التأثير الإسلامي يبرز من جديد

كتب عن أمجاد الفنون الإسلامية ومعارض وأزياء تستحضر زرياب وجمال الأندلس

زرياب وحدائق قصر قرطبة ومعمارها تجلّت في تشكيلة غنية من إبداع أروى العماري (أروى العماري)
زرياب وحدائق قصر قرطبة ومعمارها تجلّت في تشكيلة غنية من إبداع أروى العماري (أروى العماري)
TT

التأثير الإسلامي يبرز من جديد

زرياب وحدائق قصر قرطبة ومعمارها تجلّت في تشكيلة غنية من إبداع أروى العماري (أروى العماري)
زرياب وحدائق قصر قرطبة ومعمارها تجلّت في تشكيلة غنية من إبداع أروى العماري (أروى العماري)

تأثير التراث الإسلامي على الفنون الغربية لا يختلف عليه اثنان، يُعيده البعض إلى الفتوحات ورحلات الحج إلى بيت المقدس في العصور الوسطى وغيرها. وبفضل هذه الرحلات، وصلت الفنون الإسلامية، من الهندسة المعمارية، إلى النقش على الخشب والجص والجدران، إلى أوروبا.

وهكذا بين رحلة وجولة أصبح المستشرقون والحِرفيون يستعيرون من فنون الشرق مفرداتٍ تُثري أعمالهم وتتماهى معها بسهولة. عن هذه التأثيرات، التي تمتد من عمق الشرق إلى أقصى الأندلس، أصدرت دار «أسولين» للنشر مؤخراً، ثلاثة كتب تتناول مدى هذا التأثير؛ ليس على الفنون فحسب، بل على عالم الترف ككل. الأول بعنوان «Morocco: kingdom of lights (المغرب: مملكة الضوء)»، ويركز على المغرب بوصفه بلداً تنصهر فيه روافد ثقافية إسلامية وأفريقية وأمازيغية وأندلسية، والثاني بعنوان «المغرب.. الفنون الزخرفية (Moroccan, Decorative Arts)» يستعرض الفنون الحِرفية وتقاليدها في كل المدن، من الشمال إلى الجنوب، ولا سيما أنه أكثر بلد حافظ على الإرث الأندلسي حياً في المخيّلة، كما في الحياة اليومية من خلال المطبخ والأزياء والحِرف اليدوية، مثل الجص والنقش على الخشب والفسيفساء، وغيرها.

غلاف كتاب «المغرب: الفنون الزخرفية» (أسولين)

أما الكتاب الثالث فبعنوان «Golden Opulence: 500 Years of Luxuriant Style (البذخ الذهبي: 500 عام من الأناقة الفاخرة)»، ويتناول مدى تأثير الثقافة الإسلامية والعثمانية تحديداً على صناعة الترف والموضة، لكن يبقى القاسم المشترك بين الكتب الثلاثة الانبهار الغربي بثراء ثقافة الشرق، وكيف شكّلت مغناطيساً جذب المستشرقين والمبدعين والحِرفيين على حد سواء.

غلاف كتاب «Golden Opulence: 500 Years of Luxuriant Style (البذخ الذهبي: 500 عام من الأناقة الفاخرة)» (أسولين)

غنيٌّ عن القول إنه كان لصُناع الموضة نصيب من هذا الإرث، منذ بداية القرن العشرين، حيث يبرز اسم المصمم بول بواريه الذي يمكن وصفه بالمصمم المستشرق. استلهم سراويل الحريم، كما نعرفها اليوم، من لوحات تجسد صور حريم السلاطين، وكانت ثورية حينها، لكنها صمدت لتدغدغ خيال كثير من المصممين الذين أتوا بعده.

