جون ماهاما... «العائد» إلى الحكم في غانا يراوغ التحديات

أستاذ التاريخ والعلوم الاجتماعية يعيد كتابة حاضر بلاده

خلال فترة رئاسة ماهاما الأولى بين 2012 و2017 شهدت غانا تحوّلات مهمة كان أهمها بناء ديمقراطية أكثر حيوية ونشاطاً
خلال فترة رئاسة ماهاما الأولى بين 2012 و2017 شهدت غانا تحوّلات مهمة كان أهمها بناء ديمقراطية أكثر حيوية ونشاطاً
TT

جون ماهاما... «العائد» إلى الحكم في غانا يراوغ التحديات

خلال فترة رئاسة ماهاما الأولى بين 2012 و2017 شهدت غانا تحوّلات مهمة كان أهمها بناء ديمقراطية أكثر حيوية ونشاطاً
خلال فترة رئاسة ماهاما الأولى بين 2012 و2017 شهدت غانا تحوّلات مهمة كان أهمها بناء ديمقراطية أكثر حيوية ونشاطاً

في أسرة سياسية بغرب أفريقيا، تفتحت عيناه للمرة الأولى، وخبر السياسة منذ نعومة أظافره، وتعلّمها إبّان دراسته وعمله أستاذاً للتاريخ، لكن مسيرته تعرّضت لهزة في منتصف عمره، حينما سلك المنفى طريقاً للنجاة. إنه جون ماهاما، الذي لم يجد في المنفى عنوانه، فعاد إلى بلده غانا بعد سنوات من التعليم، وصعد إلى السلطة خلال 28 سنة، من برلماني لوزير، فنائب رئيس ثم رئيس، وبعد مغادرته المنصب، عاد تحت ضغوط اقتصادية رئيساً لفترة ثانية. ماهاما رئيس حزب «المؤتمر الوطني الديمقراطي» (يسار الوسط) المعارض، فاز بانتخابات الرئاسة في 7 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، على مرشح الحزب الحاكم محمودو باووميا، ليعود إلى قصر الحكم في ولاية ثانية على رأس البلد الأفريقي الغني بالذهب والكاكاو، والذي كان تحت قيادة كوامي نكروما «رائد» الحركة الاستقلالية في «أفريقيا السمراء» عن الاستعمار الأوروبي.

وُلد جون دراماني ماهاما يوم 29 نوفمبر (تشرين الثاني) 1958 في بلدة دامونغو بمنطقة بولي في النصف الشمالي من غانا، آنذاك، وهو ينتمي إلى شعب الغونجا. أما والده، إيمانويل أداما ماهاما، فكان مزارعاً ميسوراً وعضواً في البرلمان عن دائرة غرب غونجا، وشخصية مقربة من الزعيم التاريخي الاستقلالي كوامي نكروما.

جون أمضى السنوات الأولى من حياته مع والدته، أبيبا نابا، في دامونغو، قبل أن ينتقل إلى العاصمة أكرا؛ ليعيش مع والده، الذي غرس فيه شغفاً قوياً بالتعليم. وفي أكرا تلقى تعليمه الأساسي في مدرسة أشيموتا الأساسية، وانتقل لاحقاً إلى مدرسة غانا الثانوية في مدينة تامالي بشمال البلاد. ثم حصل من جامعة غانا، كبرى جامعات البلاد، على درجة بكالوريوس الآداب في التاريخ عام 1981، وبعد ذلك درّس التاريخ في مدرسة غانا الثانوية. إلا أن الوضعَين السياسي والاقتصادي في غانا أجبراه على الفرار إلى نيجيريا، حيث عاد إلى والده الذي كان يعيش في المنفى.

لاحقاً، عام 1983 عاد جون إلى غانا؛ حيث التحق ببرنامج الدراسات العليا في قسم دراسات الاتصال بجامعة غانا، وتخرج عام 1986، ثم توجه إلى الاتحاد السوفياتي السابق، حيث أكمل دراساته العليا في علم النفس الاجتماعي بمعهد العلوم الاجتماعية المرموق في موسكو عام 1988. وبعد التخرج عاد إلى الوطن، حيث دخل معترك السياسة عام 1996، وانضم إلى حزب «المؤتمر الوطني الديمقراطي» (NDC) - حزب اليسار الرئيس في البلاد - ولاحقاً انتُخب لعضوية البرلمان الغاني نائباً عن دائرة بولي - بامبوي لمدة 4 سنوات، وأُعيد انتخابه في انتخابات عامَي 2000 و2004.

