ترمب يسجّل «انتصارات» سريعة في القارة الأميركية... ويستغلها ضد خصومه في الداخل

رغم التنازلات الظاهرية... وتحذيرات بعض المراقبين

قناة بنما (آ ب)
قناة بنما (آ ب)
TT

ترمب يسجّل «انتصارات» سريعة في القارة الأميركية... ويستغلها ضد خصومه في الداخل

قناة بنما (آ ب)
قناة بنما (آ ب)

ما تبيّن بشأن تهديدات دونالد ترمب أنها لم تثمر أي نتائج ملموسة سوى في البلدان المجاورة، بالذات في القارة الأميركية، التي انقسمت حكوماتها بين مهلل للإدارة الاميركية الجديدة ومتهيّب لرياح سياسة ترمب الخارجية التي يقودها ماركو روبيو أبرز «الصقور» الجمهوريين وأكثرهم تطرفاً نحو اليمين بالنسبة للملفات الإقليمية.

والحال، أنه قبل انقضاء شهر واحد على بدء دونالد ترمب ولايته الرئاسية الثانية وتوقيعه عشرات الأوامر التنفيذية، حصد عدداً من «الإنجازات» التي سارع الساسة الجمهوريون إلى المفاخرة بها رغم الشكوك التي تثيرها هذه السياسة في أوساط الخبراء والمراقبين. بل اندفع مستشاره وحليفه الملياردير إيلون ماسك إلى حد القول: «إن تمثال الرئيس ترمب يجب أن يكون محفوراً على جبل راشمور» الصخري الشهير في ولاية ساوث داكوتا إلى جانب تماثيل جورج واشنطن، وتوماس جيفرسون، وإبراهام لنكولن وثيودور روزفلت.

شاينباوم (رويترز)

لي أذرع «الجارين» المكسيكي والكندي

بيد أن هذه «الإنجازات» ظلت حتى الآن مقصورة على المحيط الإقليمي للولايات المتحدة، حيث تملك واشنطن ترسانة ضخمة من وسائل الضغط والتأثير على جيرانها.

المكسيك، مثلاً، تعهّدت بإرسال عشرة آلاف جندي من الحرس الوطني إلى حدودها مع الولايات المتحدة لمكافحة عصابات تجارة المخدرات وتدفق الهجرة غير الشرعية. وجاء التعهّد بعد مكالمة هاتفية للرئيسة كلاوديا شاينباوم مع ترمب حصلت بنتيجتها على تعليق تنفيذ قرار فرض رسوم جمركية بنسبة 25 في المائة على البضائع والمنتوجات المكسيكية المصدّرة إلى الولايات المتحدة، لمدة شهر واحد. في الواقع، التعهد المكسيكي، برأي الخبراء، كان يمكن الحصول عليه من دون اللجوء إلى فرض الرسوم الجمركية على «الجارة» التي تعدّ من أهم الشركاء التجاريين للولايات المتحدة، لكن أسلوب ترمب يقوم على الاستعراض الدائم لمظاهر القوة ولفت الأنظار.

لكن اللافت في هذه المواجهة، التي شكّلت أصعب مرحلة سياسية منذ وصول كلاوديا شاينباوم إلى الحكم، أنها رفعت شعبية الرئيسة المكسيكية حتى تجاوزت 80 في المائة بعد التهديدات الأميركية بفرض رسوم جمركية على المنتجات والسلع المكسيكية بنسبة 25 في المائة.

رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو (رويترز)

المراقبون في المكسيك يرجّحون أن تبقى تهديدات ترمب بشأن الرسوم مجرد تصريحات تهدف لدفع الحكومة المكسيكية إلى ضبط الحدود. ويرون أن زيادة الرسوم على المنتجات المكسيكية ستكون لها آثار وخيمة على المواطن الأميركي الذي يستهلك سنوياً ما قيمته 466 مليار دولار من البضائع والسلع المكسيكية. لكن تحسباً للمفاجآت التي ليست مستبعدة مع ترمب؛ دعت الرئيسة المكسيكية رجال الأعمال والشركات الكبرى إلى زيادة الإنتاج المحلي بهدف تلبية 50 في المائة من الاحتياجات الاستهلاكية الوطنية، و15 في المائة من الطلب المحلي في قطاعات السيارات والصناعات الفضائية والإلكترونية وأشباه الموصلات والأدوية والمواد الكيميائية.

