يوهان فاديفول... وزير خارجية ألمانيا الجديد سياسي محنك وله اهتمامات عسكرية

يؤشر اختياره للانسجام بين المستشار و«قائد الدبلوماسية»

انتُخب فاديفول نائباً لرئيس كتلة حزبه داخل «البوندستاغ» مشرفاً على السياسات الخارجية والدفاعية للكتلة. يقلق فاديفول احتمال انسحاب واشنطن من «أمن أوروبا» و«التباعد المتزايد في القيَم» بين أوروبا والولايات المتحدة
انتُخب فاديفول نائباً لرئيس كتلة حزبه داخل «البوندستاغ» مشرفاً على السياسات الخارجية والدفاعية للكتلة. يقلق فاديفول احتمال انسحاب واشنطن من «أمن أوروبا» و«التباعد المتزايد في القيَم» بين أوروبا والولايات المتحدة
TT

يوهان فاديفول... وزير خارجية ألمانيا الجديد سياسي محنك وله اهتمامات عسكرية

انتُخب فاديفول نائباً لرئيس كتلة حزبه داخل «البوندستاغ» مشرفاً على السياسات الخارجية والدفاعية للكتلة. يقلق فاديفول احتمال انسحاب واشنطن من «أمن أوروبا» و«التباعد المتزايد في القيَم» بين أوروبا والولايات المتحدة
انتُخب فاديفول نائباً لرئيس كتلة حزبه داخل «البوندستاغ» مشرفاً على السياسات الخارجية والدفاعية للكتلة. يقلق فاديفول احتمال انسحاب واشنطن من «أمن أوروبا» و«التباعد المتزايد في القيَم» بين أوروبا والولايات المتحدة

بعد مرور 60 سنة على تولي آخر قيادي ينتمي لحزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي المحافظ في ألمانيا منصب وزير الخارجية، تعود هذه الوزارة إلى الحزب مع تعيين يوهان فاديفول، السياسي المخضرم البالغ من العمر 62 سنة، ليقود الدبلوماسية الألمانية في السنوات الأربع المقبلة. فاديفول يتسلم المنصب بينما تغرق ألمانيا في تحديات خارجية مرشحة للتحول إلى أزمات، خاصة فيما يتعلق بإدارة العلاقة الصعبة مع واشنطن التي كانت حتى الأمس القريب الحليف الأهم لبرلين. والشعور العام أن فاديفول يهيئ لسياسة أكثر دبلوماسية ومبنية على «تحاشي الكشف عن أوراق ألمانيا في العلن». والواقع، أن الرجل واضح ومباشر في التعبير عن سياسة خارجية يتوافق فيها مع المستشار فريدريش ميرتس، وهذا أيضاً بخلاف حال العقود الماضية حين كانت أحياناً الخلافات واضحة بين المستشار الألماني ووزير خارجيته الذي دأبت العادة أن يكون من حزب غير حزبه في الحكومات الائتلافية. وكمثال، لم تكن تلك الخلافات خافية في عهد المستشار الاشتراكي السابق أولاف شولتس ووزيرة خارجيته أنالينا بيربوك (المنتمية إلى «الخضر») التي لم تتردد في انتقاد شولتس علناً في العديد من المرات، وبالأخص، فيما يتعلق بسياسته مع الصين التي كانت أكثر اعتدالاً من تلك التي أرادت هي اعتمادها.

عندما سافر المستشار الألماني الجديد فريديش ميرتس إلى العاصمة الأوكرانية كييف في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، قبل شهرين تقريباً من الانتخابات التي أوصلته للسلطة، اصطحب معه يوهان فاديفول الذي أصبح اليوم وزيراً للخارجية في الحكومة الجديدة. وكان واضحاً في حينه أن ميرتس، الزعيم الذي لا يتمتع بالكثير من «الموالين الخلّص» داخل حزبه، يثق بفاديفول ويعدّه من ضمن دائرة المقرّبين له، وأشبه بـ«مستشار خاص له» فيما يتعلق بالسياسة الخارجية.

فاديفول نفسه، كما يقول عارفوه، يتمتع بخبرة طويلة في السياسة الخارجية والدفاع؛ فهو يجلس في لجنة الشؤون الخارجية البرلمانية منذ عام 2014 بعدما كان دخل مجلس النواب (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2009. وفي إطار عمله داخل اللجنة، كان غالباً ما يتعامل مع قضايا تتعلق بالعلاقات عبر المحيط الأطلسي وضمن حلف «ناتو» ودور ألمانيا في كل من أوروبا والشرق الأوسط.

