تغيير سوريا... وعلاقات العراق المستقبلية مع واشنطن وطهران وأنقرة

وسط ارتباك المعادلات الإقليمية والدولية

السوداني ويزشكيان خلال زيارة رئيس الوزراء العراق لإيران (آ ف ب)
السوداني ويزشكيان خلال زيارة رئيس الوزراء العراق لإيران (آ ف ب)
TT

تغيير سوريا... وعلاقات العراق المستقبلية مع واشنطن وطهران وأنقرة

السوداني ويزشكيان خلال زيارة رئيس الوزراء العراق لإيران (آ ف ب)
السوداني ويزشكيان خلال زيارة رئيس الوزراء العراق لإيران (آ ف ب)

لم تنتهِ، حتى بعد مرور شهرين على الزلزال السوري، ارتداداته على دول المنطقة والإقليم والعالم. ومع أن علاقات نظام الرئيس السوري السابق بشار الأسد كانت جيدة ظاهراً مع سلطات بغداد، وباطناً مع الفصائل العراقية المسلحة الموالية لإيران، تلتزم بغداد بقدر من الحذر إزاء التغيير «المفاجئ» في سوريا. وبقدر ما كان وضع النظام السوري السابق بالنسبة لبغداد مثار قلق بسبب تداخل تلك العلاقات مع عواصم تربطها ببغداد علاقات متباينة، منها طهران وأنقرة وواشنطن، فإن التغيير السوري لا بد أن يؤثر على الصلات المستقبلية بين العراق وهذه العواصم.

بغداد سعت دائماً إلى البقاء على مسافة متساوية مع دول «جارة» ومؤثرة، بعضها كان لها نفوذ في سوريا قبل التغيير، مثل إيران وتركيا وروسيا. واليوم يتزايد الاهتمام -وكذلك الحذر- بمستقبل العلاقات مع تركيا، التي تبدو المستفيد الأكبر، وإيران رغم خسارتها المدوية، وطبعاً إدارة دونالد ترمب الأميركية التي لديها مقاربات مختلفة ليس على صعيد سوريا، بل المنطقة والعالم.

وبناءً عليه، بات لزاماً على الحكومة العراقية رسم سياسة جديدة حيال هذه الدول، وكذلك الأخذ في الحساب الإشكاليات التي تحكم الحكومة مع الأطراف السياسية العراقية المتحالفة مع إيران، سواء تلك التي تنتمي إلى «الإطار التنسيقي الشيعي» الحاكم، أو الفصائل المسلحة الموالية لإيران. وكانت الأخيرة بدأت تعلن رفضها الصريح حل نفسها، أو حتى نزع سلاحها مثل «النجباء» و«أنصار الله الأوفياء».

في الوقت عينه، تريد الحكومة، التي يترأسها محمد شياع السوداني، بناء علاقة جيدة مع واشنطن رغم تكاليفها الباهظة، لا سيما طروحات ترمب على صعيدي غزة ولبنان و«الديانات الإبراهيمية» وغيرها من القضايا الحرجة.

تناقض تصريحات

اليوم، تسعى الحكومة العراقية إلى التعامل مع سلاح الفصائل وفق رؤية تخضعها لمنطق الدولة، في حين تعلن الفصائل دائماً مواقف مخالفة حيناً، ومواربة حيناً، حيال ما يجري. وبينما أعلنت بعض الفصائل، مثل حركة «النجباء» التي يتزعّمها أكرم الكعبي، «تعليق» عملياتها ضد إسرائيل والمصالح الأميركية، فإن فصيل «أنصار الله الأوفياء» أكد أنه لن ينزع سلاحه، ولن يحل نفسه.

الكلام عن حل الفصائل جاء إثر ورود «معلومات» بشأن تهديدات تلقتها بغداد من مبعوث خاص للرئيس الأميركي دونالد ترمب قبيل تنصيبه بنحو أسبوعين، إذ أوصل المبعوث رسالة أميركية واضحة حيال الفصائل المسلحة «التي يجب أن ينزع سلاحها»، وإلا فإنه لن تكون واشنطن قادرة على منع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو من توجيه ضربات لها.

ولكن، بعيداً عن مضمون هذا التهديد الذي لم تؤكده الحكومة العراقية، ولم تنفه، كان رئيس الوزراء محمد شياع السوداني قد نجح سابقاً في منع إسرائيل من توجيه 3 ضربات للفصائل، من خلال وساطة مع الإدارة الأميركية خلال عهد الرئيس السابق جو بايدن. أما اللافت الآن، فإنه بعد إعلان زعيم «تيار الحكمة» عمار الحكيم، قبل تنصيب ترمب بنحو أسبوعين، أن الحكومة العراقية تلقّت تهديدات هدفها الضغط على الفصائل لنزع سلاحها، نفى وزير الخارجية فؤاد حسين، الاثنين الماضي، خلال ندوة حوارية في بغداد، سماع أي تهديدات من الإدارة الأميركية الجديدة.