أيضاً، وعدت شاينباوم بإطلاق حملة واسعة وطويلة الأمد لتشجيع استهلاك المنتجات الوطنية. وفي هذه الأثناء، بدأت طلائع قوات الحرس المدني المكسيكي بالتوجه إلى الحدود المكسيكية - الأميركية التي تمتد بطول 3200 كيلومتر؛ منعاً لتسلل عصابات المخدرات وتدفق الهجرة غير الشرعية إلى البلد الذي يعيش فيه أكثر من 11 مليون مهاجر مكسيكي... يشكلون إحدى الركائز الأساسية لقطاعي الزراعة والخدمات في الولايات المتحدة.

إشكالية كندا

بعدها، كانت المكالمة الرئاسية الثانية، التي طال انتظارها، مع رئيس وزراء كندا جاستين ترودو، الذي حصل هو أيضاً على وقف تنفيذ فرض الرسوم الجمركية على السلع والمنتجات الكندية لمدة شهر مقابل تعهّده بتعزيز المراقبة على الحدود المشتركة بخطة أمنية تكلفتها 1.3 مليار دولار، والتزامه بتصنيف «كارتيلات المخدرات» منظمات إرهابية، وتشكيل قوة أميركية - كندية مشتركة لمكافحة الجريمة المنظمة وتهريب المخدرات وغسل الأموال.

لكن مع هذا، ورغم كل هذه التعهدات، واصل ترمب الإعراب عن أمنيته بأن تصبح كندا «ولايتنا الحادية والخمسين». وعلى صعيد موازٍ، تتّجه أنظار المراقبين لمعرفة الخطوة الأولى التي سيُقدِم عليها الرئيس الأميركي دونالد ترمب باتجاه كوبا، التي يرجّح أن تكون أحد الأهداف الرئيسة لوزير خارجيته روبيو - المتحدّر من أصول كوبية – وهنا يبقى الاهتمام مركّزاً على مصير «المواجهة» بين واشنطن وموسكو؛ نظراً لضخامة المبادلات التجارية بين الطرفين، وللتداعيات التي قد تنتج من نتائجها.

بنما... وقناتها

بنما كانت بين «الضحايا» الأوائل التي سقطت في معركة تهديدات الرئيس الأميركي بعدما هدّد بتجريدها من السيادة على القناة الشهيرة التي تربط بين المحيطين الأطلسي والهادئ وتشكّل المصدر الأساسي لثروة البلاد.

ففي زيارته الأولى إلى الخارج، انتزع وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو من رئيس جمهورية بنما خوسيه راوول مولينو «تنازلاً» مهماً. ولقد وصف بيان غير مسبوق اللهجة صادر عن وزارة الخارجية الأميركية ما حصل بالقول «أوضح الوزير روبيو أن الوضع الراهن للقناة ليس مقبولاً، وفي حال عدم حصول تغييرات فورية ستكون الولايات المتحدة مضطرة إلى اتخاذ التدابير اللازمة من أجل حماية حقوقها بموجب المعاهدة».

وبعد ساعات معدودات من مغادرة روبيو بنما، أدلى مولينو بتصريح قال فيه إن بلاده لن تجدد الاتفاق الموقّع ضمن إطار «طريق الحرير» الصينية عندما تنتهي مدته. وللعلم، كانت بنما قد انضمت إلى المشروع الضخم الذي أطلقته بكين منذ سنوات للاستفادة من العروض الاستثمارية والمشاريع الإنمائية التي تقدّمها الصين لتمويل البُنى التحتية، وذلك بعدما قررت بنما قطع علاقاتها الدبلوماسية مع تايوان.

أيضاً، ذكرت مصادر رسمية أميركية أن مولينو أكّد لروبيو أن السفن الحربية الأميركية «ستكون لها الحرية الكاملة لعبور القناة». ولكن هذا ايضاً لم يكن كافياً بالنسبة لترمب، الذي قال: «قبلوا ببعض الأمور، لكنني لست راضياً عن ذلك»، واعداً بمضاعفة الضغوط في الأيام المقبلة.

... وبو كيلة وسجونه!

في أميركا الوسطى أيضاً، كانت السلفادور المحطة الثانية في جولة روبيو الأولى بصفته وزيراً للخارجية. وهنا تعهّدت السلفادور بموجب اتفاقية وقّعها الوزير الأميركي مع رئيس الجمهورية نجيب بو كيلة بأن تستقبل في سجونها المجرمين الذين يُلقى القبض عليهم في الولايات المتحدة، بمن فيهم مواطنون أميركيون، مقابل الحصول على مساعدة تقنية من واشنطن لتطوير محطة لتوليد الطاقة النووية. وذكر بو كيلة أن بلاده تلتزم قبول المجرمين الذين صدرت بحقهم أحكام إدانة أميركية «مقابل تعريفة منخفضة بالنسبة للولايات المتحدة، لكنها تسمح باستدامة منظومة السجون في السلفادور».

