بدأت المحكمة البرازيلية العليا مطلع هذا الأسبوع محاكمة الرئيس اليميني السابق جاير بولسونارو (70 سنة)، ومعه زمرة من كبار الضباط، بتهمة تدبير انقلاب عسكري للإطاحة بالرئيس لويس إيغناسيو لولا بعد فوزه في انتخابات عام 2022. ومن المفترض أن تصدر الهيئة القضائية حكمها النهائي في هذه القضية التاريخية قبل نهاية الأسبوع المقبل، بعد خمس جلسات مرافعات واستماع إلى الشهود. هذه هي أول مرة في تاريخ البرازيل يَمثُل فيها رئيس سابق وقادة عسكريون أمام القضاء بتهم التآمر على قلب النظام. وسيكون قرار المحكمة، الذي سيصدره القضاة الخمسة الذين يشكّلون معاً هيئة المحكمة العليا، مبرماً لا يقبل الطعن أو الاستئناف، وقد يصل إلى عقوبة السجن المؤبد. البرازيليون يتابعون منذ صباح الثلاثاء وقائع هذه المحاكمة التي ينفي فيها بولسونارو مسؤوليته عن تلك الأحداث، ويعدّها «سياسية الغايات» تهدف إلى إقصائه عن المشاركة في الانتخابات الرئاسية المقبلة. وما يزيد من الترقّب في متابعة هذا الحدث، دخول الرئيس الأميركي دونالد ترمب على الخط بعدما رفضت الرئاسة البرازيلية الطلب الذي تقدّم به ترمب منذ أشهر للعفو عن صديقه بولسونارو، واتخاذه قراراً بفرض رسوم جمركية إضافية على السلع البرازيلية بنسبة 50 في المائة، وعقوبات على القضاة.
تولّى جاير بولسونارو رئاسة البرازيل من عام 2019 إلى عام 2022، زعيماً لليمين المتطرف، بعدما كان عضواً مغموراً في مجلس النواب وضابطاً في الجيش. وعاد ليترشح لولاية ثانية في انتخابات عام 2022، لكنه هُزم أمام إيغناسيو لولا، الرئيس الأسبق والزعيم التاريخي لليسار البرازيلي، بيد أنه - مثل ترمب - رفض الاعتراف بهزيمته، وتذرّع بوجود «تلاعب» بنتائج الانتخابات لصالح خصمه.
ولكن بعد أيام من تسلُّم لولا المنصب، حاولت مجموعة من الضباط والجنود الموالين لبولسونارو اقتحام القصر الرئاسي ومكتب لولا، غير أن المحاولة فشلت بعد تدخّل القوات الموالية للرئيس المنتخب. ومن هنا بدأت المتاعب القضائية للرئيس اليميني السابق، الموضوع في الإقامة الجبرية بمنزله في العاصمة برازيليا منذ مطلع الشهر الماضي، وذلك لمخالفته التدابير الاحترازية التي صدرت بحقه.
وخوفاً من احتمالات فرار بولسونارو إلى الخارج، سحبت منه السلطات القضائية جواز سفره، وألزمته التنقل بسوار إلكتروني. وفرضت حراسة أمنية دائمة على منزله بعد اكتشافها رسالة بعث بها إلى السلطات الأرجنتينية يطلب منها منحه اللجوء السياسي، ومنعته من الاتصال بالسلطات الأجنبية والتخابر بالهاتف واستخدام وسائل التواصل الاجتماعي. وفي المقابل، يزعم محاموه أنه يعاني من مشاكل صحية ويحتاج إلى عناية مستمرة.
يواجه عدة تهم بينها محاولة إلغاء الديمقراطية
بين التهم الموجهة إلى بولسونارو أمام المحكمة العليا: محاولة إلغاء النظام الديمقراطي باللجوء إلى القوة والعنف، ومحاولة الانقلاب على الحكم الشرعي، والانتماء إلى منظمة إجرامية مسلحة، وإلحاق الضرر بالممتلكات الحكومية. ويصل مجموع العقوبات على هذه التهم، في حال ثبوتها، إلى 43 سنة في السجن.
