عقد من حكم سلمان: حزم ورؤية وتمكين وازدهار

توسَّعت دائرة حضور الملك سلمان عندما كان أميرا للرياض عند كثير من زعماء الدول ورؤساء الحكومات والزعامات السياسية والثقافية، ولعبت العاصمة السعودية إبان إمارته دوراً مهماً.

خادم_الحرمين_الشريفين يدشن ويضع حجر الأساس لعدد من المشروعات الصناعية والتنموية في مدينة الجبيل الصناعية في نوفمبر 2016 (واس)
خادم_الحرمين_الشريفين يدشن ويضع حجر الأساس لعدد من المشروعات الصناعية والتنموية في مدينة الجبيل الصناعية في نوفمبر 2016 (واس)
TT

عقد من حكم سلمان: حزم ورؤية وتمكين وازدهار

خادم_الحرمين_الشريفين يدشن ويضع حجر الأساس لعدد من المشروعات الصناعية والتنموية في مدينة الجبيل الصناعية في نوفمبر 2016 (واس)
خادم_الحرمين_الشريفين يدشن ويضع حجر الأساس لعدد من المشروعات الصناعية والتنموية في مدينة الجبيل الصناعية في نوفمبر 2016 (واس)

يُعدُّ الملك سلمان طوال فترة إمارته على الرياض الأكثر قرباً إلى دوائر الحكم، وكان مرافقاً لوالده الملك عبد العزيز، ونال ثقته وهو الابن الخامس والعشرون في ترتيب أبنائه، وبقي على هذا النهج مقرباً من جميع ملوك الدولة السعودية: سعود، وفيصل، وخالد، وفهد، وعبد الله.

وُصِف الملك سلمان بأنه «حاكم الرياض»، وهي صفة لم تطلق على أمراء المناطق الآخرين، مما يعني أنه وُلد حاكماً، ويملك جينات الحاكم منذ أن كان أميراً على الرياض، كما يوصف بأنه أمين سر أسرة الحكم، ومبعوث الملوك ومستشارهم الخاص، بل كان يُستقبَل في الدول التي يزورها، حينما أوكلت إليه كثير من المهام السياسية من ملوك السعودية كحاكم، وزاد على ذلك بتوكيله بتوقيع اتفاقات ومذكرات التفاهم مع عدد من العواصم في مختلف الدول، وترأس وفود بلاده إلى كثير من المحافل الإقليمية والعالمية.

ونظراً لكونه أميراً للرياض فترة طويلة، فقد توسَّعت دائرة حضوره عند كثير من زعماء الدول ورؤساء الحكومات والزعامات السياسية والثقافية، ولعبت العاصمة السعودية الرياض إبان إمارته دوراً مهماً ولافتاً في صناعة خريطة الاهتمام بالقرار السعودي نظراً لما استضافته من زوار، وزعامات سياسية، وقمم ومؤتمرات.

وعندما تمَّت مبايعته ملكاً لبلاده في 23 يناير (كانون الثاني) 2015، أي قبل 10 سنوات، حمل لقب خادم الحرمين الشريفين، وأنجز إصلاحات كبرى كانت محل تقدير العالم.

كما اتخذ إجراءات في مجال حماية وتعزيز حقوق الإنسان، وسن القوانين التي تحفظ حقوق المرأة، والأطفال، وذوي الإعاقة، والعمالة.

خادم الحرمين الشريفين يزور منطقة قصر الحكم في مدينة الرياض عام 2022 (واس)

خطوات بارزة جرى اتخاذها في المملكة منذ تولي الملك سلمان بن عبد العزيز سدة الحكم؛ لتعزيز المساواة ومنع التمييز، كما أُتيحت سبل الانتصاف لمَن انتُهكت حقوقهم عبر الجهات القضائية، ومؤسسات حقوق الإنسان الحكومية والخاصة، وسُنَّت قوانين لحماية حقوق المرأة، والأطفال، وذوي الإعاقة، والعمالة.

واحدة من أبرز هذه الخطوات؛ السماح للمرأة بقيادة السيارة لأول مرة، ففي 24 يونيو (حزيران) 2018، دخل هذا القرار حيز التنفيذ، بعد أن أصدر الملك أمراً تاريخياً في 26 سبتمبر (أيلول) 2017 يسمح للمرأة بالحصول على رخصة قيادة. هذا القرار مثّل نقلةً نوعيةً في حياة المرأة السعودية.

في عهده، أحرزت المرأة السعودية إنجازات لافتة، منها المشارَكة في الانتخابات البلدية لأول مرة في 12 ديسمبر (كانون الثاني) 2015، حيث فازت 21 امرأة بمقاعد في المجالس البلدية. وشهد عام 2018 قرارات تاريخية للمرأة أيضاً، منها بدء الأعمال التجارية من دون الحاجة لموافقة ولي الأمر، والمساواة في بعض الحقوق الأسرية مثل التبليغ عن الزواج والطلاق، وحق تسجيل الأبناء القُصَّر. كما تم إقرار قانون التحرش في عهد الملك سلمان الذي يؤكد حرص القيادة على المحافظة على القيم الإنسانية والاجتماعية، وكذلك السماح للأسر بدخول مباريات كرة القدم. وشهد عصر الملك سلمان بداية مشاركة السعوديات في الألعاب الأولمبية، ومنح تراخيص قيادة الطائرات للمرة الأولى في تاريخ المملكة.

في مجال المساواة بين الجنسين وتمكين المرأة، تعزَّزت مكانة المرأة السعودية بتعيينها في مناصب قيادية غير مسبوقة، مثل منصب سفيرة للمملكة في الولايات المتحدة والنرويج والسويد، وغيرها، فضلاً عن تعيين 13 امرأة في هيئة حقوق الإنسان، وهو ما يُشكِّل نصف أعضائها. كما تولَّت المرأة وظائف كانت حكراً على الرجال، سواء في القطاع الحكومي أو الخاص، وشغلت مناصب قضائية بوظيفة «ملازم تحقيق» في النيابة العامة لأول مرة.

