بنغلاديش: ما وراء الإطاحة بالشيخة حسينة؟

بين السياسات الداخلية والاعتبارات الجيوــاستراتيجية

الاضطرابات التي أدت إلى التغيير في بنغلاديش (أ ف ب)
الاضطرابات التي أدت إلى التغيير في بنغلاديش (أ ف ب)
TT
20

بنغلاديش: ما وراء الإطاحة بالشيخة حسينة؟

الاضطرابات التي أدت إلى التغيير في بنغلاديش (أ ف ب)
الاضطرابات التي أدت إلى التغيير في بنغلاديش (أ ف ب)

الحكومة المؤقتة في بنغلاديش بقيادة محمد يونس، طالبت الهند بتسليمها الشيخة حسينة واجد، رئيسة الوزراء السابقة، إلا أن سلطات نيودلهي لم تستجب. كذلك طلبت محكمة خاصة تتعامل مع اتهامات بارتكاب جرائم ضد الإنسانية من «الإنتربول» القبض عليها.

الشيخة حسينة واجد (د ب ا)
الشيخة حسينة واجد (د ب ا)

أفراد أسرة الشيخة حسينة - التي هي ابنة مؤسس بنغلاديش الشيخ مجيب الرحمن وأول قادتها – يقيمون راهناً خارج بنغلاديش مع العديد من قادة «رابطة عوامي»؛ الحزب الحاكم (يسار الوسط) سابقاً، والوزراء السابقين. وثمة آخرون إما في السجن أو مختبئون. في حين اعتقلت الحكومة المؤقتة الآلاف من مؤيدي حسينة، وحظرت كل نشاطات جماعاتها السياسية والطلابية والاجتماعية بجميع أشكالها.

من كان وراء الانقلاب؟

من جهة ثانية، التساؤلات مستمرة حول ما إذا كانت الولايات المتحدة وبعض الدول الغربية التي افترضت لنفسها مسؤولية فرض الديمقراطية على النمط الغربي على بقية العالم، وراء مؤامرة الإطاحة بنظام حسينة.

فيينا سكيرل، المفوضة السامية السابقة للهند لدى بنغلاديش، تقول إن «الحكومة المؤقتة، بقيادة محمد يونس، وصلت إلى السلطة من خلال انقلاب مدبّر بعناية؛ إذ كانت بعض القوى الغربية غير راضية عن عودة حسينة إلى السلطة في انتخابات يناير (كانون الثاني) 2024، ثم إن محمد يونس الذي عُيّن رئيساً مؤقتاً لبنغلاديش، والذي كانت علاقته مع حسينة متوترة منذ فترة طويلة، جمعته علاقة وثيقة بأطراف في إدارة الرئيس الأميركي السابق جو بايدن».

البروفسور محمد يونس (آ ب)
البروفسور محمد يونس (آ ب)

وكان لافتاً أن الرئيس بايدن احتضن يونس بحرارة عندما التقاه على هامش قمة الأمم المتحدة السنوية في العام الماضي. كذلك تلقى يونس في وقت لاحق إشادة كبيرة من الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون الذي نوّه بصداقتهما التي تعود إلى 40 سنة، والتأثير العالمي لقروض التمويل المصغر الرائدة في بنغلاديش.

أيضاً التقى أليكس سوروس، نجل الملياردير الأميركي جورج سوروس ورئيس مؤسسته «المجتمع المفتوح»، بالبروفسور يونس أخيراً، بعد أيام من وقف إدارة دونالد ترمب المساعدات الخارجية لبنغلاديش. ويعد هذا ثاني اجتماع بين سوروس ويونس منذ أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، حين وصف أليكس سوروس يونسَ بأنه «صديق قديم لوالدي».