ينتقد روسيا بشدة

ويعد فاديفول، في الواقع، من أشد منتقدي روسيا في حربها ضد أوكرانيا، ومن الداعين للسماح لسلطات كييف باستخدام أسلحة غربية لضرب العمق الروسي، وهو الأمر الذي كان المستشار السابق شولتس يعارضه بشكل واسع خلال عهده.

وبالفعل، غالباً ما كان فاديفول ينتقد شولتس داخل البرلمان، لا سيما، لجهة تردده في تقديم صواريخ «توروس» الألمانية الصنع والبعيدة المدى لأوكرانيا. ويُذكر أن المستشار الاشتراكي السابق كان يرفض إرسال تلك الصواريخ لأوكرانيا خوفاً من توريط ألمانيا في الحرب إذا ما استخدمتها سلطات كييف لضرب العمق الروسي.

كذلك لم يتردد فاديفول في وصف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأنه «عنيف» و«شره» يسعى إلى قضم أراضي أوروبية وضمها. وقال أخيراً خلال مقابلة مع إحدى الصحف الألمانية إن الأمر «لا يتعلق ببضعة كيلومترات في أوكرانيا، ولكن بالسؤال الأساسي حول ما إذا يجب السماح بتمدّد حرب تقليدية داخل أوروبا».

بالتوازي، يؤمن وزير الخارجية الألماني الجديد بتعزيز دور ألمانيا والتعاون العسكري والدفاع داخل «ناتو» وداخل الاتحاد الأوروبي. وفي مقابلة أدلى بها فاديفول قبل بضع سنوات، روّج لتعاون نووي مع فرنسا، ملمّحاً إلى أنه يمكن لباريس أن تضع سلاحها النووي تحت مظلة«ناتو» والاتحاد الأوروبي. وهذا موضوع عاد إلى الواجهة مع عودة الرئيس دونالد ترمب إلى البيت الأبيض وتهديده بسحب «المظلة الأمنية» الأميركية من أوروبا وألمانيا.

صدمته مواقف ترمب

في هذا السياق، فإن يوهان فاديفول من كبار المؤمنين بالعلاقات عبر الأطلسي وأهميتها بالنسبة للطرفين، ألمانيا والولايات المتحدة. ولعل هذا هو سبب كلامه عن «صدمته» من مواقف إدارة ترمب، خاصة فيما يتعلق بدعم أوكرانيا.

إذ قال فاديفول في مقابلة مع صحيفة «فرانكفورتر ألغيماينه» قبل تعيينه وزيراً للخارجية، وتعليقاً على لقاء ترمب بالرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي في البيت الأبيض، عندما تعرّض الأخير لجملة إهانات من ترمب ونائبه جاي دي فانس، إن اللقاء «كان صادماً على الصعيدين العاطفي والفكري». وأردف أنه «على الرغم من كل التقلبات في السياسة الأميركية في عهد الرئيس ترمب، لم أتصوّر قطّ أن قلباً للمسؤوليات في أوكرانيا يمكن أن يحصل».

وأيضاً، لم يتردّد فاديفول في انتقاد فانس، وظهوره في «مؤتمر ميونيخ للأمن» خلال فبراير (شباط) الماضي وصدم كلامه مستمعيه الألمان. فقد أصغى هؤلاء مذهولين إلى خطاب طال نحو الساعة من الوقت ووجه لهم فيه فانس انتقادات حادة بتهمة «قمع الحريات» لرفضهم التعاون مع حزب «البديل من أجل ألمانيا» المتطرف، الذي صنّفته الاستخبارات الألمانية قبل يومين «اليميني المتطرف».

بل، والتقى نائب الرئيس الأميركي بزعيمة الحزب المتطرف أليس فايدل على هامش المؤتمر مع أنها لم تكن مدعوة، ورفض لقاء المستشار (آنذاك) أولاف شولتس. وأيضاً، لم يتردد مسؤولون أميركيون، من فانس إلى وزير الخارجية ماركو روبيو ومستشار ترمب الملياردير الأميركي إيلون ماسك، بتكرار دعمهم للحزب المتطرف، في وجه انتقادات من معظم السياسيين الألمان لما وصفوه بـ«التدخل السافر بالسياسات الداخلية للبلاد».

