حكومة «لبنان الجديد» تنتظر التفاهمات البرلمانية

حسابات التأليف بعد تحدي التكليف

نواف سلام (أ.ف.ب)
نواف سلام (أ.ف.ب)
TT

حكومة «لبنان الجديد» تنتظر التفاهمات البرلمانية

نواف سلام (أ.ف.ب)
نواف سلام (أ.ف.ب)

شكّل حصول القاضي الدكتور نواف سلام، رئيس محكمة العدل الدولية، على أكبر عدد من أصوات النواب في الاستشارات النيابية لتكليف رئيس للحكومة، مفاجأة بعد أربعة أيام على انتخاب جوزيف عون رئيساً للجمهورية، الذي كان أرسى انتخابه جواً جديداً في البلد بعد تهافت دول العالم على إعلان دعمه واستعدادها للتعاون لإنجاح عهده. ومن ثم، كلّف عون سلام تشكيل حكومة عهده الأولى بعد حصول الأخير على 85 صوتاً من أصل 126 نائباً.

التكليف جاء بعد ساعات عصيبة من المباحثات والاتصالات، التي نجحت في قلب مقاييس الموازين السياسية، وأدت إلى امتناع كتلتي «حزب الله» و«حركة أمل» عن التصويت في نهاية يوم الاستشارات الطويل. وكذلك بعد هجوم رئيس كتلة الحزب محمد رعد على معارضيه، متّهماً إياهم بالانقلاب على التوافق الذي تحقق في انتخابات رئيس الجمهورية، و«بالتقسيم والإلغاء والإقصاء»، مطالباً بـ«حكومة ميثاقية» ومعتبراً أن «أي حكومة تناقض العيش المشترك لا شرعية لها».

وزارة المال

نواب «الثنائي الشيعي» (أمل وحزب الله) الاستشارات غير الملزمة التي أجراها سلام بُعيد تكليفه تعبيراً عن امتعاضهم من تكليفه من دون أن يكون لهم كلمة في ذلك، قبل أن يعودوا ليتعاونوا، مطالبين بالمشاركة في الحكومة والحصول على 5 حقائب وزارية منها وزارات المال والصحة والعمل.

لكن تسليم «الثنائي» مجدداً وزارة المال يثير جدلاً سياسياً كبيراً في البلد؛ إذ يرفض قسم كبير من القوى السياسية تكريس حقيبة وزارية لطائفة وجهة سياسية معينة، فبينما تصرّ قيادتا «أمل» و«حزب الله» على أن حصولهما على هذه الحقيبة تم التفاهم عليه من خلال «اتفاق الطائف» كي تكون الطائفة الشيعية شريكة فعلية في الحكم عبر توقيع وزير المال على المراسيم إلى جانب توقيعي رئيس الجمهورية (الماروني) ورئيس الحكومة (السني) وتحقيقاً للتوازن الطائفي. ولكن، للعلم انه منذ العام 1989 وحتى اليوم تناوب وزراء من كل الطوائف على هذه الوزارة قبل أن يسعى «الثنائي» لاحتكارها منذ عام 2016.

معظم القوى السياسية الأخرى ترفض السردية التي يتمسك بها «حزب الله» و«أمل». ثم أن الذين شاركوا في اجتماعات «الطائف» عام 1989 يؤكدون أنه لم يتم التفاهم على إعطاء وزارة المال للطائفة الشيعية، ويرون أن «الثنائي» يسعى لتكريس نظام «المثالثة» في البلد في حين ينص «اتفاق الطائف» حصراً على المناصفة بين المسيحيين والمسلمين. وفي ظل هذا الوضع، ترجح المعلومات أن يُسند الرئيس المكلف وزارة المال إلى شخصية شيعية، لكن غير حزبية محسوبة مباشرة على «الثنائي»؛ في مسعى لاحتواء أي إشكال مقبل في البلد يكبّل انطلاقة العهد الجديد وعمل الحكومة.

