قمة «بريكس» تكسر «عزلة بوتين»... وتتحدّى ضغوط الغرب

أولويات روسيا... مواجهة العقوبات وتوحيد جهود الجنوب العالمي

جانب من مدينة قازان (أيستوك فوتو)
جانب من مدينة قازان (أيستوك فوتو)
TT

قمة «بريكس» تكسر «عزلة بوتين»... وتتحدّى ضغوط الغرب

جانب من مدينة قازان (أيستوك فوتو)
جانب من مدينة قازان (أيستوك فوتو)

يكاد الاهتمام السياسي والإعلامي في روسيا يكون منصباً بالكامل على مجريات قمة «بريكس» المنتظرة والنتائج المتوقعة منها؛ ذلك أنها «الحدث الأكبر فعلاً»، كما قال مساعد الرئيس لشؤون السياسة الدولية يوري أوشاكوف. وفضلاً عن منتدى سان بطرسبرغ الاقتصادي الذي تراجعت أهميته بعض الشيء خلال السنوات الأخيرة، فإن قمة «بريكس» تُعد المناسبة الوحيدة التي تنظمها موسكو على هذا المستوى منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا.

32 دولة مشاركة

يشارك في القمة ممثلو 32 دولة، بينهم وفقاً لأوشاكوف 24 رئيساً أو رئيس وزراء، علماً أن الدعوة وُجهت إلى 38 بلداً، هي البلدان التي تتمتع بعضوية المنظمة أو أبدت رغبة بالتعاون معها. وفي هذا الشأن تقول موسكو إن واشنطن مارست ضغوطاً كبرى على بعض البلدان لمقاطعة القمة، أو على الأقل لتقليص مستوى الحضور فيها.

بيد أن روسيا، باعتبارها البلد المستضيف لهذا الحدث، دعت زعماء بلدان «رابطة الدول المستقلة»، وجميعهم أكدوا مشاركتهم. كذلك وجهت الدعوات للدول التي ترأس اتحادات التكامل الإقليمي في جنوب شرقي آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية والشرق الأوسط.

وبناءً عليه، يُنتظر حضور الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، والأمين العام لـ«منظمة شنغهاي للتعاون» تشانغ مينغ، والأمناء العامّين لـ«رابطة الدول المستقلة» و«الاتحاد الاقتصادي الأوراسي» و«دولة الاتحاد» مع بيلاروسيا، بالإضافة إلى رئيسة بنك التنمية الجديد ديلما روسيف. ويعتقد أوشاكوف أن «التمثيل الجغرافي الرفيع المستوى والواسع النطاق في قمة قازان يشهد على دور (بريكس) ومكانتها على الساحة الدولية، وأيضاً الاهتمام المتزايد بهذه الرابطة من جانب الدول التي تنتهج سياسة خارجية مستقلة».

أبعاد السياسة... وحوار الاقتصاد

يبرز في التحضيرات التي قامت بها موسكو التركيز على البُعد السياسي للحدث، على الرغم من أن أجندة الحوار في القمة تبدو مخصّصة أكثر للقضايا الاقتصادية.

وإلى جانب اللقاءات الثنائية التي تعوّل عليها موسكو كثيراً، رتّب الكرملين متعمّداً شقّين للقمة يحمل كل منهما دلالات مهمة.

الشق الأول، بطبيعة الحال، هو اجتماع الدول الأعضاء في المنظمة، وهي عشرة بلدان حالياً بعدما توسّعت المجموعة العام الماضي بضم المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة ومصر وإيران وإثيوبيا. وهو سيخصص لموضوع «تعزيز التعدّدية من أجل التنمية والأمن العالميين العادلين»، وهذا في الواقع شعار الرئاسة الروسية لمجموعة «بريكس» في عام 2024.

أما الشق الثاني فهو اجتماع بصيغة «بريكس بلس»، الذي يضم أيضاً ضيوف القمة وممثلين عن دول أعربت عن رغبة في الانضمام إلى المجموعة، وهنا يبرز أكثر البُعد السياسي الذي تتطلّع إليه موسكو، لكون اللقاء يعقد تحت شعار «بريكس والجنوب العالمي... بناء عالم أفضل بشكل مشترك».