بعده جاء سان لوران، ثم فالنتينو وألكسندر ماكوين وكريستيان لوبوتان وجورجيو أرماني وأنطونيو ماراس ورفعت أوبيك وحسين تشالايان وإيرديم وديتشي كاييك، وغيرهم ممن نهلوا من ألوان الشرق ونقشاته، وطبعاً شاعريته، فكل واحد منهم تأثّر في مرحلة من مشواره إما بالأشكال الهندسية أو المقبَّبة التي تُميّز المعمار الإسلامي، أو المشربيات والزخرفات التي طرزوها على أقمشة من المخمل أو البروكار، وحتى الجِلد.

كيف جرى تجسيد الهندسة المعمارية والفنون الزخرفية في الموضة (تصوير لعزيز هاماني)

كل هذا بعيداً عن الصورة النمطية للأزياء الإسلامية المحتشمة، فحتى عندما راجت هذه الموضة العالمية، ترجمها المصممون الغربيون بأساليب تتضمن إبداعاً فنياً أرادوه معبراً عن لقاء الحضارات. لم يكتفوا بالأكمام الطويلة والياقات العالية والاستغناء عن الفتحات المثيرة في الفساتين الواسعة والطويلة، وتفنّنوا كذلك في طرح الإيشاربات وكل أغطية الرأس عموماً. جاء بعضها على شكل قلنسوات تغطي الرأس ونصف الوجه لتؤطّره بشكل جميل، وبعضها على شكل عمامات بأقمشة من الساتان تزينها أحياناً بروشات من الماس أو الذهب. هذه العمامات ظهرت، في السنوات الأخيرة، في عروض أنطونيو ماراس ولويفي وبرادا، الأمر الذي كان له وقع مثير أدخلها الحياة اليومية، بعد أن كانت مقتصرة على مناسبات معينة.

من تشكيلة أروى العماري التي استلهمت فيها من الأندلس هندسيتها ونقشاتها (أروى العماري)

بَيْد أنه من الخطأ القول إن هذا الانبهار يقتصر على المصممين الغربيين، فمع ظهور مصممين عرب رسّخوا مكانتهم عالمياً من أمثال إيلي صعب وزهير مراد وجورج حبيقة وجورج شقرا وغيرهم، أخذت هذه التأثيرات الشرقية شكلاً جديداً مفعماً بالرومانسية والشاعرية. ومؤخراً طرحت المصممة السعودية أروى العماري تشكيلة لا تقلّ شاعرية قالت إنها استوحتها من حدائق الأندلس ومعمار قصر قرطبة.

تقول لـ«الشرق الأوسط»: «الموضة استقت كثيراً من فنون العمارة العربية وموسيقاها وشعرها، وهذا أمر له مبرراته؛ لأنك لا بد أن تنبهر بجمالها وثرائها التاريخي، وليس أدلَّ على هذا مما يثيره قصر قرطبة بمعماره وحدائقه من مشاعر في النفس». لهذا لم يكن غريباً أن يظهر كثير من النقشات الإسلامية والموتيفات الأندلسية، فضلاً عن الخطوط الهندسية في تشكيلتها.

الأندلس بورودها وفسيفسائها وشاعريتها كانت مصدر إلهام للمصممة أروى العماري (أروى العماري)

تشرح أروى أن هذه التشكيلة كانت تحية لحقبة ذهبية في التاريخ الإسلامي: «شهدت كثيراً من الإبداعات والعطاءات في مجالات شتى، بدءاً من الطب والهندسة، إلى العلوم الاجتماعية والشعر والموسيقى، الأمر الذي أثّر على أسلوب حياة الناس وتطورهم الاجتماعي والإنساني والثقافي».

وتُتابع: «على ذكر الشعر والموسيقى مثلاً لا بد من التنويه هنا بمدى تأثير زرياب على الموضة؛ فقد كان سابقاً لأوانه، لم يكن موسيقياً ماهراً فحسب، بل أيضاً مصمم أزياء وصورة، كان فناناً شاملاً وضع بصماته على طريقة تصميم موائد الطعام، كما على الموضة والأناقة عموماً، بدليل أنه كان أول من بدأ استعمال اللون الأبيض في الصيف».

