هل ينتصر التغير المناخي على إريدو العراقية... أقدم مدن العالم؟

آثار في مدينة إريدو العراقية
آثار في مدينة إريدو العراقية
TT

هل ينتصر التغير المناخي على إريدو العراقية... أقدم مدن العالم؟

آثار في مدينة إريدو العراقية
آثار في مدينة إريدو العراقية

جدران صخرية صامتة مضى عليها آلاف السنين، تحكي تاريخا ثريا من التحضر والتمدن والتدين والتوجه نحو إيجاد سبل للعيش... إنها مدينة إريدو التي تكشف آثارها عمق وتقدم الحضارات العراقية القديمة، لكنها اليوم تواجه تحديا مناخيا يهدد وجودها.

يقدر عمر مدينة إريدو الأثرية بنحو خمسة آلاف عام قبل الميلاد

وتعتبر مدينة إريدو واحدة من تلك المدن الكبيرة التي يصنفها المختصون في مجال الآثار بأنها أقدم المدن الأثرية المتحضرة في العالم. وتقع غرب محافظة ذي قار في جنوب العراق، وتقف أطلالها على تل يُسمَّى اليوم (تل أبو شهرين)، وهي منطقة غنية بالمواقع الأثرية، كما تبعد بنحو 12 كيلومترا عن مدينة أور التاريخية التي كانت عاصمة للدولة السومرية عام 2100 قبل الميلاد، والتي شهدت الصلاة الإبراهيمية الموحدة بحضور البابا فرنسيس في عام 2021.

ويقدر مدير مفتشية آثار ذي قار، شامل الرميض، في حديث لـ(وكالة أنباء العالم العربي) عمر مدينة إريدو الأثرية بنحو خمسة آلاف عام قبل الميلاد. وهي تقع على مساحة 20 كيلومترا مربعا ويعود ظهور تاريخها إلى ما بعد عصر العبيد، أي ما قبل تاريخ بلاد الرافدين، وخلال الفترة من عام 6500 إلى 5400 عام قبل الميلاد.

مدينة إريدو العراقية غنية بالقطع الأثرية (وكالة أنباء العالم العربي)

ولفت الرميض إلى أن عمليات التنقيب عن المدينة بدأت عام 1916 على يد أحد علماء الآثار البريطانيين، واستمرت حتى عام 1935، ثم استأنف عالم الآثار فؤاد صفر العمل بها واكتشف فيها معابد وقصورا ومقابر.

وأضاف «هذه المدينة كانت تضم زقورة تضاهي زقورة مدينة أور بحجمها، وتصنف واحدة من أكبر الزقورات في العراق». والزقورة نمط من أنماط بناء المعابد المُدرَّجة اشتهرت به بلاد الرافدين.

سميت هذه المدينة الأثرية (جنة عدن) نظرا لموقعها الجغرافي على رأس الخليج، وقال عنها الرميض إنها كانت «مدينة دينية علمية بامتياز جذبت علماء وكهنة، إضافة إلى أنها تضم مساحات زراعية كبيرة، لذا تصنف أيضا بأنها مدينة اقتصادية».

تعد إريدو مدينة دينية علمية بامتياز جذبت علماء وكهنة (وكالة أنباء العالم العربي)

وتشير كتب التاريخ إلى أنها في عام 646 قبل الميلاد استنفدت خيراتها لكثرة سكانها، فانتقل بعضهم نحو مدينة الوركاء الأثرية في محافظة المثنى.

عمليات النبش

تعرض موقع إريدو، كبقية المواقع الأثرية، لعمليات نبش عشوائي خلال الفترة التي امتدت من عام 2003 حتى 2006، خاصة من قبل البدو الرحل كما يقول الرميض، بحثا عن الأحجار الكريمة، ومن قبل تجار الآثار. ويقول إن هذه العمليات انتهت من خلال تخصيص حارس أمني يقع منزله بالقرب من الموقع بالإضافة إلى الجولات التي تنظمها شرطة الآثار بين فترة وأخرى.

ويضيف أنه يجري حاليا بناء سياج خرساني يكون له باب واحد، وبلغت نسبة إنجازه 50%. ويتابع قائلا «عمليات النبش من قبل تجار الآثار تكون في المواقع شمال الناصرية، إذ إن إريدو تقع باتجاه الصحراء وموقعها بعيد إذا ما قورنت ببقية المواقع الشمالية».