وحقاً، أعلن رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع أخيراً أنه لا يمانع في إعطاء وزارة المالية للطائفة الشيعية، لكنه شدد في حديث لبرنامج «صار الوقت» على محطة «إم تي في» mtv اللبنانية على أن «إعطاء المالية للشيعة شيء، وإعطاؤها للثنائي شيء آخر»، وأردف أنه «انطلاقاً من الظرف الحالي وما حصل في الجنوب، يجب أن تكون مع الشيعة، بشرط ألا يكون للوزير أي علاقة بالثنائي».

الوزارات الخدماتية

من جهة ثانية، ليس إصرار «الثنائي الشيعي» على الحصول على وزارة المال وحده ما يشكّل تحدياً أساسياً أمام رئيس الحكومة المكلف نواف سلام. فتهافت الأحزاب والقوى السياسية على الحصول على حقائب وزارية، وبخاصة تلك المتعارف عليها بأنها «خدماتية»، يصعّب مهمته وبخاصة أن أي فريق سياسي لم يُعرب حتى الساعة عن نيته القبول بأن يكون في صفوف المعارضة، كما أن الكل يدفع باتجاه حكومة «وحدة وطنية».

ولعل أبرز ما يجعل هذه القوى والأحزاب متحمسة للمشاركة في الحكومة عبر وزارات خدماتية، هو أنه من المرجح أن تكون هذه الحكومة هي التي ستُعد للاستحقاق النيابي المرتقب في مايو (أيار) 2026، وبالتالي ستسعى كالعادة لوضع هذه الوزارات في خدمة ناخبيها.

في المقابل، يبدو أن إدراك الرئيس المكلف لهذه الخلفيات؛ هو ما يجعله متريثاً في عملية توزيع الحقائب، كيف لا وأنظار المجتمعَين العربي والدولي تتركز على الإصلاحات المنتظرة من لبنان لدعمه ومدّ يد العون له. ولعل في طليعة الإصلاحات المطلوبة وقف منطق «المحاصصة»... سواء في تشكيل الحكومات أو التعيينات واعتماد منطق الكفاءة حصراً.

3 أنواع من الوزارات

تنقسم الحقائب الوزارية اللبنانية الـ22، بحسب محمد شمس الدين، الباحث في الشركة «الدولية للمعلومات»، إلى 3 فئات: سيادية، وخدماتية وحقائب وزارية أقل أهمية.

الوزارات السيادية هي: الخارجية والمغتربين، والداخلية والبلديات، والمالية، والدفاع، والعدل.

الوزارات الخدماتية هي: الصحة العامة، والتربية والتعليم، والطاقة والمياه، والأشغال العامة والنقل، والشؤون الاجتماعية، والزراعة.

ويبقى هناك 11 حقيبة وزارية تُعد أقل أهمية كالشباب والرياضة، والاتصالات، والعمل، والإعلام، والسياحة، والثقافة، والبيئة، والمهجّرين، والصناعة، والاقتصاد، والتنمية الإدارية.

التمويل أساسي لتقديم الخدمات

يشير شمس الدين في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إلى أنه «خلال فترات الانتخابات تمكن الاستفادة من الوزارات الخدماتية إما على مستوى فردي أو على مستوى البلدات والقرى. وتشمل الخدمات نقل مدرسين وفتح مستوصفات وشق طرقات ومد كهرباء ومياه إلى أحياء وقرى معينة، وتقديم مساعدات عبر وزارة الشؤون ووزارة الزراعة وغيرها». ويضيف أنه «إذا ظل وضع المالية العامة على ما هو عليه راهناً، حيث غالبية موازنات الوزارات بالكاد تكفي لدفع الرواتب والأجور والخدمات التشغيلية عندها... فحتى الوزارات التي تصنّف خدماتية ستكون قدرتها على التأثير انتخابياً ضعيفة، بل إن هذه الوزارات ستصبح عبئاً على القوى السياسية التي تتولاها لأنها في موقع مسؤول، وفي الوقت نفسه عاجزة عن تأدية الخدمات المطلوبة منها».