مؤسسة «المجتمع المفتوح»

جدير بالذكر أن مؤسسة «المجتمع المفتوح» التابعة لسوروس كانت قد اتُّهمت بالترويج لتغيير أنظمة في أوروبا الشرقية، والشرق الأوسط، وأميركا اللاتينية. ويزعم البعض أن الحركة لعبت دوراً خلال أغسطس الماضي في إزاحة الشيخة حسينة عن الحكم في بنغلاديش. وفي الفترة الأخيرة تصدرت أخبار سوروس ومؤسسته العناوين الرئيسة في الهند أيضاً، حيث برز اسمه في جدل حول «مجموعة أداني»، مع ادعاءات بأن المنظمات التي يموّلها سوروس كانت وراء اتهام «مجموعة أداني» باستخدام أموال مُبهمة مقرها في موريشيوس لتوجيه الاستثمارات إلى شركاتها.

أما الدكتور أرفيند فيرماني، العضو السابق في لجنة التخطيط، فقد كتب على منصة «إكس» قائلاً: «ما أعرفه من خلال موقعي في صندوق النقد الدولي هو أن لدى يونس عدداً كبيراً من الأتباع المؤثّرين في الولايات المتحدة الذين مارسوا ضغوطاً لوقف قرض صندوق النقد الدولي لبنغلاديش؛ لأنهم وجدوا أن معاملة رئيسة الوزراء حسينة وحزبها (رابطة عوامي) له غير مقبولة».

بين الأمس واليوم

ما يستحق الإشارة إليه، أنه في بداية عام 2024 كانت بنغلاديش مثالاً بارزاً للنجاح، ثم حدث ما حدث بعد انتخابات عام 2024، عندما جاءت الشيخة حسينة إلى السلطة للمرة الخامسة بعد إقصائها من منصب رئاسة الوزراء. ووفق محللين سياسيين، فإنها صنعت بعد ذلك لنفسها أعداء أقوياء للغاية في داخل البلاد وخارجها. في 2024، اتخذت الولايات المتحدة خطوة مهمة بفرض قيود على تأشيرات الدخول على المسؤولين من بنغلاديش، متهمة إياهم بـ«تقويض العملية الديمقراطية» في انتخابات عام 2024؛ إذ أعرب الناطق باسم وزارة الخارجية الأميركية عن «القلق بشأن نزاهتها»، مسلطاً الضوء على تقارير بشأن مخالفات في التصويت، بجانب إدانة العنف الذي وقع قبل الانتخابات وأثناءها. وهكذا، أخذت واشنطن تنظر إلى حسينة باعتبارها «مستبدة» تخنق الديمقراطية في بنغلاديش.

وسارت لندن على خطى واشنطن، مُبدية قلقها من تراجع التزام حكومة بنغلاديش بالمعايير الديمقراطية. وضم فولكر تورك، مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان، صوته إلى الجوقة... وحث حكومة بنغلاديش - المنتخبة حديثاً - على «اتخاذ خطوات حاسمة نحو تجديد التزام البلاد بالديمقراطية وحقوق الإنسان»، إلا أن حسينة تمكنت من صد جميع هذه المطالب بسبب الدعم غير المحدود الذي تلقته حينذاك من الهند والصين.

واشنطن بايدن... وواشنطن ترمب

الواقع أن إحدى أكثر النظريات شيوعاً أن إدارة بايدن ضمنت لحسينة إعادة انتخاب سلسة، وخوض انتخابات أكثر سلاسة كرئيسة للوزراء إذا سمحت بحدوث أمور معينة. وشملت هذه «الأمور» إنشاء دولة مسيحية في شرق البلاد من خلال اقتطاع أجزاء من بنغلاديش وميانمار، مع السماح بالخطوة الأولى التي تمثّلت في بناء قاعدة جوية في جزيرة سانت مارتن بخليج البنغال.