تواجه المدينة عمليات النبش من قبل تجار الآثار (وكالة أنباء العالم العربي)

ويمتلك العراق عددا من الزقورات، تلك المعابد المُدرَّجة التي بناها السومريون والبابليون في العراق وسوريا وإيران، من أشهرها عالميا زقورة أور قرب مدينة الناصرية التي تقع على بعد 342 كيلومترا جنوبي بغداد). ومن الزقورات الشهيرة أيضا زقورة عقرقوف قرب بغداد.

وعملت بعثة تنقيب آثار إيطالية في الموقع لثلاثة مواسم وتوقفت. وكان أبرز اكتشافات البعثة الجدار الخارجي المبني من الحجر والذي يظهر أنه تم جلبه من الوركاء وكركوك.

وكان رئيس البعثة التنقيبية الدولية في مدينة إريدو البروفيسور فرانكو دي أغستينو قد أعلن اكتشاف أول مستوطنة بشرية في جنوب العراق تعود لعصر العبيد، وذلك ضمن الموسم التنقيبي الرابع في الموقع. وقال إن العثور على مقبرة بجانب المستوطنة كشف عن جانب من معتقدات قدماء العراقيين حول مرحلة ما بعد الموت.

كانت المدينة مركزا لصناعة النسيج من الملابس والكتان وورش العمل

وقال المنقب الآثاري عامر عبد الرزاق في حديث لـ(وكالة أنباء العالم العربي) إن مدينة إريدو «تضمنت عنصر التخطيط العمراني المتحضر، وكانت مقرا لعبادة إلهة الماء، وواحدة من المدن الزراعية، ويضاف إلى ذلك أنها مدينة استشفاء لكثرة المختصين فيها بمجال الطب والجراحة».

لائحة التراث العالمي

أُدرجت مدينة إريدو على لائحة منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) للتراث العالمي عام 2016 مع مدينة أور الأثرية.

ومدينة إريدو إحدى أقدم الأطلال الأثرية في وادي الرافدين؛ إذ تأسست سنة 5400 تقريبا قبل الميلاد، واعتقد العراقيون القدماء أنها بنيت بيد الآلهة لتكون مسكنا للإله إنكي، أحد أهم الآلهة في الأساطير السومرية.

وفي بحث علمي قدمه الباحث الآثاري أباذر الزيدي، ظهر بحسب نتائج التنقيبات في هذه المدينة وجود أقدم سلالة حاكمة من سلالات ما قبل الطوفان، مما يشير إلى أن المدينة كانت من أعظم مدن جنوب العراق في عصور ما قبل التاريخ. ويشير البحث إلى أنها كانت واحدة من أقدم أماكن الاستيطان البشري في السهل الرسوبي، ومركزا لصناعة النسيج من الملابس والكتان وورش العمل.

كانت المدينة مركزا لصناعة النسيج من الملابس والكتان وورش العمل

ويقول عالم الآثار في المفتشية عقيل المنصراوي: «مدينة إريدو عُرفت بوجود المعابد الدينية، كما وُجدت داخلها أنواع كثيرة من القرابين المقدمة للآلهة آنذاك من التمور وعظام السمك وغيرها الكثير، كما أنها ضمت خمسة معابد».

لكن المنصراوي يشير إلى أن التغيرات المناخية، مثل ارتفاع درجات الحرارة وقلة الأمطار وقلة الغطاء النباتي، أثرت بشكل واضح في هذا الموقع وجعلت من التربة ناعمة وهشة. ويقول «يسهم الغطاء النباتي في تثبيت التربة. وإريدو تقع على خط التصحر في جنوب العراق وتتأثر بفعل عوامل التعرية».

أخطار التغير المناخي

يشير المختصون في المجال الجيمورفولوجي أو علم شكل الأرض، إلى أن هذه المدينة الأثرية تواجه واحدة من أنشط عمليات التعرية، إذ تؤثر ظروف المناخ السائد من ارتفاع درجات الحرارة وسقوط الأمطار على أسطح وجدران المباني القديمة، مما يؤدي بها إلى التفكك والتشقق والتصدع وتحطم ذرات الصخور.

وبسبب العوامل المناخية يواجه المنقبون صعوبة في فهم المعلومات المكتشفة من آثار إريدو لأنها تعرضت للتعرية والتفكك.