طوق شعر «شرقيّ» من كارتييه باريس، 1911 حقوق الصورة: © دائرة الثقافة والسياحة - أبوظبي. تصوير: إسماعيل نور/ سيينغ ثينغز

عالم المجوهرات لم يَسلم من التأثير الشرقي والإسلامي، وليس أدلّ على هذا من دار «كارتييه»، التي بدأت علاقتها بالمنطقة في بداية القرن الماضي، بعد رحلة قام بها جاك كارتييه، حفيد مؤسس الدار إلى الخليدد. كان هدفه من هذه الرحلة استكشاف سوق اللؤلؤ، لتتطور العلاقة إلى ما هو أكثر من مجرد تبادل السلع. كان جاك مدفوعاً بالفضول للتعرف على ثقافة غريبة تماماً عما تعوّد عليه. عند وصوله إلى الخليج، انبهر بما تُخفيه من أسرار جمالية وتقاليد عريقة تظهر في المشربيات وأسلوب العيش.

في هذه الزيارة وُلدت رؤية جديدة سجلها في مذكراته، وتبلورت، فيما بعد، فيما تشير إليه الدار الفرنسية في أرشيفاتها بـ«نشأة الحداثة في بداية القرن العشرين». في هذا السياق يعلّق بيير رينيرو، مدير الصورة والأسلوب والتراث فيها، قائلاً: «لقد أدى الفن الإسلامي دوراً محورياً ترك أثراً ملموساً وهيكلياً في أسلوب كارتييه الإبداعي منذ بداية القرن العشرين. ولا يزال هذا الأثر ممتدّاً ويتسع نطاقه حتى يومنا هذا؛ وذلك بفضل ثراء الأنماط الهندسية وتشكيلاتها المتعددة».

جانب من معرض «كارتييه... الفنّ الإسلامي ومنابع الحداثة» في متحف اللوفر بأبوظبي (تصوير إسماعيل نور)

هذه العلاقة تستعرضها «كارتييه» حالياً في متحف اللوفر بأبوظبي في معرض بعنوان «كارتييه.. الفنّ الإسلامي ومنابع الحداثة»، يتناول هذا التأثر والتأثير من خلال أكثر من 400 قطعة فنية جرى تجميعها من متحف اللوفر أبوظبي، ومتحف الفنون الزخرفية، ومتحف اللوفر، إضافة إلى مجموعة من مقتنيات وأرشيفات دار كارتييه. هناك أيضاً قطع جرت استعارتها من «لوبوتيه باليه» - متحف الفنون الجميلة في باريس، عبارة عن لوحات ورسومات وقِطع فنية مصغرة أو قطع «زليج»، كلها تتغنى بروائع الفن الإسلامي، وتلك العلاقة التي ربطت الدار بالعالم الإسلامي، وجسّدته في مجوهرات رفيعة وراقية، فمِن أكثر ما يُسلّط عليه المعرض الضوء تلك اللغة التي ظهرت في أسلوب كارتييه، سواء في تصميم المجوهرات أم في مجال الفن.

علبة سجائر تعود إلى 1930 من مجموعة «كارتييه» ذهب، لازورد، حجر الفيروز، ياقوت أزرق، ألماس حقوق الصورة: © دائرة الثقافة والسياحة - أبوظبي

كل قطعة، سواء أكانت فسيفساء أم علبة سجائر أم تاجاً مرصعاً باللؤلؤ أو الماس، تحكي كيف فتحت الرحلة التي قام بها جاك كارتييه في عام 1912 إلى منطقة الخليج، الأبوابَ لاستكشاف أنماط جديدة وأشكال هندسية وزخرفات قديمة عبّرت عنها بشكل عصري في وِرشها الباريسية منذ عقود طويلة.

