لم ينقطع خيط الشوق بين عبد محفوظ ومدينة قلبه بيروت. أمضى مصمّم الأزياء اللبناني السنوات الثلاث الأخيرة في دبي، حيث افتتح محلّاتٍ جديدة، وزاول نشاطه من هناك. لكن بين الموسم والآخر، كان الحنين إلى الوطن يزداد أضعافاً، ما دفع بمحفوظ إلى اتّخاذ قرار الرجوع. شقّ عروةً في ثوب المدينة الداكن، ودخل منها حاملاً ورودَ ما بعد الخيبات والدماء والانكسارات.
يشارك محفوظ، في حديث مع «الشرق الأوسط»، لهفته لهذه العودة، التي يفتتحها بمجموعة من فساتين الأعراس. ليس من قبيل الصدفة أن تحمل المجموعة اسم «زهور العروس» (Bridal Blossom). يريد محفوظ لعودته أن تكون صفحةً بيضاء، وأن تُزهر «نهضةً شخصية وفنية بعد الظروف القاهرة التي بدّدت جنى العمر، وحطّمت المشغل في وسط بيروت جرّاء انفجار المرفأ».
الوقت ليس للأسى ولا للحسرة، فمحفوظ «شغوف بالمهنة أكثر من أي وقت»، وفق ما يؤكد. بعد 40 سنة في المجال، لا يدع عبور الزمن يغلبه، فالأفكار الجديدة متّقدة، أحدث بنات أفكاره هي عرائس الأزهار، التي صمّمها بالتعاون مع المديرة الفنية ضمن فريقه مصمّمة الأزياء الإيرانية مريم بختياري.
عن المجموعة الجديدة يقول إنها موجّهة «لكل عروس تبحث عن البساطة». وليست الزهور المستخدمة بكثافة فيها سوى انعكاسٍ لتلك البساطة المنشودة. ألهمت حدائق ألمانيا وسرمديّة باريس المصمّمَ وفريقه، فأنجزوا فساتين تنوّعت ما بين الكلاسيكي والعصري، لكنها حافظت على قاسم مشترك واحد، هو البساطة.
تعدّدت القصّات بين واسع وضيّق، وبين طويل وقصير، ما يفسّره محفوظ بأنّه تداخُلٌ سلس بين التقاليد والحداثة. يشير كذلك إلى أنّه جرى استعمال أقمشة كثيرة، مثل الحرير، والساتان، والشيفون، والتفتة، والأورغنزا، والتول، والدانتيل، ويوضح أن هذه هي الأقمشة التي تُستخدم في كل مجموعات العرائس، لكن ما جرى في «زهور العروس» هو عملية دمج جريئة ما بين الأقمشة، إلى جانب الإكثار من الـ«laser cuts».
عبد محفوظ محاطٌ بفريق كبير من المصمّمين والخيّاطين، إلا أنه يشرف على تفاصيل المجموعة لحظةً بلحظة، مضيفاً ملاحظاته ومقترحاً تعديلاته. في خلال شهر، ومن قلب مَشغله البيروتيّ، كانت «زهور العروس» قد أُنجزت تصميماً وتنفيذاً. يخبر أن «العمل امتدّ أحياناً إلى 18 ساعة يومياً».
لم يُخصّص عرض أزياء حيّ لمجموعة «زهور العروس»، فاستُعيض عنه بجلسة تصوير مميّزة أُقيمت في قصر فريد سرحال التراثيّ في منطقة جزّين اللبنانيّة. صمّمت بختياري الجلسة، فوضعت العرائس في إطارٍ تاريخيّ وسط الحجارة القديمة والأسلوب المعماري الروماني. شكّلت أروقة القصر وقناطره خلفيّةً أضفت على فساتين الزفاف سحراً، وعلى العرائس لمسةً حالمة.
«بين فساتين العرس وبيني علاقة غرام»، يقول عبد محفوظ. يتذكّر بداياته التي كان فيها ثوب الزفاف مصدر الإلهام الوحيد. خُصصت أولى مجموعاته لفساتين الفرح البيضاء. ليس سوى لاحقاً، حتى بدأ بتحضير مجموعات وعروض لفساتين السهرة، لكنّ انشغاله بالتصاميم الأخرى لم يسرقه من حبّه الأوّل، فواظب على تصميم مجموعة أعراس مرةً كل سنة إلى جانب مجموعتَي الـ«haute couture» الموسميّتَين.
يرى محفوظ في «زهور العروس» شاهداً على تفانيه الثابت في «إعادة تعريف أزياء الزفاف». أراد لهذه المجموعة أن تتفتّح كما تفعل الزهور. ويكشف خلال حديثه أن «العمل على الزهور وإدخالها إلى الفساتين يتطلّب منسوباً أعلى من الفنّ». لا يتردّد في القول إن «التطريز أسهل، كما أنه يخبّئ عيوباً، أما مع الزهور فالتأنّي والدقّة يجب أن يكونا مضاعفَين؛ لأنّها أولاً صعبة التركيب على الفستان، ثم إنها لا تخفي العيوب».
أراد لمجموعته أيضاً أن تعكس الفخامة والعاطفة في آنٍ واحد. عروسه المطرّزة بالزهور هي امرأة رومانسيّة ودافئة ورقيقة، إلا أنها واثقة بأناقتها. يسيّجها الأقحوان وتتفتّح الورود من فستانها، ويزهر الياسمين من طرحتها، فيما هي تؤدّي رقصة الحب الأبديّ.
الأبيض سيّد مجموعة «زهور العروس»، فلا فضيّ فيها ولا ذهبيّ، ولا ألوان إضافيّة، باستثناء تدرّجات الأبيض في بعض الفساتين، مثل الـoff white. أما على مستوى الأكسسوار، فالأولويّة طبعاً للطرحة التي تساوت في بساطتها مع الفساتين، إضافةً إلى التيجان المصنوعة من الورود.
بتفاؤل وشغف واضحَين، أطلق عبد محفوظ «عروس 2024»، وهو يستعدّ لإطلاق مجموعة من فساتين السهرة قريباً. «أعطي الأولويّة حالياً لتحضير مجموعاتٍ جديدة في المشغل هنا في بيروت»، يقول محفوظ. حتماً سيحين أوان افتتاح صالة عرض جديدة في العاصمة اللبنانية، لكن ليس قبل أن تتّضح معالم المجموعات المقبلة.
ينصبّ تركيز محفوظ على بثّ الحياة في أفكاره، ونقلها من الورق إلى القماش، لكنه لا يغضّ الطرف عمّا يحصل في عالم الموضة وتصميم الأزياء. يأخذ على معظم الجيل الصاعد من المصمّمين استعجالهم الوصول إلى الصفوف الأمامية. يقول إن الأمور لا تحصل بـ«كبسة زرّ»، والوصول دونَه تعب، وإبداع، وتميّز. يلومهم كذلك على مَيلهم إلى «النسخ والتقليد بدل ابتكار هويّة خاصة بهم». لا يُخفي محفوظ كذلك قلقه على مفهوم الـ«كوتور» برُقيّه وحرفيّته، بعد أن غزت مبيعات الملابس الجاهزة عالم الإنترنت.