مع هذا، لا يزال يوهان فاديفول يحافظ على شيء من الأمل فيما يتعلق بالعلاقة مع واشنطن، ويؤمن بأنها ما زالت ملتزمة بـ«ناتو». غير أن هذا الالتزام المصحوب بالانتقادات الدائمة للحلفاء داخل الحلف، هو ما دفع بوزير الخارجية الألماني الجديد إلى الترويج لمشاركة «المظلة النووية» مع فرنسا وبريطانيا لتعويض أي انسحاب أميركي محتمل من أمن أوروبا وألمانيا، تحديداً.

ومع أن هذا الكلام ليس جديداً في أوروبا منذ عودة ترمب إلى البيت الأبيض، يرى فاديفول أن مسألة احتمال انسحاب واشنطن من «أمن أوروبا» ليس السبب الوحيد للتفكير في بدائل أوروبية أمنية. إذ إنه يشير أيضاً إلى «تباعد متزايد في القيَم» بين أوروبا والولايات المتحدة، ويقول إن ألمانيا – مثلاً – «لا يُمكن أن تمنع صحافيين من المشاركة في مؤتمرات صحافية أو أن تقطع تمويل الجامعات لأسباب سياسية»، ولا بوسعها أيضاً «السماح بحماية مشغّل تكنولوجيا معلومات مثل إيلون ماسك بهذا الشكل!».

تفاهم كامل مع ميرتس

وحقاً، مواقف فاديفول السياسية تتوافق كثيراً مع مواقف ميرتس، ما يشير إلى أن ألمانيا تتجه في عهد الزعيم المحافظ إلى «تناغم» في سياستها الخارجية للمرة الأولى منذ عقود، بعيداً عن المناوشات التي كانت تحصل بين الخارجية ومقر المستشارية حيث كانت الخلافات كبيرة أحياناً بين وزير الخارجية والمستشار إبان حكم الحكومات الائتلافية. وكما سبقت الإشارة، إبان عهد المستشار السابق شولتس، دأبت وزير خارجيته «الخضراء» أنالينا بيربوك على انتقاد المستشار علناً في الكثير من السياسات بدءاً بالصين وصولاً إلى أوكرانيا. إذ غالباً ما كانت بيربوك تدعو إلى تبني سياسة أكثر وضوحاً في دعم كييف، بينما كان شولتس يعتمد على سياسة حذرة تفضل التريّث وانتظار «الضوء الأخضر» من الأميركيين. وفيما يخصّ الصين، كانت بيربوك تحبّذ سياسة أكثر تشدداً من تلك التي أراد شولتس اعتمادها، ولقد انتقدت علناً زيارة المستشار السابق إلى بكين مصحوباً بوفد أعمال كبير، وفوضت وزارة الخارجية بالعمل على استراتيجية جديدة تجاه الصين تأخر نشرها بعد خلافات مع المستشارية.

لذا، تبدو سياسات وزير الخارجية الجديد فاديفول في تناغم مع سياسات المستشار الجديد ميرتس في كل مجالات السياسة الخارجية، من الصين التي يدعو لمقاربة أكثر تشدداً معها، إلى إيران التي يحث أيضاً على اعتماد مواقف أقسى معها لمنعها من الحصول على سلاح نووي. هذا، وتشير مواقفه السابقة من الصين، إلى أنه قد يدفع لتشديد القيود على الاستثمارات الصينية ولتنسيق أوروبي أوسع فيما يتعلق بمجالات التطوير التكنولوجي وحماية البنى التحتية.

وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الصناعات الألمانية تعتمد على الصناعات الصينية بشكل كبير، وقد يؤشر تعيين فاديفول في منصب وزارة الخارجية إلى سعي حكومة ميرتس للتحرك جدياً باتجاه تخفيض هذا الاعتماد إن لم يكن فصله.

بطاقة هوية

يتحدر يوهان فاديفول من مدينة هوسوم الصغيرة في غرب من ولاية شليزفيليغ هولشتاين، في أقصى شمال ألمانيا. وهو متزوج وله ثلاثة أولاد، ويأتي من خلفية عسكرية تفسّر الكثير من سياساته المحافظة اليوم.

ذلك أنه انضم إلى الجيش الألماني بعد تخرّجه عام 1981 وخدم في قوات الاحتياط من عام 1982 حتى عام 1986، وخرج برتبة مقدّم (ميجر) في الاحتياط، وهي تجربة يكرّر القول إنها تركت أثراً كبيراً على فهمه للسياسة الخارجية والدفاعية. وللعلم، قبل تعيينه وزيراً للخارجية، كانت تشير التوقعات إلى أن تسند لفاديفول حقيبة وزارة الدفاع بسبب خلفيته العسكرية هذه. بيد أن الحزبين المتآلفين في الحكومة الجديدة، الاتحاد الديمقراطي المسيحي المحافظ والحزب الديمقراطي الاجتماعي الاشتراكي اتفقا على إبقاء وزارة الدفاع مع الاشتراكيين، بل والإبقاء على الوزير نفسه في حكومة شولتس السابقة، بوريس بيستوريوس، الذي يحظى بشعبية كبيرة.