ومعلوم أن خليج البنغال يقع على رأس ممرات الاتصال البحرية التي تربط الصين واليابان وكوريا بالشرق الأوسط وأفريقيا. وتمر نصف تجارة العالم عبر هذه الممرّات؛ ما يعني أن المنطقة ضرورية لسياسة واشنطن القائمة على «منطقة المحيطين الهندي والهادئ الحرة والمفتوحة والشاملة»، وهذا تعبير ملطف لكبح جماح التمدد الصيني.

وحقاً، في بيان نشرته صحيفة «إيكونوميك تايمز»، قالت رئيسة وزراء بنغلاديش السابقة: «كان بإمكاني البقاء في السلطة لو تخليت عن سيادة جزيرة سانت مارتن، وسمحت لأميركا ببسط نفوذها على خليج البنغال».

ومن جهته، يقول المحلّل السياسي الهندي سوشانت سارين: «لقد أعمى واشنطن غضبها المبرّر إزاء قمع حسينة للديمقراطية، فتجاهلت الجماعات الأصولية وقرّرت أن الطريق الوحيد لاستعادة الديمقراطية في بنغلاديش هو تنظيم سقوط حسينة. ومع ذلك، فإنه مع انتقال البيت الأبيض الآن إلى ترمب الذي تناقض أولوياته الأخلاقية والآيديولوجية أولويات بايدن لجهة سياسة واشنطن الخارجية، يرجح أن ينظر ترمب إلى الحكومة المؤقتة نظرة سلبية بسبب تقارب يونس مع الديمقراطيين البارزين، لا سيما آل كلينتون». ولكن على الرغم من ذلك، فإن الحكومة الحالية في دكا تميل بشكل إيجابي تجاه واشنطن، ومن غير المرجح أن يتغيّر ذلك في ظل رئاسة ترمب، ثم إن الولايات المتحدة تُعدّ حالياً ثالث أكبر مصدر للتحويلات المالية إلى بنغلاديش، وقد هاجر الآلاف من البنغاليين إلى الولايات المتحدة إبّان إدارة بايدن. وفي المقابل، ومع الأخذ في الاعتبار خطاب ترمب المناهض للمهاجرين ومواقفه السلبية إزاء الهجرة، يتوقع كثيرون أن يفرض قيوداً على الهجرة إلى البلاد؛ ما يمكن أن يؤثر سلباً على وضع البنغاليين في الولايات المتحدة، وتدفقات التحويلات المالية.

البُعدان الباكستاني والصيني

على صعيد آخر، يلاحظ المحللون السياسيون أن علاقة بنغلاديش المتنامية مع باكستان - التي شكّلت معها قبل الانفصال عام 1971 دولة واحدة - تأتي أيضاً في خضم تحركات جيوسياسية أوسع نطاقاً تُعيد تشكيل المشهد في جنوب آسيا. ولقد أثارت أخيراً زيارة الفريق أول إس. إم. قمر الحسن، ضابط الأركان الرئيس في شعبة القوات المسلحة في بنغلاديش، إلى إسلام آباد اهتمام راصدي العلاقات بين بنغلاديش وباكستان. وكذلك زيارة وفد من جهاز الاستخبارات الباكستاني بقيادة اللواء شهيد أمير أفسار إلى بنغلاديش لمدة أربعة أيام في يناير (كانون الثاني)؛ ما مثّل أول اللقاءات الرفيعة المستوى بين جهاز الاستخبارات الباكستانية والمسؤولين في بنغلاديش منذ عقود.

وأيضاً، شرعت إسلام آباد في توفير الذخيرة لقوات الأمن البنغلاديشية. وللمرة الأولى منذ خمسة عقود، رست سفينة شحن باكستانية في ميناء تشيتاغونغ في بنغلاديش. وألغت دكا عمليات التفتيش الجمركي على الواردات الباكستانية، وكذلك متطلبات التصاريح الأمنية للمواطنين الباكستانيين الذين يسعون للحصول على تأشيرة دخول إلى بنغلاديش.

