كمال المدّوري... رئيس حكومة تونس الجديد أكاديمي مستقل أولويته «الأمن الاجتماعي»

خبير دولي ينتمي إلى «حزب الإدارة» وإحدى «المناطق المهمّشة»

عندما اختاره الرئيس سعيّد وزيراً للشؤون الاجتماعية، ثم رئيساً للحكومة يوم 7 أغسطس، أخذ في الحساب خلفيته الإدارية وخبرته الطويلة في الملفات النقابية والسياسية
عندما اختاره الرئيس سعيّد وزيراً للشؤون الاجتماعية، ثم رئيساً للحكومة يوم 7 أغسطس، أخذ في الحساب خلفيته الإدارية وخبرته الطويلة في الملفات النقابية والسياسية
TT

كمال المدّوري... رئيس حكومة تونس الجديد أكاديمي مستقل أولويته «الأمن الاجتماعي»

عندما اختاره الرئيس سعيّد وزيراً للشؤون الاجتماعية، ثم رئيساً للحكومة يوم 7 أغسطس، أخذ في الحساب خلفيته الإدارية وخبرته الطويلة في الملفات النقابية والسياسية
عندما اختاره الرئيس سعيّد وزيراً للشؤون الاجتماعية، ثم رئيساً للحكومة يوم 7 أغسطس، أخذ في الحساب خلفيته الإدارية وخبرته الطويلة في الملفات النقابية والسياسية

فاجأ الرئيس التونسي قيس سعيّد المراقبين السياسيين داخل البلاد وخارجها، الذين كانوا يتابعون «مستجدات ملفات الانتخابات الرئاسية»، فأعلن قبل أسابيع من الموعد الانتخابي عن تغيير حكومي واسع، وتعيين البروفسور كمال المدّوري، وهو شخصية أكاديمية وإدارية وسياسية مستقلة، على رأس الحكومة الجديدة خلفاً للمستشار القانوني المخضرم أحمد الحشّاني الذي مرت سنة واحدة على تعيينه رئيساً للوزراء. المدّوري ليس غريباً عن قصر رئاسة الحكومة، إذ سبق له أن تولى منصب مستشار قبل تعيينه في مايو (أيار) الماضي وزيراً للشؤون الاجتماعية تتويجاً لمسيرة أكثر من 20 سنة على رأس عدد من المؤسسات الحكومية المكلفة بملفات «الأمن الاجتماعي». والواضح أن الرئيس التونسي عبر تعيينه «صديق النقابيين» والخبير الدولي في التفاوض على رأس الحكومة، استبق محطة 6 أكتوبر (تشرين الأول) الانتخابية التي يريد أن يعبر بها إلى «الدورة الرئاسية الثانية»، وسط تزايد مخاوف المعارضة والنقابات من تسارع «تدهور أوضاع الاجتماعية للطبقات الشعبية بسبب نسب التضخم والبطالة والفقر المرتفعة».

يأتي قرار الرئيس قيس سعيّد تعيين البروفسور كمال المدّوري رئيساً جديداً للحكومة بمثابة «سحب البساط» من تحت معارضيه النقابيين والسياسيين، الذين تضاعفت انتقاداتهم مع اقتراب موعد الانتخابات المقبلة، وتزايد الكلام عن تدهور القدرة الشرائية للعمال والمتقاعدين والفقراء، رغم القرارات الرئاسية الجديدة، ومنها ترفيع جرايات التقاعد ورواتب قطاع من الأجراء.

وبدا واضحاً وجود إرادة سياسية للتأكيد على أن القرارات المركزية للدولة، بما فيها تلك المتعلقة بالأمن الاجتماعي ومستقبل الاقتصاد «تصنع في قصر الرئاسة» في قرطاج ، بصرف النظر عن مآلات انتخابات أكتوبر (تشرين الأول) المقبل.

مستقل من «حزب الإدارة»

لقد نوّه عدد ممّن عملوا مع المدّوري طوال السنوات العشرين الماضية، في المؤسسات الحكومية والإدارية للدولة، بخبرته في تسيير مفاوضات الحكومة مع نقابات العمال ورجال الأعمال داخلياً، وأيضاً نجاحاته الدولية عبر دوره في مفاوضات تونس مع المفوضية الأوروبية حول «سياسة الجوار الأوروبية» و«وضعية الشريك المميّز».