خادم_الحرمين_الشريفين يدشن ويضع حجر الأساس لعدد من المشروعات الصناعية والتنموية في مدينة الجبيل الصناعية في نوفمبر 2016 (واس)

كما شهدت قوانين الأحوال المدنية تعديلات كبيرة لصالح المرأة، بما في ذلك السماح لها بالحصول على سجل الأسرة لأبنائها القُصَّر، وإلغاء شرط أن يكون محل إقامة الزوجة المتزوجة هو محل إقامة الزوج. كما مُنحت المرأة حقوقاً مساوية للرجل في نظام العمل.

نتيجة لهذه الإصلاحات، اختيرت الرياض عاصمةً للمرأة العربية، بالتزامن مع ترؤس المملكة اجتماعات لجنة المرأة العربية.

على الصعيد الثقافي، يُعرَف الملك سلمان باطلاعه العميق على التاريخ واهتمامه بالفكر والثقافة. ويُعدُّ من أبرز الشخصيات التي أسهمت في توثيق تاريخ الجزيرة العربية والدولة السعودية.

أسس الملك مجلسه الأسبوعي ليكون منتدى للحوار مع المثقفين والمفكرين، وواصل دوره الثقافي برئاسة مجلس دارة الملك عبد العزيز، ومكتبة الملك فهد الوطنية. ومن أبرز إنجازاته الثقافية تأسيس معرض «المملكة بين الأمس واليوم» في الثمانينات، الذي جاب أكثر من 10 دول، منها الولايات المتحدة وكندا، وسلط الضوء على تاريخ المملكة وتراثها ومنجزاتها.

كما يُعرَف الملك في الأوساط الثقافية والأدبية بأنه «صديق الكُتَّاب والصحافيين». وفي هذا السياق ذكر ولي العهد الأمير محمد بن سلمان في مقابلة عام 2018 أن الملك سلمان قارئ نهم للتاريخ، وكان يحرص على تعليم أبنائه من خلال إعطائهم كتباً ومناقشتها أسبوعياً، معلقاً على أهمية قراءة التاريخ لاكتساب خبرات وتجارب الأجيال السابقة.

بين إرث التاريخ وآفاق المستقبل

وفقاً لموسوعة «سعوديبيا» وُلد الملك سلمان بن عبد العزيز في الخامس من شوال عام 1354هـ، الموافق 31 ديسمبر 1935، بعد 3 أعوامٍ من توحيد والده الملك المؤسس جميع أجزاء الدولة السعودية في كيانٍ واحد.

نشأ في الرياض في كنف والده الملك عبد العزيز، ووالدته الأميرة حصة بنت أحمد السديري، وتلقّى تعليمه المبكر في مدرسة الأمراء، فدرس العلوم الدينية والحديثة، وختم القرآن الكريم كاملاً في سن العاشرة، وهي تجربةٌ رسّخت في شخصيته منذ نعومة أظفاره مبادئ المسؤولية والانضباط.

مناصب سابقة... ومسؤوليات حافلة

انخرط الملك سلمان في العمل الحكومي مبكراً، فعيِّن في إمارة الرياض بالإنابة عام 1954، وكان في التاسعة عشرة من عمره. وبعد فترة وجيزة، أُسندت إليه إمارة المنطقة عام 1955. وقتها كانت مدينة الرياض متوسطة الحجم ويقطنها نحو 200 ألف نسمة، فما لبث أن قاد واحدة من أكبر عمليات التطوير العمراني في المنطقة. توسَّعت المدينة وازدهرت على مختلف الأصعدة؛ من بنية تحتية، ومدارس، ومستشفيات، وجامعات، ومتاحف، ومنشآت رياضية، ما جعلها مركزاً حيويّاً للتجارة والسياحة والاستثمار. واستمرَّ في منصبه أميراً للرياض لأكثر من 50 عاماً، شارك خلالها في لجانٍ إغاثية، ولعب دوراً بارزاً في الشؤون الإنسانية والخيرية، بالإضافة إلى ترؤسه اجتماعات هيئة تطوير مدينة الرياض ومتابعته لخططها، لتترسّخ بذلك سمات «العمارة السلمانية»، التي تعكس روح الهوية السعودية.

خادم الحرمين الشريفين في قصر الحكم بمدينة الرياض 2019 (واس)

في عام 2011، تُوِّجت خبرته الإدارية الطويلة بتعيينه وزيراً للدفاع، فحرص على تطوير المنظومة العسكرية، وتوسيع الكليات والمعاهد، وابتعاث الأفراد والضباط إلى الدول المتقدمة في مجالات التصنيع العسكري. وفي عام 2012، اختاره الملك عبد الله وليّاً للعهد ونائباً لرئيس مجلس الوزراء ووزيراً للدفاع، فشكَّل وجوده إضافةً فاعلةً في إدارة شؤون الدولة وعلاقاتها الخارجية، حتى تمَّت مبايعته ملكاً في يناير 2015.

بزوغ حقبة التحوّل والتنمية الشاملة

منذ تولّيه مقاليد الحكم عام 2015، دخلت المملكة مرحلةً زاخرةً بالمشروعات التنموية والتشريعات الحديثة. في غضون 40 يوماً من تسلّمه الحكم، أصدر حزمةً من الأوامر الملكية لتعزيز كفاءة الأداء الحكومي، وتمكين جيل الشباب من القيادة. كما دعّم «رؤية السعودية 2030» التي يقودها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، فأسَّست لخطةِ تحوّلٍ وطني ترتكز على تنويع الاقتصاد، والارتقاء بالخدمات، وتحسين جودة الحياة، مع المحافظة على الهوية الوطنية والعمق التاريخي.