وبالتوازي، على الرغم من أن سقوط حسينة شكّل انتكاسة بالنسبة لبكين، فإن الأخيرة تحركت بسرعة للتواصل مع النظام الجديد. فبعد فترة وجيزة من وصول الحكومة المؤقتة إلى السلطة، باشر السفير الصيني ياو وين في جولات مع يونس ومسؤولين آخرين في الحكومة المؤقتة، والحزب الوطني البنغلاديشي (يمين الوسط)، والعديد من الأحزاب الإسلامية، بما في ذلك الجماعة الإسلامية المتطرفة التي تدعمها جماعة الإخوان المسلمين، ثم استضاف الحزب الشيوعي الصيني زيارات لوفود من قادة الحزب الوطني البنغلاديشي والأحزاب الإسلامية. والمرجح أن يثبت استعداد بكين لإشراك شخصيات حكومية ومعارضة على حدّ سواء في بنغلاديش، أنه ميزة استراتيجية، لا سيما إذا كان أداء الحزب الوطني البنغلاديشي أو المتطرفين الإسلاميين جيداً في الانتخابات المقبلة.

وتاريخياً، حافظت الصين على علاقة تجارية قوية مع بنغلاديش، نمت بشكل ملحوظ خلال حكم حسينة، بل شكلت ولايتها بداية الاهتمام المتزايد للصين ببنغلاديش، وبلغت ذروتها في لحظة محوَرية إبان زيارة الرئيس شي جينبينغ إلى دكا عام 2016، ثم شهد ذلك العام أيضاً انضمام بنغلاديش إلى «مبادرة الحزام والطريق» الصينية؛ ما جعل بكين الشريك التجاري والمستثمر الرئيس لبنغلاديش، وبذا غدت دكا «صديق كل الفصول» لبكين. وللعلم، الصين هي الآن الدولة الوحيدة التي أبرمت بنغلاديش معها اتفاقية للتعاون الدفاعي، وتُشكل الأسلحة الصينية نسبة 82 في المائة من إجمالي مخزون القوات المسلحة في بنغلاديش.

وفي سياق متصل، تهدف سياسة «عدم التدخل» الصينية إلى تعزيز العلاقات الودية مع مختلف الفصائل السياسية في دكا التي يحمل العديد منها مشاعر معادية للهند. ولتخفيف أي اضطرابات أخرى في مشاريع البنية التحتية في بنغلاديش التي توقفت بسبب الاضطرابات السياسية في البلاد، أعلنت بكين التزامها بالحفاظ على شراكتها وتعزيزها مع أي طرف يصل إلى السلطة في بنغلاديش. ويأتي مدّ بكين يد العون للحكومة المؤقتة بقيادة يونس في حين تتّسم العلاقات بين نيودلهي ودكا بالخشونة. من الأسباب المزعومة... الرغبة في إنشاء دولة مسيحية تتشكل من اقتطاع أجزاء من بنغلاديش وميانمار


مقالات ذات صلة

ترسيم حدود لبنان وسوريا يشكّل الاختبار الأول لعلاقاتهما

حصاد الأسبوع الأمير خالد بن سلمان وزير الدفاع السعودي يتوسط الوزيرين منسى وابو قصرة في لقاء التوقيع بمدينة جدة (واس)

ترسيم حدود لبنان وسوريا يشكّل الاختبار الأول لعلاقاتهما

شكّلت الاشتباكات التي شهدتها الحدود الشرقية للبنان منتصف شهر مارس (آذار) الحالي أول اختبار للدولتين اللبنانية والسورية الجديدتين،

بولا أسطيح (بيروت)
حصاد الأسبوع بوندي

بام بوندي... تُدخل على وزارة العدل تغييرات جوهرية في سياق معارك ترمب القضائية

عندما اختار الرئيس الأميركي، دونالد ترمب، المدعية العامة السابقة لولاية فلوريدا، بام بوندي، لتكون أعلى مسؤول عن إنفاذ القانون في البلاد،

