركة اليوم» حسب رأيها. جاءت بعض التصاميم منسدلة بألوان دافئة أو ذهبية، فيما جاء بعضها الآخر مطعماً بتفاصيل هندسية. لكن أغلبها حمل بصمات أيادي حرفيين تشرَبوا الصنعة المغربية أباً عن جد. ظهرت في «عُقد» زينت فستاناً، وخيوط من ذهب غزلتها يد «معلم» أو صبيه بدقة. بيد أنها وبالرغم من هذه الخيوط التي تربطها بالحرف التقليدية، لم تقع في مطب الفولكلور «فأنا أدرك أهمية الفصل بين الفولكلور بمعنى التراث والتصاميم العصرية. أرفض تماماً أن أستند على الماضي وحده، لأني أعتبره تواكلاً غير مشرف بحقي كمصممة عليها التجديد والإبداع». وتتابع: «الاعتزاز بالهوية لا يعني الإغراق في الغرف منها. عندما نتكلم عن الحضارة، فإنها من فعل حضر، وهذا يعني بالنسبة لي أن توجد في الحاضر. كيف لنا أن نتقدم ولحضارتنا أن تستمر من دون اختراعات وابتكارات؟».

التجديد لا يجب أيضاً أن يأتي على حساب الماضي، بإلغائه تماماً، والمعادلة تتحقق حسب رأيها «عندما نصوب الأنظار نحو المستقبل ونحترم الماضي وما خلَفه الأجداد من دون تقديس». فما يبدو قديماً اليوم كان تجديداً يعكس عصرهم. تستدل على هذا بالقفطان المغربي «إنه قطعة ثقافية لها معانٍ كثيرة في الوجدان المغربي خصوصاً والعربي عموماً. لا يمكن المساس بأساسياته وما يتضمنه من جمال وأناقة ملتزمة، لكن امرأة عام 2024 ليست هي امرأة القرن الرابع عشر مثلاً. الظروف تغيَرت وكذلك إيقاع الحياة».

امرأة اليوم تحتاج إلى قفاطين بخطوط وتفاصيل عصرية، وهذا يعني منحها خفة وتفاصيل تُسهل الحركة فيها. تستطرد: «لا يجب تغيير ملامحه تماماً بحجة التجديد، كأن نقدمه بتنورة قصيرة أو مكشوفاً يخدش المشاعر، فهذا ينبع عادة من تصور خاطئ لمعنى التجديد والمعاصر».

بينما كانت التفاصيل تعبِر عن انتمائها الشخصي ظلت الخطوط عالمية تخاطب كل الأذواق (أ.ف.ب)

سارة شرايبي مثل غيرها من المصممين المغاربة، لها خط خاص بالقفطان. قطعة لا يمكن تجاهلها بالنسبة لأي مصمم مغربي. فهو متجذر في الثقافة والحياة اليومية. لا تستغني عنه المرأة المغربية في الأعراس والحفلات والمناسبات الدينية وغيرها. لكنها تحرص أن تُطعِمه بلمسات تحاكي الـ«هوت كوتور». فالمسألة هنا بالنسبة لها «لا تتعلق بالاعتزاز بقطعة أيقونية ولا هي معركة هوية بقدر ما هي معركة أناقة... لا يفرق لدي أن أصمم قفطاناً أو فستاناً، المهم أن يكون مبتكراً وراقياً يتكلم لغة مغربية وشرقية سليمة وأنيقة».


مقالات ذات صلة

​هادي سليمان يغادر «سيلين» ومايكل رايدر مديرها الإبداعي الجديد

لمسات الموضة صورة أرشيفية لهادي سليمان تعود إلى عام 2019 (أ.ف.ب)

​هادي سليمان يغادر «سيلين» ومايكل رايدر مديرها الإبداعي الجديد

أعلنت دار «سيلين» اليوم خبر مغادرة مديرها الإبداعي هادي سليمان بعد ست سنوات. لم يفاجئ الخبر أحداً، فإشاعات قوية كانت تدور في أوساط الموضة منذ مدة مفادها أنه…

لمسات الموضة حافظ أسبوع باريس على مكانته بثقة رغم أنه لم ينج تماماً من تبعات الأزمة الاقتصادية (لويفي)

الإبداع... فن أم صناعة؟

الكثير من المصممين في موقف لا يُحسدون عليه، يستنزفون طاقاتهم في محاولة قراءة أفكار المسؤولين والمستهلكين، مضحين بأفكارهم من أجل البقاء.