توسيع المجموعة

موسكو سعت إلى تجاوز التباينات الداخلية في المجموعة حول ملف التوسيع المحتمل لـ«بريكس»، وكان قد برز الخلاف سابقاً بشكل واضح بين الصين، المتحمسة للتوسيع، والهند التي وضعت تحفّظات على التعجّل في هذا الشأن. لكن الرئاسة الروسية توصلت، على ما يبدو، إلى «حل وسط» يرضي الطرفين الكبيرين، ثم إنه خلال الاستعدادات للقمة نوقشت فكرة إطلاق مستوى من التعاون من دون ضم بلدان جديدة حالياً... عبر ابتكار صيغة «الدول الشريكة» لمجموعة «بريكس». وتشير التقديرات الروسية إلى أن عدد البلدان التي ترغب بالانضمام رسمياً إلى المجموعة يبلغ اليوم 34 بلداً، الأمر الذي يعني أن مستقبل المجموعة ماضٍ نحو تعزيز حضورها بشكل واثق على الصعيدين السياسي والاقتصادي في العالم.

وحقاً، حدّد الكرملين أولوياته في هذا الشأن عبر الإشارة إلى أن «أبواب (بريكس) مفتوحة للدول ذات التفكير المماثل والتي تتشارك في المبادئ والأهداف الأساسية». ولكن مع هذا، أقرّ «صانعو السياسة» الروس بأن المجموعة لم تتبنَّ بعدُ نهجاً موحّداً حيال ملف التوسيع وضم أعضاء جدد.

وهنا أوضح أوشاكوف أن «بعض الدول ترى أن علينا أن نتوقّف عند الأعضاء العشرة وتأجيل التوسع، في حين يؤيد البعض الآخر قبول أعضاء جدد، بل وحتى تسمية دول محددة يمكن أن تصبح أعضاء في المنظمة».

على أي حال، يتركز الخلاف - كما تقول أوساط روسية - حول المخاوف من تشتيت الجهد وظهور عراقيل قوية أمام توحيد المواقف في حال وُسعت عضوية المجموعة بشكل عجول. وبالفعل، يرى البعض أن المطلوب حالياً «بذل أقصى جهدنا لضمان اندماج الدول الأعضاء حالياً بسلاسة في جميع أشكال التعاون»؛ ولذا يبدو أن إحدى نتائج القمة الأساسية ستتركز على إقرار الصيغة الروسية حول «الدول الشريكة».

أولويات اقتصادية

جدير بالذكر أن الكرملين كان قد حدّد منذ مطلع العام أولويات روسيا في فترة رئاستها للمجموعة، وعلى رأسها تطوير آليات الاعتماد على العملات المحلية في التبادل التجاري بين الأعضاء، ودفع مسار إنشاء عملة موحّدة على الرغم من الصعوبات البالغة التي تعترض طريقه.

ولقد أجمل وزير المالية الروسي أنطون سيلوانوف، على أبواب القمة، قائمة بالمهام المطروحة حالياً، عبر الإشارة إلى تطوير «نظام مستقل للتسويات المالية» لمجموعة «بريكس». وتكلّم عن «آفاق لصناعة العملات المشفّرة» في روسيا والدول الشريكة. كذلك أشار سيلوانوف إلى أن حزمة القوانين التي اعتُمدت أخيراً في روسيا لتنظيم سوق العملات المشفّرة «تفتح فرصاً جديدة لاستخدام الأصول الرقمية في التجارة الدولية»، وأنه «بات حالياً من الممكن استخدام العملة المشفّرة كوسيلة للدفع في التجارة مع الشركاء الأجانب».

ورأى الوزير الروسي أنه في سياق تجزئة الاقتصاد العالمي والقيود السياسية من الغرب، بات إنشاء نظام مالي مستقل خاص بالمجموعة على رأس المهام المُلحّة.

وفي هذا الإطار أيضاً، تبحث المجموعة إنشاء نظام إيداع مشترك، وإطلاق شركة تأمين خاصة بدول المجموعة لتقديم خدمات التأمين في إطار العلاقات التجارية بين دول «بريكس». وتعوّل موسكو على أن نشاط مجموعة «بريكس» المشترك سيسفر عن دفع جدّي لمعدلات التنمية في بلدانها. وفي هذا الصدد، أشار الوزير سيلوانوف إلى الحصة المتزايدة لدول «بريكس» في الاقتصاد العالمي. ووفقاً لمعطياته، فإن المجموعة باتت تتقدم بالفعل على «مجموعة السبع» من حيث الناتج المحلي الإجمالي، وسوف تستمر في زيادة نفوذها الاقتصادي.