ما يستحق الذكر، أنه يوجد في السلفادور أكبر سجن في العالم، يتسع لأكثر من 40 ألف معتقل. وكان قد بناه بو كيلة إبان حربه ضد العصابات المسلحة التي كانت تزرع الرعب في البلاد، والتي يوجد ما يزيد على عشرين ألفاً من أفرادها حالياً في السجن. ولقد أبدت دول أميركية لاتينية عدة تعاني ظاهرة العصابات المسلحة اهتماماً بـ«التجربة السلفادورية» وقرّرت تبنّيها للحد من مستويات العنف في مدنها الكبرى. وحقاً، منذ عام 2022 ضربت شعبية بو كيلة أرقاماً قياسية إثر إعلانه حالة الطوارئ واعتقال أكثر من 80 الفاً من أفراد العصابات الإجرامية وزجّهم في السجن من غير إعطائهم فرصاً للدفاع عن النفس أمام المحاكم. وبهذا الشأن، تقول منظمات حقوق الإنسان إن مئات المعتقلين قضوا تحت التعذيب في السجون، لكن هذا لم يؤثر سلباً على شعبية بو كيلة الذي يفاخر بأن السلفادور على عهده أصبحت الدولة الأكثر أماناً في أميركا اللاتينية بعدما كانت الأكثر عنفاً. بنما كانت بين «الضحايا» الأوائل التي سقطت في معركة تهديدات ترمب بعدما هدّد بتجريدها من السيادة على قناتها الشهيرة


مقالات ذات صلة

خامنئي: التهديدات الأميركية لإيران «لن تجدي نفعاً»

شؤون إقليمية المرشد الإيراني علي خامنئي خلال إلقائه خطاباً بمناسبة رأس السنة الفارسية (النوروز) في طهران... 20 مارس 2025 (إ.ب.أ)

خامنئي: التهديدات الأميركية لإيران «لن تجدي نفعاً»

أكد المرشد الإيراني علي خامنئي، (الجمعة)، أن التهديدات الأميركية لبلاده «لن تجدي نفعاً»، بعدما حذَّر الرئيس الأميركي دونالد ترمب من تحرّك عسكري محتمل ضد إيران.

«الشرق الأوسط» (لندن)
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي دونالد ترمب (يسار) يستقبل جو بايدن لدى وصوله لحضور مراسم التنصيب في مبنى الكابيتول (أ.ف.ب)

ترمب يتحدث ساخراً عن «الشيء الوحيد الذي يعجبه» في بايدن

تحدث الرئيس الأميركي دونالد ترمب هذا الأسبوع عن الرئيس السابق جو بايدن، مشيدًا بقدرة سلفه الفريدة على النوم بسرعة.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي دونالد ترمب يتحدث إلى الملياردير إيلون ماسك في البيت الأبيض (أ.ف.ب)

هل سيطّلع ماسك حقاً على خطط بشأن حرب محتملة مع الصين؟ ترمب يجيب

نفى الرئيس الأميركي، دونالد ترمب، تقريراً بأنه سوف يتم إطلاع الملياردير إيلون ماسك، اليوم، على الخطط التي أعدّها الجيش الأميركي لمواجهة أي حرب مع الصين.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الولايات المتحدة​ مبنى المحكمة العليا الأميركية في العاصمة واشنطن (أ.ف.ب)

ترمب يطالب المحكمة العليا بتقييد إصدار الأوامر القضائية التي تعرقل قراراته

قال ترمب في حسابه على موقع (تروث سوشيال) إن «أوامر وقف التنفيذ القضائية غير القانونية الصادرة عن قضاة اليسار الراديكالي قد تؤدي إلى دمار بلدنا».