بل ما يزيد الغموض، أن تصريح وزير الخارجية، النافي تلقي بغداد أي تهديدات تتعلّق بالفصائل المسلحة، وكلام الحكيم المؤكد وجود ضغوط وتهديدات، يتناقضان مع موقفين للرئيس العراقي عبد اللطيف رشيد ورئيس الوزراء السوداني.

السوداني، الذي كان قد زار إيران والتقى المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي، سمع من الأخير كلاماً عن أهمية تقوية «الحشد الشعبي»، وأن العمل جارٍ «على دمج الفصائل المسلحة ضمن الأطر القانونية والمؤسساتية». لقد قال السوداني في كلمة له، إن «العراق له خصوصية في التعامل مع إرادة البقاء»، لافتاً إلى أن «العراقي من أكثر الشخصيات اعتداداً بنفسه... ولا يمكن أن يكون خاضعاً لأحد، أياً كان». وأردف: «تصوير بلدنا بأنه يتبع لأي دولة أمر يتنافى مع الشخصية التاريخية للعراق».

وفي سياق التناقض الكلامي بين كبار المسؤولين العراقيين، نقل عن الرئيس العراقي عبد اللطيف جمال رشيد قوله في حوار متلفز أن «الفصائل المسلحة باتت تأتمر بتوجيهات الحكومة... والحشد الشعبي هو جزء من القوات الأمنية، ولا يوجد مبرّر للحديث عن دمجه بوزارتي الدفاع والداخلية». ثم أضاف أن «الفصائل، هي فصائل عراقية، وقرارات الحكومة الأخيرة نصّت على أن كل نشاطاتها يجب أن تكون بتوجيه من الحكومة، ومنذ فترة هناك هدوء». وبيّن أن «بعض الفصائل مرتبطة بالحشد الشعبي، ومن ثم فهو جزء من القوات الأمنية».

وحول ما يُقال عن دمج الحشد الشعبي بوزارتي الدفاع والداخلية، أوضح رشيد أن «الحشد الشعبي جزء من القوات الأمنية، ولا يوجد مبرر لإثارة هذه الموضوعات، والحكومة مسيطرة على الوضع، ولا توجد مشكلات منذ فترة».

بغدادان أم بغداد واحدة؟

أما بالنسبة لسوريا، فقد أحدثت المفاجأة السورية إرباكاً في الكيفية التي يمكن أن تتعامل بها بغداد مع الرئيس الجديد في سوريا، أحمد الشرع، المعروف سابقاً بـ«أبو محمد الجولاني». وحقّاً، تعددت وجهات النظر العراقية على صعيد التعامل مع الوضع السوري الجديد، سواء على صعيد الداخل العراقي، أو من خلال علاقة بغداد مع كل من طهران وأنقرة، وأيضاً واشنطن التي تنظر للوضع السوري الجديد من خلال أكثر من منظور. فهناك علاقتها الاستراتيجية مع إسرائيل، وعلاقتها التحالفية مع تركيا، مع مواصلة دعمها «قسد» التي تحاربها تركيا. وبالطبع، هناك العلاقة العدائية بين طهران وواشنطن، وتداعياتها على بغداد.

لذا تبدو بغداد حائرة، بل لعلها في سياق علاقاتها الخارجية تبدو «بغدادين» لا بغداد واحدة... فهناك «بغداد الرسمية» وأيضاً «بغداد الموازية».

«بغداد الرسمية» تمثلها الحكومة وما معها من القوى السياسية، سواء من قبل الشركاء الكرد والعرب السنة؛ حيث هم مع الحكومة الرسمية التي يُهيمن عليها الشيعة، أو من قبل بعض قوى وقيادات «الإطار التنسيقي» الشيعي الذين يميلون إلى أن يكون للحكومة دورها الأول والرئيسي في التعامل مع ملفات الخارج.

وفي المقابل نجد «بغداد الموازية»، التي تتمثل في بعض قوى «الإطار التنسيقي» التي إما لديها علاقات تحالفية مع إيران منذ زمن المعارضة، ولم تتمكن من التخلي عنها... وإما تلك القوى التي تملك أجنحة مسلحة.

على صعيد العلاقة مع دمشق، لم تتقدم حكومة السوداني كثيراً في الملف السوري، باستثناء إعادة فتح السفارة العراقية في دمشق، وإرسال وفد أمني برئاسة مدير جهاز الاستخبارات. والسبب الرئيسي في ذلك يعود إلى قوة نفوذ العراق غير الرسمي أو الموازي الذي لا يزال يتأثر برؤية طهران إلى ما يجري في سوريا؛ نظراً للخسارة الكبيرة التي لحقت بإيران بعد سقوط نظام الأسد.