الطريق نحو الحكم

خلال هذه الفترة البرلمانية، تولّى جون ماهاما منصب نائب وزير الاتصالات في عام 1997، وشغل منصب وزير الاتصالات بين عامي 1998 و2001. وخلال مرحلة تولّيه وزارة الاتصالات، لعب ماهاما دوراً رئيساً في استقرار وتطوير قطاع الاتصالات في غانا. وصار ناطقاً باسم المعارضة البرلمانية من عام 2001 حتى 2005 قبل أن يترشح نائباً للمرشح الرئاسي جون إيفانز أتا ميلز عام 2008، ويصبح نائباً للرئيس بالفعل في عام 2009.

بعدها، في يوليو (تموز) 2012، خلف ماهاما الرئيسَ أتا ميلز، الذي توفي قبل انتخابه في ديسمبر 2012 رئيساً لولاية ثانية، وبذا دخل التاريخ بصفته أول رئيس يولد بعد إعلان استقلال غانا في 6 مارس (آذار) 1957.

إنجازات

خلال فترة رئاسة ماهاما الأولى بين 2012 و2017 شهدت غانا تحوّلات مهمة، كان أهمها بناء ديمقراطية أكثر حيوية ونشاطاً. ووفق سيرته الذاتية، عام 2012، كان رصيد غانا في «مؤشر الديمقراطية» 6.02، محتلةً المرتبة الـ78 في العالم. ولكن عام 2016 عندما ترك منصبه كان رصيد غانا 6.75، ما وضعها في المرتبة الـ54 على مستوى العالم، ما صنّفها خامس أكثر الدول ديمقراطيةً في أفريقيا.

أيضاً، كان ترتيب غانا بالنسبة للمساواة بين الرجال والنساء في المرتبة الـ71 على مستوى العالم عام 2012، إلا أنها تقدمت تحت رئاسته إلى المرتبة الـ59 عام 2016. وفي السياق ذاته، إبان رئاسة ماهاما، وصل ترتيب غانا على صعيد حرية الصحافة إلى المرتبة الـ26 عام 2016، بعدما سجل ترتيبها في 2021 المرتبة الـ41، وانخفضت معدلات البطالة من 3.6 في المائة عام 2012 إلى 2.3 في المائة عام 2016. وكذلك انخفض مؤشر التفاوت بين البشر من 31.9 في المائة عام 2012 إلى 28.8 في المائة عام 2016، كما انخفض التفاوت في التعليم من 40.9 في المائة عام 2012 إلى 34.9 في المائة عام 2016.

وحقاً، تؤكد السيرة الذاتية لجون ماهاما أن رئاسته الأولى بين من عام 2012 وعام 2016، حملت لغانا «تحوّلاً حقيقياً». إلا أنه مع ذلك خسر الانتخابات الرئاسية أمام منافسه اليميني نانا أكوفو أدو، الذي استمر في الحكم ولايتين متتاليتين، مدة كلٍ منهما 4 سنوات.

ولكن، بما أن الدستور الغاني يمنع منح الرئيس أكثر من ولايتين، قرّر الرئيس المنتهية ولايته مضطراً التنحّي جانباً وترشيح ودعم نائبه محمودو باووميا، لخوض السباق مع 11 مرشحاً آخر. غير أن ماهاما استطاع هذه المرة - من باب زعامته للمعارضة على مدار سنوات - استغلال الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تمر بها البلاد، ومنها ارتفاع الأسعار والتضخم والبطالة، ليهزم مرشح الحزب الحاكم وينتصر... بعد محاولتين سابقتين باءتا بالفشل.