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي دونالد ترمب ووزير التعليم ليندا مكماهون في البيت الأبيض عقب توقيع أمر تنفيذي بإغلاق وزارة التعليم (رويترز)

ترمب يوقع أمراً تنفيذياً يقضي بإغلاق وزارة التعليم

وقع الرئيس الأميركي دونالد ترمب، الخميس، أمراً تنفيذياً يطلب من وزيرة التعليم «اتخاذ كل الإجراءات لتسهيل إغلاق» الوزارة.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

الأزمة الاقتصادية في تونس... سيناريوهات متباينة

الرئيس قيس سعيّد (أ.ف.ب)
الرئيس قيس سعيّد (أ.ف.ب)
TT

الأزمة الاقتصادية في تونس... سيناريوهات متباينة

الرئيس قيس سعيّد (أ.ف.ب)
الرئيس قيس سعيّد (أ.ف.ب)

كشف عبد الجليل البدوي، الخبير الاقتصادي والمسؤول السابق في اتحاد نقابات العمال التونسية، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، عن أن «الأزمة الاقتصادية والمالية ومضاعفاتها الاجتماعية والأمنية أمر واقع»، داعياً السلطات إلى فتح مفاوضات مع النقابات والأطراف الاجتماعية والاقتصادية الوطنية لاحتوائها وتجنّب «الخطوط الحمراء».

مصالح رؤوس الأموال

وفي المقابل، البدوي عدّ أن بعض الأوساط في صندوق النقد الدولي والبنك العالمي والاتحاد الأوروبي تتعمّد «تضخيم» أزمات تونس المالية والاقتصادية والاجتماعية، بهدف «ابتزاز» السلطات وفرض شروط جديدة عليها خدمة لمصالح العواصم الغربية، وبينها تلك التي لديها علاقة بملفات الهجرة وحرية تنقل المسافرين والسلع ورؤوس الأموال بين بلدان الشمال والجنوب.

البدوي رأى أيضاً أن الأزمات المالية الاقتصادية والاجتماعية التي تمر بها تونس، وعدة دول عربية وأفريقية اليوم، استفحلت منذ عدة سنوات بسبب «انصياع الحكومات المتعاقبة لـ(توصيات) صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي، وبينها اتباع سياسات رأسمالية لا تتلاءم واقتصادات دول في طريق النمو». وبالتالي، وفق البدوي، كانت النتيجة سياسات «منحازة إلى مصالح أقليات من رؤوس الأموال، وفشلاً في تحقيق التوازن بين الجهات والفئات والقطاعات التنموية».

خطر «الانهيار الشامل»

غير أن خبراء ماليين واقتصاديين تونسيين آخرين، منهم عز الدين سعيدان، المشرف سابقاً على بنوك ومراكز دراسات اقتصادية ومالية عربية، حذّروا من «تجاوز الخطوط الحمراء» بسبب اختلال التوازنات المالية للدولة والبنوك التونسية العمومية وارتفاع أعباء نِسَب التداين.

وحذّر سعيدان، بالذات، من تراجع فرص «خلق الثروة» وترفيع الاستثمار الداخلي والدولي، مع ما يعنيه ذلك من استفحال «الأزمة الاقتصادية الهيكلية» الموروثة، وبروز «أزمة ظرفية» من مظاهرها التضخم المالي وتراجع فرص التشغيل ونقص مداخيل الدولة من الصادرات ومن الضرائب.

وفي سياق متصل، توقّف الكثير من وسائل الإعلام والملتقيات العلمية والاقتصادية أخيراً عند تحذيرات وجّهتها أطراف تونسية وأجنبية من سيناريوهات «استفحال الأزمات الاقتصادية والاجتماعية بشكل غير مسبوق» في تونس. واستدلّت هذه الجهات بالإحصائيات الرسمية التي تقدّمها تقارير البنك المركزي والمعهد الوطني عن الإحصاء، والتي تكشف «مزيداً من العجز المالي والتجاري والفوارق بين الطبقات...».

مقر البنك المركزي التونسي (غيتي)

وأعاد هؤلاء إلى الأذهان ما أورده تقرير صدر قبل نحو سنتين في صحيفة «نيويورك تايمز» عن «اتجاه الاقتصاد التونسي نحو الانهيار». حقاً، كان ذلك التقرير قد أورد أن تونس «تعاني فشلاً اقتصادياً» بسبب سوء التسيير وتداعيات جائحة «كوفيد-19» والحرب الدائرة في أوكرانيا، التي ضاعفت حجم نفقات الدولة تحت عنوان تمويل وارداتها من المحروقات والحبوب، وحرمتها من مداخيل نحو مليون سائح روسي وأوكراني كانوا يزورون البلاد سنوياً.

ديون المؤسسات العمومية المفلسة

ويستدل الخبراء التونسيون والأجانب الذين يحذّرون من استفحال الأزمة الاقتصادية الاجتماعية الحالية بتقارير أصدرها البنك العالمي وصندوق النقد الدولي وحذّرت بدورها من «تضخّم نسبة أجور العاملين في القطاع العمومي التي تبتلع نحو 18 في المائة من الناتج المحلي، وهي من أعلى النسب في العالم».

