البابا فرنسيس... متواضع ومتعاطف مع الفقراء يواجه عداءً من التيارات المحافظة كنسياً وسياسياً

مرضه فتح باب التكهنات إزاء مستقبل الفاتيكان

البابا فرنسيس (أ.ف.ب)
البابا فرنسيس (أ.ف.ب)
TT

البابا فرنسيس... متواضع ومتعاطف مع الفقراء يواجه عداءً من التيارات المحافظة كنسياً وسياسياً

البابا فرنسيس (أ.ف.ب)
البابا فرنسيس (أ.ف.ب)

الانتكاسة الصحية الحالية للبابا فرنسيس (خورخي برغوليو)، رأس الكنيسة الكاثوليكية في العالم، ليست الانتكاسة الأولى التي يتعرّض لها وتمنعه عن مزاولة أنشطته الحَبرية كالمعتاد؛ ذلك أنه عانى صعوبات تنفّسية منذ شبابه بعد استئصال النصف الأعلى من إحدى رئتيه عندما كان لا يزال يافعاً. إلا أن هذه هي المرة الأولى التي ترتسم فيها علامات الخطر على حياة هذا الحَبر، وهو الأول من خارج أوروبا منذ القرن الثامن، والأول من إرسالية اليسوعية (الجيزويت) التي اختمرت في رحمها معظم الحركات «الثورية» داخل الكنيسة الكاثوليكية. وكانت آخرها حركة «لاهوت التحرّر» التي قمعها أسلافه بقسوة، خاصة على عهد البابا البولندي المحافظ يوحنا بولس الثاني (كارول فويتيوا).

الأعباء كثيرة... والضغط شديد

قبل أيام من وعكته الأخيرة كان فرنسيس يهمّ بمغادرة مقر إقامته المتواضع في دير القديسة مارتا، داخل الحرم الفاتيكاني، عندما سأله أحد مستشاريه المقربين عن صحته، فأجاب: «الأعباء كثيرة والضغط شديد».

تلك الإجابة كانت بمثابة اعتراف متواضع على لسان البابا الذي سيحتفل بعد أيام بمرور 12 سنة على تبوئه كرسي بطرس، بأنه ربما دخل الشوط الأخير من حَبريّة تذكّر التاريخ الكنسي بحَبريّة البابا يوحنا الثالث والعشرين؛ لما حملته من رياح التغيير التي هزّت شجرة الكنيسة العصيّة على التحولات العميقة، وجدّدت الآمال بأن ثمة كنيسة أخرى ممكنة في القرن الحادي والعشرين.

جدير بالذكر، أنه منذ تأسيس الكنيسة لم يجرؤ أي حَبر أعظم على اختيار اسم فرنسيس لقباً رسمياً له. وبالتالي، فإن اختيار برغوليو - وهذا هو اسم الأصلي للبابا الحالي - لهذا الاسم يحمل دلالة عميقة من حيث ارتباطه بالقديس الإيطالي الشهير فرنسيس الأسيزي، المعروف بانشقاقه عن الكنيسة في القرن الثالث عشر عندما هجر أسرته الثريّة وأعاد ثيابه الفاخرة إلى والده كي يكرّس حياته لخدمة الفقراء.

تواضع رافض للبهارج

ومنذ اليوم الأول لانتخاب فرنسيس بابا للفاتيكان، رفض البابا الجديد الإقامة في المقر البابوي مفضّلاً البقاء في دير القديسة مارتا المتواضع، ومتخلياً عن بهرجة الملابس والحليّ والأحذية القرمزية التقليدية. واختار التنقل في سيارة متواضعة، واعتاد مخاطبة المؤمنين بلغة بسيطة كتلك التي يستخدمها عادة المبشّرون العلمانيون الذين تحظر الكنيسة نشاطهم. وإلى جانب هذا أصرّ دائماً على إظهار بُعده الإنساني العميق عندما كان يطلب من الشعب أن يتضرّع لأجله قبل أن يبادر هو إلى منحه البركة الرسولية.

أيضاً، منذ وصوله إلى سدة البابوية، أعلن البابا فرنسيس عن إطلاق برنامج إصلاحي واسع سرعان ما أطلق صفارات الإنذار في الدوائر الكنسية المحافظة والأوساط السياسية اليمينية في إيطاليا وخارجها، خاصة في الولايات المتحدة، حيث يتمتع التيار المتشدّد في الكنيسة الكاثوليكية بنفوذ واسع وموارد مالية وتحالفات وثيقة مع التيارات المحافظة في الكنائس الأخرى.