إرثٌ تاريخيٌّ بلمسةٍ عصرية

تتجلّى عناية الملك سلمان بالتراث والهوية في استمرارية الجهود التي ابتدأها في إمارة الرياض. فقد أُنشئت هيئاتٌ رسميةٌ للاهتمام بالمواقع التاريخية في السعودية، وأُدرج عددٌ منها ضمن قائمة التراث العالمي لـ«اليونيسكو»، وشُجّع تسجيل التراث غير المادي كالرقصات والفنون الشعبية والحرف اليدوية. ولم تقف هذه المشروعات عند حد التوثيق فحسب، بل امتدّت إلى تحويل المواقع الأثرية إلى نقاط جذبٍ سياحي، وإدماج قيم الثقافة في المناهج التعليمية، لينشأ جيلٌ يعي جذوره ويواكب العالم المعاصر في آنٍ واحد. وبذلك، أصبح الإرث ركيزةً لكل مشروعٍ حضاريٍّ يرصّع المدن السعودية الحديثة بطابعها الحضاري ورونقها التاريخي.

 

تحوّلاتٌ اجتماعيةٌ عميقة

 

شهدت الحياة الاجتماعية السعودية نقلةً نوعيةً في عهد الملك سلمان، حيث حظي الشباب ببرامج الابتعاث، وجرى دعم رواد الأعمال، وإنشاء حاضنات للمشروعات الناشئة وملتقيات للابتكار الثقافي. صاحَبَ ذلك انفتاحٌ ترفيهيٌّ أُعيدت خلاله دور السينما والمسارح، وقُدّمت مواسمٌ فنية وثقافية أعطت مساحةً للإبداع، وأسهمت في تعزيز الانتماء الوطني لدى مختلف فئات المجتمع.

بناء اقتصادٍ معرفي... وطفرةٌ في التقنيات المتقدّمة

انطلاقاً من «رؤية 2030»، سعت السعودية إلى تأسيس اقتصادٍ متنوعٍ ومزدهر، فجرى الاهتمام بالصناعات المتقدمة واستقطاب الشركات الكبرى والتكنولوجيا الحديثة، مع إطلاق مبادراتٍ وطنيةٍ للابتكار، ودعم مراكز الأبحاث والجامعات. تزامَنَ ذلك مع تطوير البنية الرقمية للحكومة وتحويل الخدمات والمعاملات إلى نُظمٍ إلكترونية، فاحتلّت المملكة مكانةً متقدّمةً في مؤشرات الابتكار والتحوّل الرقمي والحكومة الإلكترونية. كذلك أُنشئت الهيئات الداعمة لتوطين الصناعات العسكرية، ما عزز جاهزية القوات المسلحة، وخَلَقَ فرصاً جديدةً لتوظيف الكوادر الوطنية وتحفيز القطاع الخاص على الاستثمار في التقنيات المتقدّمة.

نحو مركزٍ عالميٍّ للأحداث والمؤسسات

حرصت الحكومة السعودية على خلق بيئةٍ جاذبةٍ للفعاليات الرياضية والثقافية والاقتصادية الدولية. فاستضافت المملكة بطولاتٍ كبرى في كرة القدم، وسباقات السيارات العالمية، ومنافسات التنس وغيرها، ما تطلّب تحديثاً هائلاً في البنية التحتية الرياضية والسياحية، وتطوير التشريعات لاستقطاب المستثمرين والجهات المُنظِّمة للفعاليات العالمية. وعلى الصعيدَين الثقافي والاقتصادي، رُوِّج للمملكة بوصفها وجهةً مفضلةً للسياحة والأعمال، بفضل توفر شبكات نقلٍ متطورة وخدماتٍ فندقيةٍ دولية، ما رسَّخ موقعها بوصفها قوةً إقليميةً ودوليّةً لمختلف الفعاليات والمؤتمرات.

«رؤية 2030»: خريطة طريقٍ... ومستقبلٌ واعد

تُمثّل «رؤية السعودية 2030» جوهر عملية التحوّل التنموي الشامل. فمنذ إطلاقها، شرعت المملكة في تنفيذ مشروعات كبرى للطاقة المتجددة والصناعات التحويلية والبنية التحتية اللوجيستية والسياحية، بالإضافة إلى تحفيز القطاع الخاص، وخلق مساحاتٍ للاستثمار والتوظيف في مجالات الصحة والتعليم والإسكان. توازت هذه المسارات مع جهودٍ متواصلة في حماية البيئة، وتنمية الغطاء النباتي، وتعزيز الصحة العامة، وتشجيع الرياضة. ومع دخول عام 2025، تُظهِر المؤشرات توجّهاً متسارعاً نحو بناء قاعدةٍ اقتصاديةٍ أكثر تنوعاً واعتماداً على التكنولوجيا والمعرفة، مع ترسيخ قيم الاستدامة والحفاظ على البيئة، بغية الوصول إلى مجتمعٍ حيويٍّ واقتصادٍ مزدهرٍ ووطنٍ طموح.

 


مقالات ذات صلة

60 شاحنة إغاثية سعودية تتجه إلى سوريا

الخليج القوافل الإغاثية السعودية في اتجاهها إلى سوريا (مركز الملك سلمان للإغاثة)

60 شاحنة إغاثية سعودية تتجه إلى سوريا

واصلت السعودية عطاءها الإنساني اللامحدود للسوريين، حيث اتجهت من العاصمة الرياض، السبت، 60 شاحنة إغاثية تحمل على متنها مساعدات متنوعة إلى سوريا.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
الاقتصاد الأمير محمد بن سلمان ولي العهد رئيس مجلس الوزراء (الشرق الأوسط) play-circle 00:54

السعودية تجهّز «مجمع الملك سلمان» ليصبح موطناً لتصنيع السيارات المستدامة عالمياً

جاء إعلان ولي العهد رئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز، إطلاق تسمية «مجمّع الملك سلمان لصناعة السيارات» ليصبح موطناً لتصنيع المركبات.