بل تزداد التحديات بالنسبة إلى السلطات بسبب بروز مثل هذه الإحصائيات في وقت تزايدت فيه احتجاجات النقابات على بعض القرارات «الموجعة» التي اتخذتها الحكومة، وبينها تجميد المفاوضات الاجتماعية حول زيادات الأجور ومنح التقاعد والتوظيف.

ولقد نبّهت المصادر نفسها أيضاً من تداعيات إخفاق الحكومات المتعاقبة في البلاد خلال السنوات الـ15 الماضية في تسوية معضلة ديون الشركات العمومية المفلسة التي تكلف الدولة نحو 40 في المائة من الناتج المحلي، في حين تمثّل أعباء دعم المواد الغذائية والمحروقات ما بين 8 و10 في المائة منه. ويُضاف إلى ما سبق، أن الأوضاع تغدو «أكثر خطورة» -وفق المصادر ذاتها- بسبب معضلة عجز الميزان التجاري وتراجع قدرة الصادرات على تغطية الواردات، على الرغم من الضغط الكبير الذي تمارسه مؤسسات الحكومة والبنك المركزي على حركة التوريد، بما في ذلك بالنسبة إلى الأدوية وقطع الغيار والمواد الخام التي يستحقها المصنّعون والمستثمرون.

مخاطر وتحذيرات

في خضم ذلك، أعد الخبيران الاقتصاديان التونسيان حمزة المؤدّب وهاشمي علية، والخبير اللبناني إسحاق ديوان، تقريرَيْن لفائدة مؤسسة دولية عن «المخاطر الاقتصادية والسياسية الاجتماعية التي تهدّد تونس». واستخلص الخبراء الثلاثة أن «تونس تعيش منذ عام 2011 بما يتجاوز إمكاناتها».

إذ سجل هؤلاء الخبراء أن القروض والمساعدات الخارجية تدفّقت إلى البلاد بعد الانتفاضة الشبابية والشعبية عام 2011، «لدعم عملية الانتقال السياسي الديمقراطي»، وقدّرت تلك «المساعدات» بنحو 20 مليار دولار خلال العقد الماضي. إلا أن عوامل عديدة أدت إلى تسبّب المليارات التي حصلت عليها الدولة بإحداث «طفرة استهلاكية غير مستدامة»، مقابل تراجع القدرة الإنتاجية للبلاد بسبب غياب الاستقرار السياسي وانعدام توازن الاقتصاد الكلّي، فكانت الحصيلة ازدياد إمكانية حدوث «انهيار مالي خطير».

ومن ثم، طالب الخبير الهاشمي علية ورفيقاه بـ«إصلاحات للنظام السياسي التونسي، كي يغدو قادراً على تفادي النتائج الكارثية لأزمة موروثة ازدادت تعقيداً وتفاقماً».

«الإصلاحات الموجعة»

في المقابل، يحذّر الخبير رمضان بن عمر، الناطق الرسمي باسم «المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية» من المخاطر التي تحفّ بـ«تطبيق تدابير إصلاحية قاسية وموجعة قد تؤدّي إلى اندلاع أزمة اجتماعية سياسية»، على الرغم من تحذيرات الخبراء الماليين التي تورد أن «التلكؤ في تنفيذ الإصلاحات سيفضي على الأرجح إلى حدوث انهيار اقتصادي ومالي واضطرابات اجتماعية وأمنية في المستقبل القريب».

وفي السياق ذاته، يدعو الأمين العام لـ«الاتحاد العام التونسي للشغل»، نور الدين الطبوبي، ورفاقه في القيادة النقابية العمالية إلى القطع مع سياسات «المماطلة وكسب الوقت»، وإلى تنظيم حوار وطني اجتماعي-اقتصادي-سياسي يسفر عن تعزيز «الثقة في مشروع وطني يُعدّ مقبولاً سياسياً، ويستطيع النهوض بالبلاد نحو مستقبلٍ واعد».