وهكذا، لم يشهد بابا في التاريخ الحديث معارضة كالمعارضة الداخلية التي واجهها فرنسيس - ولا يزال -، حتى قيل إن شعبيته خارج الكنيسة الكاثوليكية أكبر بكثير من شعبيته داخلها.

بل لقد أعرب فرنسيس مراراً أمام معاونيه عن «مرارة عميقة» بسبب المكائد التي تحيكها الدوائر المحافظة المتشددة في الكنيسة، والتي أدّت إلى عرقلة الكثير من بنود برنامجه الإصلاحي الذي تعثرّ في شقه الاقتصادي والمالي، لكنه نجح في إحداث تغيير ملموس على صعيد استراتيجية التواصل ومكافحة التحرّش الجنسي الذي سبّب له الكثير من الحرج خلال زياراته إلى الخارج.

ولكن على الرغم من تراجع منسوب التفاؤل الكبير الذي رافق وصوله إلى السدة البابوية، استطاع فرنسيس الحفاظ على الزخم الإصلاحي الذي وعد به. إذ قام بتعيين عدد كبير من أنصار برنامجه الإصلاحي في مراكز حساسة، خاصة في وزارة الخارجية والمجلس الاستشاري الواسع النفوذ، وفي مناصب استراتيجية لإدارة أموال الكنيسة. كذلك، واصل تعيين كرادلة جدد حتى أصبحوا يشكلون الأكثرية في المَجمَع الذي من المفترض أن ينتخب خلفه بعد رحيله.

البابا فرنسيس

لا مهادنة من المحافظين

غير أن الأصوات المحافظة - وهي شديدة التنظيم - لم تهادن، بل واصلت حملاتها ضد البابا، معتبرة أن تصرّفاته «تخالف السلوك المطلوب من رأس الكنيسة الكاثوليكية». ولكن، قبل بضعة أشهر، عندما صرّح فرنسيس بأن الإجهاض في حالات التشوّه الوراثي أو المرض هو أقرب ما يكون إلى الممارسات النازية للحفاظ على النقاء العرقي، صدرت إحدى الصحف الإيطالية المحافظة بعنوان رئيسي ساخر يقول: «صار عندنا بابا».

أيضاً، كان البابا قد قال يومها في تلك التصريحات إن الأسرة لا يمكن أن تقوم سوى على رجل وامرأة؛ الأمر الذي أثار ارتياحاً في الأوساط الكنسية المتشدّدة التي كانت انتقدت بشدة تصريحاته حول المثليين وموقف الكنيسة منهم. وبهذا الشأن يقول أحد المقربين منه: «إنه رأس الكنيسة الكاثوليكية، وليس زعيم منظمة تقدمية. هو منفتح في الشأن الاجتماعي لكن في المعتقد هو محافظ أكثر من سلفه بينيدكتوس السادس عشر، ويخطئ من يعتقد أن البابا يمكن أن يوافق على الإجهاض أو على الزواج بين شخصين من الجنس نفسه».

من جهة ثانية، يقول معاونون للبابا إنه يملك قدرة كبيرة على استيعاب الضغوط التي يتعرّض لها، مع أنه نادراً ما يفصح عنها. ولكنه كلّما أتيحت له فرصة لمخاطبة أعضاء «الكوريا» - مجلس إدارة الكنيسة - ينتقد قلة الوفاء والولاء، ويهاجم بشدة «منطق المكائد المختلّ ودسائس المجموعات الصغيرة»، كما قال في خطبة الميلاد الأخير أمام موظفي الفاتيكان بعدما كانت بعض الأوساط قد وصفته بـ«الزنديق». ويقول أحد مستشاريه: «إن هذه الانتقادات تترك أثراً عميقاً في نفسه؛ إذ لم تشهد الكنيسة أبداً مثل هذا التمرد المحافظ ضد البابا. المحافظون كانوا دائماً بجانب الحَبر الأعظم، وما يحصل مع برغوليو لا سابقة له».

التيار «الرجعي»

التيار «الرجعي» (المحافظ المتشدد) في الكنيسة الكاثوليكية يقوده الكاردينال ريمون بورك، الذي منذ سنوات يجنّد أنصاره ليتفرّغوا من أجل عرقلة جهود فرنسيس الإصلاحية.