ويمكن من خلفية فاديفول العسكرية هذه، فهم ترويجه لزيادة التزام ألمانيا بـ«ناتو» و«المظلة الأوروبية» الأمنية المشتركة.

أكاديمياً بعدما أنهى فاديفول خدمته العسكرية، درس المحاماة في جامعة كيل، وتخرّج حاملاً شهادة الدكتوراه في الحقوق. وفي موازاة ذلك، أبدى اهتماماً مبكراً بالسياسة، وانضم إلى جناح الشباب في حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي عام 1982، وترقى في مواقعه بمثابرة وثبات. وبين العامين 1992 و1996 كان رئيس جناح الشباب في ولايته، لينتقل بعد ذلك في عام 1997 إلى قيادة الحزب في الولاية حيث تسلم مناصب محلية.

بعدها، شهد عام 2009 انتقال فاديفول إلى ساحة السياسة الوطنية، إذ دخل مجلس النواب «البوندستاغ» للمرة الأولى عام 2009، وفيه بنى لنفسه سمعة طيبة بتخصصه في السياسات الخارجية والدفاعية، ومعرفته الواسعة بالمواثيق الدولية والشؤون الأطلسية وقضايا الاتحاد الأوروبي. ومنذ عام 2018،


مقالات ذات صلة

متغيرات إقليمية تهدد أوزان الأحزاب في موسم الانتخابات العراقية

حصاد الأسبوع من جلسات القمة العربية في بغداد (رويترز)

متغيرات إقليمية تهدد أوزان الأحزاب في موسم الانتخابات العراقية

أدت مجموعة من القضايا في العراق إلى تسخين الأجواء باكراً مع تحضير القوى السياسية لخوض الانتخابات المقبلة. وهذه الانتخابات تبدو مصيرية على كل الصعد،

حمزة مصطفى (بغداد)
حصاد الأسبوع لي جاي ميونغ

لي جاي ميونغ... الرئيس الكوري الجنوبي أمام تحدي إنقاذ الديمقراطية ومعركة الفساد

بعد ثلاث سنوات من التعرّض للهزيمة، نجح لي جاي ميونغ، مرشح «الحزب الديمقراطي» لمنصب الرئاسة في كوريا الجنوبية، في الفوز بأرفع منصب في البلاد. ويأتي انتخاب لي،…

براكريتي غوبتا ( نيودلهي)
حصاد الأسبوع صناعة السيارات في كوريا الجنوبية تواجه حرب واشنطن التجارية (نيوز1 كوريا)

العهد الجديد في كوريا الجنوبية أمام استحقاقات السياسة الخارجية

لم يُختبر لي جاي-ميونغ، رئيس كوريا الجنوبية الجديد، بعد فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، كونه لم يخض كثيراً في الشؤون الدولية إبان فترة عمله مسؤولاً محلياً.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
حصاد الأسبوع مركباات عسكرية أثناء إحدى جولات المواجهات في ليبيا (أ.ب)

ليبيا: حسابات الخصوم تفتح الأبواب «على المجهول»

شرعت الأزمة الليبية أبواباً جديدةً على مستقبل غامض، دفعت إليه حسابات سياسية وعسكرية لخصوم وأفرقاء في بلد يغرق في الفوضى منذ 14 سنة، وتتنازعه سلطتان متصارعتان بي

علاء حموده (القاهرة)
حصاد الأسبوع استعاد توم برّاك  وعائلته جنسية أجداده الذين هاجروا من مدينة زحلة اللبنانية

توماس برّاك سفير أميركا لدى تركيا... مكانة «فريدة في عالم ترمب»

في تقرير رفعته وزارة الخارجية الأميركية يوم 17 مارس (آذار) 2025، إلى لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، تحت عنوان «شهادة كفاءة مثبتة» لطلب ترشيح توماس

إيلي يوسف (واشنطن)

متغيرات إقليمية تهدد أوزان الأحزاب في موسم الانتخابات العراقية

من جلسات القمة العربية في بغداد (رويترز)
من جلسات القمة العربية في بغداد (رويترز)
TT

متغيرات إقليمية تهدد أوزان الأحزاب في موسم الانتخابات العراقية

من جلسات القمة العربية في بغداد (رويترز)
من جلسات القمة العربية في بغداد (رويترز)

