يمثل انتخاب كاثرين مارتينا آن كونولي (68 سنة)، عاشر رئيس لجمهورية آيرلندا، أخيراً، تحولاً بارزاً في المشهد السياسي الآيرلندي. النائبة والاختصاصية في علم النفس والمحامية السابقة، معروفة بقربها من أحزاب اليسار ودفاعها المستميت عن الحياد العسكري لبلادها. وبفوزها - محققة نصراً ساحقاً يوم 25 أكتوبر (تشرين الأول)، وبتوليها المنصب رسمياً يوم 11 نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي - باتت كونولي ثالث امرأة تتولى هذا المنصب الرمزي، ولكن المؤثر، بعد ماري روبنسون وماري ماكاليس. ثم إنها تكرّس بوصولها إلى رئاسة الجمهورية تقليداً آيرلندياً في تفضيل شخصيات مستقلة تدعم دور رئيس الحكومة، وتؤدّي دور «ضمير الأمة» وصوت السلام والدبلوماسية والحياد.
أعلنت كاثرين كونولي ترشحها لرئاسة الجمهورية الآيرلندية في يوليو (تموز) الماضي، لخلافة الرئيس والشاعر مايكل د. هيغينز، وكان هيغينز قد احتفظ بمنصب الرئيس لمدة أربع عشرة سنة (أي عهدتين). ولقد شكل ترشّحها نقطة تلاقٍ نادرة للأحزاب والقوى اليسارية في آيرلندا، حيث حظيت بدعم واسع من أحزاب قومية مثل «شين فين» (Sinn Féin)، والديمقراطيين الاجتماعيين، وحزب العمال، والعديد من النواب المستقلين.
ويوم الاقتراع في الانتخابات الرئاسية، لم تواجه كونولي سوى منافسة واحدة بعد انسحاب مرشح الحكومة، هي المرشحة هيذر همفريز من حزب «فين غايل» (يمين الوسط)، وقد حققت كونولي فوزاً ساحقاً وغير متوقع عليها حاصدة أكثر من 63 في المائة من الأصوات مقابل نحو 29 في المائة فقط لمنافِستها.
هذا الفوز لم يكن مجرد انتصار لليسار، بل كان أيضاً تعبيراً عن رغبة الآيرلنديين في انتخاب شخصية مستقلة وذات نزعة غير تقليدية، تخدم دور الرئيس باعتباره «بطلاً للشعب ومدافعاً عن المُستضعفين».
ومن ثم، في خطابها من «قلعة دبلن» - مقر الحكم البريطاني السابق للدولة الجزيرة - في العاصمة دبلن، تعهّدت كونولي بأن تكون «رئيسة للجميع»، و«صوتاً للسلام والدبلوماسية والحياد»، مؤكدة ضرورة بناء «جمهورية تقدّر الجميع» بلا تمييز أو تحيّز. ولقد نظم حفل تولي كونولي وأدائها قسم يمين مهام منصبها رسمياً يوم 11 نوفمبر الحالي، وبعده غدت الرئيس العاشر لآيرلندا، معلنة بذلك مرحلة جديدة في التاريخ السياسي الآيرلندي.
المولد والنشأة
وُلدت كاثرين كونولي يوم 12 يوليو من عام 1957، ونشأت في ضاحية شانتالا المتواضعة بمدينة غالواي، كبرى مدن الساحل الغربي لآيرلندا. ونشأت في كنف عائلة كبيرة؛ إذ كانت التاسعة من بين 14 شقيقاً (سبعة أولاد وسبع بنات)، ما غرس فيها الوعي المبكّر بأهمية الجماعة والتضامن.
كان والدها يعمل نجاراً وبانياً للقوارب، ولطالما عمل في بناء سفن الصيد التقليدية المعروفة باسم «غالواي هوكر»، بينما توفيت والدتها بعمر الثالثة والأربعين عندما كانت كاثرين في التاسعة من عمرها، ويُشتبه في أن سبب وفاتها كان متعلقاً بمضاعفات الربو.