وبالفعل خاض بورك معركة طويلة ضد مساعي فرنسيس لمعالجة الفساد المالي في الفاتيكان. لكن بعد سنوات من الفوضى والفضائح، نجح البابا في مواءمة قواعد الكنيسة المالية وأجهزتها الرقابية أسوة ببقية الدول، كما أكَّدت أخيراً الهيئة الأوروبية لمكافحة غسل الأموال. وللعلم، كان مصرف الفاتيكان، الذي يدير كتلة نقدية تناهز 6 مليارات يورو، قد قرر إقفال خمسة آلاف حساب مشبوه في السنوات العشر المنصرمة، وتراجع العجز في ميزانية الفاتيكان بنسبة 65 في المائة بعد إخضاعها لهيئة رقابية جديدة. في حين أُحيل عدد من كبار المسؤولين السابقين عن مالية الكنيسة إلى المحاكمة، وعلى رأسهم وزير المال السابق الأسترالي جورج بيل الذي يمثل حالياً أمام قضاء بلاده.

عودة إلى التيار «الرجعي»، قرّر البابا البولندي المحافظ يوحنا بولس الثاني، أواخر القرن الفائت، الذي عانى في شبابه قمع النظام الموالي للاتحاد السوفياتي، إزالة الجدار الفاصل بين الشرق والغرب وإسقاط الأنظمة الشيوعية في أوروبا الشرقية، ونجح في تلك المهمة التي كادت تكلفه حياته.

ثم جاء الألماني بينيدكتوس السادس عشر (جوزيف راتسينغر) ليعيد إلى الكنيسة الكاثوليكية نقاء العقيدة الذي كانت فقدته في العقود الأخيرة، لكنه كان أضعف من القدرة على مواجهة التيار المناهض للإصلاح والعودة إلى الجذور، فقرر الاستقالة والانكفاء في المقر البابوي الصيفي حتى وفاته.

وعندما وصل برغوليو إلى كرسي البابوية بعد مسيرة طويلة في الأرجنتين، أخذ على عاتقه إزالة الحواجز المخفية بين الجنوب والشمال، أي بين الفقراء والأغنياء، ورفع لواء الدفاع عن المهاجرين عندما احتفل بأول قداس له على شاطئ جزيرة لامبيدوسا الإيطالية التي كانت تتكسّر على صخورها قوارب المهاجرين الوافدين من أفريقيا. لا، بل كان الصليب الذي حمله في ذلك القداس مصنوعاً من أخشاب تلك القوارب التي حملت مئات الضحايا الذين كانوا يتدفقون على السواحل الأوروبية هرباً من البؤس والقمع والعذاب.

مواقف فرنسيس وتصريحاته المتكررة المدافعة عن المهاجرين ألّبت عليه الأحزاب والقوى اليمينية المتطرفة، في إيطاليا أولاً، ثم في الخارج. وكانت انتقاداته الأخيرة لسياسة الإدارة الأميركية الجديدة ترحيل المهاجرين غير الشرعيين موضع تجاذب وتصريحات قاسية بين واشنطن والفاتيكان. ولشدة حرصه على الدفاع عن الفقراء والمهاجرين قرر فرنسيس أواخر العام الفائت تعيين الكاردينال كونراد كراجوسكي رئيساً لمكتب الصدقات، وهو المعروف بزهده وتقشفه الشديد، وبأنه يعرف بالاسم جميع الأشخاص المشرّدين الذين يعيشون من غير مأوى في ضواحي الفاتيكان. منذ وصوله إلى سدّة البابوية أعلن عن إطلاق برنامج إصلاحي واسع سرعان ما أطلق صفارات الإنذار في عدد من الدوائر والأوساط اليمينية



حرب أميركا ـــ الصين التجارية... بين «واقعية» بكين و«طموح» ترمب


الرئيس الأميركي دونالد ترمب جعل حربه الاقتصادية ضد الصين استراتيجية لواشنطن (رويترز)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب جعل حربه الاقتصادية ضد الصين استراتيجية لواشنطن (رويترز)
TT

حرب أميركا ـــ الصين التجارية... بين «واقعية» بكين و«طموح» ترمب


الرئيس الأميركي دونالد ترمب جعل حربه الاقتصادية ضد الصين استراتيجية لواشنطن (رويترز)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب جعل حربه الاقتصادية ضد الصين استراتيجية لواشنطن (رويترز)