بندر مسلم (الرياض)
الخليج أفراد من خدمات الطوارئ في موقع الحادثة الثلاثاء (أ.ف.ب)

خادم الحرمين وولي العهد يُعزيان في ضحايا إطلاق نار بالسويد

بعث خادم الحرمين الشريفين وولي العهد برقيتي عزاء ومواساة، لعاهل السويد إثر حادثة إطلاق نار بمدرسة في بلاده.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
الخليج الهيئة دعت إلى الاستفادة من القواعد بصفتها إحدى صور العدالة الرضائية (الشرق الأوسط)

السعودية تقرّ قواعد إجراء التسويات مع مرتكبي جرائم الفساد

صدر أمر خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز بالموافقة على قواعد إجراء التسويات المالية مع مرتكبي جرائم فساد من ذوي الصفة الطبيعية أو الاعتبارية.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
خاص الملك سلمان في مكتبه إبان توليه منصب وزير الدفاع السعودي (مؤسسة التراث)

خاص سلمان... ماذا سيكتب التاريخ؟

عمل خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في خدمة بلاده لما يربو على سبعين عاماً عاصر خلالها ما مرَّت به السعودية من تحديات وتطورات.

بندر بن عبد الرحمن بن معمر (الرياض)

سلمان... ماذا سيكتب التاريخ؟

الملك سلمان في مكتبه إبان توليه منصب وزير الدفاع السعودي (مؤسسة التراث)
الملك سلمان في مكتبه إبان توليه منصب وزير الدفاع السعودي (مؤسسة التراث)
TT

سلمان... ماذا سيكتب التاريخ؟

الملك سلمان في مكتبه إبان توليه منصب وزير الدفاع السعودي (مؤسسة التراث)
الملك سلمان في مكتبه إبان توليه منصب وزير الدفاع السعودي (مؤسسة التراث)

بنى الملك عبد العزيز مجداً لأمته بتوحيد أراضي جزيرة العرب وحماية محيطها، وتأسيس دولته الحديثة امتداداً لدولة أسلافه التي أعادت للعرب مكانتهم وهيبتهم بعد قرون من التفرق والشتات. كانت مهمته شاقة وعسيرة استلزمت تضحيات وواجهت تحديات، إلا أن المهمة الأصعب التي ورثها أبناء عبد العزيز حين توفي عام 1953 (1373هـ)، هي الحفاظ على استقرار البلاد.

كانت السنوات التي تلت وفاة الملك المؤسس مليئة بالتحديات والأزمات ومحاولات زعزعة استقرار المملكة العربية السعودية، وعلى الرغم من ذلك كانت أعوام بناء لكثير من مؤسسات الدولة ومرافقها، وتوسعات للحرمين الشريفين وعمران للمدن، وتطور للتعليم والصحة والخدمات الاجتماعية، والطرق والمواصلات، وبناء الإنسان. كان الشغل الشاغل لقادة المملكة المحافظة على الأمن والاستقرار مع تنمية البلاد وتلبية حاجات إنسانها ونقلها إلى مصافِّ الدول المتقدمة، وكان لهم ذلك.

محاولات زعزعت الاستقرار خطَّطت لها حركات تحمل الآيديولوجيات اليسارية من ماركسية وشيوعية وبعثية وناصرية وقومية، لكنها تصف نفسها بالوطنية. كانت هناك عدة محاولات تستهدف نظام الحكم السعودي، جرى معظمها في الفترة ما بين 1954 و1969، ولنا أن نتخيل لو نجحت أي منها: كيف سيكون العالم اليوم من دون المملكة العربية السعودية؟ وكيف سيكون وضع الحرمين الشريفين؟ وما حال أسواق الطاقة وتأثير ذلك على الأمن والسلم العالميين؟ وماذا عن الأمن والاستقرار في الجزيرة العربية والخليج؟ خصوصاً عندما نرى ما حلَّ ويحلّ بدول محيطة، وتتوالى الأسئلة: ماذا لو لم يوحِّد عبد العزيز (الكيان الكبير)، كما يحلو للمؤرخ الأستاذ محمد حسين زيدان أن يسميه؟ وماذا لو لم يحافظ على هذه الوحدة أبناء عبد العزيز؟

لقد كانت هذه التوطئة ضرورية لإدراك دور خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، في خدمة الكيان الكبير لما يربو على سبعين عاماً، ومعاصرته ما مرَّت به البلاد من تحديات وتطورات، ومع ذلك لا يمكن لصفحات كهذه الإحاطة بسيرة ومسيرة الملك سلمان بن عبد العزيز، لكن التوقف عند بعض المحطات والمواقف قد يُلقي الضوء على جوانب من شخصيته ورؤيته، ويفسر ما وصلت إليه المملكة العربية السعودية تحت قيادته:شرف الخدمة.

خادم الحرمين الشريفين يرأس أعمال القمة الافتراضية لقادة دول مجموعة العشرين

لم تشر المصادر إلى تولي سلمان بن عبد العزيز أي منصب رسمي في عهد والده، وهو ينظر إلى الخدمة العامة على أنها واجب مَن تُسند إليه المسؤولية، «لأن الوطن أعطانا الكثير والكثير، لذا يجب ألا ننسى واجبه علينا». في حفل افتتاح مركز (الأمير) سلمان الاجتماعي في الرياض الذي أُقيم تحت رعاية الأمير سلطان بن عبد العزيز عام 1997 (1417هـ) ارتجل (الأمير) سلمان كلمة مؤثرة قال فيها:

«لم أسعَ في يوم من الأيام لأن أكون مكرما... لأنني أعتقد أن الإنسان عندما يتولى المسؤولية فهو يعمل واجباً عليه... أنا لم أقدم لهذه المنطقة أو لهذه البلاد شيئاً من عندي؛ بل كنت خادماً لملوك هذه البلاد، وكنت أتمنى أن أخدم والدي الملك عبد العزيز رحمه الله (قالها بتأثر واضح)، لكنني تمكنت من خدمة ديني وبلادي تحت إشراف الملك سعود والملك فيصل والملك خالد والملك فهد وولي عهده (الأمير) عبد الله، لذلك عندما طُرحت (الفكرة) وجاءني بعض الإخوة، رفضت فعلاً... وعندما جاءوني مرة أخرى وعرفت أن المشروع ليس تكريماً في مظهر؛ بل لإقامة عمل يخدم هذه المدينة وأبناءها المتكونين من كل أنحاء المملكة، وافقت، وهذا واجب عليّ...»، وهو هنا يشير إلى الفكرة التي جرى تداولها لتكريمه بمناسبة مرور 40 عاماً على توليه إمارة الرياض، وما تحقق من إنجازات. القصة طويلة وتفاصيلها كثيرة لكنَّ هذا الموقف يُظهر فلسفة خادم الحرمين الشريفين ونظرته إلى الخدمة العامة وأنها شرف للشخص المكلف بها، علاوة على كونها مسؤولية، وهو ما أظهره طوال خدمته المتصلة لدولته وقيادته من تفانٍ فيما أُوكل إليه من مهام وما تولاه من مناصب على مدى سبعة عقود. يقول شقيقه الأمير سلطان: «سلمان خير مَن حكم وجاهد وعمل في مدينة الرياض، لقد كان قوياً بحكمة، حازماً برحمة، وكان وفياً لخدمة دينه وولي أمره وما وُلِّي عليه من شعب، لذلك لا يُستكثر عليه أي أعمال يقوم بها أو قام بها فعلاً». هذا التفكير في الاستدامة والأثر الذي يبقى من خلال الاستفادة من المناسبات الاحتفائية أو التاريخية لم يكن الوحيد، فكثير من المشروعات القائمة اليوم في الرياض، مثل: مكتبة الملك فهد الوطنية، ومركز الملك عبد العزيز التاريخي، من ملامح الفكر السلماني التنموي الذي يستثمر الفرص والمناسبات التي تتوفر للمدينة ويحوِّلها إلى مشروعات مستدامة.

الأمير والإمارة

ارتبط سلمان (الأمير حينها) بالرياض وارتبطت به، فهي المدينة التي عاش بين جوانبها صباه وشبابه، وعاشت في داخله طوال حياته، تولى إمارتها ثلاث مرات: الأولى تكليفاً بالنيابة عن أخيه نايف بن عبد العزيز، أمير الرياض وقتذاك، حيث أصدر الملك سعود أمراً ملكياً في 16 مارس (آذار) 1953 (11 رجب 1373هـ)، بتوليه إمارة الرياض بالنيابة عن الأمير نايف الذي سافر في رحلة علاجية. والثانية بعد استقالة الأمير نايف بسبب ظروفه الصحية، حيث صدر المرسوم الملكي يوم 18 أبريل (نيسان) 1955 (25 شعبان 1374هـ)، بقبول استقالة الأمير نايف وتعيين (الأمير) سلمان أميراً للرياض، واستمر في المنصب حتى استقالته في 21 سبتمبر (أيلول) 1960 (30 ربيع الأول 1380هـ). وفي 4 فبراير (شباط) 1963 (10 رمضان 1382هـ) صدر الأمر الملكي بتعيينه أميراً لمنطقة الرياض للمرة الثانية التي استمرت لمدة 50 عاماً نقل الرياض خلالها نحو آفاق غير مسبوقة عمرانياً واقتصادياً وثقافياً.

خادم الحرمين الشريفين وولي العهد خلال حفل وضع حجر الأساس لمشروع بوابة الدرعية في نوفمبر 2019 (واس)

كانت إمارته للرياض تجربة فريدة في الحكم والإدارة والتنمية، فعلى مدى أكثر من نصف قرن ظل قريباً من قادة البلاد وشؤون الحكم، مطَّلعاً على الملفات ومشاركاً في اللقاءات ومبعوثاً للملوك، وتوسَّعت مهامه وازدادت وظائفه وكبرت مسؤولياته، وأصبح كبير مستشاري الملوك وعميد الأمراء وأمين سر الأسرة المالكة، يعرف أفرادها وتُحال إليه قضاياها ويحل مشكلاتها، وهذه في حد ذاتها مهمة ليست باليسيرة! وسأتوقف عند موقف رواه الدكتور عبد العزيز الثنيان الذي عمل عن قرب مع الملك سلمان عندما كان أميراً للرياض، يقول: «كنت ذات يوم في مكتب الأمير وأنا مدير تعليم الرياض، وكان في المكتب اثنان يعرضان للأمير المعاملات، وفجأة فتح الحارس باب المكتب ودخل أمير طويل القامة، حسن الصورة أحسبه في الـ40 من عمره، وحين رآه الأمير سلمان وقف على الفور ووقفنا وأنَّبه وقرَّعه ووبَّخه، واستمر في تأنيبه وتقريعه، ثم وضع الأمير سلمان يديه خلفه واستدار يمنةً ويسرةً، وعلا صوته، وقال: يا رجل أو تريد هدم المجد الذي بناه الملك عبد العزيز ورجاله؟! أو تريد تشويه الحكم والإمارة؟!

ووقف الرجل صامتاً فاغراً فاه مطأطئاً رأسه، والأمير سلمان يقرِّع ويؤدّب، ثم ختم الأمير سلمان حديثه بأن قال له: اخرج وأصلح ما خرّبت، وإياك أن تتصرف مثل هذا التصرف، واعلم أن خصمك ما تركك خوفاً منك، أو عجزاً عنك، ولكن تركك لأنه يعلم مكانتك ووجاهتك، ولكن اعلم أن مكانتك عندنا لا تسمح لك بالتعدي والتطاول. اخرج وأصلح ما أفسدت وإياك والعودة لمثل هذا التصرف، واعلم أن الشرع لأكبر رجل وأصغر مواطن، لا فرق بين هذا وذاك، ولا بين أمير وآخر، القضاء مطهرة، والقضاء للجميع. وخرج الرجل يندب حظه».

تلخص هذه القصة أسلوب سلمان في الحكم؛ فلا فرق عنده بين أمير وغيره، وأن الانتساب إلى الأسرة مسؤولية قبل أن يكون شرفاً.