في شانتالا، نشأت الأسرة في واحدة من أوائل مجمّعات الإسكان الاجتماعي لذوي الدخل البسيط في غالواي. وكانت هذه البيئة هي المنبع الذي تعلّمت منه كاثرين قناعاتها «الاشتراكية» المبكّرة، كما تروي هي بنفسها؛ إذ انخرطت منذ عقد السبعينات في أنشطة تطوّعية كثيرة، بما في ذلك تنظيف المنازل وزيارة المستشفيات ومساعدة كبار السّن وذوي الاحتياجات الخاصة. وهذه الخلفية العائلية والاجتماعية في غالواي شكّلت فعلياً أساس التزامها اللاحق بالعدالة الاجتماعية والمجتمع.
عائلياً، أيضاً، كونولي متزوّجة من بريان ماكنيري، وهو معلّم في مهنة النجارة، ولهما ابنان بالغان، إلا أنها تحافظ على تكتّم صارم في كل ما يتعلق بحياتها الخاصة. فهي قليلاً ما تستخدم وسائل التواصل الاجتماعي، وتُعرف في أوساطها برفضها «ثقافة المشاهير» في السياسة، مفضلة التركيز على القضايا الجوهرية بدلاً من الظهور الإعلامي المبالغ فيه. وبالفعل، أظهرت هذه الخصوصية والتزامها بالعائلة والأصول المتواضعة مدى عمق ارتباطها بقضايا الطبقة العاملة.
من علم النفس إلى القانون
يُظهر مسار كاثرين كونولي التعليمي أثراً فكرياً واجتهاداً مهنياً لافتاً، يجمع بين الرعاية الإنسانية والصرامة القانونية. ذلك أنها بدأت مسيرتها الأكاديمية بحصولها على درجة البكالوريوس في علم النفس من جامعة غالواي في أواخر السبعينات. وعام 1981، حصلت على درجة الماجستير في علم النفس السريري من جامعة ليدز البريطانية، ثم مارست مهنة اختصاصية نفسية سريرية لعدة سنوات، ما منحها نظرة عميقة إلى التحدّيات الاجتماعية والنفسية التي يواجهها الأفراد.
بيد أن كونولي لم تتوقف عند هذا الحد، بل قرّرت التحوّل إلى مجال القانون، فعادت إلى جامعة غالواي من جديد، ومنها حصلت على درجة في القانون عام 1989. وأكملت تأهيلها القانوني في معهد «كينغز إن» العريق لتدريب المحامين في العاصمة دبلن. وهكذا أصبحت محامية ممارسة عام 1991، وباشرت نشاطها المهني القانوني في دبلن، وكان تكوينها العلمي المزدوج في علم النفس والقانون قد دعم شخصيتها بوصفها مدافعة صلبة عن العدالة، ومحامية قادرة على التعبير عن قضايا المهمّشين والمستضعفين، وكانت معظم القضايا التي تمثلها تتعلق بحقوق العمال والأسر والأجانب.
المسيرة السياسية والميول اليسارية
أما بالنسبة للمسيرة السياسية، فقد بدأت كاثرين كونولي مسيرتها السياسية الفعلية عام 1999، عندما انتُخبت عضواً في المجلس البلدي لمدينة غالواي ممثلة حزب العمال الصغير. وفي عام 2004 تولّت منصب عمدة غالواي، مدينتها الأم التي طالما ارتبطت بها. غير أنها استقالت من حزب العمال عام 2006، إثر خلاف حول اختيار المرشحين، وتحديداً، بعدما رُفض ترشّحها لخلافة مايكل د. هيغينز (رئيس الجمهورية التقدمي السابق الذي خلفته الآن في منصبه الرئاسي) في دائرة غرب غالواي، وهو ما شكّل نقطة تحوّل في حياتها السياسية؛ إذ منذ ذلك الحين، قرّرت كونولي خوض غمار السياسة بوصفها مرشحةً سياسية مستقلة، حتى انتهى بها المطاف للفوز بالمقعد النيابي (البرلماني) عن دائرة غرب غالواي عام 2016، وهو المقعد الذي حافظت عليه حتى انتخابها أخيراً للرئاسة في 2025.