وبناءً عليه؛ يعتبر شمس الدين أنه «لا يمكن الجزم بأن هذه الحكومة هي التي ستشرف على الانتخابات؛ ذلك أنه يمكن بعد سنة أن يصار إلى تشكيل حكومة جديدة تكون مهمتها الأساسية الإعداد للانتخابات والإشراف عليها، فلا يتجاوز عمرها 3 أشهر كما حصل في عام 1992 مع حكومة رشيد الصلح، وفي عام 2005 مع حكومة نجيب ميقاتي في حينه».

تصحيح المفاهيم

في سياق موازٍ، يعتبر سمعان بشواتي، الخبير في مجال التنمية المحلية والحوكمة والمحاضر في معهد العلوم الاجتماعية الجامعة اللبنانية، أنه «بالإضافة إلى كل التحديات التي تواجه الرئيس المكلف هناك تحدٍ أساسي يقضي بتصحيح المفاهيم المرتبطة بدور الوزير وتصنيف الوزارات». ويوضح بشواتي في تصريح لـ«الشرق الأوسط» بأن «الوزير من حيث المبدأ هو أحد كبار موظفي الدولة، وهو موكل بإدارة أحد المرافق العامة، أي الوزارة التي بدورها لديها هيكلية مؤسساتية، أي مدير عام ورؤساء مصالح وموظفون. وهذا الأمر يتطلب أن يكون الوزير قيادياً يشارك في صناعة السياسات، ويتمتع بالكفاءة اللازمة لإدارة فريق عمل يجعله يتبنى رؤية الحكومة وسياساتها ويلتزم الشفافية والأداء السليم». ومن ثم، يتابع: «هذا كله يفرض إعادة النظر في تصنيف الوزارات بين سيادية وخدماتية، باعتباره بدعة محلية غير موجودة في أي مكان آخر».

كذلك، يشدد بشواتي على أن «السيادة في عمل الوزارات تعني سياسات اجتماعية واقتصادية وأمنية وصحية غير مرتهنة، تستطيع الوزارات تنفيذها بدل اعتمادها سياسة الاستعطاء من الخارج والاتكال في كامل مشاريعها على الهبات». ويلحظ أن «الأحزاب اللبنانية بنت علاقاتها مع جماهيرها على قاعدتين: الأولى هي التخويف من الآخر وبالتالي الأزمة الوجودية... والأخرى هي العلاقة المصلحية التي أدت إلى استخدامها مقدرات الدولة لتثبيت الارتهان لها وتوسيع نطاق جماهيرها.


مقالات ذات صلة

تعزيزات عسكرية على جانبي الحدود اللبنانية ـــ السورية

المشرق العربي آليات عسكرية تابعة للجيش اللبناني في طريقها إلى الحدود (الجيش اللبناني)

تعزيزات عسكرية على جانبي الحدود اللبنانية ـــ السورية

تُبذل مساعٍ سياسية لتطويق الاشتباكات المتواصلة منذ أربعة أيام على الحدود اللبنانية - السورية في وقت دفع فيه الجيش اللبناني بتعزيزات إلى المنطقة بعد أوامر الرد.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
العالم العربي غارات جوية إسرائيلية على النبطية في جنوب لبنان (أرشيفية - د.ب.أ)

إسرائيل تشن غارات على مناطق بالبقاع وجنوب لبنان

أفادت «الوكالة الوطنية اللبنانية للإعلام»، اليوم (الأحد)، بأن إسرائيل شنت غارات على عدة مناطق في محافظة النبطية بجنوب لبنان ومنطقة البقاع.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
المشرق العربي صورة متداولة لأهالي بلدة الشواغر (قضاء الهرمل) يحرقون إطارات في طريق مؤدٍ إلى الأراضي السورية

اتصالات على أعلى المستويات لتهدئة معارك الحدود اللبنانية - السورية

دفع الجيش اللبناني بتعزيزات عسكرية إلى الحدود الشمالية الشرقية على وقع اشتداد القصف من الجهة السورية خلال الساعات الأخيرة.