أدت مجموعة من القضايا في العراق إلى تسخين الأجواء باكراً مع تحضير القوى السياسية لخوض الانتخابات المقبلة. وهذه الانتخابات تبدو مصيرية على كل الصعد، نظراً لحجم الشحن و«التسقيط» (الاستهداف السلبي) السياسي والضخّ المالي والتصعيد الطائفي. غير أن أهمية هذه الانتخابات، المقرّرة في نهاية العام الحالي، لا تنحصر بكونها مجرد استحقاق انتخابي يتكرّر كل 4 سنوات، بل لكونها تحوّلت الآن إلى أشبه بمحاولة خروج من عنق زجاجة أزمة الحكم في العراق، خصوصاً أن هناك متغيرات إقليمية تهدد أوزان الأحزاب العراقية في موسم الانتخابات.

في ظل المتغيرات الإقليمية المحيطة بالعراق، ينشغل السياسيون العراقيون مبكراً بالتخطيط لخوض الانتخابات النيابية المحددة في 11 نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، والتي يتوقع أن تحدث تغييراً جوهرياً في أوزان الأحزاب.وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا عبر الانتخابات المقبلة نهاية العام الحالي، التي يراد من خلالها تحقيق نتائج كبيرة بنتيجة تحالف سياسي كبير، يستفيد من وقائع عديدة. أهمها أولاً مخرجات قمة بغداد التي عقدت في مايو (أيار) الماضي، وثانياً طريق التنمية، وثالثاً جلب الشركات والدول للاستثمار. وأهمية هذه الانتخابات لا تنحصر بكونها مجرد استحقاق انتخابي يتكرّر كل 4 سنوات، بل بكونها تحوّلت الآن إلى أشبه بمحاولة خروج من عنق زجاجة أزمة الحكم في العراق، فيما يسعى رئيس الوزراء محمد شياع السوداني إلى إحداث تغيير عبر خوضه الانتخابات مع أوسع تحالف.وفي المقابل، وجدت القوى السياسية التي تخاصمه وحكومته أن «نجاح» السوداني في القمة العربية، يكسبه مزيداً من النقاط الإيجابية لخوض الانتخابات البرلمانية السادسة، التي تأتي بعد عام 2003، وسط انقسام غير مسبوق بين الفرقاء السياسيين. فالسوداني يرى أن دور بغداد يكمن في «جمع الأشقاء، كما هو دورها التاريخي، من أجل صياغة رؤية استراتيجية للمستقبل تضمن الأمن والاستقرار والتنمية والتكامل بين شعوبنا الشقيقة». وفي المقابل، وجدت القوى السياسية التي تخاصمه وحكومته أن «نجاح» السوداني في القمة العربية سيكسبه مزيداً من النقاط الإيجابية وسط تأهب العراق خلال شهور لإجراء الانتخابات البرلمانية السادسة، التي تأتي بعد عام 2003، وسط انقسام غير مسبوق بين الفرقاء السياسيين. مع هذا، بينما نجح خصوم السوداني في خلق جوّ مشحون أدّى في النهاية إلى تغيّب عدد من الزعماء العرب، فإن بغداد الرسمية التي هيّأت كل مستلزمات نجاح القمة نجحت في الخروج بقرارات مهمة على صعيد العمل العربي المشترك، في ظل تحديات غير مسبوقة.

وعلى الجانب الآخر، كان ضمن الإيجابيات ما كتبت عنه مئات من وسائل الإعلام العربية التي شاركت في القمة. إذ توزّع الإعلاميون العرب على 3 فنادق كبرى بالعاصمة العراقية بغداد، هي «الرشيد» و«قلب العالم» و«موفنبيك»، وتمكّنوا من تغطية وقائع القمة، من «القصر الرئاسي»، بفضل تسهيلات غير مسبوقة قدّمتها لهم الجهات العراقية الرسمية.

وكذلك غطّوا أجواء بغداد، التي لم تعد تنام الليل وسط حالة من الأمن والأمان بالقياس إلى فترات سابقة، خصوصاً أيام قمة بغداد السابقة عام 2012، حين أغلقت العاصمة تماماً، وفرض حظر التجوال لمدة 3 أيام تجنباً للتفجيرات والخروق الأمنية.

ملاعق القمة!