إيلي يوسف ( واشنطن)
حصاد الأسبوع مبنى إدغار هوفر، مقر "مكتب التحقيقات الفيدرالي" (الأف بي آي) في واشنطن. (آ ب)

منصب المدعي العام أو وزير العدل في الولايات المتحدة

المدعي العام أو المحامي العام أو وزير العدل في الولايات المتحدة هو كبير المسؤولين القانونيين في الدولة أو الولاية، والمستشار القانوني للرئيس الأميركي ولحكام الو

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
حصاد الأسبوع البرهان بعد كسبه معركة العاصمة (رويترز)

الحرب السودانية تُنذر بصراع إقليمي

لا تُعدّ تهديدات ياسر العطا الأولى من نوعها؛ إذ دأب على مهاجمة دول الجوار واتهامها بالضلوع في مساندة «قوات الدعم السريع». إذ كان قد اتهم خلال شهر نوفمبر

هشام المياني (القاهرة)
حصاد الأسبوع من آثار هجمات المتمردين في إقليم بلوشستان (آ ب)

باكستان في مواجهة أخطار التمرد المسلح من جديد

تواجه باكستان تصاعداً حاداً في حركة التمرد داخلها مع شن جماعات مسلحة سلسلة من الهجمات العنيفة استهدفت بشكل رئيس قوات الأمن

براكريتي غوبتا (نيودلهي)

ترسيم حدود لبنان وسوريا يشكّل الاختبار الأول لعلاقاتهما

الأمير خالد بن سلمان وزير الدفاع السعودي يتوسط الوزيرين منسى وابو قصرة في لقاء التوقيع بمدينة جدة (واس)
الأمير خالد بن سلمان وزير الدفاع السعودي يتوسط الوزيرين منسى وابو قصرة في لقاء التوقيع بمدينة جدة (واس)
TT
20

ترسيم حدود لبنان وسوريا يشكّل الاختبار الأول لعلاقاتهما

الأمير خالد بن سلمان وزير الدفاع السعودي يتوسط الوزيرين منسى وابو قصرة في لقاء التوقيع بمدينة جدة (واس)
الأمير خالد بن سلمان وزير الدفاع السعودي يتوسط الوزيرين منسى وابو قصرة في لقاء التوقيع بمدينة جدة (واس)

شكّلت الاشتباكات التي شهدتها الحدود الشرقية للبنان منتصف شهر مارس (آذار) الحالي أول اختبار للدولتين اللبنانية والسورية الجديدتين، في مقاربة الملفات المعقّدة والمتراكمة التي كان النظام السوري السابق كما الحكومات اللبنانية التي كان يسيطر عليها «حزب الله» تفضّل أن تبقى مجمّدة على حالها تبعاً لمصالح الطرفين. الحدود اللبنانية - السورية تمتد على طول أكثر من 375 كلم. ويُجمع الخبراء على أن تأخر ترسيمها، ووجود عوامل جغرافية واجتماعية تضاف إليها عوامل أخرى سياسية وأمنية، أمور تجعل منها «خاصرة رخوة» للبلدين، قد تشهد تجدد المواجهات العسكرية في أي وقت كان، وبخاصة أن فيها عشرات المعابر غير الشرعية التي تُستخدم لتهريب الأفراد والسلع والسلاح منذ سنوات طويلة.

شهد ملف ترسيم الحدود اللبنانية - السورية خلال الساعات الماضية خرقاً كبيراً بالإعلان من مدينة جدّة عن توقيع اتفاق برعاية ووساطة المملكة العربية السعودية بين وزير الدفاع اللبناني ميشال منسّى ووزير الدفاع السوري مُرهف أبو قصرة، جرى فيه التأكيد على «الأهمية الإستراتيجية لترسيم الحدود بين البلدين، وتشكيل لجان قانونية ومتخصصة بينهما في عدد من المجالات، وتفعيل آليات التنسيق بين الجانبين للتعامل مع التحديات الأمنية والعسكرية على أن يُعقد اجتماع متابعة في المملكة العربية السعودية خلال الفترة المقبلة».