وهكذا، يوم 9 ديسمبر الماضي، أعلنت مفوضية الانتخابات في غانا، فوز جون ماهاما في الانتخابات الرئاسية، إذ حصل على 56 في المائة من الأصوات، مقارنة بمرشح الحزب الحاكم ونائب الرئيس محمودو باووميا، الذي حصل على 41 في المائة. وأظهرت النتائج أن نسبة المشارَكة في الانتخابات بلغت 60.9 في المائة، انخفاضاً من 79 في المائة في انتخابات 2020.

دور الاضطراب الاقتصادي

لقد أنهت العودة الساحقة لجون ماهاما 8 سنوات في السلطة للحزب الوطني الجديد تمثلت بعهد الرئيس السابق نانا أكوفو أدو، الذي اتسمت ولايته الأخيرة بأسوأ اضطراب اقتصادي عرفته غانا منذ سنوات، وبخطة إنقاذ من صندوق النقد الدولي وسط تخلفها عن سداد ديونها. وبالفعل، أقرَّ باووميا بالهزيمة في الانتخابات - الرئاسية والتشريعية - وأعلن خلال مؤتمر صحافي، قبل الإعلان الرسمي للنتيجة، أن شعب غانا صوَّت من أجل التغيير، وهو يحترم قراره.

تعهدات غانية

هنا تجدر الإشارة إلى أن الرئيس ماهاما كان قد تعهد في أثناء حملته الانتخابية، «بإعادة ضبط» أوضاع البلاد على مختلف الأصعدة. وقال في خطاب له إن النتائج تحمل «لحظة أمل ووحدة»، لافتاً إلى أن الانتقال من إدارة إلى أخرى يخلق انطباعاً بوجود فراغ في السلطة. ثم ذكر أنه تلقى تقارير عن وقوع هجمات على مكاتب ومنشآت حكومية. وأردف: «مع أنه ليس من الواضح مَن يقف وراء هذه الهجمات، فإنني أدينها بكل وضوح. ولا بد أن تتوقف هذه الأعمال على الفور». وتابع: «بما أن السلطة في الدولة لا تزال في أيدي الإدارة الحالية، فإنني أدعو الرئيس الحالي والأجهزة الأمنية إلى التحرك بشكل حاسم للحد من أعمال الفوضى المستمرة».

ومن ثم، كشف الرئيس المنتخب، في منشور عبر حسابه الرسمي على منصة «إكس»، عن أنه زار الرئيس السابق بناءً على دعوته لبدء عملية الانتقال للسلطة.

تحديات جمة

أخيراً، مع عودة جون ماهاما للرئاسة، تُسلط الأضواء على تحديات ولايته التي كانت تحاط بأزمات أبرزها في قطاع الكهرباء والانقطاعات المتكررة للتيار حينذاك. وفعلاً يتوقع كثيرون أن تنتظره معارك سياسية مع تمسكه بتشريع يحمل قيوداً بشأن التنقيب الأهلي عن الذهب بطريقة غير قانونية، والتوقّف الفوري عن منح أي تراخيص جديدة للمنقّبين، في بلد يصنف أكبر منتج للذهب في أفريقيا، ما يثير مخاوف إثر اعتماد قطاعات واسعة من السكان على ذلك النشاط.واقتصادياً، وعد «بإعادة ضبط» غانا، وإطلاق انتعاش اقتصادي، وإعادة التفاوض على أجزاء من اتفاق صندوق النقد الدولي الذي تبلغ قيمته 3 مليارات دولار. وللعلم، ضم خطاب الفوز، وعداً من ماهاما بإجراء تعديلات وإجراءات «صارمة» لإعادة غانا إلى المسار الصحيح.