غير أن باحث الآثار أمير دوشي يكشف عن استخدام تقنية حديثة لاستخراج المعلومات بشكل أسرع وأدق، وهي تقنية الذكاء الاصطناعي، إذ يتم إدخال البيانات والمعلومات الموجودة على القطع الأثرية من رموز سومرية وفي غضون أقل من دقيقة واحدة تظهر النتائج والعبارات المكتوبة.

آثار في مدينة إريدو العراقية

ويقول دوشي لـ(وكالة أنباء العالم العربي): «في الفترات الماضية كانت تستغرق عملية الكشف عن المعلومات سنة أو أكثر». وطالب بتعميم طريقة الذكاء الاصطناعي في جميع البعثات التنقيبية العراقية للإسراع بالوصول لنتائج المكتشفات الأثرية.

ويلفت إلى أن عمليات التنقيب التي أجراها عالم الآثار فؤاد صقر في نهاية أربعينات القرن الماضي كشفت عن وجود 180 مقبرة أثرية في المدينة.

وعادت بعثات التنقيب الدولية بقوة إلى جنوب العراق في مارس (آذار) 2022، واكتشف فريق يضم علماء فرنسيين وإيطاليين بالتعاون مع مختصين عراقيين بعض الآثار النادرة لأطلال مدينة إريدو.


مقالات ذات صلة

اتفاقية بين «الخطوط الحديدية السعودية» و«ألستوم» الفرنسية لرفع جاهزية «قطارات الشرق»

الاقتصاد جانب من توقيع الاتفاقية خلال «المعرض والمؤتمر السعودي للخطوط الحديدية»... (سار)

اتفاقية بين «الخطوط الحديدية السعودية» و«ألستوم» الفرنسية لرفع جاهزية «قطارات الشرق»

وقّعت «الخطوط الحديدية السعودية (سار)»، الخميس، عقداً مع شركة «ألستوم ترانسبورت إس إيه» الفرنسية، لرفع مستوى جاهزية أسطول قطارات «شبكة الشرق».

«الشرق الأوسط» (الرياض)
يوميات الشرق طائرة تابعة لشركة «بوينغ» (رويترز)

ما السر وراء شكل نوافذ الطائرات الدائري؟

قد يبدو السبب وراء شكل نوافذ الطائرات الدائري عادياً وغير استثنائي، ولكن هناك في الواقع قصة ترتبط بأحداث أليمة وراء تصميمها.

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق طائرة تُقلع ضمن رحلة تجريبية في سياتل بواشنطن (رويترز)

الشرطة تُخرج مسنة من طائرة بريطانية بعد خلاف حول شطيرة تونة

أخرجت الشرطة امرأة تبلغ من العمر 79 عاماً من طائرة تابعة لشركة Jet2 البريطانية بعد شجار حول لفافة تونة مجمدة.

«الشرق الأوسط» (لندن)
الاقتصاد نائب الرئيس للتسويق في «طيران الرياض» أسامة النويصر (الشرق الأوسط)

«طيران الرياض»: 132 طائرة إجمالي طلبياتنا من «بوينغ» و«إيرباص»

قال نائب الرئيس للتسويق في «طيران الرياض» أسامة النويصر لـ«الشرق الأوسط» إن إجمالي عدد طلبيات الطائرات وصل إلى 132 طائرة.

عبير حمدي (الرياض)
يوميات الشرق اللافتة التي وضعها مطار دنيدن (سي إن إن)

مطار نيوزيلندي يثير الجدل... ويضع حداً زمنياً لـ«عناق الوداع»

أثار مطار دنيدن في نيوزيلندا الجدل حول العالم بعدما فرض «حداً أقصى» لـ«عناق الوداع»؛ حيث وضع لافتة جديدة تفرض حداً أقصى يبلغ 3 دقائق على العناق بمنطقة الإنزال.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

قرى مصرية تبتكر نوعاً جديداً من السياحة التقليدية

قرية النزلة بمحافظة الفيوم قبلة عالمية لصناعة الفخار اليدوي (رويترز)
قرية النزلة بمحافظة الفيوم قبلة عالمية لصناعة الفخار اليدوي (رويترز)
TT

قرى مصرية تبتكر نوعاً جديداً من السياحة التقليدية

قرية النزلة بمحافظة الفيوم قبلة عالمية لصناعة الفخار اليدوي (رويترز)
قرية النزلة بمحافظة الفيوم قبلة عالمية لصناعة الفخار اليدوي (رويترز)

في الخلف من البقع السياحية السحرية بأنحاء مصر، توجد قرى مصرية تجذب السائحين من باب آخر، حيث يقصدونها للتعرف على الحرف التقليدية العتيقة والصناعات المحلية التي تنتجها هذه القرى وتتخصص فيها منذ عشرات السنوات، وفاقت شهرتها حدود البلاد.