خادم الحرمين الشريفين يزور منطقة قصر الحكم في مدينة الرياض 10 نوفمبر 2022 (واس)

كانت معرفة سلمان عميقة برجالات الدولة، وآليات عمل أجهزة الحكومة وبيروقراطيتها، إضافةً إلى تواصله مع مكونات المجتمع من العلماء والوجهاء والأعيان وشيوخ القبائل والمثقفين والأكاديميين والإعلاميين ورجال الأعمال وغيرهم. علاوة على سعة معرفته بالمسؤولين المدنيين منهم والعسكريين، على اختلاف مستوياتهم ومناصبهم ورتبهم ومراتبهم، ناهيك بدقته في معرفة الأسر والقبائل والأنساب والعلاقات الاجتماعية.

ذلك كله وغيره جعل تجربته في إمارة الرياض متفردة، وإنجازاته متميزة، مما جعل الملك فهد يختاره لرئاسة اللجنة التي أعدَّت مسوَّدة مشروع نظام المناطق الذي صدر عام 1992 (1412هـ)، وما مكَّنه، إضافةً إلى ما يتمتع به من بُعد نظر وعمق سياسي وفكر بنَّاء، من إدارة الكثير من الملفات والقضايا المهمة داخلياً وخارجياً، وكان بالنسبة لإخوته الملوك «رجل المهمات الصعبة». كأن نجاحاته في الرياض كانت مقدمة إلى ما حققه عند قيادته البلاد.

أروقة السياسة

مع كل المهام الموكلة إليه في الإمارة، لم يقتصر عمله على إدارته لعاصمة بلاده وشؤون أسرة الحكم والملفات الأخرى التي تتطلب جهداً استثنائياً وعملاً دؤوباً؛ بل كان سلمان حاضراً ومشاركاً في أدق المراحل السياسية التي مرت بها المنطقة.

عرف خلال رحلته الطويلة الأحزاب والحركات والتيارات السياسية في العالم العربي وغيره وتعرف إلى ارتباطاتها وخلفياتها وعقائدها وزعمائها، وتعمق في فهم الخريطة السياسية للدول وتوازنات القوى في العالم.

أعباء الحكم

انتقل من إمارة الرياض صاعداً في سلّم الحكم، فتولى ملف الدفاع عن البلاد في عام 2011 (1432هـ) خلفاً لشقيقه الأمير سلطان، وبدأ في إعادة تنظيم وهيكلة الوزارة والقوات المسلحة السعودية ووضع أسس استراتيجية الدفاع الوطني، وهو ما عُرف لاحقاً ببرنامج تطوير وزارة الدفاع.

ثم في عام 2012 (1433هـ) اختاره الملك عبد الله لولاية العهد خلفاً لشقيقه الأمير نايف، وعيَّنه نائباً لرئيس مجلس الوزراء مع احتفاظه بحقيبة «الدفاع»، فكان خير معين لمليكه، سانده في حماية مكتسبات البلاد وحفْظ أمنها واستقرارها في فترة التقلبات والقلاقل في المنطقة، وناب عنه في فترة مرضه متحملاً مسؤوليات الدولة وأعباء الحكم. وطوال مسيرته العملية رأس عدداً من الهيئات واللجان والجهات ونال كثيراً من الأوسمة.

خادم الحرمين الشريفين يزور منطقة قصر الحكم بالرياض في نوفمبر 2022 (واس)

 

 

كل هذه التجارب والخبرات زادت من معرفته بأبعاد الأمن الوطني السعودي ومهدداته، كما جعلته ينظر نظرةً مختلفة إلى أهمية تماسك الأسرة الملكية كونها الضامنة لاستقرار الحكم ووحدة البلاد وأمن الدولة، وأن أبناء عبد العزيز وبعد ذلك أحفاده هم الأمناء على العرش.

من هنا كان سلمان يعرف أسس استقرار البلاد وأهمها ترتيبات مؤسسة الحكم، والتحديات التي تواجه نقل السلطة إلى جيل أحفاد عبد العزيز، فقام فور مبايعته ملكاً إثر وفاة الملك عبد الله يوم 3 ربيع الآخر (1436هـ)، 23 يناير (كانون الثاني) 2015، بتهيئة ثم تمكين جيل من الأمراء الشباب لتحمل المسؤولية.

أما الأمر الثاني، فكان التحديث السعودي الشامل؛ مواكبةً لمتغيرات المرحلة ومواجهةً لتحديات العصر.

حمل سلمان رسالة عبد العزيز وتعمقت في نفسه، مستشعراً أن مهمته ليس المحافظة على كيان الدولة وحفظ مصالحها فحسب؛ بل توفير احتياجات المجتمع السعودي وخدمة الأمة، تلك هي رسالة عبد العزيز التي حملها أبناؤه من بعده، وكان هاجس كل منهم أن يؤدي الأمانة كاملة كما تسلَّمها، لكن المفارقة أن كل ملك من أبناء عبد العزيز لم يُسلّم البلاد لخلفه كما تسلمها؛ بل أفضل من ذلك!

ودائماً ما تتجلى حكمة وحنكة الملك سلمان في الأوقات العصيبة والأزمات الطارئة. يقول الدكتور توفيق الربيعة: «إنه في أثناء جائحة كورونا وحينما توالى صدور قرارات وقف العمرة ثم الصلاة في الحرمين الشريفين، وشاهد الملك عبر التلفزيون الحرم فارغاً من المصلين حزن وقال: يجب ألا توقَف الصلاة نهائياً في الحرم، يمكن للعاملين وموظفي شؤون الحرمين أن يجري فحصهم ويصلوا في الحرم، لكن يجب ألا توقَف الصلاة نهائياً. كان مهتماً جداً بمثل هذه التفاصيل، مهتماً بألا يُرى الحرمان فارغين وأبوابهما مغلقة بالكامل فأحبَّ أن يضع استثناءً للاستثناء».