تاج من كارتييه، 2012 حقوق الصورة: © دائرة الثقافة والسياحة - أبوظبي. تصوير: إسماعيل نور/ سيينغ ثينغز

الجميل في المعرض أنه بمثابة رحلة تأخذ الزائر إلى أعماق التاريخ وأمجاده، عبر عدة أقسام يستكشف كل واحد منها المصادر التي استمدّت منها الدار الإلهام، وهي تشرح أساليبها الإبداعية، فهناك أكثر من 400 قطعة فنية من روائع الفن الإسلامي، تشمل المجوهرات، واللوحات، والرسومات، والقطع الفنّية المصغّرة، والمنسوجات، والصور الفوتوغرافية، والمواد الأرشيفية تجعل الجولة في المعرض بمثابة رحلة في عُمق التاريخ.


مقالات ذات صلة

​هادي سليمان يغادر «سيلين» ومايكل رايدر مديرها الإبداعي الجديد

لمسات الموضة صورة أرشيفية لهادي سليمان تعود إلى عام 2019 (أ.ف.ب)

​هادي سليمان يغادر «سيلين» ومايكل رايدر مديرها الإبداعي الجديد

أعلنت دار «سيلين» اليوم خبر مغادرة مديرها الإبداعي هادي سليمان بعد ست سنوات. لم يفاجئ الخبر أحداً، فإشاعات قوية كانت تدور في أوساط الموضة منذ مدة مفادها أنه…

لمسات الموضة حافظ أسبوع باريس على مكانته بثقة رغم أنه لم ينج تماماً من تبعات الأزمة الاقتصادية (لويفي)

الإبداع... فن أم صناعة؟

الكثير من المصممين في موقف لا يُحسدون عليه، يستنزفون طاقاتهم في محاولة قراءة أفكار المسؤولين والمستهلكين، مضحين بأفكارهم من أجل البقاء.

جميلة حلفيشي (لندن)
لمسات الموضة عرض ريتشارد كوين كان مفعماً بالأمل والتفاؤل... وهو ما ترجمه بالورود والألوان الفاتحة (أ.ف.ب)

أسبوع لندن للموضة يسترجع أنفاسه... ببطء

تشعر أحياناً أن مصمميه يتلذذون بالأزمات ويستمدون منها أكسجين الابتكار. هذا العام يحتفل بميلاده الـ40 مؤكداً أن الأزمات لم تقضِ عليه بقدر ما زادته عزماً.

جميلة حلفيشي (لندن)
لمسات الموضة اكتسب الريش هذه المرة مرونة وديناميكية شبابية (آسبري لندن)

الأميرة نورة الفيصل تضخ «آسبري لندن» بالحيوية

تأمل «آسبري» أن تحقق لها هذه المجوهرات نفس النجاح المبهر الذي حققته كبسولة الحقائب في العام الماضي. كانت الأسرع مبيعاً في تاريخها الممتد لأكثر من 200 عام.

جميلة حلفيشي (لندن)
لمسات الموضة بنطلون الجينز الواسع... كيف تلبسينه على طريقة النجمات؟

بنطلون الجينز الواسع... كيف تلبسينه على طريقة النجمات؟

يجمع الأناقة بروح بوهيمية، لكن للأسف لا يناسب الكل؛ لهذا يحتاج إلى بعض الحيل كي تتمكن صغيرات الحجم تحديداً من الاستمتاع به، مثلهن مثل عارضات الأزياء.

جميلة حلفيشي (لندن)

أسابيع الموضة العالمية لربيع وصيف 2025 ترقص على حبال السهل الممتنع

حافظ أسبوع باريس على مكانته بثقة رغم أنه لم ينج تماماً من تبعات الأزمة الاقتصادية (لويفي)
حافظ أسبوع باريس على مكانته بثقة رغم أنه لم ينج تماماً من تبعات الأزمة الاقتصادية (لويفي)
TT

أسابيع الموضة العالمية لربيع وصيف 2025 ترقص على حبال السهل الممتنع

حافظ أسبوع باريس على مكانته بثقة رغم أنه لم ينج تماماً من تبعات الأزمة الاقتصادية (لويفي)
حافظ أسبوع باريس على مكانته بثقة رغم أنه لم ينج تماماً من تبعات الأزمة الاقتصادية (لويفي)