حسين درويش (بيروت - شرق لبنان)
المشرق العربي آليات عسكرية تابعة للجيش اللبناني في طريقها إلى الحدود (الجيش اللبناني)

الجيش اللبناني يرد بـ«الأسلحة المناسبة» على قذائف أُطلقت من سوريا

قال الجيش اللبناني، اليوم الأحد، إنه رد بـ«الأسلحة المناسبة» على إطلاق قذائف من سوريا باتجاه لبنان عبر الحدود بين البلدين.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
المشرق العربي سلام يوقع مراسيم تشكيل الحكومة (الرئاسة اللبنانية)

من هن سيدات الحكومة اللبنانية الجديدة؟

تشكل مشاركة المرأة في حكومة نواف سلام، حكومة عهد الرئيس جوزيف عون الأولى، نسبة تقدر بنحو 20 في المائة، عبر تولي 5 نساء لـ5 وزارات.

حنان حمدان (بيروت)

خطط ترمب التوسعية «استفزاز» يهدد «الناتو»... ويمنح بوتين أوراقاً إضافية

كيف ستتعامل موسكو مع موضوع ضم ترمب لجزيرة غرينلاند (ناسا)
كيف ستتعامل موسكو مع موضوع ضم ترمب لجزيرة غرينلاند (ناسا)
TT

خطط ترمب التوسعية «استفزاز» يهدد «الناتو»... ويمنح بوتين أوراقاً إضافية

كيف ستتعامل موسكو مع موضوع ضم ترمب لجزيرة غرينلاند (ناسا)
كيف ستتعامل موسكو مع موضوع ضم ترمب لجزيرة غرينلاند (ناسا)

تراقب موسكو خطوات الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب بمزيج من الترقّب لردّات الفعل في مناطق مختلفة من العالم، وحساب معدلات الربح والخسارة، لا سيما في إطار انعكاسات تصرفات الرئيس الأميركي على تماسك المواقف الأوروبية ووحدة حلف شمال الأطلسي «ناتو» وسياساتها تجاه روسيا... ولكن بالدرجة الأولى، بطبيعة الحال، على التوقعات المتعلقة بآليات تسوية الصراع حول أوكرانيا.

تحريك قنوات الاتصال

مع تكرار الإعلان في موسكو عن استعداد مباشر للجلوس إلى طاولة مفاوضات شاملة مع فريق ترمب، تبحث كل الملفات المتراكمة بين الطرفين، وتتوّج تفاهمات على القضايا الرئيسية، فضّل الكرملين تجنب التعليق مباشرة على كثير من التحركات الصارخة للرئيس الأميركي، في مسعى لتقدير آفاق تطورها أولاً، وأيضاً معرفة مستوى وآليات ردات الفعل عليها.

لكن في الشأن الأوكراني بدا أن الأسابيع الأخيرة شهدت تحريك قنوات الاتصال بشكل قوي ومتسارع بين موسكو وواشنطن. وبعد مرور ساعات فقط على إعلان ترمب أن الاتصالات مع الكرملين «تجري بنشاط»، ووصفها بأنها «مفاوضات بناءة»، أكّد الناطق باسم الرئاسة الروسية ديمتري بيسكوف استئناف عمل قنوات حوار على مستويات عدة، لتشكل هذه الخطوة الأولى العملية التي يجري تنفيذها على أرض الواقع، وكانت متوقعة منذ فوز ترمب في الانتخابات.

بيسكوف قال إن «الاتصالات بين روسيا والولايات المتحدة عبر الوزارات المختلفة قد تكثفت». ومن دون أن يعطي تقييمه لسير المفاوضات، قال الناطق إن الحوارات تجري على مستويات عدة. ومع التأكيد على أن الحوار الجاري مع واشنطن لا ينعكس حتى الآن على استعداد موسكو لفتح قنوات للتفاوض مباشرة مع أوكرانيا، فأكد أن «ديناميكيات العملية (العسكرية) الخاصة تظهر أن الاهتمام بالحوار السلمي يجب أن يأتي من جانب كييف».