الأمر نفسه ينطبق على الوضع مع أنقرة، ففي حين تسعى حكومة السوداني إلى الوصول لتفاهمات ثنائية مع أنقرة على صعيد عدد من الملفات السياسية والاقتصادية، بما فيها طريق التنمية والمياه والشراكة الاقتصادية، فإن ثمة مَن يرى أن تركيا تتدخل في الشأن العراقي، عن طريق ملف «حزب العمال الكردستاني» الـ«ب ك ك». وللعلم، امتلك الحزب علاقات جيدة مع الفصائل المسلحة في منطقة سنجار، التي تعد إحدى العقد الاستراتيجية لطهران للوصول إلى سوريا قبل خروج سوريا من المعادلة تماماً. وبينما تشجع قوى كردية وسنية خطوات السوداني حيال تركيا فإن القوى السياسية الشيعية لا تؤيده.

في أي حال، تبدو العلاقة بين بغداد وكل من طهران وواشنطن هي الأكثر التباساً، وهي مع تعثرها بوصول دونالد ترمب إلى السلطة في البيت الأبيض فإنها ملتبسة على صعيد الموقف الأميركي من طهران، والموقف الإيراني من أميركا... وبينهما العراق، الحريص على ألا تكون أرضه ساحة لتصفية الحسابات بين الطرفين، والعامل ليكون وسيطاً أو ناقل رسائل أميناً بينهما.

خلال زيارة السوداني «الخير» إلى إيران، تضاربت الآراء حول إذا كان مكلفاً بصفته «وسيطاً» بنقل رسالة إلى القيادة الإيرانية، أو أنه نقل فقط تهديداً أميركياً إلى طهران. والحال، أن الموقف الرسمي العراقي بقي كما هو حيال العلاقة المشتبكة بين طهران وواشنطن ودور العراق فيها.

التعامل و«الرمانات الثلاث»

سياسي عراقي مستقل يرى أن «السبب في تحاشي توضيح الموقف الرسمي العراقي من إيران لجهة العلاقة مع الولايات المتحدة أو العكس... هو أن العراق يسعى لأن تظل علاقته متوازنة بين الطرفين، وفي الوقت نفسه أن يكون وسيطاً مقبولاً بينهما، ويسعى مرة ثالثة ألا يكون طرفاً في أي مواجهة محتملة».

ويضيف السياسي العراقي -الذي طلب إغفال ذكر اسمه- في حواره مع «الشرق الأوسط» أن «العراق كمن يحمل ثلاث رمانات في يد واحدة، وهي مهمة تبدو صعبة في وقت كان لا أحد يعرف توجهات ترمب في اليوم التالي بعد التنصيب».

وحول ما يبدو مواقف متضاربة بشأن الزيارة إلى طهران وما بعدها، خصوصاً بعد تنصيب ترمب، يقول السياسي العراقي «المشكلة التي باتت تواجه المسؤول الرسمي العراقي هي أنه بات يتعامل مع إيرانيين لا إيران واحدة. وهذا ما واجهه السوداني خلال زيارته إلى إيران».

ويوضح «بينما كانت مباحثات السوداني مع الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان طبيعية، وفيها مساحة واسعة من التعاطي مع مختلف الملفات، بدا لقاء المرشد الإيراني على خامنئي مختلفاً، إذ إن الأخير تدخّل حتى في دعوة السوداني إلى تعزيز الحشد الشعبي، الذي هو مؤسسة عراقية، وهو ما يعني أن خامنئي استفز الإدارة الأميركية الجديدة بشأن الموقف من الفصائل المسلحة».

وحقّاً، انعكس هذا التداخل على طبيعة الأمور داخل قوى «الإطار التنسيقي» الشيعي الحاكم، التي أخذت تتناقض مواقفها، سواء على صعيد حل الفصائل المسلحة أو على صعيد العلاقة المستقبلية مع ترمب.

وفي هذا السياق، يقول عضو البرلمان العراقي، علي نعمة، عن «الإطار التنسيقي» الشيعي، إنه لا توجد مخاوف لدى «الإطار» من سياسات الرئيس الأميركي دونالد ترمب. وأردف: «لا مخاوف عند (الإطار) من ترمب، والترويج لمخاوف بشأن فرض أي عقوبات على العراق أمر غير حقيقي، وبعيد عن الواقع».