اختُتمت اليوم دورة الموضة لموسمي ربيع وصيف 2025. انطلقت من نيويورك وانتهت في باريس بعد أن مرَت بلندن وميلانو. الأجواء في العواصم الأربع تشابهت إلى حد كبير، حيث فرض الواقع السياسي والاقتصادي نفسه. أول محطة كانت في نيويورك. باءت محاولات المصممين المشاركين في أسبوعها بعدم الخوض في السياسة بالفشل. أعلنوا تضامنهم مع مرشحة الحزب الديمقراطي كامالا هاريس بوضوح. فعلاقتهم بغريمها دونالد ترمب كانت ولا تزال متوترة، من جهة، وعرابة الموضة ورئيسة تحرير مجلة «فوغ» النسخة الأميركية أنا وينتور تدعم كامالا بكل ثقلها من جهة ثانية.

مصممو نيويورك حافظوا على شخصية أسبوعهم فحضر الأسلوب «السبور» إلى جانب الأنثوي الكلاسيكي (كارولينا هيريرا)

فيما يخص الأزياء، نجحت محاولاتهم في الإبقاء على شخصية أسبوعهم متميزة. غياب الابتكار الفني عوَضت عنه تصاميم أنيقة و«سبور» يسهل تسويقها للعالم. المحطة الثانية كانت في لندن. أسبوعها احتفل بـ40 عاماً على ميلاده وسط أزمة اقتصادية خانقة وأجواء سياسية متوترة. فهو لا يزال يعاني من تبعات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي والحرب الأوكرانية وما نجم عنهما من ركود. بيد أن ما يُحسب له أنه لا يزال صامداً ومتحدياً. فالأزمات ليست جديدة عليه، وطالما تغلَب عليها، بحكم أنه ومنذ تأسيسه في عام 1984، الحلقة الأضعف مادياً من بين كل عواصم الموضة العالمية. بيد أنه عوض عن هذا النقص بجنون الابتكار، النابع من جموح أبنائه لخض المتعارف عليه.

كيم جونز عاد إلى عام 1925 تاريخ تأسيس دار «فندي» لينسج منها خيوطاً عصرية (فندي)

أسبوع ميلانو في المقابل، جاء مسالماً، أو بالأحرى «يتوخى السلامة». فضل التجاري المطعم بالأسلوب الإيطالي على الدخول في أي جدالات جانبية، سياسية كانت أم فنية ثورية، وبالنتيجة نجح في تقديم تشكيلات متنوعة يمكن لأي امرأة أن تجد ما يناسبها منها. الحنكة التجارية ظهرت في عدة عروض منها عرض «فندي». مصممها البريطاني كيم جونز، بعد ثلاث أعوام من دخولها نجح في فهم جيناتها، الأمر الذي أكسبه الرضا والثقة في الوقت ذاته. في هذا الموسم، قدم تشكيلة تشير إلى أنه تجاوز مرحلة إثبات الذات، أولى فيها للأكسسوارات أهمية قصوى. فهو يعرف مثل غيره من المصممين أن نجاحه سيُقاس بأرقام المبيعات، وهذه الإكسسوارات، هي التي تحقق الإيرادات.

أغدق المصمم كيم جونز على المرأة بكم هائل من حقائب اليد المغرية (فندي)

عاد بأنظاره إلى تاريخ تأسيسها، وهو عام 1925، لينسج خيوطها بالحاضر من خلال فساتين تستحضر عشرينات القرن الماضي، أغدق عليها بالتطريزات والزخرفات. ورغم أنه جعل الأزياء ملعبه الإبداعي، فإن ما قدَمه من حقائب يد وأحذية وغيرها من الإكسسوارات، أكد أنه يعرف سوقه وقرأ نبض الشارع جيداً.

بعد شهر طويل، تستخلص مما تم تقديمه في كل عواصم الموضة، أن الإبداع يحتاج إلى مساحة من الحرية وأيضاً إلى الكثير من الجرأة والشجاعة، وهذا ما افتقده موسم ربيع وصيف 2025. تكاد تشم رائحة الخوف تنبعث من بين ثنايا وطيات أعمال العديد من المصممين. فالفشل يعني بالنسبة لهم استغناء المجموعات الضخمة عن خدماتهم. فهي لم تعد تمنحهم الوقت الكافي لتدارك أي خسارة أو كبوة، بعد أن تحولت ثقافة الموضة من فن إلى صناعة.