ويشتهر كثير من القرى المصرية بالصناعات اليدوية، ذات البعدين التراثي والثقافي، مثل صناعة أوراق البردي، والأواني الفخارية، والسجاد اليدوي وغيرها، وهي الصناعات التي تستهوي عدداً كبيراً من الزوار، ليس فقط لشراء الهدايا التذكارية من منبعها الأصلي للاحتفاظ بها لتذكرهم بالأيام التي قضوها في مصر؛ بل يمتد الأمر للتعرف عن قرب على فنون التصنيع التقليدية المتوارثة، التي تحافظ على الهوية المصرية.

«الشرق الأوسط» تستعرض عدداً من القرى التي تفتح أبوابها للسياحة الحرفية، والتي يمكن إضافتها إلى البرامج السياحية عند زيارة مصر.

السياحة الحرفية تزدهر في القرى المصرية وتجتذب السائحين (صفحة محافظة المنوفية)

ـ الحرانية

قرية نالت شهرتها من عالم صناعة السجاد والكليم اليدوي ذي الجودة العالية، والذي يتم عرضه في بعض المعارض الدولية، حيث يقوم أهالي القرية بنقش كثير من الأشكال على السجاد من وحي الطبيعة الخاصة بالقرية.

والسجاد الذي يصنعه أهالي القرية لا يُضاهيه أي سجاد آخر بسبب عدم استخدام أي مواد صناعية في نسجه؛ حيث يتم الاعتماد فقط على القطن، والصوف، بالإضافة إلى الأصباغ النباتية الطبيعية، من خلال استخدام نباتي الشاي والكركديه وغيرهما في تلوين السجاد، بدلاً من الأصباغ الكيميائية، ما يضفي جمالاً وتناسقاً يفوق ما ينتج عن استخدام الأجهزة الحديثة.

تتبع قرية الحرانية محافظة الجيزة، تحديداً على طريق «سقارة» السياحي، ما يسهل الوصول إليها، وأسهم في جعلها مقصداً لآلاف السائحين العرب والأجانب سنوياً، وذلك بسبب تميُزها، حيث تجتذبهم القرية ليس فقط لشراء السجاد والكليم، بل للتعرف على مراحل صناعتهما المتعددة، وكيف تتناقلها الأجيال عبر القرية، خصوصاً أن عملية صناعة المتر المربع الواحد من السجاد تستغرق ما يقرُب من شهر ونصف الشهر إلى شهرين تقريباً؛ حيث تختلف مدة صناعة السجادة الواحدة حسب أبعادها، كما يختلف سعر المتر الواحد باختلاف نوع السجادة والخامات المستخدمة في صناعتها.

فن النحت باستخدام أحجار الألباستر بمدينة القرنة بمحافظة الأقصر (هيئة تنشيط السياحة)

ـ القراموص

تعد قرية القراموص، التابعة لمحافظة الشرقية، أكبر مركز لصناعة ورق البردي في مصر، بما يُسهم بشكل مباشر في إعادة إحياء التراث الفرعوني، لا سيما أنه لا يوجد حتى الآن مكان بالعالم ينافس قرية القراموص في صناعة أوراق البردي، فهي القرية الوحيدة في العالم التي تعمل بهذه الحرفة من مرحلة الزراعة وحتى خروج المنتج بشكل نهائي، وقد اشتهرت القرية بزراعة نبات البردي والرسم عليه منذ سنوات كثيرة.

الرسوم التي ينقشها فلاحو القرية على ورق البردي لا تقتصر على النقوش الفرعونية فحسب، بل تشمل أيضاً موضوعات أخرى، من أبرزها الخط العربي، والمناظر الطبيعية، مستخدمين التقنيات القديمة التي استخدمها الفراعنة منذ آلاف السنين لصناعة أوراق البردي، حيث تمر صناعة أوراق البردي بعدة مراحل؛ تبدأ بجمع سيقان النبات من المزارع، ثم تقطيعها كي تتحول إلى كُتل، على أن تتحول هذه الكتل إلى مجموعة من الشرائح التي توضع طبقات بعضها فوق بعض، ثم تبدأ عملية تجفيف سيقان النباتات اعتماداً على أشعة الشمس للتخلص من المياه والرطوبة حتى تجف بشكل تام، ثم تتم الكتابة أو الرسم عليها.