وفي سياق متصل، فإن العنصر الرئيسي في قوة المجموعة يكمن - كما يقول الكرملين - في كونها «تجمع فرص التجارة والاستثمار وتبادل التكنولوجيات والمعرفة الجديدة». وبحسب الوزير سيلوانوف، فإن هذا الواقع «يعطي زخماً إضافياً لتنمية اقتصاداتنا»، ثم هناك عنصر ثانٍ مهم يكمن في محاربة هيمنة الدولار الأميركي. وهذا العنصر يشكل إحدى ركائز تحرك الكرملين في إطار «بريكس». وعلى الرغم من بطء التقدم في هذا المسار، ترى القيادة الروسية أن تحقيق اختراقات كبرى أمر ممكن، مع وصول حجم التبادل بالعملات المحلية إلى نحو النصف مع بعض بلدان المجموعة.


مقالات ذات صلة

كالاس: روسيا لا يهمها إحلال سلام في أوكرانيا

أوروبا الممثلة العليا للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية بالاتحاد الأوروبي كايا كالاس تتحدث في قمة كوبنهاغن للديمقراطية... الدنمارك 13 مايو 2025 (أ.ف.ب)

كالاس: روسيا لا يهمها إحلال سلام في أوكرانيا

قالت كايا كالاس، مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، اليوم الثلاثاء، إنها لا تعتقد أن روسيا مهتمة حقا بإحلال السلام في أوكرانيا.

«الشرق الأوسط» (كوبنهاغن)
أوروبا صورة مركبة تُظهر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين (يمين) ونظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي (أ.ف.ب) play-circle

روسيا: مستعدون لعقد محادثات جادة بشأن أوكرانيا

نقلت وكالات أنباء رسمية روسية عن نائب وزير الخارجية سيرغي ريابكوف قوله اليوم الثلاثاء إن موسكو مستعدة لإجراء محادثات جادة بشأن الحرب في أوكرانيا.

«الشرق الأوسط» (موسكو)
أوروبا القاضي الرئيسي هندريك ستينهاوس وقضاة آخرون ومحامون يشاهدون حطام طائرة الخطوط الماليزية الرحلة «MH17» في قاعدة «جيلز-رين» الجوية العسكرية جنوب هولندا في 26 مايو 2021 (أ.ب)

روسيا ترفض «الاستنتاجات المنحازة» لتقرير أممي بشأن إسقاط طائرة «إم إتش 17»

رفض الكرملين «الاستنتاجات المنحازة» لتقرير صدر عن هيئة الطيران التابعة للأمم المتحدة، وحمَّل روسيا مسؤولية إسقاط طائرة فوق أوكرانيا عام 2014.

«الشرق الأوسط» (موسكو)
أوروبا الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي (أ.ف.ب)

زيلينسكي: روسيا تواصل هجماتها ولا ترد على اقتراح المحادثات المباشرة

قال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، اليوم (الاثنين)، إن روسيا تواصل هجماتها على أوكرانيا وإنها لم ترد على اقتراح إجراء محادثات مباشرة في تركيا هذا الأسبوع.

«الشرق الأوسط» (كييف)
أوروبا علما بريطانيا وروسيا (رويترز)

الحكم بالسجن على زعيم خلية تجسس روسية في بريطانيا

صدر حكم بالسجن أكثر من عشر سنوات، الاثنين، على زعيم خلية تجسس روسية في بريطانيا يحمل الجنسية البلغارية.

«الشرق الأوسط» (لندن)

«مواقف» ترمب «وتنازلاته» في ميزان السياسة

حقول الحرب في أوكرانيا (رويترز)
حقول الحرب في أوكرانيا (رويترز)
TT

«مواقف» ترمب «وتنازلاته» في ميزان السياسة

حقول الحرب في أوكرانيا (رويترز)
حقول الحرب في أوكرانيا (رويترز)