ثمة فوارق جوهرية بين استراتيجيات الولايات المتحدة والصين في الرسائل السياسية-الاقتصادية المتبادلة بين البلدين العملاقين. فواشنطن، من خلال تصعيد الرسوم بسرعة وبشدة، تظهر قوتها الاقتصادية وتستخدم التصعيد أداة ضغط سياسي واقتصادي، معتمدة على واقع الولايات المتحدة كقوة اقتصادية عالمية. بالمقابل، اختارت بكين نهجاً تدريجياً وأكثر تحفظاً، في البداية، ربما لتفادي التصعيد المباشر مع واشنطن ولتجنب الدخول في حرب تجارية شاملة قد تؤثر على الاقتصاد العالمي.

ولكن، مع مرور الوقت، رفع الجانب الصيني ردوده تدريجياً لتصل إلى مستوى قريب من حجم إجراءات الجانب الأميركي، ما يشير إلى رد بالمثل لكن محسوب، مع إظهار حرص على التوازن وتحاشي الانجرار نحو تصعيد كامل.

التفاوت الزمني

أيضاً، يكشف الفارق بين تواريخ التصعيد بين الطرفين عن مدى تفاعل كل طرف مع الآخر وردّه على تحركاته. فالتفاوت الزمني بين التصعيدات يعكس استراتيجية قائمة على مراقبة مستمرة وحسابات دقيقة من الجانبين، حيث يعكس كل تصعيد رد فعل مدروسا، وليس ردة فعل عشوائية. وبالتالي، كل طرف يراقب الآخر ويأخذ في اعتباره تحرّكاته قبل اتخاذ قراراته، ما يعكس تنسيقاً ضمنياً بين القرارات المتخذة.

«التحكم» و«الهيبة»

من خلال هذا التصعيد المتبادل، يظهر الرئيس الأميركي دونالد ترمب وكأنه يبعث برسالة واضحة مضمونها «نحن نتحكّم بالسوق العالمي، وسنضغط بقوة».

إنه موقف يعكس صورة قوة الولايات المتحدة كداعم رئيس في الاقتصاد العالمي، ويؤكد أنها مستعدة للمضي بالضغط على الصين إلى أن تمتثل الأخيرة لمطالبها. وفي الجهة المقابلة، تسعى بكين من خلال الردّ المتدرّج إلى إرسال رسالة معاكسة مضمونها «نحن نرد بالمثل لكن بحكمة وتدرّج، ولسنا منفعلين». وهذا الموقف يعكس «توازناً» حذراً في الردود الصينية، ويعزّز من صورتها كدولة قوية اقتصادياً تستطيع اتخاذ قرارات مدروسة... بعيداً عن الانفعال وردود الفعل العاطفية.

أسلوب الرئيس الصيني ... و«الكتاب الأبيض»

في هذا السياق، يعود موقف الرئيس الصيني شي جينبينغ ليشكّل الإطار العام لفهم هذا السلوك؛ فالرئيس شدد مراراً على أن التعاون هو الخيار الصحيح الوحيد بين البلدين، وأن الصين لا تسعى إلى الهيمنة أو المواجهة، بل إلى حوار قائم على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة. غير أن هذا الانفتاح الصيني لا يعني قبولاً بالضغط أو الإملاءات، كما يوضح «الكتاب الأبيض» الصيني، الذي أكد أن بكين «لن تقف مكتوفة الأيدي أمام محاولات الترهيب الاقتصادي»، وإن كانت في الوقت ذاته تفضل استخدام أدوات محسوبة ومدروسة.

في التاسع من أبريل (نيسان) 2025، أصدر مكتب الإعلام التابع لمجلس الدولة الصيني «الكتاب الأبيض» الذي حمل عنوان «موقف الصين بشأن بعض القضايا المتعلقة بالعلاقات الاقتصادية والتجارية بين الصين والولايات المتحدة».

لم يكن الكتاب مجرّد وثيقة حكومية عابرة، بل جاء مرافعةً استراتيجيةً شاملة، مدعومة بالأرقام والحقائق، وتكشف عن موقف بكين من العلاقة الاقتصادية الأكثر حساسية في عالم اليوم: علاقتها مع واشنطن.