لقد جاء في ملف الاتهام الذي قدّمته النيابة العامة ضد بولسونارو في فبراير (شباط) الماضي، أن الرئيس السابق كان يتزعّم «منظمة إجرامية وضعت مخططاً يهدف إلى منع إنفاذ قرار الإرادة الشعبية الذي أثمرته نتائج انتخابات عام 2022، والبقاء في السلطة من غير دعم غالبية الناخبين».
وكانت تلك المؤامرة اليمينية قد أخمدت بعد إحباط الهجوم الذي شنّه الآلاف من أنصار بولسونارو على المباني الرئيسة للسلطات الإجرائية والاشتراعية والقضائية في العاصمة برازيليا، صباح الثامن من يناير (كانون الثاني) 2023، بينما كان بولسونارو في زيارة خاصة إلى الولايات المتحدة. ويُستفاد من ملف التحقيقات التي أجرتها النيابة العامة، أن الانقلابيين كانوا يخطّطون لتسميم الرئيس لولا، واغتيال نائبه جيرالدو آلكمين، والقاضي الذي أشرف على التحقيق.
بولسونارو: أنا بريء
في دفاعه عن نفسه، يدّعي بولسونارو أنه بريء من جميع التهم الموجهة إليه، ويصرّ على أنه تصرّف دائماً ضمن أحكام الدستور. وكان إبان استجوابه أمام المحكمة في يونيو (حزيران) الماضي، قد قال إنه «يستحيل تنظيم انقلاب من غير زعيم يقوده، وقوات مسلّحة دعمه وتنفذه، ودعم مالي يرفده». لكنه اعترف بأنه عقد لقاءات لمناقشة الخيارات المُمكنة لقلب نتائج الانتخابات الرئاسية التي فاز به خصمه اليساري اللدود لولا.
هذا، وبين المتهمين، إلى جانب بولسونارو، عدد من كبار المسـؤولين والوزراء الذين خدموا في حكومته، مثل العقيد ماورو سيد، سكرتيره الشخصي الذي أقرّ بوجود محاولة لقلب النظام، واللواء والتر براغا الذي كان مرشحاً لمنصب نائب الرئيس ووزيراً للداخلية، واللواء باولو سرجيو نوغييرا، وزير الدفاع، وقائد سلاح البحرية الأميرال آلمير غارنييه، ووزير العدل المفوّض في الشرطة أندرسون تورّيس، ومدير وكالة المخابرات الداخلية. واللواء براغا موجود في أحد السجون العسكرية منذ أشهر لمحاولته عرقلة التحقيقات التي تتولاها الأجهزة الأمنية والقضائية.
الركيزة الأساسية في ملف النيابة العامة الاتهامي هي شهادة سكرتير بولسونارو الشخصي الذي اعترف بوجود المحاولة الانقلابية بعدما توصل إلى اتفاق مع هيئة التحقيق مقابل خفض العقوبة التي سيتعرض لها، مع احتمال تبرئته. فقد أقرّ العقيد ماورو سيد بأنه كان «همزة الوصل» في معظم الاتصالات بين المتهمين في أثناء مراحل التخطيط والإعداد للمحاولة. وبفضل تعاونه تمكّنت الشرطة من تجميع مئات الرسائل النصّية والصوتية التي توثّق تفاصيل المخطّط لقلب النظام والاستيلاء على الحكم.
تشكيك بولسونارو في «نجاعة» التصويت
من ناحية ثانية، ورد في ملف الاتهام أن بولسونارو سعى منذ عام 2021، عندما كان لا يزال في الحكم، إلى زرع الشكوك حول نجاعة نظام التصويت المستخدم في البرازيل تمهيداً للطعن في نتائج الانتخابات إذا لم تكن لصالحه، علماً بأن الخبراء يعدّون هذا النظام من أنجع النظم المعروفة، ولم تكن نتائجه أبداً موضع تشكيك منذ اعتماده مطلع العقد الفائت.