تعكس تعليقات الرئيس الأميركي السابق جو بايدن عن سياسات الرئيس دونالد ترمب ومواقفه من الحرب الروسية – الأوكرانية، الجدل الذي تنخرط فيه الطبقة السياسية الأميركية ومراكز الأبحاث، حول تداعيات التغيير الذي أحدثه ترمب في علاقات واشنطن بكل من موسكو وكييف وبروكسل. بايدن اعتبر ضغوط إدارة ترمب على أوكرانيا للتنازل عن أراضٍ لروسيا «استرضاءً عصرياً»، في تلميح إلى سياسة رئيس الوزراء البريطاني الأسبق نيفيل تشامبرلين، الذي فشل في أواخر الثلاثينات في استرضاء مطالب الزعيم النازي أدولف هتلر لتجنب حرب شاملة في أوروبا. ومع ذلك، حُمّل الرئيس الأميركي السابق والعديد من القادة الأوروبيين، مسؤولية التقصير في دعم كييف، ومحاولة استرضاء روسيا، رغم المعرفة المسبقة بمواقفه خلال السنوات الثلاث من الحرب، التي كانت تشير بشكل واضح إلى أنه سيقوم، ليس فقط بالتقرب من الرئيس الروسي، بل وزيادة الشقاق مع الحلفاء الأطلسيين في «ناتو».

بدلاً من السماح لها بتحقيق النصر، يقول محللون، إن أوكرانيا تلقت معدات من الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وفرنسا وبولندا، كانت كافية فقط لاستنزاف روسيا. ولخّص الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في يونيو (حزيران) 2022 القيود الاستراتيجية على أوكرانيا؛ ما أجبرها في نهاية المطاف على القتال بيد واحدة خلف ظهرها، قائلاً: «علينا ألّا نُذلّ روسيا لكي نتمكن في اليوم الذي يتوقف فيه القتال من إيجاد مخرج عبر القنوات الدبلوماسية». وحقاً، خشي العديد من القادة والجنرالات من أنه في حال هزيمة روسيا، ستتبعها فوضى داخل الاتحاد الروسي، وسيفقد الرئيس فلاديمير بوتين سلطته. وكان هؤلاء يخشون ما يسميه العسكريون «نجاحاً كارثياً»، بحسب صحيفة «الإندبندنت». كذلك أعرب كبار المسؤولين في الحكومة البريطانية عن آرائهم بشأن أخطار انهيار الاتحاد الروسي، بالقول إنهم كانوا يخشون انتصاراً أوكرانياً ساحقاً لأن الاتحاد الروسي «إمبراطورية متماسكة بالخوف».

تحوّل التركيز

في الآونة الأخيرة، ورغم تغيير ميزان القوة لمصلحة موسكو، تحدثت معلومات استخباراتية جديدة راجعها مسؤولون أميركيون وغربيون، عن أن بوتين ربما أعاد ترتيب أهدافه المباشرة في حرب أوكرانيا، مع التركيز على ترسيخ السيطرة على الأراضي التي استولت عليها القوات الروسية وتعزيز الاقتصاد الروسي المتعثر. وفي حين يتناقض هذا التحول مع تقييمات سابقة أشارت إلى أن بوتين يعتقد أن الحرب تسير لصالحه؛ ما يدعم قتالاً مطولاً ضد أوكرانيا الضعيفة، بهدف الاستيلاء على البلاد بأكملها في النهاية أثار هذا التحوّل في نهج بوتين إلى احتمال أن يكون الآن أكثر ميلاً إلى التفكير في فكرة اتفاق سلام. ووفق مصادر أميركية، لعب هذا التحول دوراً في اعتقاد الرئيس ترمب بأن بوتين ربما بات أكثر استعداداً للتفاوض مما كان عليه في الماضي.

مع ذلك، لا يزال كبار المسؤولين الأميركيين حذرين بشأن نيات بوتين الحقيقية. ومع أنهم يشيرون إلى أن تأكيدات بوتين المستمرة بأنه يسعى للسلام، و«عروضه» المتقطعة لوقف إطلاق نار جزئي - رغم المقترحات الأميركية المواتية له التي تدعو كييف إلى التنازل عن معظم الأراضي التي استولت عليها روسيا – يعتقد هؤلاء أنه حتى لو قبل بوتين مثل هذا الاتفاق، فقد يكون قبوله إجراءً مؤقتاً، للعودة إلى التصعيد بمجرد استئناف الحرب.