جميلة حلفيشي (لندن)
لمسات الموضة عرض ريتشارد كوين كان مفعماً بالأمل والتفاؤل... وهو ما ترجمه بالورود والألوان الفاتحة (أ.ف.ب)

أسبوع لندن للموضة يسترجع أنفاسه... ببطء

تشعر أحياناً أن مصمميه يتلذذون بالأزمات ويستمدون منها أكسجين الابتكار. هذا العام يحتفل بميلاده الـ40 مؤكداً أن الأزمات لم تقضِ عليه بقدر ما زادته عزماً.

جميلة حلفيشي (لندن)
لمسات الموضة اكتسب الريش هذه المرة مرونة وديناميكية شبابية (آسبري لندن)

الأميرة نورة الفيصل تضخ «آسبري لندن» بالحيوية

تأمل «آسبري» أن تحقق لها هذه المجوهرات نفس النجاح المبهر الذي حققته كبسولة الحقائب في العام الماضي. كانت الأسرع مبيعاً في تاريخها الممتد لأكثر من 200 عام.

جميلة حلفيشي (لندن)
لمسات الموضة بنطلون الجينز الواسع... كيف تلبسينه على طريقة النجمات؟

بنطلون الجينز الواسع... كيف تلبسينه على طريقة النجمات؟

يجمع الأناقة بروح بوهيمية، لكن للأسف لا يناسب الكل؛ لهذا يحتاج إلى بعض الحيل كي تتمكن صغيرات الحجم تحديداً من الاستمتاع به، مثلهن مثل عارضات الأزياء.

جميلة حلفيشي (لندن)

أسبوع لندن للموضة يسترجع أنفاسه... ببطء

عرض ريتشارد كوين كان مفعماً بالأمل والتفاؤل... وهو ما ترجمه بالورود والألوان الفاتحة (أ.ف.ب)
عرض ريتشارد كوين كان مفعماً بالأمل والتفاؤل... وهو ما ترجمه بالورود والألوان الفاتحة (أ.ف.ب)
TT

أسبوع لندن للموضة يسترجع أنفاسه... ببطء

عرض ريتشارد كوين كان مفعماً بالأمل والتفاؤل... وهو ما ترجمه بالورود والألوان الفاتحة (أ.ف.ب)
عرض ريتشارد كوين كان مفعماً بالأمل والتفاؤل... وهو ما ترجمه بالورود والألوان الفاتحة (أ.ف.ب)

هل كان يكفي الحضور المكثف للنجوم والمشاهير من أمثال عرّابة الموضة أنا وينتور، والمغني هاري ستايلز، والمغنية تشارلي إكس سي إكس، والعارضة المخضرمة جيري هول، أن يعيد لأسبوع لندن بريقه، أو يُنقذه من الركود الذي يعاني منه منذ عدة مواسم؟ الجواب وبكل بساطة أن أسبوع لندن كان ولا يزال يعتمد على نفسه. لربيع وصيف 2025 الأسبوع الماضي أكد مرة أخرى أن قوته تكمن في أبنائه وروحهم المتمردة أولاً وأخيراً.

مجموعة كبيرة من المشاهير تتوسطهم أنا وينتور حضروا أسبوع لندن بشكل مكثف (أ.ف.ب)

لا يختلف أي متابع على أن أسبوع لندن يمر منذ فترة بمرحلة عصيبة جعلته باهتاً وبارداً مقارنة بغيره. أسابيع الموضة العالمية الأخرى؛ باريس وميلانو ونيويورك، استطاعت أن تتخطى الأزمة الاقتصادية العالمية بخطوات أسرع منه. أما هو، فظل يتخبط بين شح الإمكانات وتبعات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

حتى دار «بيربري» التي كانت تُزوِّده بما يكفي من شحنات قوة وبريق، تشهد حالياً تراجعاً كبيراً في المبيعات والإيرادات، ورغم التحاق المصمم دانييل لي بها، وكل الآمال التي عُقدت عليه ليرتقي بها إلى مصاف الكبار، برفع أسعار منتجاتها، لم يحقق الأهداف المطلوبة منه؛ ليس لأنه يفتقد الإبداع، بل فقط لأن التوقيت ليس في صالحه، إضافة إلى أن استراتيجية رفع الأسعار لم تخدمه. المشكلة أن الدار تناست أن قوتها تكمن في مخاطبتها الطبقات المتوسطة المتعطشة لدخول نادي الأناقة.