الأمير خالد بن سلمان وزير الدفاع السعودي يتوسط الوزيرين منسى وابو قصرة في لقاء التوقيع بمدينة جدة (واس)
الأمير خالد بن سلمان وزير الدفاع السعودي يتوسط الوزيرين منسى وابو قصرة في لقاء التوقيع بمدينة جدة (واس)

مصادر مطلعة رأت أن دخول المملكة العربية السعودية على خط الوساطة بين البلدين «يجعل أي اتفاق أو تفاهم أمكن التوصل إليه ملزِماً للطرفين ويعطيه بُعداً أكثر جدية». وما تجدر الإشارة إليه هنا أن الجيش اللبناني ينشر 4 أفواج على طول الحدود اللبنانية - السورية بعدد عناصر يبلغ نحو 4838 عنصراً، يتوزّعون على 108 مراكز من بينها 38 برج مراقبة مجهزين بكاميرات وأجهزة استشعار ليلية، كما كان قد أعلن رئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي. إلا أن هذا الواقع لم يحُل دون مواجهات عنيفة شهدتها هذه الحدود بدأت بين العشائر، وانضم إليها «حزب الله» قبل أن تتحوّل بين الجيش اللبناني وقوات الأمن السورية؛ ما أدى إلى مقتل 7 أشخاص في لبنان و3 من الجانب السوري.

التطورات الميدانية

المناطق الحدودية – في شمال شرقي لبنان بالذات - كانت قد شهدت، بعد سقوط النظام السابق في دمشق، اشتباكات متفرقة بين مهرّبين من الطرفين. وأطلقت قوات الأمن السورية خلال شهر فبراير (شباط) الماضي حملة أمنية في محافظة حمص التي تحدّ شمال لبنان وشماله الشرقي؛ بهدف إغلاق الطرق المستخدمة في تهريب الأسلحة والبضائع. وتتهم هذه القوات «حزب الله» بأنه ينشط في رعاية عصابات التهريب عبر الحدود، وأن المواجهات المسلحة التي خاضتها على الحدود الشرقية للبنان شارك فيها عناصر الحزب بشكل مباشر. غير أن قيادة «حزب الله» نفت أي علاقة له بالموضوع.

وفي منتصف الشهر الحالي، بعد مواجهات دامية بين الطرفين على أثر اتهام سوريا عناصر «حزب الله» بدخول أراضيها وخطف وقتل ثلاثة من أفراد الجيش السوري، دخل الجيش اللبناني على الخط بإيعاز من رئيس الجمهورية العماد جوزيف عون الذي أعطى توجيهاته بالردّ على مصادر النيران والانتشار في بلدة حوش السيد علي التي شهدت أعنف المواجهات. ومن ثم، أوكل الرئيس عون وزير الخارجية اللبناني يوسف رجّي التواصل مع السلطات السورية لحل الأزمة، قبل أن يتسلّم وزير الدفاع منّسى الملف.

الترسيم أولاًفي أي حال، يرى كثيرون أن حل الأزمة الحدودية بين البلدين تبدأ بترسيم الحدود. وحقاً، هذا ما نصّ عليه قرار مجلس الأمن الدولي في عام 2006، وحمل الرقم 1680، ولحظ إلى جانب الترسيم إقامة علاقات دبلوماسية رسمية بين البلدين، كما أكد على وجوب نزع سلاح الميليشيات. غير أن سوريا رفضت، يومذاك، القرار، واعتبرته تدخلاً في شؤونها الداخلية، بينما رحّب به عدد من الدول الغربية بجانب الحكومة اللبنانية.