أيضاً، بعدما وضعت الضغوط المستمرة من إدارة ترمب، وتهديدات نائبه جيه دي فانس ووزير الخارجية ماركو روبيو بوقف «الوساطة» الأميركية، وفرض عقوبات إضافية - ناهيك من الصعوبات الاقتصادية التي تواجهها روسيا - بوتين في موقف صعب محتمل، يقول مسؤول استخبارات غربي كبير: «أعتقد أنه ربما يفكر في هدف معقول على المدى القريب». ومع توقيع الولايات المتحدة اتفاقية المعادن مع أوكرانيا، سُلط الضوء أيضاً على إمكانية استثمارات مماثلة مع روسيا بعد الحرب، في المباحثات التي وصفتها واشنطن بأنها فرصة «تاريخية».

بل، ولقد أشار المسؤول أيضاً إلى أن السؤال الرئيس هو ما الذي ترغب واشنطن في تقديمه لجعل اتفاق السلام جذاباً بما يكفي لبوتين لإيقاف الحرب، والتي قد يستأنفها لاحقاً بمجرد تحقيق نصر مؤقت. وهنا، يقول مايكل روبين، الباحث في معهد «أميركان انتربرايز» في حوار مع «الشرق الأوسط» إن تلك التهديدات لم تُسهم في حل الأزمة الأوكرانية، لكنها على الأرجح عكست تفكير ترمب، الذي بدا أنه يتخلى عن أي احتمال لحل سريع، ويُرجّح أن يعكس ذلك واقعية ترمب في أن بوتين لن يُحقّق السلام.

بوتين متمسك بأهدافه البعيدة

من جهة ثانية، تغير الأهداف المباشرة قد لا يغير تمسك بوتين بطموحات طويلة الأجل لتوسيع نفوذ روسيا الإقليمي في أوكرانيا. وقد يكون استعداده «للتوافق» مع واشنطن في الوقت الحالي تكتيكاً لتحسين العلاقات مع واشنطن، في انتظار فرصة مواتية أكثر لتحقيق أهدافه القصوى.

ووفق مسؤول أوروبي كبير «هناك العديد من الأدوات السياسية والعسكرية والاقتصادية والإعلامية التي ستواصل روسيا استخدامها»، مضيفاً أن أهداف روسيا النهائية «ربما لم تتبدل رغم هذا التغيير التكتيكي». كذلك، أعرب العديد من المشرّعين الأميركيين عن مخاوفهم من أن بوتين قد يستخدم مباحثات السلام استراتيجيةً لكسب المزيد من النفوذ بدلاً من السعي الجاد لإنهاء الحرب، وهو ما قد يكون عزّز من مخاوف الكرملين من أن تكون تلك التهديدات حقيقية.

فقد أعلن السيناتور الجمهوري النافذ، ليندسي غراهام، الأسبوع الماضي، أنه يحظى بدعم مجلس الشيوخ لمشروع قانون يدعو إلى فرض عقوبات جديدة «ساحقة» على روسيا. ويسعى مشروع القانون هذا إلى فرض رسوم جمركية بنسبة 500 في المائة على الواردات من الدول التي تشتري النفط أو الغاز أو اليورانيوم الروسي، ما لم تنخرط روسيا في مفاوضات جادة لإنهاء الحرب. وفي الأيام الأخيرة، ناقش مسؤولون أميركيون وأوروبيون فرض عقوبات اقتصادية جديدة على روسيا، تؤثر على قطاعي البنوك والطاقة؛ بهدف الضغط عليها لدعم الجهود الدبلوماسية الأميركية لإنهاء الحرب.

بايدن وبنس يحذّران ترمب

ومع رفض أوكرانيا عرض بوتين الأخير بوقف إطلاق نار قصير خلال احتفالاته بيوم «النصر على النازية» ووصفه بـ«محاولة أخرى للتلاعب»، عدّه البعض «أقل من الحقيقة». وقال الرئيس السابق لجهاز الاستخبارات البريطاني، «إم آي 6» السير أليكس يونغر، إن الرئيس الروسي عازم على الاستيلاء على أكثر من مجرد أوكرانيا. وهو ما يتوافق مع آراء كل من جو بايدن، ونائب ترمب السابق مايك بنس.