في عرض «بيربري» عاد المصمم دانييل لي إلى البدايات ولعب على وظيفية الأزياء بلغة عصرية (بيربري)

استدركت الدار الموقف. ولأن المصمم دانييل لي مشهود له بالموهبة والإبداع، وجّهت انتباهها إلى الجانبين التسويقي والإداري؛ إذ عيّنت جاشوا شولمان رئيساً تنفيذياً جديداً لها، على أمل أن يُحقق لها ما حققه في دار «كوتش» التي عمل فيها رئيساً تنفيذياً، ولا سيما أن هناك نقاط تشابه كثيرة بين العلامتين. عرض الدار لربيع وصيف 2025، والذي أقيم في آخر يوم من أيام الأسبوع اللندني، أعطى إشارات قوية بالاتجاه الجديد. كانت الأزياء والأكسسوارات بنكهة تجارية، وفي الوقت ذاته عملية بالمعنى الوظيفي، تستحضر بدايات الدار. لكن دانييل لي أضفى عليها لمساته العصرية لتخاطب شريحة الشباب، من خلال القصات والتفاصيل، مثل السحابات التي ظهرت في أجزاء كثيرة والجيوب المتعددة التي لم يكتفِ بها المصمم في السترات والمعاطف، بل شملت البنطلونات التي امتدت فيها إلى أسفل الساق لتصل إلى الكاحل.

جنوح مصممي لندن للغرابة وإحداث الصدمة لم يختفِ تماماً (أ.ف.ب)

لكن ما يُحسب لأسبوع لندن دائماً هو روح التحدي التي يتحلى بها ولم تفارقه في أي فترة من فتراته. تشعر أحياناً أنه يتلذذ بالأزمات ويستمد منها أكسجين الابتكار. هذا العام يحتفل بميلاده الـ40. تاريخه يشهد أنه مر بعدة تذبذبات، لم تقضِ عليه بقدر ما زادته عزماً. في معرض استعادي للأسبوع، عُلّقت مقولة كتبتها محررة الأزياء كاثرين صامويل في عام 1993 تقول: «أثبت مصممو أسبوع لندن أن الشخصية البريطانية تزيد قوة في المواقف الصعبة».

اللافت أن المعرض لا يُسلط الضوء على النجاحات والإنجازات التي حققها الأسبوع بقدر ما يركّز على الأوقات الصعبة التي أثرت عليه، بدءاً من الركود في الثمانينات، إلى أحداث 11 سبتمبر (أيلول) والأزمة المالية في عام 2008، وأخيراً وليس آخراً الأزمة الحالية. فيها كلها، أكّد أن الإبداع يولد من رحم الأزمات، وأن مصمميه لا يستسيغون الهدوء أو السكينة. شارك في الأسبوع الحالي 72 مصمماً مال بعضهم للعصري بنكهة تجارية تباينت جرعاتها، وبعضهم جنح للغرابة بشكل غير آبه للتسويق؛ لأنهم يتوجهون لشريحة معينة وقليلة.

ريتشارد كوين قدم تشكيلة حالمة وفخمة كان واضحاً توجهه فيها إلى زبونات منطقة الشرق الأوسط (أ.ف.ب)

لكن غالبيتهم شحذوا ملكاتهم الإبداعية لبث التفاؤل والأمل بأن العاصفة مهما طالت ستمر بسلام. هذه الطاقة الإيجابية ظهرت في تشكيلة ريتشارد كوين في فساتين طبعتها ورود ضخمة وتصاميم تتراقص على نغمات كلاسيكية تستحضر حفلات النجوم والنخبة في ثلاثينات القرن الماضي. بفخامتها وتطريزاتها الغنية، كان واضحاً أنه يخاطب بها زبونات الشرق الأوسط. هذه الإيجابية ظهرت أيضاً في عروض روكساندا وجي دبليو أندرسون و«توغا» وإيرديم، وهلم جرا من الأسماء.