ثم أضاف: «بغداد وواشنطن لديهما علاقات جيدة على مختلف الأصعدة، ونحن نسعى ونعمل على تعزيز تلك العلاقة خلال المرحلة المقبلة». وتابع: «الولايات المتحدة دولة مؤسسات، ولديها سياسة ثابتة في التعامل مع الدول. وتغير الرئيس الأميركي لا يعني تغير تلك السياسة، واتخاذ قرارات عدائية تجاه الدول الصديقة لواشنطن، ومن بينها العراق».

وزير الخارجية التركي فيدان (رويترز)

حساب الأكلاف والالتباسات العراقي مع تركيا

> علاقة بغداد مع إدارة الرئيس دونالد ترمب الجديدة، لا تزال محفوفة بمزيد من المخاوف كون مقاربة ترمب على صعيد العلاقة مع إيران لم تتضح بعد. وهو ما يعني استمرار القلق داخل العراق حيال هذا الأمر، لأن من شأن طبيعة علاقة طهران مع واشنطن تحديد مستقبل العلاقة مع بغداد. فرهاد علاء الدين، مستشار العلاقات الخارجية لرئيس الوزراء محمد شياع السوداني، كتب في «الشرق الأوسط» أخيراً أن بغداد «تريد بناء علاقة شراكة استراتيجية متكاملة مع واشنطن». وأضاف، في مقاله الذي حمل عنوان «العلاقة بين العراق وأميركا استراتيجية ومؤسساتية»، إن «العراق يمثل اليوم فرصاً كبيرة للشركات الأميركية في قطاع الطاقة؛ حيث تُجرى مناقشات مع شركات كبرى مثل (إكسون موبيل) و(شيفرون)، إلى جانب مبادرات تشمل شركات مثل (جنرال إلكتريك) و(بايكر هيوز) و(كي بي آر) و(هاليبرتون). وتُقدر قيمة المشاريع المخصصة للشركات الأميركية بعشرات المليارات من الدولارات خلال السنوات القليلة المقبلة. كما أعربت مؤسسات مالية، بما في ذلك بنك إكسيم (EXIM) وصندوق النقد الدولي، عن اهتمامها بدعم هذه الجهود». وتابع: «من المتوقع أن يعلن رئيس الوزراء عن مبادرة مالية غير مسبوقة قد تُحدث تحولاً في بيئة الأعمال في العراق وتزيد من تعزيز علاقاته بالولايات المتحدة». هذه العلاقة التي لا تتأثر بما يمكن أن تكون عليه العلاقات مع تركيا، تتأثر كثيراً في العلاقة مع واشنطن، الأمر الذي يدفع العراق لأن يناغم وتوجهات ترمب الاقتصادية والتجارية أكثر من الملف السياسي. تركيا، من جهتها، أرسلت الأسبوع الماضي وزير خارجيتها هاكان فيدان إلى بغداد، وهي تريد لبغداد أن تتقدم خطوة على صعيد مشاركتها محاربة حزب العمال الكردستاني والتقدم خطوة أخرى باتجاه العلاقة مع دمشق. ومع أن لبغداد رؤيتها المختلفة عن رؤية تركيا على صعيدي حزب العمال أو الإدارة الجديدة في دمشق فإنها تتشارك مع تركيا على الصعيد الاقتصادي. ثم إن الملف التجاري هو لصالح تركيا لكون العراق مستورداً رئيساً للسلع التركية، ولذا يهم بغداد تحمّس أنقرة لطريق التنمية الذي يعول عليه العراق كثيراً في مستقبله الاقتصادي والتنموي.


مقالات ذات صلة

موسكو تعوّل على «إعادة ترتيب» أوروبا

حصاد الأسبوع بوتين جاهز للقاء ترمب (آ ف ب)

موسكو تعوّل على «إعادة ترتيب» أوروبا

> غياب الانتقادات المباشرة في روسيا لأي خطوة يقوم بها الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب لا يعكس فقط رغبة الكرملين في التريث لحين إطلاق الحوار المباشر ووضع.

حصاد الأسبوع هربرت كيكل

هربرت كيكل... زعيم اليمين النمساوي المتطرف ينتظر فرصته لإحداث تغييرات سياسية جذرية