بايدن سبق له القول إن بوتين يؤمن بأن «أوكرانيا جزء من روسيا»، وإن «أي شخص يظن أنه سيتوقف» إذا جرى التنازل عن بعض الأراضي بوصفه جزءاً من اتفاق سلام «هو ببساطة أحمق». وأضاف: «لا أفهم كيف يظن الناس أنه إذا سمحنا لديكتاتور بلطجي بأن يقرر الاستيلاء على مساحات كبيرة من الأراضي ليست ملكه، فإن ذلك سيُرضيه. لا أفهم ذلك تماماً». وتابع معرباً عن قلقه: «أوروبا ستفقد ثقتها بأميركا وقيادتها»، و«إن قادة القارة يتساءلون، حسناً، ماذا نفعل الآن؟ هل يمكننا الاعتماد على الولايات المتحدة؟ هل ستكون موجودة؟».

بدوره، أعرب بنس عن خيبة أمله من تراجع دعم الرئيس ترمب لكييف، وذكر أن الرئيس الروسي قد يضع ديمقراطيات أوروبية أخرى «نصب عينيه». وأضاف: «إذا كانت السنوات الثلاث الماضية علمتنا شيئاً، فهو أن فلاديمير بوتين لا يريد السلام. إنه يريد أوكرانيا». وتابع: «حقيقة أننا الآن نتابع منذ قرابة شهرين اتفاق وقف إطلاق النار الذي وافقت عليه أوكرانيا، واستمرار روسيا في المماطلة وتقديم الأعذار، إنما يؤكدان هذه النقطة». واستطرد: «أعتقد أن الدعم المتذبذب الذي أبدته الإدارة (لأوكرانيا) خلال الأشهر القليلة الماضية قد شجع روسيا... والأمر لا يقتصر عليّ أنا شخصياً. أعتقد حقاً أنه إذا اجتاح أوكرانيا، فستكون مسألة وقت فقط قبل أن يعبر الحدود، حيث سيضطر رجالنا ونساؤنا العسكريون إلى محاربته».

مايك بنس: «إذا كانت السنوات الثلاث الماضية علمتنا شيئاً، فهو أن فلاديمير بوتين لا يريد السلام. إنه يريد أوكرانيا»

اتفاقية المعادن لا تضمن أمن كييف

في أي حال، ورغم مناورات البيت الأبيض الكثيرة، انقضت الأيام المائة الأولى من إدارة ترمب الثانية من دون بصيص أمل في انتهاء القتال قريباً. وعلى الرغم من تعهد ترمب بإنهاء الحرب في أوكرانيا بسرعة، وتوقيع واشنطن اتفاقية مع كييف تمنح الولايات المتحدة حصة من الإيرادات المستقبلية من احتياطيات أوكرانيا المعدنية، فإنه قد يقرر الانسحاب من البلاد كلياً إذا لم يحصل على تسوية سلمية يصبو إليها. وهنا يؤكد مايكل روبين لـ«الشرق الأوسط»، أن اتفاقية المعادن وحدها «لا تكفي لضمان ألا يغيّر ترمب رأيه مجدداً... ولكن بما أنه ينظر إلى العالم من خلال ميزانيته التجارية، فسيكون هذا مفيداً في إقناع ترمب».

من جهتها، تقول إيفانا سترادنر، الباحثة في الشأن الروسي في «مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات» لـ«الشرق الأوسط»، إن «صفقة المعادن خطوة في الاتجاه الصحيح، والآن، الكرة في ملعب بوتين، وعلى واشنطن أن تمارس المزيد من الضغط على الكرملين، الذي سيلجأ إلى آلته الدعائية لتصوير الولايات المتحدة كقوة إمبريالية شريرة».

وبالفعل، توصلت إدارة ترمب إلى اتفاق منفصل مع أوكرانيا، أُعلن عنه في 30 أبريل (نيسان)، لمنح الولايات المتحدة حصة في مواردها المعدنية. ولكن مع أن الاتفاق يهدف إلى الإشارة إلى استثمار الولايات المتحدة في مستقبل أوكرانيا، فهو يبدو غير مرتبط إلى حد كبير بالمسألة الأكثر إلحاحاً لها والمتمثلة في حاضرها الذي مزقته الحرب.

لم يُنشر النص النهائي للاتفاقية بعد، ولكن لا يوجد ما يشير إلى أنها تتضمن ضمانات أمنية لأوكرانيا. وبصفته القائد الأعلى، يمكن لترمب تقليص الدعم الأميركي لأوكرانيا بشكل مفاجئ ودراماتيكي. وحتى مع سعيه لتحقيق مكاسب اقتصادية من أوكرانيا، قد تُقلّص الولايات المتحدة أو تُوقف الدعم العسكري والاستخباري، كما جرى بعد المشادة الكبيرة التي جرت أمام عدسات التلفزيون مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في المكتب البيضاوي خلال مارس (آذار) الماضي. وما زاد من قوة الشكوك، تأكيد زيلينسكي أخيراً أن ترمب رفض طلباً بقيمة 15 مليار دولار لشراء 10 أنظمة صواريخ «باتريوت» للدفاع الجوي.