قوات في المنطقة الحدودية بين سوريا ولبنان (آ ب)
قوات في المنطقة الحدودية بين سوريا ولبنان (آ ب)

العميد المتقاعد خليل الحلو، الباحث اللبناني في الشؤون السياسية والاستراتيجية، يرى أن «مسألة ترسيم الحدود مع سوريا ليست مسألة طوبوغرافية حصراً، إنما لها بُعد اجتماعي باعتبار أن لدى كثيرين من اللبنانيين أملاكاً في الجهة السورية من الحدود، ما يتطلب نقاشات ومفاوضات طويلة». ويلفت الحلو في لقاء مع «الشرق الأوسط» إلى أن «القضية لا تُحل على مستوى وزيري الدفاع أو الجيشين اللبناني والسوري، بل تحتاج إلى مؤتمر قمة بين رئيسي جمهورية البلدين يضم وزراء متخصصين، وهي ورشة إذا ما انطلقت قد تستمر لسنوات».

وفق الحلو، فإن «تطبيق القرار الدولي 1680 مرتبط بشكل أساسي بقدرة الجيش اللبناني على الانتشار لضبط الحدود. وراهناً لديه 4 أفواج حدود برّية وعشرات أبراج المراقبة، كما يمتلك سلاح جو. وبالتالي، إذا ما كُلّف فعلياً ضبط الحدود عبر قرار سياسي واضح، لا بالكلام وحده، فهو قادر على ذلك، من دون تناسي أدوار الأجهزة الأمنية الأخرى في هذا المجال».

للعلم، تربط لبنان وسوريا 6 معابر نظامية، هي:

- معبر المصنع الذي يربط بين بيروت ودمشق من جهة البقاع الشرقي

- معبر جوسية الواقع بين بلدة القاع اللبنانية ومدينة القصير السورية

- معبر مطربا شرقي مدينة الهرمل اللبنانية

- معبر الدبوسية بشمال لبنان

- معبر تلكلخ غربي محافظة حمص، مقابل منطقة وادي خالد في عكار

- ومعبر العريضة قرب الشاطئ الذي يؤدي من شمال لبنان إلى مدينة طرطوس السورية.

أما المعابر غير الشرعية فتعدُ بالمئات.

الرؤية السورية

في هذه الأثناء، ترى جهات رسمية لبنانية، فضَّلت إغفال ذكر هويتها، أن السلطة الجديدة في سوريا «لا تبدو متحمسة أو مستعجلة» لبت الملفات العالقة مع لبنان، سواء الملف الحدودي أو ملف اللاجئين أو سواها من الملفات؛ نظراً لأن أولوياتها لا تزال محصورة بضبط الوضع في الداخل السوري، ومعالجة مئات الملفات لتسهيل أمور الناس داخل البلاد. وتشير مصادر في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» إلى وجود علامات استفهام حول قدرة السلطات الجديدة هناك من الإمساك بكامل الأراضي السورية وضمناً الحدود.

في المقابل، توضح السياسية والباحثة السورية - الأميركية الدكتورة مرح البقاعي لـ«الشرق الأوسط» أن «الدولة الجديدة في سوريا لا تزال في مرحلة التأسيس؛ إذ لم يتجاوز عمرها ثلاثة أشهر». ومن ثم تتطرق إلى «الكثير من القضايا والمشكلات العالقة في الداخل السوري، خصوصاً بعد سقوط نظام استبدّ بالحكم لمدة خمسين سنة ونصف السنة. لذلك؛ حتى الآن، لم يكتمل المشهد الداخلي السوري بصورته الرسمية والإجرائية».

وترى البقاعي أن «الاشتباكات عبر الحدود هي في منطقة لطالما كانت غير مستقرة لعقود. ثم أنها كانت تحت سيطرة النظام السابق في سوريا، شهدت تفاعلات معقدة، إذ كانت بعض العشائر المحلية على وفاق مع النظام الذي رحل، كما كان لها علاقات مع (حزب الله) في لبنان. هذه العشائر كانت تعمل على طرفي الحدود، وتعتمد بشكل أساسي على التهريب مصدراً للموارد».

