بعد الإعلان رسمياً عن مشاركة هي الأولى من نوعها للرئيس التونسي قيس سعيّد في الدورة السنوية للجمعية العامة للأمم المتحدة، خلال الشهر الجاري، تعاقبت التحركات، وكذلك التعليقات، على خلافات دبلوماسية وسياسية «غير مسبوقة» بين تونس وعدد من شركائها التقليديين، وبالأخص الولايات المتحدة وفرنسا ومفوضية الاتحاد الأوروبي، بل طرح هذا الأمر علامات استفهام حيال هذه «الخلافات» التي تتزامن مع استفحال الأزمة السياسية والاجتماعية الداخلية، وتنظيم مزيد من المحاكمات لعشرات البرلمانيين والسياسيين وكبار رجال الأعمال المتهمين بـ«التآمر على أمن الدولة» أو بـ«الضلوع في الإرهاب والفساد».
تتزامن التطورات الأخيرة مع تحركات دبلوماسية وعسكرية وأمنية أميركية وأوروبية ودولية في تونس، وأيضاً في المنطقة، بعضها يتصل بمستجدات الأزمات الأمنية والسياسية في ليبيا، والخلافات بين الجزائر والمغرب؛ إذ استقبل وزير الخارجية التونسي محمد علي النفطي، أخيراً في العاصمة التونسية، وفداً رفيعاً من الكونغرس الأميركي، بعد أيام من زيارة مسعد بولس، كبير موفدي دونالد ترمب ووالد صهره. وأيضاً سُجل في الكونغرس بواشنطن تحرّكان تجاه تونس أثارا ردود فعل محلية قوية في البرلمان والإعلام والطبقة السياسية التونسية:
الحدث الأول كان جلسة استماع في الكونغرس للضابط العسكري السابق ورجل الأعمال (اللبناني الشيعي الأصل) بيل بزّي، المقرّب من الرئيس ترمب، الذي عيّنه أخيراً سفيراً جديداً لدى تونس. وتعهد بزّي بتطوير علاقات تونس بالولايات المتحدة في القطاعات الاقتصادية والعسكرية والأمنية، وبـ«الحوار مع السلطات وممثلي المجتمع المدني التونسي» حول ملفات الديمقراطية وحقوق الإنسان والحرّيات.
أما الثاني فكان تحرك النائب الجمهوري جو ويلسون، المثير للجدل بمواقفه وتصريحاته النقدية العنيفة ضد السلطات التونسية، والرئيس السوري السابق بشار الأسد. ولقد قدّم ويلسون برفقة النائب الديمقراطي جيسون كرو، للكونغرس «مشروع قانون» لفرض عقوبات على السلطات التونسية بتهمة «انتهاك حقوق الإنسان وتقويض الديمقراطية». وذكر هذان النائبان أن نحو أربعين برلمانياً أميركياً يدعمون تحرّكهما الذي يحتاج إلى موافقة أكثر من خمسين في المائة من أعضاء الكونغرس، وهذا أمر يبدو «صعب التحقيق»، وفق خبراء في القانون الدولي، بينهم التونسي حاتم قطران، وعدد من البرلمانيين والسياسيين التونسيين المساندين للرئيس سعيّد.
مؤشّرات
على الرغم من تنويه «الخارجية» التونسية بـ«الصبغة الاستراتيجية» لعلاقات تونس بواشنطن وشركائها الأوروبيين، برزت مؤشرات لـ«فتور» في علاقات تونس بعدد من العواصم الغربية، بينها باريس وواشنطن وبروكسل. وفاقم رفع إدارة ترمب الرسوم الجمركية على الصادرات التونسية إلى أميركا «سوء التفاهم» بين تونس وواشنطن، مقارنة بتطورات علاقاتها بعواصم عربية أخرى، منها الرباط.
كذلك تزايد الاهتمام بـ«تغيير تونس أولويات سياستها الخارجية» بعد الكشف عن دعوة السلطات التونسية نحو 30 سفيراً ورئيس بعثة دبلوماسية إلى العودة. وبالمناسبة، لم تصدر بعد قائمة السفراء الذين سيعوّضونهم.
ومن جهة أخرى، صدرت مواقف عديدة في تونس تنتقد «التصعيد الجديد ضد رموز الدولة التونسية»، من قبل عدد من أعضاء الكونغرس الأميركي والساسة والإعلاميين والحقوقيين الأوروبيين. وكان أحد أعضاء الكونغرس شبّه وضعية تونس بوضعية «سوريا في عهد بشار الأسد»، وهو ما أثار ردود فعل عنيفة بالجملة في أوساط الرسميين والمعارضين التونسيين.