وتقصد الأفواج السياحية القرية لمشاهدة حقول نبات البردي أثناء زراعته، وكذلك التعرف على فنون تصنيعه حتى يتحول لأوراق رسم عليها أجمل النقوش الفرعونية.

تبعد القرية نحو 80 كيلومتراً شمال شرقي القاهرة، وتتبع مدينة أبو كبير، ويمكن الوصول إليها بركوب سيارات الأجرة التي تقصد المدينة، ومنها التوجه إلى القرية.

قطع خزفية من انتاج قرية "تونس" بمحافظة الفيوم (هيئة تنشيط السياحة)

ـ النزلة

تُعد إحدى القرى التابعة لمركز يوسف الصديق بمحافظة الفيوم، وتشتهر بصناعة الفخار اليدوي، وقد أضحت قبلة عالمية لتلك الصناعة، ويُطلق على القرية لقب «أم القرى»، انطلاقاً من كونها أقدم القرى بالمحافظة، وتشتهر القرية بصناعة الأواني الفخارية الرائعة التي بدأت مع نشأتها، حيث تُعد هذه الصناعة بمثابة ممارسات عائلية قديمة توارثتها الأجيال منذ عقود طويلة.

يعتمد أهل القرية في صناعتهم لتلك التحف الفخارية النادرة على تجريف الطمي الأسود، ثم إضافة بعض المواد الأخرى عليه، من أبرزها الرماد، وقش الأرز، بالإضافة إلى نشارة الخشب، وبعد الانتهاء من عملية تشكيل الطمي يقوم العاملون بهذه الحرفة من أهالي القرية بوضع الطمي في أفران بدائية الصنع تعتمد في إشعالها بالأساس على الخوص والحطب، ما من شأنه أن يعطي القطع الفخارية الصلابة والمتانة اللازمة، وهي الطرق البدائية التي كان يستخدمها المصري القديم في تشكيل الفخار.

ومن أبرز المنتجات الفخارية بالقرية «الزلعة» التي تستخدم في تخزين الجبن أو المش أو العسل، و«البوكلة» و«الزير» (يستخدمان في تخزين المياه)، بالإضافة إلى «قدرة الفول»، ويتم تصدير المنتجات الفخارية المختلفة التي ينتجها أهالي القرية إلى كثير من الدول الأوروبية.

شهدت القرية قبل سنوات تشييد مركز زوار الحرف التراثية، الذي يضمّ عدداً من القاعات المتحفية، لإبراز أهم منتجات الأهالي من الأواني الفخارية، ومنفذاً للبيع، فضلاً عن توثيق الأعمال الفنية السينمائية التي اتخذت من القرية موقعاً للتصوير، وهو المركز الذي أصبح مزاراً سياحياً مهماً، ومقصداً لهواة الحرف اليدوية على مستوى العالم.

صناعة الصدف والمشغولات تذهر بقرية "ساقية المنقدي" في أحضان دلتا النيل (معرض ديارنا)

ـ تونس

ما زلنا في الفيوم، فمع الاتجاه جنوب غربي القاهرة بنحو 110 كيلومترات، نكون قد وصلنا إلى قرية تونس، تلك اللوحة الطبيعية في أحضان الريف المصري، التي أطلق عليها اسم «سويسرا الشرق»، كونها تعد رمزاً للجمال والفن.

تشتهر منازل القرية بصناعة الخزف، الذي أدخلته الفنانة السويسرية إيفلين بوريه إليها، وأسست مدرسة لتعليمه، تنتج شهرياً ما لا يقل عن 5 آلاف قطعة خزف. ويمكن لزائر القرية أن يشاهد مراحل صناعة الخزف وكذلك الفخار الملون؛ ابتداء من عجن الطينة الأسوانية المستخدمة في تصنيعه إلى مراحل الرسم والتلوين والحرق، سواء في المدرسة أو في منازل القرية، كما يقام في مهرجانات سنوية لمنتجات الخزف والأنواع الأخرى من الفنون اليدوية التي تميز القرية.