مقالات ذات صلة

رؤساء لبنان تفرضهم المتغيّرات الإقليمية

حصاد الأسبوع  جوزيف عون ... رئيساً (رويترز)

رؤساء لبنان تفرضهم المتغيّرات الإقليمية

لم يكن انتخاب العماد جوزيف عون رئيساً للجمهورية في لبنان بعد أكثر من سنتين على الشغور ليحصل راهناً لولا المتغيرات الكبرى التي شهدتها المنطقة منذ سبتمبر (أيلول)

بولا إسطيح (بيروت)
حصاد الأسبوع جون أتا ميلز (رويترز)

غانا... نموذج «ديمقراطي استثنائي» في قلب أفريقيا المضطربة

على امتداد 6 عقود منذ الاستقلال، استطاعت غانا - التي عُرفت قديماً باسم «ساحل الذهب» - تخطي تحديات عدة، والتحوُّل إلى دولة أفريقية استثنائية انتقلت من قيود

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
حصاد الأسبوع الرئيس إيمانويل ماكرون (رويترز)

عهدة ماكرون الثانية على المحكّ

> مع تفاقم الأزمة السياسية التي تتخبط فيها فرنسا، يشتدّ الضغط على الرئيس إيمانويل ماكرون لدفعه إلى الاستقالة باعتباره المسؤول الأول عن هذه الوضعية بعد قراره

حصاد الأسبوع Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

منذ فترة ولايته الأولى عام 2014، كان رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي أكبر مناصر للعلاقات بين الهند وأفريقيا.

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

سطرت نيتومبو ناندي ندايتواه، 72 عاماً، اسمها في التاريخ بوصفها أول امرأة تتولى رئاسة ناميبيا منذ استقلال البلاد عام 1990، بعدما حصدت 57 في المائة من الأصوات في

فتحية الدخاخني ( القاهرة)

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)
TT

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار والطروحات «التخريبية» التي حملها برنامجه وباشر بتطبيقها منذ توليه المنصب في مثل هذه الأيام من العام الفائت. حالة لم يتح لها الوقت الكافي بعد كي تفجّر كل «مواهبها» ومفاجآتها التي لا يوفّر ميلي مناسبة ليتوعّد بها، خاصة بعد نيله «بركة» مثاله الأعلى، دونالد ترمب، الذي يستعد للعودة قريباً إلى البيت الأبيض.

في مقابلة أجرتها معه مجلة «الإيكونوميست» نهاية الشهر الماضي، قال ميلي إنه يشعر بازدراء لا نهاية له تجاه الدولة، مؤكداً أنه سيفعل كل ما بوسعه للقضاء على تدخل الدولة في شؤون المواطنين وتنظيم حياتهم «لأن ذلك يشكّل أسرع الطرق إلى الاشتراكية». لكن اللافت أن «الإيكونوميست»، الموصوفة برصانتها، تعتبر أن ما يقوم به هذا «المخرّب الأكبر» - كما يحلو له أن يطلق على نفسه – يجب أن يكون قدوة للولايات المتحدة وحكومتها الجديدة التي يبدو أنها مستعدة لتحذو حذو الرئيس الأرجنتيني وتكليف هذه المهمة إلى الملياردير إيلون ماسك.

تدلّ كل المؤشرات على أن الهدف الأساسي من وصول ميلي إلى الحكم، أواخر العام الفائت، هو «تدمير» الدولة من الداخل. ألغى 13 وزارة، وسرّح ما يزيد على ثلاثين ألفاً من الموظفين العموميين، وخفّض بنسب وصلت إلى 74% مخصصات الرواتب التقاعدية والتعليم والصحة والعلوم والثقافة والتنمية الاجتماعية. وعلى هذه الخلفية، سارعت أسواق المال للاحتفاء بالفائض المالي وتراجع التضخم الذي ليس سوى ثمرة واحدة من أكبر الجراحات المالية في التاريخ. لكن الوجه الآخر لهذه العملة البرّاقة كان انضمام 5 ملايين أرجنتيني إلى قافلة الفقراء الذين يعيش معظمهم على المعونة الغذائية في واحد من أغنى البلدان الزراعية والغذائية في العالم، وانكماشا اقتصاديا... من غير أن تتراجع شعبية ميلي الذي يفاخر بأنه الرئيس الأوسع شعبية على وجه الكرة الأرضية.

لا يكفّ ميلي عن مخاطبة مواطنيه عبر وسائط التواصل التي لعبت دوراً أساسياً في وصوله إلى الرئاسة، ويقول إن «القوى السماوية» التي تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى».