في عرض جي دبليو أندرسون، مثلاً، تجلت في تنورات قصيرة واسعة بشكل مبالغ فيه، وفساتين قصيرة يبدو بعضها وكأنه مصنوع من قماش تم تقطيعه بالتساوي بشكل مستطيل، ثم تجميعه من جديد.

لعب المصمم إيرديم على الازدواجية بين الذكوري والأنثوي بأسلوب سردي وفني جديد (إيرديم)

روح الدعابة التي سادت عرض أندرسون، غابت في تشكيلة «إيرديم». فهو بطبعه جاد يحب التاريخ ويستقي منه دائماً قصصاً ملهمة. هذه المرة ترجم رواية «بئر العزلة» (The well of Loneliness) للكاتبة رادكليف هول، بأسلوب جمع فيه التفصيل الذكوري بالتصميم الأنثوي في تداخل يحاكي الـ«هوت كوتور». فالرواية تحكي قصة امرأة عاشت كرجل طوال حياتها. تلبس ملابسه وتصممها في شارع «سافيل رو» الشهير. والطريف أن أمرها لم يُكشف حتى مماتها. رغم أنه كان من السهل وقوعه في المحظور ويقدم ترجمة حرفية، فإن إيرديم نجح في تقديم درس عن كيف يمكن أن يكتسب التفصيل الرجالي نعومة من دون أن يُرسل أي إيحاءات معينة.

لين فرنكس... الأم الروحية للأسبوع

انطلق أسبوع لندن على يد لين فرنكس، أقوى وأشهر امرأة في عالم العلاقات العامة إلى حد أنها ألهمت شخصية بطلته إيدينا مونسون التي لعبتها باقتدار الممثلة جينفر سوندرز في مسلسل «أبسولوتلي فابيلوس» (Absolutely Fabulous)، وهو واحد من المسلسلات الناجحة لحد الآن. يمكن القول إنها من أرست قواعد مهنة العلاقات العامة في بريطانيا. ولأنها كانت تمتلك وكالة تمثل مجموعة من المصممين البريطانيين وعارضات الأزياء، راودتها فكرة تأسيس منصة تستعرض مواهبهم وقدراتهم للعالم، أسوة بأسابيع نيويورك وباريس وميلانو. وهكذا وُلدت فكرة إطلاق أسبوع لندن للموضة في عام 1984. ما إن نجحت في إقناع عملائها ومعارفها لتمويله، حتى بدأت بالبحث عن مكان مناسب، وجدته في حديقة «معهد الكومنويلث» بهولاند بارك. هناك نصبت خيمة كبيرة احتضنت أول موسم لأسبوع طبعته لحد الآن جينات شبابية تميل إلى التمرد والاختلاف الصادم أحياناً. بعد ثلاث سنوات، تغير المكان إلى ما أصبح يعرف الآن بقاعة «ساتشي» بالقرب من محطة «سلوان سكوير».

كان هذا نقلة إيجابية غيّرت مصير الموضة؛ إذ وفّر المكان مساحة أكبر، وبدأ يجذب أنظار مشاهير مثل الأميرة الراحلة دايانا، والمغني بوي جورج، وحتى مادونا أنذاك، الأمر الذي شجع على دخول ممولين جدد، ومن ثم زيادة ميزانيته.

هذا النجاح تطلب مكاناً أكبر، توفر في قاعة «أولميبيا»، ودخل خريطة الموضة العالمية بشكل رسمي. بين عامي 1988 و1989، مثلاً، شهد الأسبوع أول ظهور لكل من ناعومي كامبل وكايت موس قبل أن يسطع نجمهما للعالمية.

40 عاماً من النجاحات والتذبذبات

المصمم الآيرلندي الأصل واكب أسبوع لندن منذ تأسيسه في عام 1984 (رويترز)

لم يشهد أي أسبوع التذبذبات التي شهدها أسبوع لندن ولا عزيمته على البقاء، منذ انطلاقه في عام 1984. بدأ متواضعاً لكن جامحاً بفورة الشباب. كان كل المصممين المشاركين حديثي التخرج في معاهد تعلموا فيها أن الإبداع هو الجوهر، وكل شيء سواه يجب ألا يدخل في حساباتهم مهما كان الثمن الذي سيدفعونه. وهكذا جنّدوا جموحهم الإبداعي لدعم الأسبوع.