«فيرساتشي» هي الأخرى عادت إلى قديمها تستقي منه (فيرساتشي)

هذا الخوف أو الرهبة جعل العودة إلى الماضي، التيمة الغالبة على معظم الأسابيع. يغرفون من أيقوناته الناجحة ما يمكن تجديده، وبالتالي لم يكن استلهامهم هذه المرة حنيناً، بقدر ما كان تشبُثاً بالبقاء والاستمرار.

«فيرساتشي» عادت إلى عام 1997، ودولتشي غابانا إلى عام 1991، وميسوني إلى «تسعينياتها» و«فندي» إلى 1925. حتى التصاميم الخمسة والأربعون التي تضمنتها تشكيلة ميوتشا برادا وشريكها الفني راف سيمونز عبَرت هذه المرة عن رؤية مختلفة استوحتها من أزياء الدار «القديمة»، أوضحت أنها نتاج «مزج الماضي والحاضر».

ماريا غراتزيا تشيوري مصممة «ديور» قدمت تشكيلة مستوحاة من امرأة قوية ومستقلة (أ.ف.ب)

في باريس لم تختلف القصة كثيراً. ماريا غراتزيا تشيوري، مصممة دار «ديور» لعبت كعادتها على مفهوم النسوية الذي استنزفته منذ أن دخلت الدار في عام 2016.

لربيع وصيف 2025، لعبت على صورة كلاسيكية للمرأة الأمازونية حيث جمعت قصّات مختلفة من الأرشيف وأعادت ابتكارها. كان فستان «أمازون» Amazon الذي صمّمه «كريستيان ديور» لموسم خريف وشتاء 1951-1952، نقطة مرجعيّة لمفهوم الأنوثة المستقلّة والشجاعة بالنسبة لها.

غلبت على معظم العروض تصاميم يسهل تسويقها (إيترو)

وبما أن الحنين تكون له عادة نبرة رومانسية حالمة، فإن تكراره واجترار نفس الأفكار من الماضي هنا، يُذكرنا بمقولة أفلاطون بأن الإبداع الفني ما هو إلا شكل من أشكال التقليد. لكن المشكلة في صناعة الموضة لا تكمن في الاستلهام أو في نسج خيوط قديمة بأخرى جديدة، بل عندما يأتي على حساب دور المصمم الفني في وضع بصمات شخصية على ما يقترحه من منتجات.

التفسير الذي يتبادر إلى الذهن أن هذه الفئة من المصممين في موقف لا يُحسدون عليه، لأنهم غالباً ما يأتمرون بما تُمليه عليهم المجموعات الضخمة التي يعملون معها، وتقيس قدراتهم الفنية بما يحققونه من إيرادات في آخر السنة. لهذا السبب، فإنهم يستنزفون طاقاتهم في محاولة قراءة أفكار الغير، لإرضاء المسؤولين والمستهلكين على حد سواء، مُضحين بأفكارهم الشخصية.

في «موسكينو» لم تغب الشقاوة وروح الدعابة (موسكينو)

هذا لا يعني أن الإبداع والجمال غابا تماماً، فهناك فئة أخرى نجحت لحد ما، في وضع بصماتها الشخصية على أيقونات قديمة، بدءاً من كيم جونز في دار «فندي» أو فيليبو غرازيوللي، مصمم دار «ميسوني»، أو ماتيو تامبوريني مصمم دار «تودز» الجديد. هذا الأخير يعتبره نقاد الموضة الرجل المناسب في المكان المناسب. نجح لحد الآن في ترجمة الأسلوب الإيطالي بأسلوب بسيط ينضوي تحت مفهوم السهل الممتنع. في تشكيلته لربيع وصيف 2025، قالت الدار إنه احتفل بالذكاء الحرفي (Artisanal Intelligence)، علماً أن الدار كانت قد بدأت هذه الاحتفالية منذ فترة طويلة، كان آخرها في النسخة الستين لـ«بينالي البندقية 2024» الذي حضرته «تودز» كشريك وممول من خلال فعالية: فن الحرفيّة اليدوية... مشروع من توقيع كبار حرفي البندقية Venetian Masters.

