خلال جائحة كورونا، تعهّد الكثير من صناع الموضة بالاستغناء عن أشياء كثيرة. تكلموا عن استراتيجيات جديدة من شأنها التقليل من ثقافة الاستهلاك أو الحد من استنزاف الأفكار والمهارات. من بين هذه التعهدات، كانت ضرورة إعادة النظر في برامج عروض الأزياء المكثّفة، التي لم تكن تسمح للمصممين بالتقاط أنفاسهم واختبار أفكارهم قبل تنفيذها. بالنسبة للبعض لم تعد تقتصر على أربع في السنة، بل إلى ست مرات.
انتهت الجائحة وعادت الأمور إلى سابق عهدها وكأن لا شيء تغير أو أحداً تعهّد. هادي سليمان، مصمم دار «سيلين» في المقابل، بقي وفياً للوعد. هو الآن من بين قلة تُحسب على اليد الواحدة تُغرّد خارج السِرب ولا تزال ترفض الانضمام إلى البرنامج الرسمي الذي تشهده الموضة أربع مرات في السنة كما كان عليه الأمر قبل الجائحة.
قرّر أن يُقدّم ما جادت به قريحته كلما نضجت واختمرت وحان أوان عرضها. ليس هذا فقط، بل في المكان الذي يختاره وبالطريقة التي يراها مناسبة لرؤيته الفنية. في العام الماضي، مثلاً، قدمها في لوس أنجليس في شهر ديسمبر (كانون الأول)، وهذا العام، قدمها لنا منذ أسابيع فقط من خلال فيلم تم تصويره في المكتبة الفرنسية الوطنية، التي لا تبعد سوى أمتار عن مقر الدار الرئيسي في الجادة الثانية بباريس. وهذا يعني أن سليمان يمر عليها بشكل يومي، أو على الأقل كلما كان في طريقه إلى الاستوديو الخاص به.
اختياره هذه الخلفية لم يكن لأنه قارئ نهم أو للإشارة إلى أنه يكتب فصلاً جديداً في كتاب دار «سيلين» فحسب؛ بل لأن معمار المكتبة من الخارج، والطريقة التي تتراص بها الكتب وتنوع محتواها في الداخل، كلها عناصر تعكس الاقتراحات التي وجهها للصيف.
لسان حاله يقول بأنه كما الكتب، تُغذي الروح والعقل، فإن هذه التشكيلة تغذي كل الأذواق من ناحية تنوع تأثيراتها وتصاميمها. فالواجهة الرئيسية لساحة المكتبة وحدها THE “COUR D’HONNEUR شُيّدت في عصور مختلفة. بصمات يد المهندس المعماري روبرت دي كوت لا تزال واضحة منذ القرن الثامن عشر، بينما يعكس الأسلوب النيو كلاسيكي للواجهتين، الجنوبية والغربية نظرة المعماري الفرنسي هنري لابروست، وهلمّ جراً.
ما يطرح السؤال لدى البعض، هو اختيار هادي سليمان عارضات نحيفات لعرض اقتراحاته. فهي تعطي انطباعاً بأنها ليست لكل المقاسات في الوهلة الأولى. لكن من يعرف المصمم، يعرف أنه عنيد، يؤمن بأسلوبه ويدافع عنه بشراسة؛ لهذا فإن عشاق الموضة تعوّدوا على أسلوبه هذا، وتأقلموا معه. فمن ينسى أنه من روّض الراحل كارل لاغرفيلد وجعله يُنقص وزنه بشكل كبير، وبطيب خاطر حتى يتمكن من ارتداء بدلاته الضيقة؟ عشاقه باتوا يعرفون أنه ليس أمامهم سوى تصور قطعة واحدة أو إطلالة متكاملة على جسم عادي بمقاييس عادية، ليصلوا إلى نتيجة تُثلج صدورهم، وهي أنها تناسب الكل مع قليل من التنسيق الذكي.
ما يزيد من أهمية هذه التشكيلة وتوقيت طرحها، أنها تتوجه لصيف 2024 كما يقول، إلا أنها فعلياً لكل المواسم وللجنسين. أطلق على الفيديو الذي أشرف على تصويره، عنوان «تامبوي» ومعنى الكلمة، فتاة تميل إلى دخول عالم الرجال. كان هذا العنوان كافياً لإعطاء فكرة عما ينتظرنا حتى قبل أن يوزع الفيديو على وسائل الإعلام. الاستثناء كان في فساتين سهرة منسدلة وأخرى قصيرة جداً للكوكتيل استغرق تطريز بعضها بأحجار صغيرة وملونة أياماً طويلة.
حتى لوحة الألوان التي اختارها المصمم عكست أسلوبه المألوف، النابع من رغبته في أن تروق لنسبة عالية من الناس. غلب عليها الأسود والدرجات الترابية مع قطع قليلة بألوان الوردي مطرزة بالأحجار وأخرى منقوشة بطبعات النمر. في المقابل، كانت الخامات والأقمشة متنوعة وكثيرة، من الصوف والموسلين إلى التافتا وصوف الشيرلينغ. الفرو هو الذي كان غائباً؛ لأن هادي سليمان تعهَّد بعدم استعماله.
لم يضاهِ تنوع الأقمشة سوى تنوع التصميمات. جمعت باقة من التأثيرات التي مرّ بها المصمم أو ساهم في ترسيخها. أخذنا بعضها إلى موضة التسعينات وموضة «الغرانج» وذكّرنا بعضها الآخر، لا سيما الجواكت المفصلة، بإبداعاته في الفترة التي قضاها في كل من «سان لوران» و«ديور أوم».