الاشتراطات الروسية

هنا بدا أن أول الاشتراطات الروسية لإحراز تقدُّم يفضي إلى إحياء العملية السلمية حول أوكرانيا ينطلق من حسم الوضع حول «شرعية» الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي لإدارة المفاوضات. ومعلوم هنا أن موسكو تصرّ على أن زيلينسكي «لم يعد رئيساً شرعياً، وأنه وقّع في وقت سابق مرسوماً بحظر التفاوض مع موسكو. وهو ما يعني أنه يجب حل هذا الموضوع بظهور إدارة أوكرانية جديدة تتمتع بالشرعية، وتلغي المرسوم السابق قبل إطلاق عملية التفاوض. يكتسب هذا الجدل أهمية إضافية على ضوء تلميحات بعض أركان الإدارة الأميركية بضرورة إجراء انتخابات جديدة في أوكرانيا قبل نهاية العام الحالي، ومثل تلك التصريحات صدرت عن قيادة حلف «ناتو» أيضاً.

ويبدو على هذه الخلفية أن الاتصالات الأولى بين الإدارة الأميركية وموسكو لا تتناول قضايا مثل ترتيب قمة قريباً، وأجندتها المحتملة، بل تتطرق أيضاً إلى بعض الجوانب التفصيلية المتعلقة بمساعي إعادة إطلاق مسار سلمي ينهي الحرب في أوكرانيا.

مستقبل أوكرانيا على الطاولة

العنصر الثاني المتعلق بأوكرانيا، الذي يبدو أنه يشكل مادة للنقاش في المرحلة التي تسبق لقاء ترمب الأول منذ عودته إلى البيت الأبيض مع الرئيس فلاديمير بوتين، يتبلور - كما يبدو - من خلال السعي إلى تحديد سقف مصالح واشنطن في الصراع المستمر منذ نحو 3 سنوات.

اللافت هنا أن التصريحات الأولى الصادرة عن البيت الأبيض لم تتكلّم عن الأراضي الأوكرانية «المحتلة»، ومعلوم أن موسكو تسيطر راهناً على نحو خُمس أراضي أوكرانيا. ويشترط الكرملين لأي تسوية أن يحصل على إقرار أوكراني وغربي بقرارات ضم مقاطعات أوكرانيا إلى روسيا. واستمرار الصمت الأميركي حيال هذا الملف يوجّه رسالة مريحة لموسكو حالياً.

غير أن إشارات ترمب الأولى اتجهت نحو ملف مختلف تماماً؛ ذلك أنه تطرّق إلى امتلاك أوكرانيا ثروات مهمة من المعادن النادرة، ورأى أن بوسع واشنطن مواصلة حماية أوكرانيا إذا حصلت على حقوق استثمار هذه الثروات الضخمة.

في هذا الملف ركّزت التعليقات الروسية على فكرة تحوّل الإدارة الأميركية من الكلام عن قضايا تتعلق بالأمن الاستراتيجي للولايات المتحدة ولأوروبا، وعن فكرة «العدوان الروسي» لتغدو منحصرة أكثر في «المصالح التجارية المباشرة» للانخراط في هذا الصراع. وكانت ماريا زاخاروفا، الناطقة باسم «الخارجية الروسية»، قد أعربت عن أنها «غير مندهشة» من طلب مجلس الأمن القومي الأميركي الحصول على المعادن من أوكرانيا تعويضاً عن الدعم المالي الذي قدمته واشنطن لكييف.