تنويع الشركاء
في الأثناء، أكدت التصريحات الصادرة قبل أيام في اليابان عن رئيسة الحكومة التونسية سارة الزعفراني الزنزري، خلال رئاستها وفد تونس إلى «القمة اليابانية - الأفريقية» (تيكاد)، وجود «إرادة سياسية عليا» في تونس لـ«تنويع شراكات البلاد الدولية»، بما في ذلك مع اليابان ودول آسيا وأفريقيا.
وحقاً، في العاصمة التونسية تتابع مصالح وزارة الخارجية تنظيم سلسلة تظاهرات رسمية حول استراتيجيتها لعام 2025 بعنوان «الدبلوماسية المتعددة الأطراف».
واستقبل الرئيس قيس سعيّد قبل أيام وزيرَي خارجية المملكة العربية السعودية وإيران، وأدى زيارة إلى الجزائر حيث عقد لقاءات ثنائية، وأخرى مع 13 رئيس دولة مغاربية وأفريقية، أعلن بعدها عن دعمه لـ«تغيير طبيعة العلاقات بين دول الجنوب والشمال».
... وتصعيد الانتقادات
وتتزامن هذه التطورات مع «تصعيد» بلاغات السلطات التونسية انتقاداتها لـ«الاعتداءات على سيادة لبنان وإيران وسوريا واليمن»، ولـ«الدعم الغربي لحرب الإبادة والتجويع ضد الشعب الفلسطيني في غزة وفلسطين»، بل إن سلسلة تصريحات الرئيس التونسي وكبار المقرّبين منه عادت إلى المطالبة بـ«تحرير كامل فلسطين من النهر إلى البحر»، واتهام الدعاة إلى «التطبيع مع إسرائيل» بالخيانة. وبالفعل، أصدرت السلطات أوامر واضحة تمنع المسؤولين السياسيين والعسكريين من المشاركة في الملتقيات ودورات التدريب التي يشارك فيها إسرائيليون رسميون.
ما يُذكر في هذا السياق، أن السفير الأميركي المنتهية ولايته جو هود، كان قد أعلن قبل نحو ثلاث سنوات عن «خطة لتطبيع علاقات تونس وتل أبيب»، و«ضم تونس إلى نادي الدول المساندة للسلام الإبراهيمي»، لكنه فشل في تحقيقها.
ورغم الانتقادات لما تصفه بعض الأوساط الدبلوماسية والإعلامية الغربية بـ«تشدد تونس مع شركائها الأجانب»، تدافع الأوساط التونسية عن خياراتها، وتعتبرها «قرارات سيادية». وكذلك تكرّر هذه الأوساط «رفض التدخل الأجنبي» في شؤونها الداخلية بحجة «دعم الحريات وحقوق الإنسان».
اتفاقيات أمنية استراتيجية جديدة... وبروز خلافات سياسية
توقّف الزيارات
بيد أن الجدل حول تطورات سياسة تونس الخارجية في وسائل الإعلام والحلقات الدبلوماسية يشمل راهناً مُعطيات جديدة، بينها توقف تنظيم لقاءات قمة ثنائية دورية تونسية - فرنسية وتونسية - أميركية. وأيضاً توقّف تنظيم اجتماعات «اللجان الوزارية المشتركة» و«المجالس العليا الثنائية»، في الحالتين، بحضور رئيسَي الحكومتين ووزراء الخارجية والاقتصاد والدفاع والداخلية في البلدين، منذ أكثر من 3 سنوات. وكانت آخر مرة زار فيها الرئيس الفرنسي ماكرون تونس في «زيارة دولة» عام 2018، إبّان عهد الرئيس السابق الباجي قائد السبسي، وأُجريت في أجواء كانت فيها علاقات البلدين متوترة. وفي المقابل، لم يزر قيس سعيّد باريس رسمياً منذ 2020.
ملفات «أمن الدولة»
وعلى صعيد متصل، تجددت الأزمات الدبلوماسية والإعلامية بين تونس وباريس، التي تطورت مراراً إلى حملات إعلامية متبادلة بسبب «ملفات حقوق الإنسان والحريات» أحياناً، و«تقارب تونس مع الصين وروسيا وإيران» أحياناً أخرى. ولكن إذا كانت علاقات تونس بباريس وواشنطن وعواصم أوروبية أخرى لم تتدهور إلى «أزمة شاملة» تذكّر بتلك التي سُجلت بين الجزائر وفرنسا، فإن برلمانيين وساسة وإعلاميين تونسيين يهاجمون منذ فترة باريس وبروكسل وواشنطن، ويتهمونها بمحاولة التدخل في الشؤون الداخلية للبلاد خدمة لمصالحها الخاصة، بل اتهمت فاطمة المسدي، البرلمانية المساندة للسلطة، ومقربون منها، باريس وواشنطن بربط «علاقات مشبوهة» مع معارضين أُوقفوا في تونس، وصدرت ضدهم أحكام ثقيلة بالسجن بعدما وُجهت إليهم تهم «التآمر على أمن الدولة».