من جهة ثانية، عمليات «التسقيط» السياسي، التي سبقت القمة بأيام، استمرت بعدها بأيام، وكانت من قبل نوعين من الجهات داخل العراق. الجهة الأولى، هي التي لا تريد أي انفتاح عراقي على محيطه العربي أو أي انفتاح عربي على العراق. والجهة الثانية، هي التي لديها خصومات مع محمد شيّاع السوداني وحكومته نظراً لما تحقق خلال السنتين ونصف السنة الماضية من «لمسات»، سواء في بغداد أو في عدد من المحافظات، وهو ما قد يرفع أسهم رئيس الوزراء خلال الانتخابات البرلمانية نهاية العام الحالي.

الجهة الأولى فشلت في تحقيق هدفها، أي منع أي انفتاح متبادل بين العراق ومحيطه العربي، نظراً لما تحقق خلال القمة التي لم تقاطعها أي دولة عربية، بصرف النظر عن مستوى التمثيل. أما الجهة الثانية، فراحت في سياق «حربها» ضد القمة إلى البحث عن تفاصيل لا تعني أحداً، كالكلام عن استيراد ملاعق طعام (باللهجة العراقية «خواشيق») بنحو 12 مليون دولار أميركي. وللعلم، عندما قدّمت وجبة الطعام الوحيدة للزعماء العرب بعد الجلسة الأولى لم يكن لافتاً وجود ملاعق ذات ميزة مختلفة عما يقدم من ملاعق في أي وجبة طعام رئاسية أو ملوكية.

وطبعاً، كان الجانب الآخر من مساعي هذه الجهة زعمها أنها هي التي «منعت مشاركة عدد من الزعماء العرب» الذين تناوئهم أطرافها في بغداد، وفي مقدمهم الرئيس السوري أحمد الشرع، فضلاً عن الرئيس اللبناني جوزيف عون، الذي زار العراق بعد القمة، إثر تسوية، ما بدا أنها تصريحات أثارت لغطاً داخل العراق عن «الحشد الشعبي».

أجواء «التسخين»

في أي حال، لا يمرّ شيء مروراً عابراً في العراق. فبعد انتهاء القمة، وعودة الأجواء إلى طبيعتها، تلقت بغداد الرسمية عشرات التقارير عمّا يمكن عدّه وقائع مهمّة، إن كان على صعيد الرصد الإعلامي، أو المواقف السياسية. هذا الأمر بات يهيئ لمخرجات جديدة، تمثلت أساساً في رهانات بغداد لربطها جذرياً مع محيطها العربي والإقليمي في شراكات سياسية أو اقتصادية. وفي الوقت عينه، بدأت معركة موازية، بدأت بين مختلف الأطراف المناوئة لتطلعات السوداني للفوز بولاية ثانية. هذا لا يمكن أن يتحقق إلا عبر الانتخابات المقبلة نهاية العام الحالي، التي يراد من خلالها تحقيق نتائج كبيرة بنتيجة تحالف سياسي كبير، يستفيد من وقائع عديدة. أهمها أولاً مخرجات قمة بغداد، وثانياً طريق التنمية، وثالثاً جلب الشركات والدول للاستثمار.

أزمة حكم أم سلطة؟

في الواقع، ثمة «أزمة حكم» في العراق يراها مراقبون الآن «أزمة سلطة». والسبب تعدد الولاءات، وكون الآيديولوجيات والعقائد ليست وليدة الظروف الراهنة التي يمرّ بها العراق لدى تأهبه للاستحقاق الانتخابي السادس، بل أضحت عنواناً بارزاً لكل المراحل السابقة بعد عام 2003. وخصوصاً مع إسقاط دبابة أميركية تمثال صدام حسين في ساحة الفردوس ببغداد، صبيحة 9 أبريل (نيسان) 2003. مع سقوط التمثال، انتهت حقبة من أزمة الحكم والسلطة الفردية في العراق، لتبدأ البلاد جولة جديدة من الأزمات السياسية.

هذه الجولة احتوت ظاهراً كل عناصر النجاح؛ من تداول سلمي للسلطة، وإجراء انتخابات في موعدها، وانتخاب برلمان، وتشكيل حكومة. إلا أنها حقّاً حملت وتحمل كثيراً من بذور الفشل بسبب الديمقراطية المشوهة والانقسامين الطائفي والعرقي، ما انعكس في توزيع المناصب على ضوء هذه المعادلة المذهبية العرقية، بدءاً من منصب رئيس الجمهورية، وصولاً إلى «فرّاشي» المدارس الابتدائية.