رئيسة الأرجنتين السابقة كريستينا كيرشنر (أ.ب)

لا يعترف الرئيس الأرجنتيني بالتغيّر المناخي، ولا بالمساواة بين الرجل والمرأة، أو بالعدالة الاجتماعية، وينكر الذاكرة التاريخية لأنظمة الاستبداد التي تعاقبت على بلاده، ويعتبر أن كل ذلك ليس سوى بدع يسارية يتوعّد بالقضاء عليها في «حرب ثقافية» يتبّلها بكل أنواع الشتائم التي توقد الحماسة في صفوف أنصاره وتزرع الحيرة في أوساط المعارضة المشتتة.

الأغرب في كل ذلك هو أن ميلي لا تؤيده سوى أقلية في مجلسي الشيوخ والنواب، فضلاً عن أن جميع حكّام الولايات الذين يتمتعون بصلاحيات واسعة، ليسوا من حزبه «الحرية تتقدم». كما أنه اضطر للإبقاء على العديد من كبار موظفي الحكومة اليسارية السابقة في مناصبهم لعدم وجود كوادر مؤهلة كافية في حزبه. لكن رغم هذا العجر الهائل، تمكّن ميلي من إقرار حزمة قوانين يعتبرها أساسية لمشروع تفكيك الدولة ورفع القيود عن العجلة الاقتصادية، من غير أن يتضّح بعد إذا كانت هذه السنة الأولى من ولايته مدخلاً لإحكام سيطرته على الدولة، أو هي تمهيد لهيمنة اليمين المتطرف على المشهد السياسي.

يعتمد ميلي على التأييد الشعبي الواسع الذي ما زال يلقاه، وعلى حاجة حكّام الولايات لموارد الدولة، وبشكل خاص على الحلف التشريعي الذي أقامه مع اليمين المعتدل ممثلاً بالحزب الذي يقوده رئيس الجمهورية الأسبق ماوريسيو ماكري. ومنذ نزوله المعترك السياسي، بعد أن كان ينشر أفكاره وطروحاته عبر البرامج التلفزيونية التي كان يقدمها، استمد شعبيته وقوته ضد ما يسميه «السلالة»، أي الطبقة السياسية التقليدية. أما الاتفاقات أو الائتلافات التي سعى إليها، فهي لم تكن سوى تكتيكية، ولم يفاوض على برنامجه مع الأحزاب أو القوى التي تحالف معها، بل بقي تحالفه الأساسي مع القاعدة الشعبية التي ما زالت تدعمه، والتي يرجّح أن تكون هي أيضاً نقطة ضعفه الرئيسية التي ستؤدي إلى سقوطه عندما تتوقف عن دعمه بعد أن تفقد الأمل الضئيل الذي ما زال يحدوها في أن تتحسن الأوضاع المعيشية.

وصفة ميلي تحقق نتائجها

يقول المقربون من ميلي إن سر استمرار شعبيته التي توقع كثيرون أنها إلى زوال سريع، هو أنه ينفّذ كل الوعود التي قطعها في حملته الانتخابية، فيما بدأ بعض منتقديه يعترفون بأن «وصفته» تحقق النتائج التي وعد بها.

وقد شهدت الأشهر الأخيرة انشقاق بعض رموز الحزب البيروني واصطفافهم إلى جانب ميلي، مثل العضو البارز في مجلس الشيوخ كارلوس باغوتو، وهو قريب من الرئيس الأسبق كارلوس منعم. وقال باغوتو: «إن ميلي هو الشخص الذي تحتاجه الأرجنتين للتخلص من الموجة الشعبوية الاشتراكية التي حكمتها طيلة العقدين المنصرمين... كنا في حال من التحلل الاجتماعي الذي بلغ مستويات يصعب تصورها. وبعد أن أصبحت الدولة تتدخل في جميع مسالك الحياة، عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية لشريحة واسعة من المواطنين، وبعد أن أخفقت جميع المحاولات لضبط التضخم الهائل، أدركت الطبقات المتواضعة أن الخلاص لا يمكن أن يأتي من غير تضحيات... وكان ميلي».

"يقول ميلي إن «القوى السماوية» تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى»."