أعطى المصمم إيرديم درساً في كيف يمكن تنعيم التفصيل الذكوري (إيرديم)

لكن هذا الصعود سرعان ما تعرض للكبوة الأولى في التسعينات بسبب الأزمة الاقتصادية. في هذه الفترة بدأت تتسلل قوى جديدة في باريس وميلانو ونيويورك، تُرجّح الجانب التجاري أكثر، الأمر الذي وضع لندن في مأزق. لم يكن لمصمميها إلمام بهذا الجانب ولا قابلية لتقبّل فكرته. كانوا متشبّعين بفكرة أن الابتكار يأتي على حساب أي شيء آخر.

تقلُّص الميزانية لم يثنِ المسؤولين عن الاستمرار. ففي عام 1993، تم إطلاق مشروع «نيو جين»، أو الجيل الجديد، لدعم المصممين الشباب الذين لا تتوفر لهم إمكانات مادية للاستمرار، وكان من أوائل من استفادوا منه مصمم جديد اسمه ألكسندر ماكوين، وبعده كثيرون مثل إيرديم وغيره. كل من أتوا بعد لين فرنكس احترموا فكرتها أن الوسيلة الوحيدة التي يمكن أن يتميز بها الأسبوع عن باقي أسابيع الموضة العالمية هي احتضان الشباب. وبالفعل لا تزال العاصمة البريطانية ولّادة للنجوم لحد الآن. لا تحتضنهم وتفتح لهم أبوابها فحسب، بل تصدّرهم أيضاً إلى باريس.

ريتشارد كوين عاد إلى الثلاثينات ليستقي منها تصاميم خاصة بالحفلات والأعراس (رويترز)

لكن شتان بين أزمات الماضي وأزمة اليوم. فهي الآن أكثر تعقيداً؛ لأنها عالمية أثرت على صنّاع الموضة في كل مكان، الأمر الذي جعل المنافسة أكثر شراسة لنيل قسط من الأرباح. كل العواصم في فترة من الفترات صارعت للبقاء والنجاح، حتى من ينضوون تحت مجموعات ضخمة مثل «إل في إم إش» و«كيرينغ» و«ريشمون». الفرق أن هؤلاء لديهم الإمكانات التي تغطي أي تباطؤ في النمو أو الخسارة لسنوات، في حين أن أغلب المصممين في بريطانيا شباب مستقلون. «روكساندا» مثلاً كانت ستُعلن إفلاسها لولا تدخل مستثمرين مؤخراً.

كيف يواجه المسؤولون الأزمة؟

بعد أربعين عاماً، كان لا بد أن يستوعب المشرفون على مجلس الموضة البريطانية أن الابتكار والأفكار الجديدة لا يكفيان. كان الحل هو تبني مفهوم الاستدامة والحث على إعادة النظر في سلوكيات الاستهلاك للحد من سلبياتها، وخصوصاً أن الجيل الصاعد الذي تُعوّل عليه مستاء من فكرة أن الموضة من بين أكثر القطاعات تلويثاً للبيئة.

من هذا المنظور افتتح الأسبوع هذا الموسم، بعروض لأزياء مستعملة بالتعاون مع منصة «إي باي» و«مؤسسة أوكسفام الخيرية» وموقع بيع السلع المستعملة الليتواني «فينتد» (Vinted)، وهو ما علّقت عليه ماريان جيبلز من موقع «فينتد» بقولها إن مواجهة الأفكار المسبقة ضرورية؛ «إذ يمكن أن تكون الأزياء المستعملة أنيقة وبأسعار معقولة».

المصممة والناشطة البريطانية كاثرين هامنيت (77 عاماً) أيضاً شاركت في هذه العروض المستدامة بأحد قمصانها الشهيرة التي تحمل رسالة: «لا مزيد من ضحايا الموضة»، بعد مرور 40 عاماً على أول عرض لها خلال أسبوع الموضة في عام 1984.