طوال فترة عملها نائبةً في البرلمان، اتسم نشاط كونولي بالدفاع المستمر عن المساواة والمساءلة واللغة الآيرلندية. وفي عام 2020، صنعت التاريخ بانتخابها نائبةً لرئيس مجلس النواب (الدويل أيرن) - الغرفة السفلى لمجلسي البرلمان الآيرلندي - لتصبح أول امرأة تتولى هذا المنصب في تاريخ آيرلندا.
الوحدة الآيرلندية ورفض «الناتو»
في قضايا السياسة الخارجية، تتسم مواقف الرئيسة كونولي بأنها صلبة ومتشددة وذات جذور آيديولوجية عميقة، وتتسم بالانحياز الصريح للقضايا الإنسانية ومبدأ الحياد الآيرلندي. وتُعدّ من أشد المدافعين عن سياسة الحياد العسكري الآيرلندية التقليدية التي تعود إلى عقود. ولذا فهي، مثلاً، تعارض بشدة أي مقترح لانضمام آيرلندا إلى منظمة حلف شمال الأطلسي (ناتو)، أو تعميق العلاقات العسكرية الأوروبية التي قد تقوّض هذا الحياد. أيضاً، سبق لكونولي أن حذّرت مراراً من «عسكرة» الاتحاد الأوروبي المتزايدة، معتبرة أن الحياد ليس مجرد موقف سلبي، بل هو أداة دبلوماسية قوية تمنح آيرلندا دوراً فريداً كـ«بطل للسلام والوساطة» على الساحة الدولية، وهذا التزام كرّرت التمسك به في خطابها الرئاسي.
من جهة ثانية، تتبنى الرئيسة الجديدة موقفاً قوياً وداعماً لإعادة توحيد الجزيرة الآيرلندية وإنهاء تقسيمها. وهي تؤمن بضرورة إجراء «استفتاء الحدود» (أو «بوردر بول») المنصوص عليه في اتفاقية «الجمعة العظيمة» (الخاصة بالسلام في إقليم آيرلندا الشمالية). وتشدد على أن الحوار الشامل والتحضير الاقتصادي والاجتماعي يجب أن يسبقا أي تصويت. وفيما يخصها مباشرةً، أكدت كونولي أن دور الرئيس، رغم كونه رمزياً، يمكن أن يكون محفّزاً للوحدة من خلال تعزيز العلاقات الثقافية والاقتصادية مع الشمال، ودعم الأقلية القومية هناك.
القضية الفلسطينية وانتقاد إسرائيل
وعلى صعيد أوضاع الشرق الأوسط، تُعد كاثرين كونولي من أقوى الأصوات الآيرلندية والأوروبية دعماً للقضية الفلسطينية، ويُعرف عنها تبنيها موقفاً يسارياً صريحاً وناقداً بشدة لسياسات إسرائيل. بل ذهبت إلى حد المطالبة مراراً وتكراراً إلى طرد السفير الإسرائيلي من دبلن، وإلى فرض عقوبات اقتصادية على إسرائيل.
وفي تصريحات لها نشرتها صحيفة «ثي آيريش تايمز»، وغيرها من المصادر، أشارت كونولي إلى أن على الحكومة الآيرلندية تبني «قانون الأراضي المحتلة»، الذي يهدف إلى حظر استيراد البضائع والمنتجات المجلوبة من المستوطنات الإسرائيلية. وهي تشدّد على أن شراء هذه المنتجات هو بمثابة «التواطؤ مع الاحتلال الإسرائيلي».
وللعلم، شاركت كونولي في المسيرات والوقفات التضامنية مع فلسطين، مقدّمة نفسها على أنها «صوت للشعب الفلسطيني في البرلمان الآيرلندي». وأعربت عن قلقها البالغ بشأن وضع الأسرى الفلسطينيين، داعية إلى حمايتهم ووقف الممارسات الإدارية التي تنتهك حقوقهم. ويتوقع مراقبون أن يكون هذا الالتزام الثابت بالقضية الفلسطينية سمة مميّزة لفترة رئاستها، ما قد يعزّز الدور الآيرلندي في المحافل الدولية بوصفه صوتاً صريحاً ومناصراً للحقوق الفلسطينية.