ولشهرة القرية أصبحت تجتذب إليها عشرات الزائرين شهرياً من جميع أنحاء العالم، وعلى رأسهم المشاهير والفنانون والكتاب والمبدعون، الذين يجدون فيها مناخاً صحياً للإبداع بفضل طقسها الهادئ البعيد عن صخب وضجيج المدينة، حيث تقع القرية على ربوة عالية ترى بحيرة قارون، مما يتيح متعة مراقبة الطيور على البحيرة، كما تتسم بيوتها بطراز معماري يستخدم الطين والقباب، مما يسمح بأن يظل جوها بارداً طول الصيف ودافئاً في الشتاء.

مشاهدة مراحل صناعة الفخار تجربة فريدة في القرى المصرية (الهيئة العامة للاستعلامات)

ـ ساقية المنقدي

تشتهر قرية ساقية المنقدي، الواقعة في أحضان دلتا النيل بمحافظة المنوفية، بأنها قلعة صناعة الصدف والمشغولات، حيث تكتسب المشغولات الصدفية التي تنتجها شهرة عالمية، بل تعد الممول الرئيسي لمحلات الأنتيكات في مصر، لا سيما في سوق خان الخليلي الشهيرة بالقاهرة التاريخية.

تخصصت القرية في هذه الحرفة قبل نحو 60 عاماً، وتقوم بتصدير منتجاتها من التحف والأنتيكات للخارج، فضلاً عن التوافد عليها من كل مكان لاحتوائها على ما يصل إلى 100 ورشة متخصصة في المشغولات الصدفية، كما تجتذب القرية السائحين لشراء المنتجات والأنتيكات والتحف، بفضل قربها من القاهرة (70 كم إلى الشمال)، ولرخص ثمن المنتجات عن نظيرتها المباعة بالأسواق، إلى جانب القيمة الفنية لها كونها تحظى بجماليات وتشكيلات فنية يغلب عليها الطابع الإسلامي والنباتي والهندسي، حيث يستهويهم التمتع بتشكيل قطعة فنية بشكل احترافي، حيث يأتي أبرزها علب الحفظ مختلفة الأحجام والأشكال، والقطع الفنية الأخرى التي تستخدم في التزيين والديكور.

الحرف التقليدية والصناعات المحلية في مصر تجتذب مختلف الجنسيات (معرض ديارنا)

ـ القرنة

إلى غرب مدينة الأقصر، التي تعد متحفاً مفتوحاً بما تحويه من آثار وكنوز الحضارة الفرعونية، تقبع مدينة القرنة التي تحمل ملمحاً من روح تلك الحضارة، حيث تتخصص في فن النحت باستخدام أحجار الألباستر، وتقديمها بالمستوى البديع نفسه الذي كان يتقنه الفراعنة.

بزيارة القرية فأنت على مشاهد حيّة لأهلها وهم يعكفون على الحفاظ على تراث أجدادهم القدماء، حيث تتوزع المهام فيما بينهم، فمع وصول أحجار الألباستر إليهم بألوانها الأبيض والأخضر والبني، تبدأ مهامهم مع مراحل صناعة القطع والمنحوتات، التي تبدأ بالتقطيع ثم الخراطة والتشطيف للقطع، ثم يمسكون آلات تشكيل الحجر، لتتشكل بين أيديهم القطع وتتحول إلى منحوتات فنية لشخصيات فرعونية شهيرة، مثل توت عنخ آمون، ونفرتيتي، وكذلك التماثيل والأنتيكات وغيرها من التحف الفنية المقلدة، ثم يتم وضع المنتج في الأفران لكي يصبح أكثر صلابة، والخطوة الأخيرة عملية التلميع، ليصبح المنتج جاهزاً للعرض.

ويحرص كثير من السائحين القادمين لزيارة المقاصد الأثرية والسياحية للأقصر على زيارة القرنة، سواء لشراء التماثيل والمنحوتات من المعارض والبازارات كهدايا تذكارية، أو التوجه إلى الورش المتخصصة التي تنتشر بالقرية، لمشاهدة مراحل التصنيع، ورؤية العمال المهرة الذين يشكلون هذه القطع باستخدام الشاكوش والأزميل والمبرد، إذ يعمل جلّ شباب القرية في هذه الحرفة اليدوية.