زاخاروفا رأت أن هذا المسار «طبيعي»، وأنه «يجب أن يتحقق المرء من سعر الوجبة قبل أن يأكلها». بينما رأى وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، أن مثل هذا الاقتراح سيعني أن كييف مستعدة لتسليم جميع الموارد الطبيعية الأوكرانية إلى «ملكية أسيادها الغربيين». أما بيسكوف فرأى أن خطط ترمب بشأن المعادن الأرضية النادرة تمثل عرضاً تجارياً «لشراء المساعدة»... وأن «أفضل شيء بالنسبة لواشنطن سيكون عدم مساعدة كييف على الإطلاق، ومن ثم المساهمة في إنهاء النزاع». والملاحَظ في التعليقات الروسية أنها لا تنتقد ترمب، بل وجهت سهامها إلى زيلينسكي «المستعد لبيع ثروات بلاده للغرب».

بنما وكندا ... بعيدتان جداً

في المستوى نفسه من تعمّد تحاشي توجيه انتقادات إلى الإدارة الأميركية في خطواتها المتسارعة التي شكلت استفزازاً لعدد من الأطراف في العالم، تجاهل الكرملين عمداً إعلانات ترمب الصارخة تجاه كندا وقناة بنما.

بل حتى وسائل الإعلام الحكومية الروسية تعاملت مع الموضوع من زاويته الخبرية من دون إبداء رأي في تأثيراته المحتملة. ونشرت بكثافة الخرائط التي وضعها ترمب على منصات التواصل الاجتماعي، وتظهر فيها كندا ملونة بألوان العلم الأميركي وتحتها عبارة الرئيس: «أوه كندا». ولقد قال خبراء روس إن كندا وبنما «بعيدتان جداً»، ومن المهم لموسكو أن تراقب فقط ما يجري.

أما موضوع قناة بنما فيبدو بالنسبة إلى موسكو «خلافاً تجارياً» تكلم عنه ترمب من خلال استنكاره «التعريفات الجمركية المُبالغ فيها» التي تفرضها بنما على عبور القناة. وللعلم، هذا أمر يخص الولايات المتحدة التي توفر أكثر من 72 في المائة من عائدات الممرّات عبر القناة.

وتقريباً التعاطي نفسه ملحوظ إزاء التهديدات تجاه المكسيك، وبملف العلاقة مع كندا. واللافت أن وسائل الإعلام الروسية شاركت الملياردير إيلون ماسك تهكّمه على رئيس وزراء كندا جاستن ترودو، الذي أعلن استقالته، الشهر الماضي ثم غرّد معارضاً خطط ترمب. ولكن من دون صدور أي تعليق رسمي، بدا أن موسكو تراقب بارتياح المشكلات الداخلية في الغرب. ولا تخفي أوساط روسية «شماتةً» بالسلطات في كندا التي كانت بين أوائل الداعمين لأوكرانيا في الحرب.

غرينلاند... التهديد الروسي

الأمر مختلف قليلاً مع التلويح الأميركي بضم غرينلاند... فهنا يظهر مباشرة نوع من التهديد المستقبلي على الأمن الروسي.

وعموماً، فإن ما وُصف بأنه التهديد المحتمل من جانب روسيا والصين هو على وجه التحديد ما أشار إليه ترمب أكثر من مرة عندما ناقش فكرته للاستيلاء على غرينلاند، وفي إطار تكراره الحديث عن رغبته في جعل أميركا «عظيمة مرة أخرى».

ذلك أنه منذ عام 2019، قال ترمب بضرورة ضم غرينلاند إلى الولايات المتحدة، لكن الدنمارك التي تمتلك الأراضي حالياً عارضت بيع الجزيرة. وفي ديسمبر (كانون الأول) 2024، أثار ترمب المسألة مرة أخرى، وقال: «نحن بحاجة إلى غرينلاند لأغراض الأمن القومي. لقد قيل لي ذلك قبل فترة طويلة من ترشّحي». وهنا يعتقد الرئيس الأميركي الجمهوري أن غرينلاند كجزء من الولايات المتحدة يمكن أن تساعد في تجنب «التهديد الذي تشكله روسيا على العالم أجمع». وبحسب قوله فإن «روسيا والصين تزيدان من وجودهما في منطقة القطب الشمالي»، وهو يخشى من ذلك. وأضاف أن ابنه دونالد ترمب «الابن» سيزور غرينلاند شخصياً.