ما قدّمته الصين في هذا الكتاب ليس دفاعاً بقدر ما هو دعوة إلى «الفهم الواقعي». ذلك أن العلاقات الاقتصادية بين الصين والولايات المتحدة - وفق بكين - ليست «لعبة صفرية»، بل منظومة تكامل معقّدة، قائمة على المنفعة المتبادلة والنتائج المُربحة للطرفين. وترى جهات قريبة من بكين أن هذا المنطلق يغيب عن بعض دوائر صنع القرار في العاصمة الأميركية، التي ما زالت تعاني من تبعات «ذهول ما بعد الهيمنة»، وتُصرّ على قراءة الحاضر بعدسات الماضي الإمبراطوري.

من التعاون إلى التوتر... أرقام لا تكذب

تبدأ القيادة الصينية في «كتابها الأبيض» بتشخيص للعلاقات الاقتصادية الثنائية، فتشير إلى أن هذه العلاقة «لم تُبْنَ في فراغ، بل هي نتاج تطور طبيعي استجابت فيه قوانين السوق والمنطق الاقتصادي لحاجات كل من البلدين».

فمنذ تأسيس العلاقات الدبلوماسية بين البلدين عام 1979، ارتفع حجم التجارة الثنائية من أقل من 2.5 مليار دولار أميركي إلى نحو 688.3 مليار دولار في عام 2024.

هذا النمو المذهل ما كان ليتحقّق لولا التكامل العميق في الموارد، ورأس المال، والتكنولوجيا، واليد العاملة، والأسواق بين البلدين. إذ أصبحت الصين سوقاً رئيسة للمنتجات الزراعية الأميركية مثل فول الصويا إلى القطن ووصولاً للغاز والأجهزة الطبية. وفي المقابل، استفاد المستهلك الأميركي من المنتجات الصينية ذات الجودة العالية والتكلفة المعقولة، ما خفّض تكاليف المعيشة ورفع مستوى القدرة الشرائية للطبقات المتوسطة والدنيا.

من الزاوية الصينية، لم يكن الفائض التجاري هدفاً مقصوداً، بل نتيجة طبيعية لتركيبة الاقتصاد العالمي، وللخيار الأميركي بالتركيز على الصناعات ذات القيمة المضافة العالية والاعتماد على الاستيراد من الصين في قطاعات التصنيع. ثم إن تقييم هذا الفائض باستخدام منهجية «القيمة المضافة» يغيّر الصورة جذرياً، إذ إن القيمة التي تحصل عليها الصين من العديد من صادراتها لا تمثل سوى جزء بسيط من القيمة النهائية للسلع.

واشنطن والتناقض البنيوي: عن العجز والتضليل

على الرغم من هذه الحقائق، تصرّ بعض الجهات السياسية والاقتصادية - اليمينية، بالذات - في واشنطن على تصوير العلاقات الاقتصادية مع الصين على أنها سبب رئيس للعجز التجاري الأميركي، مُتناسية العوامل البنيوية التي تعاني منها منظومتها الصناعية، بما في ذلك ارتفاع التكاليف الداخلية، ونقل الصناعات إلى الخارج، والتركيز على قطاع الخدمات على حساب الصناعة التحويلية.

الإحصاءات التي أوردها «الكتاب الأبيض» تشير إلى أن الولايات المتحدة تحقق فوائض كبيرة في تجارة الخدمات مع الصين بلغت 26.57 مليار دولار في عام 2023، كما أن الشركات الأميركية في الصين تحقق أرباحاً ضخمة، إذ بلغ حجم مبيعاتها في السوق الصينية عام 2022 نحو 490.52 مليار دولار أميركي، بفارق يزيد على 400 مليار دولار عن مبيعات الشركات الصينية في الولايات المتحدة.

بلغة الأرقام، يتّضح أن المكاسب المتبادلة أكثر توازناً مما يحاول بعض الساسة الأميركيين تصويره. وإذا ما جرى احتساب المبيعات والخدمات وتدفقات الاستثمار بشكل مشترك، فإن العلاقات الصينية ـ الأميركية تبدو بعيدة كل البعد عن «الرواية الأحادية» التي تتكلّم عن «استغلال» أو «سرقة» اقتصادية.

الحرب التجارية ... سلاح ذو حدّين

في الحقيقة، لطالما استخدمت واشنطن التعريفات الجمركية سلاح ضغط اقتصادي، وفرضت منذ عام 2018 رسوماً جمركية أحادية الجانب على مئات المليارات من الدولارات من السلع الصينية. ومع أن هذه الإجراءات فُرضت تحت شعار «حماية الصناعة الوطنية»، فإن الواقع أثبت عكس ذلك.