 

هدف بوتين النهائي تقويض الغرب وإظهار الناتو «نمراً من ورق»

سبق أن حذر مسؤولو الاستخبارات الأميركية من أن أولوية فلاديمير بوتين القصوى لا تزال هي السيطرة الروسية الكاملة على أوكرانيا، وأن أي مفاوضات قد تتلاعب بها روسيا لإطالة أمد الصراع. ولا تزال مسألة الحدود الإقليمية موضع خلاف، لا سيما فيما يتعلق بالأقاليم الخمسة التي تَعدّها روسيا معقلاً لها، بما في ذلك شبه جزيرة القرم التي ضمتها عام 2014. ولقد أشار الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى أن أوكرانيا قد لا تستعيد غالبية الأراضي التي خسرتها لصالح روسيا، ما أثار مخاوف بعض الحلفاء الأوروبيين من أن تؤدي اقتراحاته إلى اعتراف واشنطن بسيطرة روسيا على أجزاء من أوكرانيا. وفيما يتمحور النقاش الآن حول كيفية الموازنة بين التنازلات الإقليمية وضمان عدم استئناف روسيا لهجومها بمجرد التوصل إلى اتفاق سلام، يعتقد المسؤولون الأميركيون أن أوكرانيا تتوسل بشكل متزايد للحصول على مساعدات وضمانات أمنية، لا سيما مع تقدم مفاوضات السلام. أيضاً يقول تقرير في مجلة «فورين أفيرز»، إنه على الرغم من أن روسيا ستظلّ تُكافح لكسب الحرب بشكل كامل، لكنها لن تُضطر للقلق بشأن خسارتها أيضاً. إذ قد تُواصل استراتيجيتها القائمة على تدمير البنية التحتية المدنية لأوكرانيا وإرهاب الأوكرانيين لدفعهم إلى مغادرة البلاد. وبينما تمتلك كييف القوى البشرية والموارد والدعم اللازم للحفاظ على السيادة في معظم أنحاء البلاد، قد تتقدم القوات الروسية ببطء وتُحقّق مكاسب إقليمية، مُنجزةً بذلك هدف بوتين المتمثل في إخضاع أربع مناطق من أوكرانيا لسيطرته الكاملة. مع هذا، يرى التقرير أنه لا يوجد لدى روسيا مسار حقيقي للمضي قدماً في أوكرانيا. فخسائرها في الأرواح لن تتوقف حتى ولو تخلت واشنطن عن أوكرانيا، وستظل الحرب خطأً استراتيجياً لروسيا. غير أن التخلي الأميركي سيثقل كاهل أوروبا بشكل كبير، ويشكك في التزام واشنطن تجاه حلفائها الأوروبيين، ومن المرجح أن يولد توترات متصاعدة بين أوروبا وروسيا. وهنا تقول الباحثة سترادنر لـ«الشرق الأوسط»، إن بوتين غير مهتم بالمفاوضات الصادقة، «هو ليس بحاجة إلى وقف إطلاق النار، لكسب المزيد من الوقت، وإعادة تموضع جيشه، ومواصلة طموحاته الإمبريالية لاستعادة مجد روسيا وإظهارها قوة عظمى. إن هدفه النهائي إخضاع أوكرانيا وإظهار أن ناتو مجرد نمر من ورق في دول البلطيق وتقويض الاتحاد الأوروبي». وبالفعل، أعلن بوتين عن العمل على «تقويض الغرب» من خلال الهجمات الإلكترونية وحرب المعلومات التي تُثير شكوكاً عالمية في عصر «ما بعد الحقيقة». كما أن تشكيك ترمب بالعلاقات مع «ناتو»، وتهديداته بضم كندا وغرينلاند، وتسببه في اضطرابات اقتصادية من جراء حرب الرسوم التجارية التي يشنها على معظم دول العالم، كلها عوامل قد تساعد سيد الكرملين على مواصلة سياسة المماطلة حتى تحقيق أهدافه.