خدمة مصالح رجال الأعمال

لكن قراءة المعارضة للمشهد الاجتماعي تختلف كلياً، إذ يرى وزير الداخلية السابق إدواردو دي بيدرو المقرّب من الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر، أن ميلي قضى على حقوق وخدمات أساسية، مثل الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، بينما خدم، في المقابل، مصالح رجال الأعمال والمراكز المالية. ويضيف: «إن قرارات مثل قطع الأدوية عن مرضى السرطان في المراحل الأخيرة، أو الكف عن توفير التغطية العلاجية للمتقاعدين، أو إقفال المطاعم الشعبية التي كانت تؤمن وجبات أساسية لحوالي 19% من السكان يعيشون على المعونة الغذائية، هي دليل ساطع على قسوة هذه الحكومة وعدم إحساسها».

يردّ ميلي على هذه الانتقادات بوصفها من أفعال الشيوعيين المناهضين للحرية، ويكرر أنه يقود «أفضل حكومة في التاريخ»، مقتنعاً بأنه مكلّف مهمة سماوية، ويقترح حرباً نضالية عالمية تحت راية «اليمين الدولي» من أجل القضاء نهائياً على اليسار، يجوز فيها استخدام كل الوسائل، بما في ذلك العنف. كما أكّد مؤخراً في أحد المهرجانات السياسية: «لست في وارد اللياقة أو الوفاق. لن أتراجع أبداً، وسأواصل السير نحو النار، لأن الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع. لسنا ملزمين بتبرير أفعالنا، وإذا فعلنا فسوف يعتبرون ذلك من باب الضعف. كلما تعرضنا لضربة من خصومنا، سنردّ الواحدة بثلاث».

تكيف وبراغماتية

الهجوم الدائم هو العلامة الفارقة في أسلوب الرئيس الأرجنتيني، لكن ميلي أظهر قدرة لافتة على التكيّف والبراغماتية التفاوضية كلّما وجد نفسه بحاجة إلى أصوات المعارضة، في مجلسي الشيوخ والنواب وبين حكام الولايات، خاصة عندما طرح «قانون الأساسات» الذي يتضمّن مئات المواد التي تعتبرها الحكومة ضرورية لتنفيذ برنامجها. يفعل ذلك وهو يدرك جيداً أن الأحزاب التقليدية فقدت شعبيتها، وهي في حال من الانهيار السريع الذي يمكن لحزبه أن يستفيد منه في الانتخابات العامة المرحلية في خريف العام المقبل ليقلب المعادلة البرلمانية الحالية التي تشكّل عائقاً كبيراً أمام مشروعه «التخريبي».

ستكون انتخابات العام المقبل حاسمة بالنسبة لميلي ليقلب المعادلة البرلمانية ويضمن الأغلبية التي تحرره من التفاوض مع المعارضة كلما أقدم على خطوة اشتراعية لتنفيذ برنامجه، خاصة أن التأييد الشعبي ليس مضموناً في المدى الطويل.

ويخشى معاونوه من أن جنوحه الشديد نحو التعصب والصدام العنيف مع خصومه السياسيين قد يبعده عن تحقيق هدفه الأساسي الذي كان وراء فوزه في الانتخابات الرئاسية، وهو معالجة الأزمة الاقتصادية المزمنة التي تتخبط فيها البلاد منذ عقود. وينصحه المقربون بعدم التمادي في «الحروب الثقافية» مع حلفائه الغربيين الذين حصرهم منذ اليوم الأول بالولايات المتحدة وإسرائيل والدول «الحرة»، وسمّى الاشتراكيين واليساريين خصومه إلى الأبد.

لكن رغم خطابه الناري والتهديدي الذي لا يخلو أبداً من الألفاظ البذيئة، والذي بدأ مستشاروه يواجهون صعوبة في تبريره بالقول إن هذا هو أسلوبه والناس تعرف ذلك، بدأ ميلي يعطي مؤشرات على أنه ليس غريباً كلياً عن البراغماتية والواقعية. وهو اعترف قبل أيام أنه تعلّم الكثير في السياسة خلال هذه السنة الأولى من ولايته. وقال إنه لم يعد لديه أعداء سياسيون في الأرجنتين، بل خصوم يريدون الخير للبلاد. وبعد أن كان صرّح مراراً خلال الحملة الانتخابية بأن الصين هي في معسكر الأعداء وبأنه لن يتعامل مع «القتلة»، قال مؤخراً: «إن الصين شريك رائع لا يطلب شيئاً سوى التبادل التجاري الهادئ» وإن الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي كان وصفه غير مرة بأنه «يساري فاسد»، لن يصبح صديقه، لكن مسؤوليته الدستورية تقتضي منه التعامل معه.