وبالفعل، عثر المحقّقون على مسوّدة مرسوم رئاسي كان بولسونارو قد أعدّه لإضفاء مسحة قانونية على قرار إلغاء نتائج الانتخابات. وأيضاً توافرت وثيقة تتضمن تفاصيل مخطط الاغتيالات كانت قد طُبعت في مكتب الرئاسة. ويضاف إلى كل ذلك أن النيابة العامة عثرت أيضاً على وثائق وأدلة تبيّن أن بولسونارو سعى غير مرة للحصول على تأييد القيادات العسكرية العليا لمخطّطه الانقلابي. لكن قائد الجيش وقائد سلاح الجو رفضا التعاون معه، وهذا ما كان السبب الرئيس الذي أدّى إلى فشل محاولة الانقلاب.
"تشكل المحاكمة «اختبار قوة» لقدرة
المحاكم المدنية على معاقبة الزعماء السياسيين"
دور القاضي مورايش
من الشخصيات الأساسية البارزة في هذه المحاكمة، قاضي الاستنطاق ألكسندر مورايش، الذي اتخذ، العام الماضي، قرار إقفال منصة «إكس» X الذي أثار غضب الإدارة الأميركية ومستشار ترمب (يومذاك) إيلون ماسك.
وللعلم، يقود مورايش منذ سنوات حملة ضد «الشعبوية الرقمية» المتطرفة التي تستغلها منذ سنوات الأحزاب اليمينية في العديد من البلدان، وفي طليعتها البرازيل والولايات المتحدة التي أصدرت مذكرة بمنع القاضي مورايش من الدخول إلى أراضيها. ولقد لعب هذا القاضي دوراً محورياً في توجيه مراحل التحقيق، مدعوماً من زملائه الذين أيّدوا جميعاً قراراته الاتهامية في محاكمة بولسونارو.
واستناداً إلى الجدول الزمني الذي وضعته هيئة المحكمة، من المنتظر أن يصدر قرارها النهائي أواخر الأسبوع المقبل. وما يجدر ذكره، أن المحكمة خصّصت جلسة الاستماع الرئيسة، التي سيمثل فيها «الشاهد الملك» - أي السكرتير الشخصي لبولسونارو - يوم الأحد الموافق فيه اليوم الوطني البرازيلي، وهو اليوم الذي اعتاد أنصار الرئيس السابق تنظيم احتفالاتهم خلاله، وقد دعوا بالفعل لمظاهرات حاشدة في جميع أنحاء البرازيل تحت شعار «الدفاع عن حرية التعبير».
المحكمة العليا تتخذ قرارها بغالبية أعضائها الخمسة، أولاً لتثبيت البراءة أو التهمة، وفي الحالة الثانية لتحديد مدة عقوبة السجن. ويحقّ لأي من القضاة أن يطلب تأجيل صدور الحكم لفترة لا تزيد على ثلاثة أشهر لغرض التعمّق أكثر في القضية. لكن يستبعد المراقبون مثل هذا الاحتمال، ويؤكدون أن ثمّة رغبة لدى هيئة المحكمة في إصدار الحكم النهائي بأقصى سرعة ممكنة، ذلك أن البرازيل على موعد في العام المقبل لانتخابات رئاسية، يصار فيها أيضاً إلى تجديد أعضاء مجلسي الشيوخ والنواب وحكّام الولايات.
اهتمام واسع بالمحاكمة
في الواقع، ليس مستغرباً أن تحظى هذه المحاكمة - بغض النظر عن أهمية المتهمين وخطورة التهم الموجهة إليهم - باهتمام واسع في جميع أنحاء أميركا اللاتينية التي تتابعها مباشرة على شاشات التلفزيون وقنوات التواصل؛ إذ إنها تشكل «اختبار قوة» لمعرفة قدرة المحاكم المدنية على معاقبة الزعماء السياسيين، ومَن يدعمهم من قيادات عسكرية، الذين يحاولون قلب أنظمة الحكم المنتخبة ديمقراطياً. وكان الرئيس الأميركي دونالد ترمب قد دعا في تغريدة على منصتّه، الشهر الماضي، إلى «الإنهاء الفوري» لهذه المحاكمة التي وصفها بـ«المهزلة».