لا يحمل تاريخ نشأة هيربرت كيكل المكلّف تشكيل الحكومة العتيدة في النمسا، ارتباطاً باليمين المتطرف أو النازية، كأسلافه الذين قادوا حزب الحرية قبله. ولكن مع هذا قد يكون الزعيم الأكثر تطرفاً الذي ترأس الحزب خلال العقود الأخيرة. ذلك أن كيكل غالباً ما يكرر تعابير استخدمها النازيون، ومنذ تكليفه تشكيل الحكومة مطلع العام، بدأ يلقب نفسه بـ«مستشار الشعب»، وهو اللقب الذي كان يستخدمه هتلر لوصف نفسه. وبالتالي، في حال نجح كيكل بتشكيل الحكومة، سيكون المستشار الأول للنمسا الذي ينتمي إلى حزب متطرف أسسه عام 1955 أعضاء في «قوات الأمن الخاصة النازية» المعروفة اختصاراً بالـ«إس إس». الحزب اليوم معادٍ للاتحاد الأوروبي ومقرّب من روسيا، ومع أنه شارك في حكومات ائتلافية نمساوية في السابق، إلا أنه لم يقُد أياً منها بعد. وراهناً، رغم تكليف كيكل - بعدما تصدّر حزبه انتخابات سبتمبر (أيلول) الماضي بحصده نسبة 29 في المائة من الأصوات، ما زال من غير الواضح ما إذا كان سينجح فعلاً بالمهمة الموكلة إليه «اضطراراً». فالرئيس النمساوي ألكسندر فان دير بيلن فضّل بدايةً تكليف زعيم حزب الشعب (محافظ)، الذي حل ثانياً بنسبة 26 في المائة من الأصوات، تشكيل الحكومة، مع أن في هذا مخالفة للأعراف. وبرّر الرئيس قراره يومذاك بأن كل الأحزاب الأخرى ترفض التحالف مع حزب الحرية من دون تحييد كيكل. وبالفعل، اشترط حزب الشعب تنازل كيكل عن قيادة الحكومة شرطاً للتفاوض معه، وهو ما رفضه الأخير. بيد أن زعيم حزب الشعب كارل نيهامر أخفق بتشكيل حكومة ثلاثية الأطراف مع حزبين آخرين، فاستقال من زعامة حزبه، وبالتالي، عادت الكرة إلى ملعب كيكل.

راغدة بهنام (برلين)
حصاد الأسبوع شتراخه (رويترز)

حزب الحرية النمساوي المتطرف... لمحة تاريخية وسياسية

أُسس حزب الحرية النمساوي عام 1956، وكان زعيمه الأول، أنتون راينتالرو، ضابطاً سابقاً في قوات الأمن الخاصة النازية. لكن، رغم ذلك، تجنّب الحزب في بداياته الترويج.

«الشرق الأوسط» (برلين)
حصاد الأسبوع قناة بنما (آ ب)

ترمب يسجّل «انتصارات» سريعة في القارة الأميركية... ويستغلها ضد خصومه في الداخل

منذ وصول دونالد ترمب للمرة الأولى إلى البيت الأبيض، تبيّن أن استحالة التنبؤ بقراراته وخطواته هي من أمضى الأسلحة في ترسانته الدبلوماسية، وأن فاعلية التهديدات التي يطلقها في كل الجهات وعلى جميع الجبهات تكمن في كونها قابلة للتنفيذ فوراً. لكن، بينما بقيت تهديدات ترمب بفرض رسوم جمركية على الصين وأوروبا إبان ولايته الأولى مجرّد تصريحات لم تبلغ أبداً مرحلة التنفيذ، اختلف الأمر هذه المرة. فمنذ بداية هذه الولاية الثانية وصلت دبلوماسية الابتزاز التي انتهجها الرئيس الأميركي العائد إلى أبعد الحدود الممكنة، واستطاع خلال أقل من أسبوعين أن يحصل على تنازلات من المكسيك وكندا وكولومبيا وبنما وفنزويلا، غير آبه بالاضطرابات والخضّات التي أحدثتها في الأسواق المالية والاقتصادية هذه الحرب التجارية التي أطلقها، والتي وصفتها صحيفة «وول ستريت جورنال» بأنها الأكثر حُمقاً في التاريخ.

شوقي الريّس (مدريد)
حصاد الأسبوع جبل راشمور (آ ف ب)

كولومبيا وفنزويلا والإكوادور نماذج لتعامل واشنطن الجديد مع أنظمة أميركا الجنوبية

>على صعيد دول النصف الجنوبي من القارة الأميركية، يرى مراقبون أن الجولة الأولى من «حرب» دونالد ترمب المفتوحة على كل الجبهات، التي يرى كثيرون أن ترمب كسبها بالضرب


خطط ترمب التوسعية «استفزاز» يهدد «الناتو»... ويمنح بوتين أوراقاً إضافية

كيف ستتعامل موسكو مع موضوع ضم ترمب لجزيرة غرينلاند (ناسا)
كيف ستتعامل موسكو مع موضوع ضم ترمب لجزيرة غرينلاند (ناسا)
TT

خطط ترمب التوسعية «استفزاز» يهدد «الناتو»... ويمنح بوتين أوراقاً إضافية

كيف ستتعامل موسكو مع موضوع ضم ترمب لجزيرة غرينلاند (ناسا)
كيف ستتعامل موسكو مع موضوع ضم ترمب لجزيرة غرينلاند (ناسا)

تراقب موسكو خطوات الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب بمزيج من الترقّب لردّات الفعل في مناطق مختلفة من العالم، وحساب معدلات الربح والخسارة، لا سيما في إطار انعكاسات تصرفات الرئيس الأميركي على تماسك المواقف الأوروبية ووحدة حلف شمال الأطلسي «ناتو» وسياساتها تجاه روسيا... ولكن بالدرجة الأولى، بطبيعة الحال، على التوقعات المتعلقة بآليات تسوية الصراع حول أوكرانيا.