نقاط استفهام
ويعتبر المحامي والوزير السابق سمير ديلو، أنه من المفارقات أن قياديين من بين هؤلاء المعارضين المتهمين بالتآمر على أمن الدولة هما خيام التركي وكمال اللطيف. وهذان رجلا أعمال كانا اعتُقلا مع آخرين منذ أوائل 2023 بعدما اتُّهموا بعقد اجتماعات «غير قانونية» مع دبلوماسيين فرنسيين وأميركيين وأوروبيين إثر القرارات «الاستثنائية» منذ 25 يوليو (تموز) 2021، التي شملت حل البرلمان والحكومة وتجميد العمل بـ«دستور 2014». وفي المقابل، كانت بين الدبلوماسيين آن غيغين، السفيرة الفرنسية الحالية بتونس، التي كانت حينذاك مديرة للعلاقات مع دول شمال أفريقيا في «الخارجية» الفرنسية. هذا، وعِوض أن «تعاقب» باريس غيغين أو تبعدها عن ملف العلاقات المغاربية، عيّنتها سفيرة لدى تونس، وهي خطوة اعتبرتها السلطات التونسية «استفزازاً». ومن ثم، تسبب ذلك التعيين في تأجيل موعد موكب استقبالها الرسمي في قصر قرطاج لتسليم أوراق اعتمادها.
العلاقات مع واشنطن
وبالنسبة للعلاقة مع واشنطن، تسارعت الأحداث بعد «زوبعة» بث المواقع الرسمية التونسية فيديو عن الانتقادات العلنية و«المباشرة» التي وجهها الرئيس سعيّد لواشنطن وحلفائها، عند استقباله في قصر قرطاج كبير مستشاري الرئيس الأميركي ووالد صهره مسعد بولس، بسبب الأوضاع في قطاع غزة. وكان لافتاً أن أوساطاً إعلامية وسياسية رسمية وشبه رسمية تونسية نوهت بتلك الانتقادات. وفي المقابل، نشرت مواقع أميركية ردود فعل مناقضة صدرت عن نواب وسياسيين وإعلاميين أميركيين.
محاولات احتواء التأزم
اليوم، تتعدد المساعي التونسية لاحتواء التأزم والخلافات. وفي هذا السياق، أعلن وزير الخارجية التونسي محمد علي النفطي، وسفراء الدول الـ27 الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، بمناسبة الاحتفال بالذكرى الـ30 لتوقيع «اتفاقية الشراكة التونسية - الأوروبية» في يوليو 1995، عن «حرص الجانبين التونسي والأوروبي» على دعم الشراكة الاستراتيجية بين تونس والاتحاد. وكشف بلاغ أوروبي جديد أن الاتحاد ما زال الشريك الأول لتونس بنسبة تفوق الـ70 في المائة تصديراً وتوريداً واستثماراً، بجانب مجالات التنسيق الأمني.
وعسكرياً، كشفت تحركات مسؤولي وزارة الدفاع التونسية ونظرائهم الأميركيين، وسفير واشنطن المنتهية ولايته بتونس جو هود، وتصريحاتهم، أن «المناورات العسكرية والأمنية المشتركة» بين تونس وقوات أميركية وأطلسية، بينها قوات إيطالية، تطوّرت بنسق سريع وغير مسبوق خلال السنوات القليلة الماضية، تحت عنوان «مكافحة الهجرة غير النظامية والإرهاب».
وكشف وزير الدفاع التونسي السفير خالد السهيلي، وعدد من مساعديه، على هامش لقاءات مع عسكريين أميركيين كبار في «القوات الأميركية في أفريقيا» (أفريكوم)، عن ترفيع كبير في قيمة الصفقات العسكرية والأمنية بين تونس والولايات المتحدة. وبرّر السفير هود ذلك بـ«مواكبة المتغيرات الجيو-استراتيجية والأمنية في المنطقة»، ومن ضمنها ليبيا والدول الأفريقية المعنية بملفات «مكافحة الإرهاب والهجرة غير النظامية». وأورد في تصريح للصحافة التونسية أن «التعاون الأمني والعسكري الأميركي - التونسي يمكن أن يساعد على استتباب الأمن في عموم أفريقيا وفي بلدان الجوار».