وحقاً، تفيد دراسة لمعهد بيترسون للاقتصاد الدولي إلى أن أكثر من 90 % من تكاليف هذه الرسوم انتقلت فعلياً إلى المستهلكين الأميركيين. كذلك فإن هذه الإجراءات لم تساهم في تقليص العجز التجاري الإجمالي، ولم تُعِد الحيوية للصناعة الأميركية. بل على العكس، أدّت إلى ارتفاع أسعار السلع، وتباطؤ النمو، وإضعاف القدرة الشرائية للمواطن الأميركي.

بل، من المفارقات أن هذه الحرب التجارية تزامنت مع احتجاجات في الداخل الأميركي، لا سيما من القطاعات الزراعية والصناعية المتضرّرة، التي خسرت أسواقها في الصين بسبب سياسات التصعيد. ولقد أظهرت بيانات السوق تراجع التوقعات بشأن النمو الاقتصادي الأميركي على خلفية هذه السياسات.

الصين: لا صدام ... ولا تهديد

من جهة ثانية، جاء في «الكتاب الأبيض» أيضاً أن «الصين لا تسعى إلى حرب تجارية، لكنها في ذات الوقت لن تقف مكتوفة الأيدي أمام ما تعتبره ترهيباً اقتصادياً». وبالنسبة لبكين، فإن التعاون هو الخيار الأول، لكن الرد بالمثل خيار دائم إذا اقتضت الحاجة.

وهنا تؤكد بكين أن الحل الأمثل هو «الحوار المتكافئ، واحترام المصالح الأساسية لكل طرف»، لا سيما أن العالم لم يعُد ساحة للابتزاز، بل غدا شبكة معقدة من المصالح. وعليه فالانفصال القسري لن يؤدي إلا إلى مزيد من الخسائر للطرفين، وربما للنظام الاقتصادي الدولي بأسره.

ووفق جهات مقرّبة من بكين، فبين أكثر ما يلفت النظر في الموقف الصيني، ليس فقط إصرار بكين على «الحقائق الاقتصادية»، بل أيضاً محاولتها معالجة جذور الخلل في نظرة واشنطن للصين.

وحسب هذه الجهات، فإن نسبة عالية من الساسة الأميركيين ووسائل الإعلام التابعة لهم، لا تزال تنظر إلى الصين من خلال «عدسة الحرب الباردة»، فإما أن تكون الصين «شريكاً طيعاً» أو «عدواً مطلوباً تحجيمه». لكن الحقيقة التي تتجاهلها هذه الرؤية هي أن الصين المعاصرة ليست دولة تُدار وفق نص مكتوب في واشنطن، بل أمة عمرها خمسة آلاف سنة، سلكت طريقاً تنموياً خاصاً بها، قائماً على الواقعية، والإصلاح التدريجي، والتفاعل العميق مع العولمة. وهذا بالضبط ما عبّر عنه بوضوح كبير الدبلوماسيين الصينيين يانغ جيه تشي خلال قمة ألاسكا الشهيرة حين قال: «واشنطن لا تملك المؤهلات اللازمة للتكلّم إلى الصين من موقع قوة».

الهيمنة تُفقد البوصلة

أخيراً، يقول مقربّون من بكين إنه من خلال تتبع سياسات واشنطن، يظهر أن الأزمة الأعمق ليست في التجارة أو التوازن الاقتصادي، بل في نمط التفكير السائد في واشنطن. وحسب هؤلاء «هناك تيار سياسي أميركي لا يستطيع تقبّل فكرة عالم متعدّد الأقطاب، قارئاً في صعود الصين تهديداً لامتيازات استمرت لعقود، لا سيما بعد الحرب العالمية الثانية».

بالتالي - والكلام لا يزال للمقربين من بكين - «هذا النمط من التفكير جعل بعض السياسيين في واشنطن كمن يحاول قيادة قطار فائق السرعة بمحرك عربة تجرها الخيول. فهم يصرّون على استخدام معايير القرن التاسع عشر لفهم تفاعلات القرن الحادي والعشرين، ويحاولون لعب أدوار متناقضة في الوقت نفسه: الحكم واللاعب والمُشرّع». لطالما استخدمت واشنطن التعريفات الجمركية سلاح ضغط اقتصادي على الصين