تحريك قنوات الاتصال

مع تكرار الإعلان في موسكو عن استعداد مباشر للجلوس إلى طاولة مفاوضات شاملة مع فريق ترمب، تبحث كل الملفات المتراكمة بين الطرفين، وتتوّج تفاهمات على القضايا الرئيسية، فضّل الكرملين تجنب التعليق مباشرة على كثير من التحركات الصارخة للرئيس الأميركي، في مسعى لتقدير آفاق تطورها أولاً، وأيضاً معرفة مستوى وآليات ردات الفعل عليها.

لكن في الشأن الأوكراني بدا أن الأسابيع الأخيرة شهدت تحريك قنوات الاتصال بشكل قوي ومتسارع بين موسكو وواشنطن. وبعد مرور ساعات فقط على إعلان ترمب أن الاتصالات مع الكرملين «تجري بنشاط»، ووصفها بأنها «مفاوضات بناءة»، أكّد الناطق باسم الرئاسة الروسية ديمتري بيسكوف استئناف عمل قنوات حوار على مستويات عدة، لتشكل هذه الخطوة الأولى العملية التي يجري تنفيذها على أرض الواقع، وكانت متوقعة منذ فوز ترمب في الانتخابات.

بيسكوف قال إن «الاتصالات بين روسيا والولايات المتحدة عبر الوزارات المختلفة قد تكثفت». ومن دون أن يعطي تقييمه لسير المفاوضات، قال الناطق إن الحوارات تجري على مستويات عدة. ومع التأكيد على أن الحوار الجاري مع واشنطن لا ينعكس حتى الآن على استعداد موسكو لفتح قنوات للتفاوض مباشرة مع أوكرانيا، فأكد أن «ديناميكيات العملية (العسكرية) الخاصة تظهر أن الاهتمام بالحوار السلمي يجب أن يأتي من جانب كييف».

الاشتراطات الروسية

هنا بدا أن أول الاشتراطات الروسية لإحراز تقدُّم يفضي إلى إحياء العملية السلمية حول أوكرانيا ينطلق من حسم الوضع حول «شرعية» الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي لإدارة المفاوضات. ومعلوم هنا أن موسكو تصرّ على أن زيلينسكي «لم يعد رئيساً شرعياً، وأنه وقّع في وقت سابق مرسوماً بحظر التفاوض مع موسكو. وهو ما يعني أنه يجب حل هذا الموضوع بظهور إدارة أوكرانية جديدة تتمتع بالشرعية، وتلغي المرسوم السابق قبل إطلاق عملية التفاوض. يكتسب هذا الجدل أهمية إضافية على ضوء تلميحات بعض أركان الإدارة الأميركية بضرورة إجراء انتخابات جديدة في أوكرانيا قبل نهاية العام الحالي، ومثل تلك التصريحات صدرت عن قيادة حلف «ناتو» أيضاً.

ويبدو على هذه الخلفية أن الاتصالات الأولى بين الإدارة الأميركية وموسكو لا تتناول قضايا مثل ترتيب قمة قريباً، وأجندتها المحتملة، بل تتطرق أيضاً إلى بعض الجوانب التفصيلية المتعلقة بمساعي إعادة إطلاق مسار سلمي ينهي الحرب في أوكرانيا.

مستقبل أوكرانيا على الطاولة

العنصر الثاني المتعلق بأوكرانيا، الذي يبدو أنه يشكل مادة للنقاش في المرحلة التي تسبق لقاء ترمب الأول منذ عودته إلى البيت الأبيض مع الرئيس فلاديمير بوتين، يتبلور - كما يبدو - من خلال السعي إلى تحديد سقف مصالح واشنطن في الصراع المستمر منذ نحو 3 سنوات.

اللافت هنا أن التصريحات الأولى الصادرة عن البيت الأبيض لم تتكلّم عن الأراضي الأوكرانية «المحتلة»، ومعلوم أن موسكو تسيطر راهناً على نحو خُمس أراضي أوكرانيا. ويشترط الكرملين لأي تسوية أن يحصل على إقرار أوكراني وغربي بقرارات ضم مقاطعات أوكرانيا إلى روسيا. واستمرار الصمت الأميركي حيال هذا الملف يوجّه رسالة مريحة لموسكو حالياً.