الأرقام الاقتصادية في نهاية العام الأول من ولاية ميلي تظهر أن الشركات الكبرى في قطاع المحروقات، وكبار المستثمرين في أسواق المال والمصارف، هم الذين حققوا أرباحاً استثنائية خلال هذه السنة، وأن الجائزة الكبرى كانت من نصيب المتهربين من دفع الضرائب الذين استفادوا من خطة «التبييض» التي وضعها، بما يزيد على 20 مليار دولار، أي نصف القرض الذي حصلت عليه الأرجنتين منذ سنوات من صندوق النقد الدولي لوقف الانهيار الاقتصادي التام وما زالت حتى اليوم عاجزة عن سداده أو حتى عن جدولته. أما في الجهة المقابلة فكان المتقاعدون والموظفون العموميون وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة هم الأكثر تضرراً من النموذج الذي خفّض الإنفاق العام وألغى القيود على الواردات بهدف احتواء التضخم الجامح الذي يقضّ مضاجع ملايين الأسر منذ سنوات، فضلاً عن الفقراء (19% من السكان حسب الإحصاء الأخير) الذين حُرموا فجأة من المعونة الغذائية التي كانت تقدمها الدولة.

أرباح الشركات الكبرى في قطاع الطاقة بلغت أرقاماً قياسية هذا العام بفضل زيادة الإنتاج وتحرير الأسعار والتدابير الضريبية والجمركية والقانونية التي أعلنها ميلي الذي يريد لهذا القطاع أن يكون المحرك الأساسي لاقتصاد الأرجنتين في العقود الثلاثة المقبلة، انطلاقاً من منطقة «باتاغونيا» الشاسعة في أقصى الجنوب التي تختزن، بحسب تقديرات، ثاني أكبر احتياطي من الغاز ورابع احتياطي من النفط في العالم. وفي نهاية الشهر الماضي كانت أسعار أسهم شركة النفط الرسمية قد ارتفعت بنسبة 140% عن العام الفائت، فيما ارتفعت أسعار أسهم الشركات الخاصة 75%.

تمديد الإنفاق

في موازاة ذلك قرر ميلي تجميد الإنفاق على المشاريع العامة، بينما كان الاستهلاك يتراجع إلى أدنى مستوياته والصناعة الأرجنتينية تعاني على جبهات ثلاث: انخفاض المبيعات، وتدفق السلع المستوردة بأسعار تصعب منافستها، وتراجع الصادرات بسبب ارتفاع سعر البيزو مقابل الدولار الأميركي. إلى جانب ذلك، سحب ميلي جميع إجراءات الدعم التي كانت اتخذتها الحكومات السابقة لمساعدة الطبقات الفقيرة، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار النقل العام بنسبة 1000% وفواتير الغاز والكهرباء والتأمين الطبي والتعليم الخاص بنسب تزيد على 500%. وكانت الأشهر الستة الأولى من ولاية ميلي هي الأكثر صعوبة، إذ تزامنت مع نسبة تضخم قاربت 30% شهرياً بحيث تجاوزت نسبة المصنفين فقراء بين السكان 53%.

ستكون الأشهر الأولى من العام الثاني لولاية ميلي، حاسمة في تقدير عدد من المراقبين، لأنها ستبيّن مدى صمود شعبيته أمام انهيار الخدمات الأساسية والمساعدات التي تعيش نسبة عالية من السكان عليها، فيما يصرّ هو على رهانه بأن الفشل الذريع الذي تتخبط فيه القوى السياسية الأرجنتينية منذ عقود سيكون الخزان الذي سيغرف منه لترسيخ شعبيته حتى نهاية الولاية.