تشتهر «تودز» بتطويع الجلد الطبيعي. يتحول على أيدي حرفييها بملمس الحرير (تودز)

مشروع يحتفل كما يشير عنوانه، بالحرفية الإيطالية وتقاليدها الفنية المتوارثة. لهذا كان من الطبيعي أن يُذكرنا المصمم تامبوريني في كل قطعة بأن الحرفية هي أساس الابتكار.

ما يُحسب له أنه وظف خياله ليأخذنا في رحلة متوسطية، لا تتطلب سوى أزياء منطلقة بتفصيل إيطالي مريح وألوان هادئة. من هذا المنظور، اقترح العديد من القطع المنفصلة يمكن أن تدخل خزانة أي امرأة في العالم. استعمل أقمشة صيفية تبث الانتعاش، لكن القطع المصنوعة من الجلد، من فساتين وتنورات بالبليسيهات، هي التي خطفت الأنظار. فالدار لها باع طويل في تطويع الجلود الطبيعية وجعلها في ملمس الحرير، وهذا ما أكدته في هذه المجموعة. أما بالنسبة لجرأة تامبوريني، فتمثلت في الأحجام السخية، التي كان المراد منها، كما شرح، خلق مساحة كافية بينها وبين الجسد لمنح المرأة الراحة وليس لخلق صدمات بصرية.

جيجي حديد في عرض «فيرساتشي» (فيرساشي)

دوناتيلا فيرساتشي، عبَرت عن حنينها للماضي بعفوية، شرحت أنها «تعبير تفاعليٌّ عن الحرّية». قامت بجولة في أرشيف الدار، قائلة إنه «منبع خبرة ومعرفة». وهكذا جاءت أزياء النّهار تحاكي لوحات رسمتها بعفوية طفولية، لعبت فيها على أيقونات قديمة، مثل طبعة «ميدوزا» ذات اللّمسات الذّهبية نسَقتها مع لوحة من الألوان البنّية. رسمت أيضاً زهورها البرِية المفضلة على الأقمشة، إما بألوان الباستيل الهادئة أو بالأحمر كما هو الحال بالنسبة لورود الخشخاش التي أخذت شكلاً ثلاثيّ الأبعاد في قماش جاكار. ظهرت هذه الورود أيضاً في حواف فساتين وقمصان رجالية. القاسم المشترك بين أغلبها أن البني كان الأرضية التي استندت عليها.

كانت عروض باريس أكثر ثقة وهو ما ظهر في عدة عروض مثل «لويفي» (لويفي)

في كل الأحوال، ورغم أن هذه الدورة لم تقدم أي جديد بالمعنى الثوري، فإنها التزمت بالواقع وما تُتقنه كل عاصمة. نجحت نيويورك في الحفاظ على جيناتها السبور إلى جانب تصاميم تتراقص على كلاسيكية معاصرة. ولندن رغم أزمتها حاولت تحقيق المعادلة بين التجاري والفني، بينما كانت ميلانو مقنعة بالتزامها بالحرفية وعلاقتها الطويلة بصناع الأناقة والجمال. أما باريس، وهي مسك الختام، فربما تكون هي الأكثر حظاً وحفاظاً على بريقها. صحيح أنها هي الأخرى لم تنجُ من سلبيات الأزمة الاقتصادية العالمية، إلا أنها برهنت أنها الأكثر قدرة على تجاوزها، وهو ما تجلّى في جرعة أكبر من التفنن في الكثير من العروض، نذكر منها «سكاباريللي» و«لويفي» و«شانيل» وغيرها.