لذا، مع بدء التحضير للجولة السادسة من الانتخابات، باتت أزمة الحكم تلقي بظلالها الثقيلة على إمكانية تعديل طبيعة النظام الديمقراطي الذي توافق عليه العراقيون بعد عام 2003. ومع أن الانتخابات المقبلة، وهي السادسة بعد أول انتخابات عام 2005، إثر إقرار أول دستور دائم في العام ذاته، فإن التحضيرات لإجرائها تبدو اختباراً حاسماً يثير سؤالاً محورياً في مختلف الأوساط، هو؛ هل ستكون هذه الانتخابات فرصة حقيقية للتغيير... أم مجرّد حلقة إضافية في تكريس أزمة الحكم؟

للطائفية عنوان

المؤشرات المتاحة، ولغة الأرقام بشأن حجم الأموال التي تضخّ في هذه الانتخابات، والتصاعد الواضح في الخطابين الطائفي والعرقي، كلها ترجّح كفة التشاؤم. إذ تبدو فرص التغيير أمنية بعيدة المنال، بينما تزداد المؤشرات على استمرار «سمات الفشل» التي حكمت المشهد السياسي في العقدَيْن الماضيين.

ويضاعف من حجم التساؤلات غياب التغيير الحقيقي، حتى في أبسط الجوانب الخدمية، كملف الكهرباء، وهو الشريان الحيوي للحياة الاقتصادية والاجتماعية والتنموية. فمع أن العراق يُعدّ من أغنى دول المنطقة من حيث الموارد المالية، تشير التقارير الرسمية إلى أنه ينفق سنوياً ما يقارب 7 مليارات دولار على قطاع الكهرباء، في حين بلغ مجموع ما أُنفق على هذا القطاع منذ عام 2003 نحو 200 مليار دولار، من دون تحقيق تحسّن ملموس.

وإلى جانب أزمة الكهرباء، تعاني بقية القطاعات الخدمية والإنتاجية من ركود واضح، باستثناء تطوّرات محدودة شهدتها السنتان الأخيرتان من عمر حكومة رئيس الوزراء الحالي محمد شياع السوداني. إذ نجحت هذه الحكومة في إحداث تحوّل ملحوظ في البنية الخدمية للعاصمة بغداد، نال إشادة واسعة من أوساط سياسية وإعلامية، خصوصاً خلال القمة العربية الأخيرة في بغداد.

وعلى الرغم من ذلك، للصورة جانب آخر، يتمثّل في طبيعة إدارة الحكم وآليات توزيع السلطة والمناصب في العراق، فضلاً عن التداخل بين القوات الرسمية للدولة وقوى مسلحة أخرى، بعضها اكتسب صفة رسمية مثل «الحشد الشعبي»، رغم استمرار الجدل حول موقع الفصائل المسلحة داخله، ومدى خضوعها للقيادة الرسمية. وأيضاً، هناك «فصائل مسلحة» لا تتلقى أوامرها من الحكومة العراقية، بل تعدّ نفسها مرتبطة بتكليف «شرعي» صادر عن القيادة الإيرانية، خصوصاً إبان مرحلة ما عُرف بـ«محور الممانعة» المنهار بعد نحو سنتين من عملية «طوفان الأقصى». واستطراداً، لا يمكن إغفال وجود قوات «البيشمركة» الكردية التي تُعدّ جزءاً آخر من هذا التعدد الأمني والعسكري المعقّد.

وهكذا، من أبرز الإشكاليات البنيوية التي تواجه السلطة العراقية، تعدّد مراكز القرار وتضارب الصلاحيات، في ظل دستور عام 2005 الذي لم يمنح وضوحاً كافياً في توزيع السلطات والأدوار بين مختلف مستويات الحكم. وكمثال، لا يتعلق الخلاف بين بغداد وأربيل، بمسألة تحويل الأموال أو دفع رواتب موظفي إقليم كردستان فقط، بل يعود أساساً إلى إشكالية دستورية أعمق، ترتبط بطبيعة النظام الفيدرالي نفسه.

فعقب التغيير في عام 2003، كان الكرد والشيعة، لكونهما أبرز أطراف المعارضة لنظام صدام حسين، على توافق شبه كامل، تُرجم في صياغة سريعة لدستور عام 2005، وفي تبني نموذج فيدرالي للحكم من دون التعمّق في تبعاته المستقبلية، ومن دون أن يُحسب حساب ما قد تؤول إليه الأمور لاحقاً. ولكن بعد مرور عقدَيْن، تحولت العلاقة الثنائية من تحالف إلى خصومة مستحكمة دائمة.