نور الدين الطبوبي (رويترز)

وضع صعب... ولكن

في هذه الأثناء، حذّر وزير التجارة التونسي السابق والخبير الاقتصادي، محسن حسن، في تصريح لـ«الشرق الأوسط» من «الإفراط في تضخيم مؤشرات الأزمة الاقتصادية والمالية في البلاد»، غير أنه حثّ على الإقرار بوجود أزمة اقتصادية ومالية، وطنياً وقطاعياً، تحتاج إلى إجراءات فورية للإصلاح والتدارك، بما في ذلك في قطاعات الزراعة والتجارة والخدمات. ومن جهته، لفت الخبير الاقتصادي والأكاديمي، رضا الشكندالي، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أن الكلام عن «انهيار» اقتصاد تونس «مبالغ فيه». ورأى أن تونس «ليست في مرحلة انهيار اقتصادي اجتماعي شامل، وإن كانت تعيش أزمة مالية تعمّقت مع تراجع الموارد المالية الخارجية، وتعثّر الاتفاق مع صندوق النقد الدولي والمؤسسات المالية التي تقرض بنسب فائض منخفضة نسبياً». ومع إقرار الشكندالي بأن «الوضع الاقتصادي متأزم وخطير»، فإنه نبه إلى ضرورة تجنّب «المبالغات» والبعد عن «التقييمات المتشائمة جداً التي تُوحي بقرب الوصول إلى حالة انهيار شامل».

تسديد الديونوسط هذه المناخات، نوّه الرئيس التونسي قيس سعيّد، خلال جلسة عمل جديدة مع محافظ البنك المركزي فتحي زهير النوري، بـ«نجاح الدولة في الإيفاء بالتزاماتها الدولية وتسديد معظم ديونها»، واعترض على «تضخيم» مشكلات البلاد والصعوبات الاقتصادية والمالية التي تواجهها.

وأورد بلاغ رسمي لرئاسة الجمهورية بأنّ «تونس تمكّنت خلال يناير (كانون الثاني) الماضي من تسديد خدمة الدين العمومي بنسبة 40 في المائة من مجموع خدمة الدين العمومي المتوقعة لكامل عام 2025. ونجحت أيضاً في السيطرة على نسبة التضخم في حدود 6 في المائة بعدما كانت في العام السابق 7.8 في المائة. وتمكّنت من تحقيق استقرار ملحوظ لسعر صرف الدينار مقابل أبرز العملات الأجنبية في نهاية سنة 2024».

ومجدّداً، انتقد الرئيس سعيّد الخبراء الذين يطالبون بـ«الرضوخ لشروط صندوق النقد الدولي والبنك العالمي والأطراف المانحة الدولية». وذكّر بأن تلك الشروط تسبّبت مراراً في اضطرابات اجتماعية وأمنية وسياسية وصدامات عنيفة مع النقابات والعاطلين عن العمل منذ سبعينات القرن الماضي.

كذلك، أصدر الرئيس التونسي أوامر إلى الحكومة والبنك المركزي بالمضي قدماً في سياسة «الاعتماد على الذات» و«الموارد الذاتية للتمويل»، والتحرر من «إملاءات» الصناديق الدولية ومؤسسات التصنيف الائتماني العالمية.

معضلة «التصنيفات» والقطيعة وهنا أثار الخبراء تقييمات متباينة لسياسة «القطيعة» مع صندوق النقد الدولية والمانحين، وأيضاً مع مؤسسات «التصنيف الائتماني» العالمية، وبينها وكالة «موديز» التي خفّضت تصنيف تونس خلال السنوات الماضية، مما أدّى إلى امتناع المانحين الدوليين التقليديين عن منح قروض للحكومة بنسب فائدة منخفضة بحجة غياب «ضمانات مالية وسياسية كافية».

ومع أن «موديز» حسّنت يوم 28 فبراير (شباط) الماضي نسبياً التصنيف الائتماني لتونس من «Caa2» إلى «Caa1»، فإنها أبقت على ملاحظاتها «السلبية». وحول هذه النقطة، رحّب الخبير بسام النيفر بالخطوة، وأورد أن عام 2024 كان عاماً قياسياً في سداد الديون الخارجية للدولة. وتوقع أن يكون عام 2027 عام «الانفراج الشامل».

إلا أن رضا الشكندالي يرى أنه على الرغم من هذا التحسّن في التصنيف فلا تزال تونس مصنّفة «دولة ذات مخاطر ائتمانية عالية جداً مع عجزها عن سداد الديون الخارجية قصيرة الأجل».

وأوضح أنه يلزمها التقدّم 6 درجات كاملة في تصنيف «موديز»، كي تخرج من المنطقة الحمراء، وهي «درجة المضاربة»، وحتى تحظى بثقة المستثمرين في السوق المالية الدولية. الحكومة والبنك المركزي يؤكدان أن الوضع تحت السيطرة