غير أن إشارات ترمب الأولى اتجهت نحو ملف مختلف تماماً؛ ذلك أنه تطرّق إلى امتلاك أوكرانيا ثروات مهمة من المعادن النادرة، ورأى أن بوسع واشنطن مواصلة حماية أوكرانيا إذا حصلت على حقوق استثمار هذه الثروات الضخمة.

في هذا الملف ركّزت التعليقات الروسية على فكرة تحوّل الإدارة الأميركية من الكلام عن قضايا تتعلق بالأمن الاستراتيجي للولايات المتحدة ولأوروبا، وعن فكرة «العدوان الروسي» لتغدو منحصرة أكثر في «المصالح التجارية المباشرة» للانخراط في هذا الصراع. وكانت ماريا زاخاروفا، الناطقة باسم «الخارجية الروسية»، قد أعربت عن أنها «غير مندهشة» من طلب مجلس الأمن القومي الأميركي الحصول على المعادن من أوكرانيا تعويضاً عن الدعم المالي الذي قدمته واشنطن لكييف.

زاخاروفا رأت أن هذا المسار «طبيعي»، وأنه «يجب أن يتحقق المرء من سعر الوجبة قبل أن يأكلها». بينما رأى وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، أن مثل هذا الاقتراح سيعني أن كييف مستعدة لتسليم جميع الموارد الطبيعية الأوكرانية إلى «ملكية أسيادها الغربيين». أما بيسكوف فرأى أن خطط ترمب بشأن المعادن الأرضية النادرة تمثل عرضاً تجارياً «لشراء المساعدة»... وأن «أفضل شيء بالنسبة لواشنطن سيكون عدم مساعدة كييف على الإطلاق، ومن ثم المساهمة في إنهاء النزاع». والملاحَظ في التعليقات الروسية أنها لا تنتقد ترمب، بل وجهت سهامها إلى زيلينسكي «المستعد لبيع ثروات بلاده للغرب».

بنما وكندا ... بعيدتان جداً

في المستوى نفسه من تعمّد تحاشي توجيه انتقادات إلى الإدارة الأميركية في خطواتها المتسارعة التي شكلت استفزازاً لعدد من الأطراف في العالم، تجاهل الكرملين عمداً إعلانات ترمب الصارخة تجاه كندا وقناة بنما.

بل حتى وسائل الإعلام الحكومية الروسية تعاملت مع الموضوع من زاويته الخبرية من دون إبداء رأي في تأثيراته المحتملة. ونشرت بكثافة الخرائط التي وضعها ترمب على منصات التواصل الاجتماعي، وتظهر فيها كندا ملونة بألوان العلم الأميركي وتحتها عبارة الرئيس: «أوه كندا». ولقد قال خبراء روس إن كندا وبنما «بعيدتان جداً»، ومن المهم لموسكو أن تراقب فقط ما يجري.

أما موضوع قناة بنما فيبدو بالنسبة إلى موسكو «خلافاً تجارياً» تكلم عنه ترمب من خلال استنكاره «التعريفات الجمركية المُبالغ فيها» التي تفرضها بنما على عبور القناة. وللعلم، هذا أمر يخص الولايات المتحدة التي توفر أكثر من 72 في المائة من عائدات الممرّات عبر القناة.

وتقريباً التعاطي نفسه ملحوظ إزاء التهديدات تجاه المكسيك، وبملف العلاقة مع كندا. واللافت أن وسائل الإعلام الروسية شاركت الملياردير إيلون ماسك تهكّمه على رئيس وزراء كندا جاستن ترودو، الذي أعلن استقالته، الشهر الماضي ثم غرّد معارضاً خطط ترمب. ولكن من دون صدور أي تعليق رسمي، بدا أن موسكو تراقب بارتياح المشكلات الداخلية في الغرب. ولا تخفي أوساط روسية «شماتةً» بالسلطات في كندا التي كانت بين أوائل الداعمين لأوكرانيا في الحرب.

غرينلاند... التهديد الروسي

الأمر مختلف قليلاً مع التلويح الأميركي بضم غرينلاند... فهنا يظهر مباشرة نوع من التهديد المستقبلي على الأمن الروسي.

وعموماً، فإن ما وُصف بأنه التهديد المحتمل من جانب روسيا والصين هو على وجه التحديد ما أشار إليه ترمب أكثر من مرة عندما ناقش فكرته للاستيلاء على غرينلاند، وفي إطار تكراره الحديث عن رغبته في جعل أميركا «عظيمة مرة أخرى».