الخلل في الدستور

السبب الجوهري لذلك يكمن في بنية النظام السياسي. إذ تبيّن أن الدستور الذي كان ثمرة اتفاق مرحلي، أصبح اليوم عبئاً مشتركاً بين الطرفَيْن. ثم إن الفيدرالية، التي منحت للكرد مرونة سياسية من قِبل الأطراف الشيعية في تلك المرحلة، تحولت إلى أزمة حكم، ولا سيما بعدما أحكمت القوى الشيعية، بحكم غالبيتها السكانية، سيطرتها الكاملة على مؤسسات الدولة، ما هزّ التوازن السياسي تماماً. في ظل هذه الأجواء يتجه العراقيون نحو الانتخابات البرلمانية المقبلة، المقررة بنهاية العام الحالي، وسط أجواء مشحونة بالمال، باتت موضع جدل واسع حتى داخل أروقة الطبقة السياسية، ولا سيّما قيادات الصفّ الأول.

لكن التمويل الانتخابي لا يقتصر على الجانب المالي فحسب، بل امتدّ ليشمل التحريض الطائفي والعرقي، واستثمار قضايا اجتماعية وثقافية قابلة للتسييس، بهدف التأثير على جمهور متنوّع في وعيه وثقافته وانتماءاته، ما يجعله عرضة للاختراق والتوجيه.

كذلك يميّز المشهد الحالي، للمرة الأولى منذ 2003، أن الطبقة السياسية بدأت تشعر بوجود تهديد فعلي لمواقعها ونفوذها، في ضوء متغيرات إقليمية لافتة في محيط العراق، عربياً وإيرانياً. وعليه، تُشكل الانتخابات المقبلة نقطة مفصلية؛ فإما تكون فرصة لبعض القوى لإحداث تغيير حقيقي في معادلة توزيع المناصب السيادية العليا، أو تتحول كالعادة إلى «محطة» أخرى على «سكة» تكريس أزمة الحكم، التي لا تتجاوز كونها توزيعاً تقنياً لمقاعد البرلمان، تُبنى عليه محاصصة سياسية للوزارات والمناصب، من دون أي مساس جوهري ببنية النظام أو الدستور، ما يعني في نهاية المطاف بقاء الوضع على ما هو عليه.

محمد شياع السوداني (رووداو)

بغداد وأربيل... الإشكالية الدائمة

> في ضوء كل ما يمكن تسليط الضوء عليه عراقياً، يستحيل تخطي العلاقة المتشابكة والمتداخلة بين الحكومة العراقية وسلطة إقليم كردستان العراق. فهي تمثّل جوهر أزمة الحكم في ظل دولة تعددية اختارت طبقاً للدستور النظام الفيدرالي، لكنها أخفقت في تطبيقه كما يجب. وفي حين يقال إن القوى السياسية المهيمنة في بغداد تستغل الخلافات الحزبية - الحزبية في أربيل، فإنه وبالتزامن مع تحذير رئيس حكومة «الإقليم» مسرور بارزاني لبغداد - مذكراً إياها بنتائج «سياسة التجويع» - دخلت واشنطن على خط الأزمة، وإن بمنظور مختلف نسبياً. بغداد تراهن على خلافات بدأت تطفو على السطح بين الأحزاب الكردية بشأن أزمة الرواتب، بينما تراهن أربيل على المواقف الدولية، وخصوصاً موقف واشنطن الداعم، ولقد جاءت دعوة وزارة الخارجية الأميركية بشأن أزمة الرواتب موجهة، ليست للحكومة الاتحادية فقط، بل لحكومة الإقليم. وفي حين بدا موقف «الاتحاد الوطني الكردستاني» بزعامة بافل طالباني بشأن الأزمة مع بغداد مختلفاً عن موقف «الحزب الديمقراطي الكردستاني» وحكومة الإقليم، قررت بغداد عدم إرسالها الوفد الرسمي الحكومي والحزبي للتباحث بشأن أزمة الرواتب، بعد إعلانه الأسبوع الماضي عزمها على إرسال وفد رفيع المستوى بزعامة هادي العامري زعيم منظمة «بدر» المقرّب من الزعيم الكردي مسعود بارزاني. وفي سياق الجدل بين الطرفين، الذي يبدو أنه آخذ بالتصاعد، وبينما تنشط أطراف من «الإطار التنسيقي» في اللعب على وتر الخلاف بين الحزبين الكرديين الكبيرين في السليمانية وأربيل، دعا الموقف الأميركي الرسمي الطرفين إلى حل الخلاف، ورآه مراقبون حيادياً من شأنه تعزيز أوراق بغداد في سياق أي مباحثات رسمية أو موازية بين الجانبين.