بولسونارو حاول اللجوء إلى الأرجنتين
عندما أمر القاضي بفرض الإقامة الجبرية على الرئيس البرازيلي السابق جاير بولسونارو، مطلع الشهر الماضي، فإنه أمر أيضاً بمصادرة هاتفه الشخصي. وبين الوثائق التي عثر عليها المحققون في الهاتف، رسالة مؤرَّخة في خريف العام الماضي يطلب فيها بولسونارو اللجوء السياسي من حليفه الرئيس الأرجنتيني خافيير ميلي، الذي يقف مثله عند أقصى المشهد اليميني المتطرف بين الأنظمة الأميركية اللاتينية. وجاء الكشف عن هذه الوثيقة بعد أيام من تمضية بولسونارو ليلتين بمقر السفارة المجرية في برازيليا، ما زاد الشكوك حول احتمال إقدامه على طلب اللجوء في إحدى البعثات الدبلوماسية لدولة، مثل المجر، تتماهى قيادتها آيديولوجياً مع خطه اليميني المتطرف. أيضاً، كشفت التحقيقات أن بولسونارو حوّل ما يُعادل مليونيْ دولار أميركي إلى نجله إدواردو، وهو نائب في البرلمان البرازيلي ويقيم حالياً في الولايات المتحدة؛ وذلك بهدف التوسط لدى الإدارة الأميركية كي تضغط على المؤسسات البرازيلية للعفو عن بولسونارو أو صرف النظر عن محاكمته. ويستفاد كذلك من الرسائل التي تبادلها بولسونارو وأبناؤه مع شخصيات سياسية ودينية نافذة ضمن حركته، أن ثمة صراعاً يحتدم بين أجنحة الحركة المتطرفة حول الخلافة على زعامتها، وخاصة أن حكماً صادراً، العام الماضي، في حق الرئيس السابق حول قضية فساد يمنعه من الترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة، التي لم يحسم لولا بعد قراره بشأن خوضها للمرة الرابعة، بسبب حالته الصحية «الضعيفة». من جهة أخرى، كان الرئيس الأرجنتيني اليميني ميلي، من ناحيته، قد اعتاد منذ وصوله إلى الحكم توجيه انتقادات قاسية جداً ضد لولا والقيادات اليسارية في عموم أميركا اللاتينية. وفي الحالة البرازيلية، دعا ميلي مراراً إلى الإفراج عن صديقه بولسونارو الذي وصفه بأنه «مُنقذ البرازيل من براثن الفقر والتخلّف والتبعية للأنظمة الشيوعية المدمّرة». كذلك ناشد ميلي، في غير مناسبة، حليفه الأكبر دونالد ترمب التدخل «لإنقاذ» بولسونارو باعتباره ركناً أساسياً في مشروع قيام «اليمين الجديد» في المنطقة. ولكن على الرغم من المواقف التي صدرت أخيراً عن ترمب، ومنها دعوته إلى العفو عن بولسونارو أو إلغاء محاكمته، وأيضاً فرضه رسوماً جمركية باهظة على الواردات البرازيلية إلى الولايات المتحدة، يبدو أن واشنطن ليست مستعدة للذهاب أبعد من ذلك في دفاعها عن الرئيس البرازيلي السابق. وتقول مصادر إن وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو، المتحدّر من أصول كوبية، يدفع باتجاه الرهان على شخصية برازيلية أخرى لقيادة التيار اليميني المتطرف الذي تشكَّل حول بولسونارو خلال السنوات الأخيرة، والذي، وفق تقديرات واشنطن، ما زال قادراً على العودة إلى الحكم في انتخابات العام المقبل. أيضاً، يبدو أن روبيو يميل إلى تغيير زعامة اليمين الأرجنتيني واختيار شخصية غير ميلي، الذي يواجه، منذ أشهر، متاعب داخلية وتصدّعاً داخل التحالف البرلماني الذي يدعمه.