لم أسعَ في يوم من الأيام لأن أكون مكرماً... الإنسان عندما يتولى المسؤولية فهو يعمل واجباً عليه

الملك سلمان بن عبد العزيز في كلمة ارتجالية

إن سلمان هنا يستشعر مسؤوليته ليس بصفته ملكاً فحسب؛ بل بصفته إماماً للمسلمين أيضاً، لذا رأى العالم حرصه على إقامة شعائر الحج في بيئة منظمة وبأعداد محدودة خلال جائحة كورونا تعظيماً لشعائر الله واستشعاراً للمسؤولية والواجب الشرعي تجاه المسلمين من جهة، وتحقيق مقاصد الشريعة الإسلامية في حفظ النفس البشرية من جهة أخرى.

لقد عاش سلمان تاريخ بلاده وشارك في بنائها وأسهم في استقرارها، ووعى المخاطر المحيطة بها، وعاصر تحولاتها وانخرط في تنميتها، وكان أحد أركان الدولة وأعمدتها، كما كان صماماً من صمامات مؤسسة الحكم، وركناً من أركان الدولة لنصف قرن أو يزيد؛ خدم ملوك البلاد في عهود إخوته سعود وفيصل وخالد وفهد وعبد الله، أميراً ووزيراً وولياً للعهد ونائباً لرئيس مجلس الوزراء، وفي كل هذه المراحل كان سلمان أكبر من المناصب وأفخم من الألقاب.

عهد ورؤية

وبعد فهذا قليل من كثير عن سلمان بن عبد العزيز الإنسان والمسؤول، ويبقى الأكثر ليُروَى ويدوَّن، لكن المهم أنه حين ينظر السعوديون إلى عهد الملك سلمان فسوف يجدون أنه ضخ تجديداً في شرايين الدولة جعلها أكثر قوة وأقدر على مواكبة العصر والانطلاق نحو المستقبل وفق رؤية واضحة ونهج إصلاحي شامل. لقد كانت خبرات سلمان وتجاربه على مدى سبعة عقود في دواوين الحكم وأروقة السياسة ودهاليز الحكومة وتوازنات الأسرة، علاوة على معرفته بفضاءات الثقافة وقنوات الإعلام ومؤسسات الصحافة، وقربه من جمعيات البر وهيئات الإغاثة والعمل الخيري مطَّلعاً على التفاصيل وملمّاً بالملفات وعارفاً بخلفيات الأشخاص وتوجهاتهم وانتماءاتهم، مدركاً للأخطار التي تحيط بالبلاد والتحديات التي تواجه الدولة والمجتمع... كانت عصارة 70 عاماً أثمرت خططاً ورؤىً مختلفة لمعالجة المشكلات المؤجلة وحلحلة القضايا المعلَّقة، فإذا أضفنا إليها قوة الشخصية ووضوح الرؤية وسرعة اتخاذ القرار أدركنا كيف تم كل ذلك التجديد والإصلاح في أعوام قلائل.

خادم الحرمين الشريفين لدى ترؤسه إحدى جلسات مجلس الوزراء في أكتوبر 2020 (واس)

لقد كان أحد أهم القرارات التي اتخذها الملك سلمان، إن لم يكن أهمها على الإطلاق، هو اختيار الأمير محمد بن سلمان ولياً للعهد، ضمن رؤية الملك الشاملة لتجديد الدولة ونقل الحكم إلى جيل الشباب، وهي الخطوة الأكثر جرأة وجسارة داخل مؤسسة الحكم منذ تأسيس المملكة العربية السعودية.

أتى هذا الاختيار الذي قُدمت فيه المصالح العليا للدولة على أي اعتبار آخر، ضمن رؤية الملك سلمان التجديدية الشاملة لمستقبل المملكة العربية السعودية، وستسطّر صفحات التاريخ أنه مَن قاد البلاد في هذه المرحلة السياسية بالغة الدقة والمنعطف التاريخي المهم، ونقل الحكم إلى جيل أحفاد عبد العزيز، وأعاد هيكلة الدولة وتجديد شبابها، مع المحافظة على النهج الذي قامت عليه البلاد. وحين تُذكر قائمة إنجازات سلمان ملكاً سيكون هذا الاختيار أولها إن لم يكن أبرزها، لذا نرى هذه العلاقة التكاملية بين الملك وولي عهده، وهذا الدور الكبير الذي قام به الأمير محمد بن سلمان بمتابعة وتوجيه من والده ومليكه سلمان بن عبد العزيز، الذي كأنما أراد أن يكون هو على ضفة العبور وولي عهده على الضفة الأخرى لتأمين انتقال البلاد إلى المستقبل. تصعب الإحاطة بجميع جوانب سيرة الملك سلمان، كما يتعذر حصر كل ما حققه من إنجازات طوال مسيرته؛ أما ما تحقق للبلاد والعباد منذ توليه مقاليد الحكم، فبدأت بإصلاحاته المؤسسية خلال الأسبوع الأول من حكمه بصدور عشرات الأوامر التي كانت مؤشراً وعنواناً للرؤية التجديدية للدولة، من خلال إعادة هيكلة الحكومة بإلغاء اللجان والهيئات والمجالس المتعددة وإنشاء مجلسين؛ أحدهما للشؤون السياسية والأمنية، والآخر للشؤون الاقتصادية والتنمية، وإدماج بعض الوزارات وضخ كفاءات شابة في شرايين الدولة.

خادم_الحرمين الشريفين لدى رعايته حفل وضع حجر الأساس لمشـروع القدية في أبريل 2018 (واس)

كانت تلك هي البداية التي استمرت لتطوير الأداء الحكومي وتسريع وتيرة العمل واستثمار الطاقات والكفاءات والرهان على الشباب. كان «الإصلاح الشامل» هو العنوان الأبرز لـ«الحكم السلماني» وجاء «التخطيط الاستراتيجي» سمةً فارقةً للمرحلة، إذ أعلن الملك سلمان أن هدفه الأول «أن تكون بلادنا نموذجاً ناجحاً ورائداً في العالم على الأصعدة كافة، وسأعمل معكم على تحقيق ذلك». وبعد أن أدى المسؤولون الجُدد القَسَم أمامه قال إنه «يتمنى لهم التوفيق في أداء مهامهم لخدمة شعبنا الذي لن أقبل التقصير في خدمته».