هنا أيضا لم تعلّق موسكو رسمياً على الحدث مع أنه يتعلق مباشرة بما وُصف بـ«التهديد الروسي»، إلا أن تعليقات برلمانيين روس أظهرت وجود نوع من القلق لدى أوساط روسية. وقال أندريه كارتابولوف، رئيس لجنة الدفاع بمجلس الدوما (النواب) إن «ضم غرينلاند للولايات المتحدة يشكل تهديداً عسكرياً لروسيا، لأن لدى الجزيرة إمكانية أن تصبح قاعدة استراتيجية لواشنطن في حالة نشوب صراع عابر للقارات».

ورأى البرلماني الروسي أيضاً أن السيطرة على الجزيرة التي تحتل مساحة كبيرة جداً في منطقة القطب الشمالي، «ليست الخيار الأفضل بالنسبة إلى روسيا... وبما أنه لا يوجد شيء مستحيل في العالم، وفي أي صدام قاري افتراضي مستقبلي، فإن هذا يشكل نقطة انطلاق جيدة لأميركا».

مع هذا، اللافت أن تعليقات المحللين ذهبت ليس باتجاه فحص الانعكاسات على روسيا وأمنها في حال فرض ترمب فعلاً السيطرة الأميركية على الجزيرة القطبية، بل باتجاه تأثيرات تحركات ترمب على مصير «ناتو» ككتلة متماسكة.

ورأى محللون أن استيلاء ترمب على المنطقة إذا كُتب له النجاح، سيكون «بمثابة نهاية للحلف» ليس فقط لكون الدنمارك، التي تعارض خطط ترمب بشدة عضواً فيه، بل أيضاً لأن أعضاء التكتل الآخرين سيدركون على الفور أنهم «جميعاً تحت التهديد». وهنا استعاد البعض مقولة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عندما دعا أوروبا إلى «الاستيقاظ وتعزيز أمنها بشكل أكثر نشاطاً».

اتفاق على عالم متعدد

في المقابل، بدا أن بعض الأفكار التي تطرحها الإدارة الأميركية الجديدة تحظى بقبول عند الكرملين. ولقد امتدح الناطق الرئاسي بيسكوف تصريحات وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو بشأن التعددية القطبية، قائلاً إن تلك العبارة «تتوافق مع رؤية موسكو، وروسيا ترحب بذلك بالطبع». كما وصف حديث روبيو بشأن الاعتراف بالتعددية القطبية في العالم بأنه «مثير للاهتمام». وأيضاً في هذا السياق نفسه، لم تُخْف موسكو ارتياحها لقرار إدارة ترمب تقليص نشاط «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية»، التي تتهمها موسكو بدعم «الثورات الملونة» وبمحاولة التأثير أكثر من مرة على الحياة السياسية والاجتماعية داخل روسياً. وللعلم، هذه الوكالة حالياً من المنظمات الأجنبية المحظورة في روسيا.

ورأى مسؤولون روس أن خطوات ترمب لتفكيك الوكالة تحظى بترحيب في مناطق عدة في العالم، كون الوكالة، بحسب الناطقة باسم «الخارجية» ماريا زاخاروفا «تروّج للثورات، وتتحدى القيم المجتمعية، وتعمل على نشر الشذوذ الجنسي، والدفاع عن حقوق المثليين».

وهذا الموضوع يفسر أيضاَ «الارتياح» الروسي للتخلص من وكالة أنفقت ملايين الدولارات في روسيا التي تنتهج خطاً محافظاً اجتماعياً لنشر أفكار وُصفت بأنها «معادية للمجتمع الروسي». ركّزت التعليقات الروسية على تحوّل الإدارة الأميركية من الكلام عن قضايا الأمن إلى «المصالح التجارية»