وبحسب البقاعي، «تكمن المشكلة الأساسية في هذه المنطقة الحدودية - وتحديداً في المنطقة الشرقية - في غياب الأمن والسيطرة الفعلية، حيث تنتشر عصابات التهريب التي اعتاشت لعقود على هذه الأنشطة في ظل غياب أي تنمية حقيقية. ومع الواقع الجديد في البلدين، أتت الاشتباكات نتيجةً مباشرة لمحاولة الأطراف الجديدة فرض سيطرتها».

أما عن رؤيتها للحل، فتقول الباحثة السورية - الأميركية إنه «من الضروري البدء بوقف عمليات التهريب، لكن الحل الجذري يتطلب العودة إلى مسألة ترسيم الحدود بين البلدين. وهذا أمر معقّد وسيأخذ وقتاً؛ إذ إنه مرتبط بالوضع الإقليمي ككل، وليس فقط بالحدود اللبنانية - السورية، بل يشمل أيضاً الحدود اللبنانية مع إسرائيل».

وللعلم، تعدّ مصادر نيابية لبنانية أن وضع الحدود السورية الراهن مرتبطاً إلى حد كبير بوضع الحدود الجنوبية. وتشير لـ«الشرق الأوسط» إلى «وجود قرار أميركي - إسرائيلي حاسم بتضييق الخناق على (حزب الله)، وقطع كل طرق إمداده بكل الوسائل، ومن هنا تُفهم عمليات القصف الإسرائيلي التي نشهدها للحدود الشرقية بين الحين والآخر».

ولادة متعسّرة

في الحقيقة، بعد سقوط النظام في سوريا، كانت هناك خشية لبنانية كبيرة من تفلّت أمني ينسحب على لبنان. وظلّت السلطات في بيروت تراقب من بعيد التطورات إلى أن قرّر رئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي زيارة دمشق للقاء الرئيس السوري أحمد الشرع منتصف يناير (كانون الثاني) الماضي، إلا أن اللقاء بقي دون نتائج. وعملية.

أيضاً، عُقد لقاء بين الشرع وعون على هامش القمة العربية في مارس (آذار) الحالي، شدَّدا خلاله على ضرورة ضبط الحدود بين البلدين. لكن المواجهات المسلحة التي تلت اللقاء أكدت أن الملف يتطلب معالجة أعمق وعلى المستويات كافة.

هنا لا تُنكر مرح البقاعي أن «العلاقات السورية - اللبنانية تشهد ولادة متعسّرة، سواءً في سوريا بعد سقوط النظام، أو في لبنان بعد الفراغ الحكومي الطويل. وكلا البلدين في حاجة ماسة إلى التعاون في مختلف المجالات، وأهمها المجال الأمني».

وهي ترى أيضاً أن «ما يمنح الدولة السورية الجديدة شرعية كبيرة، ويجعل المجتمع الدولي، بما في ذلك الولايات المتحدة الأميركية، يثق بها، هو أن بعض المجموعات التي كانت في السلطة سابقاً والمصنّفة على قوائم الإرهاب لم تعُد جزءاً من المشهد». وتتابع أن «الدول الأوروبية بدأت بالتعامل بشكل إيجابي مع الدولة الوليدة في سوريا. والسبب الرئيس لهذا التغير هو قدرة السلطات الجديدة في سوريا على إنهاء وجود حزب الله والميليشيات الإيرانية في البلاد خلال وقت قياسي... وهذا إنجاز يحسب لها، ليس فقط على المستويين الدولي والإقليمي، بل أيضاً بالنسبة للشعب السوري نفسه. إذ تم تحرير سوريا، وحياتها العامة، ومجتمعها من قبضة النفوذ الإيراني، الذي تسبّب في حالة من الفساد وانعدام الاستقرار لعقود طويلة».