المساءلة والشفافية ومكافحة الفساد برزت عناوين منذ البداية، ولو أردنا أن نلخص باقي العناوين العريضة للمرحلة لاحترنا؛ فمن تطوير القدرات العسكرية والدفاعية، إلى العناية بالأمن بمفهومه الشامل بما في ذلك الأمن الغذائي والسيبراني، ومكافحة التطرف والإرهاب، وتنظيم العمل الإغاثي والخيري، كما غدت الشراكات الاستراتيجية ملمحاً مهماً في السياسة الخارجية السعودية.

ثم أتى المشروع النهضوي الكبير (رؤية المملكة العربية السعودية 2030) ببرامجها ومبادراتها وحوكمتها ومستهدفاتها، فدخلت البلاد مرحلة التحول الكبرى اجتماعياً واقتصادياً وثقافياً، ومُكّنت المرأة كما مُكّن الشباب، وسجلت الصحة والتعليم قفزات نوعية وتقدمت المملكة العربية السعودية في التعليم الإلكتروني وفي مجال الابتكار والتطوير. وجاءت استجابة الحكومة للتعامل مع جائحة كورونا في المركز الأول عالمياً، وقدمت أنموذجاً متفرداً في إدارة الأزمات.

خادم الحرمين الشريفين يطلق 4 مشروعات نوعية كبرى لامست 23 مليار دولار (86 مليار ريال) في مدينة الرياض عام 2019 (واس)

ووصف البنك الدولي الإصلاحات السعودية «من بين أفضل 20 بلداً إصلاحياً في العالم، والثانية من بين أفضل البلدان ذات الدخل المرتفع ودول مجموعة العشرين من حيث تنفيذ إصلاحات تحسين مناخ الأعمال». كما تقدمت في سلم الترتيب العالمي لمؤشر البنية التحتية الرقمية للاتصالات وتقنية المعلومات، وصُنفت ضمن المراتب العشر الأولى عالمياً في سرعة الإنترنت. وحققت المركز الأول في التنافسية الرقمية على مستوى دول مجموعة العشرين. وفي المجال العدلي جرى تطوير الأنظمة والقوانين والبيئة التشريعية، حيث صدرت وعُدلت مئات الأنظمة واللوائح لمواكبة النهضة التشريعية التي تمر بها المملكة. كما حصلت وزارة العدل على جائزة «أفضل اتصال حكومي» على مستوى العالم العربي. وحُلحلت ملفات كان يُظَنّ فيما مضى أنه لا حل لها، كالبطالة والإسكان. أما القطاعات الأخرى: الطرق والنقل والصناعة والبيئة والثقافة والبلديات والتجارة والرياضة والسياحة والترفيه وغيرها، فحققت قفزات نوعية وإنجازات متعددة.

ونتيجة لكل ما تحقق من منجزات، حظيت المملكة بثقة عالمية جعلت منها إحدى الوجهات الأولى للمراكز العالمية والشركات الكبرى، ومراكز لنشاطات دولية متعددة في الرياضة والاستثمار والثقافة وبوابة تواصل حضاري، مما أسهم في اختيارها لاستضافة «إكسبو 2030»، وتنظيم كأس العالم عام 2034.

خادم الحرمين الشريفين يفتتح مشروع قطار الرياض في نوفمبر 2024 (واس)

لكن الثقة الأهم كانت ثقة الشعب السعودي بقيادته، وتقدُّم السعودية سنوياً في مؤشر السعادة العالمي الصادر عن الأمم المتحدة، الذي يقيس مؤشرات السعادة والرفاهية وجودة الحياة.

لقد ترجم ولي العهد رؤى الملك وجعلها واقعاً معيشاً، وبطريقة مذهلة جعلت من سعودية اليوم شيئاً مختلفاً، ومع ذلك تظل امتداداً لما سبقتها من مراحل وليست منفصلةً عنها، يدل على ذلك الثبات على المبادئ والأسس التي قامت عليها الدولة والاتكاء على الإرث التاريخي والعمق الحضاري لها، كأن عهد سلمان هو المسار الذي ربط الماضي بالمستقبل والذي مزج بين مرحلتين تتمِّم إحداهما الأخرى وتكون امتداداً لها وتثبيتاً لدعائمها.

واليوم ونحن نكتب شيئاً من تاريخ سلمان، نقرأ في الوقت ذاته رؤيته وإنجازاته وهذه النهضة الكبرى التي يقودها للعبور إلى المستقبل، يقول الدكتور زين العابدين الركابي: حسب زعيمٍ من النجاح، أن يجتنب العواصف، ويغالب الأنواء وهو يقود سفينته إلى البر الآمن... أما أن يضيف إلى هذه المهمة الصعبة «رؤية تقدمية» في العمل والبناء فإن هذا هو النجاح «النادر» أو «الفريد».

وقبل الختام أود التأكيد أنني هنا قارئ لتاريخ ولست مدوناً لسيرة سلمان بن عبد العزيز، حرصت من خلال هذه القراءة على كتابة قبسات عن زوايا في حياته، وجوانب من مسيرته، وإضاءات عن بعض أدواره ومواقفه، أسطرها؛ وأتوجه من خلالها إلى الباحثين والمؤرخين أن ينقّبوا في ثنايا هذا التاريخ وأن يعتنوا بحثاً وتحليلاً بجوانب هذه السيرة، فسبعون عاماً في خدمة الدولة وفي أعلى المناصب ومن ثم قيادتها في واحدة من أدق المراحل ليست بالقصيرة ولا باليسيرة؛ بل تستحق أن يُحاط بها وأن تُتناول من جميع نواحيها.