ذلك أنه منذ عام 2019، قال ترمب بضرورة ضم غرينلاند إلى الولايات المتحدة، لكن الدنمارك التي تمتلك الأراضي حالياً عارضت بيع الجزيرة. وفي ديسمبر (كانون الأول) 2024، أثار ترمب المسألة مرة أخرى، وقال: «نحن بحاجة إلى غرينلاند لأغراض الأمن القومي. لقد قيل لي ذلك قبل فترة طويلة من ترشّحي». وهنا يعتقد الرئيس الأميركي الجمهوري أن غرينلاند كجزء من الولايات المتحدة يمكن أن تساعد في تجنب «التهديد الذي تشكله روسيا على العالم أجمع». وبحسب قوله فإن «روسيا والصين تزيدان من وجودهما في منطقة القطب الشمالي»، وهو يخشى من ذلك. وأضاف أن ابنه دونالد ترمب «الابن» سيزور غرينلاند شخصياً.

هنا أيضا لم تعلّق موسكو رسمياً على الحدث مع أنه يتعلق مباشرة بما وُصف بـ«التهديد الروسي»، إلا أن تعليقات برلمانيين روس أظهرت وجود نوع من القلق لدى أوساط روسية. وقال أندريه كارتابولوف، رئيس لجنة الدفاع بمجلس الدوما (النواب) إن «ضم غرينلاند للولايات المتحدة يشكل تهديداً عسكرياً لروسيا، لأن لدى الجزيرة إمكانية أن تصبح قاعدة استراتيجية لواشنطن في حالة نشوب صراع عابر للقارات».

ورأى البرلماني الروسي أيضاً أن السيطرة على الجزيرة التي تحتل مساحة كبيرة جداً في منطقة القطب الشمالي، «ليست الخيار الأفضل بالنسبة إلى روسيا... وبما أنه لا يوجد شيء مستحيل في العالم، وفي أي صدام قاري افتراضي مستقبلي، فإن هذا يشكل نقطة انطلاق جيدة لأميركا».

مع هذا، اللافت أن تعليقات المحللين ذهبت ليس باتجاه فحص الانعكاسات على روسيا وأمنها في حال فرض ترمب فعلاً السيطرة الأميركية على الجزيرة القطبية، بل باتجاه تأثيرات تحركات ترمب على مصير «ناتو» ككتلة متماسكة.

ورأى محللون أن استيلاء ترمب على المنطقة إذا كُتب له النجاح، سيكون «بمثابة نهاية للحلف» ليس فقط لكون الدنمارك، التي تعارض خطط ترمب بشدة عضواً فيه، بل أيضاً لأن أعضاء التكتل الآخرين سيدركون على الفور أنهم «جميعاً تحت التهديد». وهنا استعاد البعض مقولة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عندما دعا أوروبا إلى «الاستيقاظ وتعزيز أمنها بشكل أكثر نشاطاً».

اتفاق على عالم متعدد

في المقابل، بدا أن بعض الأفكار التي تطرحها الإدارة الأميركية الجديدة تحظى بقبول عند الكرملين. ولقد امتدح الناطق الرئاسي بيسكوف تصريحات وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو بشأن التعددية القطبية، قائلاً إن تلك العبارة «تتوافق مع رؤية موسكو، وروسيا ترحب بذلك بالطبع». كما وصف حديث روبيو بشأن الاعتراف بالتعددية القطبية في العالم بأنه «مثير للاهتمام». وأيضاً في هذا السياق نفسه، لم تُخْف موسكو ارتياحها لقرار إدارة ترمب تقليص نشاط «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية»، التي تتهمها موسكو بدعم «الثورات الملونة» وبمحاولة التأثير أكثر من مرة على الحياة السياسية والاجتماعية داخل روسياً. وللعلم، هذه الوكالة حالياً من المنظمات الأجنبية المحظورة في روسيا.

ورأى مسؤولون روس أن خطوات ترمب لتفكيك الوكالة تحظى بترحيب في مناطق عدة في العالم، كون الوكالة، بحسب الناطقة باسم «الخارجية» ماريا زاخاروفا «تروّج للثورات، وتتحدى القيم المجتمعية، وتعمل على نشر الشذوذ الجنسي، والدفاع عن حقوق المثليين».

وهذا الموضوع يفسر أيضاَ «الارتياح» الروسي للتخلص من وكالة أنفقت ملايين الدولارات في روسيا التي تنتهج خطاً محافظاً اجتماعياً لنشر أفكار وُصفت بأنها «معادية للمجتمع الروسي». ركّزت التعليقات الروسية على تحوّل الإدارة الأميركية من الكلام عن قضايا الأمن إلى «المصالح التجارية»