وفي حين كانت البعثات الأوروبية والدولية المفاوضة في بروكسل وبرشلونة وجنيف تدفع تونس ودول جنوب البحر الأبيض المتوسط - كما هو مألوف - نحو «تحرير» الاقتصاد بتقليص العمالة، وتخفيف «الأعباء الاجتماعية للدولة»، و«خفض نسبة الرواتب في ميزانية الدولة»، صمد المدّوري ومعه الفريق الحكومي التونسي في وجه هذا الدفع. بل مارس هو ورفاقه دفعاً مضاداً ضاغطاً على «الشركاء الأوروبيين» والمؤسسات الدولية من أجل إبعاد تونس عن تجرّع مرارة الاقتطاعات الخدمية المرتجلة والمؤلمة شعبياً التي قد تفجّر اضطرابات أمنية اجتماعية سياسية وأعمال عنف، كالأحداث الدامية والمواجهات التي عرفتها تونس مطلع عامي 1978 و1984، ثم منذ 2010 - 2011.

هذا الرصيد كان على يبدو أحد أسباب اختيار رئيس الدولة لهذا الأكاديمي والإداري المجرّب لترؤّس الحكومة. وبالمناسبة، كان المدّروي أحد طلبة سعيّد في كلية الحقوق والعلوم القانونية والسياسية والاجتماعية، قبل أن ينضم إلى «حزب الإدارة»، أي إلى صفّ «كبار الموظفين في جهاز الدولة» الذين ليست لديهم انتماءات حزبية أو سياسية، بل تميّزوا باستقلاليتهم وحيادهم وولائهم «للوظيفة الحكومية» بصرف النظر عن الحاكم.

ابن «الجهات المهمشة»

من جهة ثانياً، بخلاف معظم رؤساء الحكومات منذ 1955، فإن المدّوري من مواليد «الجهات الزراعية المهمّشة»، وتحديداً مدينة تبرسق الجبلية الصغيرة، الواقعة على مسافة 100 كيلومتر جنوب غربي العاصمة تونس، والغنية بمياهها العذبة ومزارعها الجميلة.

هذه المدينة الصغيرة أسّست قبل أكثر من 2000 سنة في عصر «اللوبيين» قرب مدن تاريخية قرطاجنية رومانية ونوميدية شهيرة مثل دقة وباجة والكاف، ناهيك من بلاريجيا، عاصمة «النوميديين»، حسب المؤرخ والمفكر التونسي محمد حسين فنطر. وكان اسمها الأصلي القديم «تبرسوكوم»، أي «سوق الجلود»، باعتبار تلك المنطقة الواقعة شمال غربي تونس غنية فلاحياً، وتنتشر فيها الزراعات الكبرى للحبوب وتربية المواشي. غير أنها صارت مهمشة منذ 70 سنة.

ويبدو أن الرئيس سعيّد - وهو من مواليد تونس العاصمة، لكن أصوله تعود إلى الأرياف الزراعية بمحافظة نابل (100 كيلومتر شرق العاصمة) - أراد باختيار تلميذه السابق توجيه رسالة ردّ اعتبار لأبناء الجهات الفقيرة والمهمّشة. وهي الرسالة ذاتها التي ربما أراد توجيهها عندما عيّن هشام المشيشي ابن بلدة بوسالم، في محافظة جندوبة الحدودية مع الجزائر، وزيراً للداخلية ثم رئيساً للحكومة في 2020 و2021.

«تكنوقراط» وسياسي

في أي حال، منذ الإعلان عن تعيين المدّوري رئيساً للحكومة تفاوتت التقييمات لشخصيته ومؤهلاته. إذ انتقد بعض الساسة والكتّاب، بينهم وزير التربية السابق وعالم الاجتماع سالم الأبيض، تعيين شخصية «غير سياسية» على رأس الحكومة. وقال الأبيض إن تعلّم السياسة «ليس أمراً يسيراً بالنسبة لتكنوقراطي» يخلو رصيده من تجارب مع الأحزاب والحركات السياسية القانونية وغير القانونية وأخرى مع مؤسسات المجتمع المدني.

ولكن، في المقابل، ثمّن آخرون «ثراء تجربة» رئيس الحكومة الجديد، ولا سيما كونه طوال أكثر من 20 سنة من أبرز كوادر الإدارة والدولة الذين تفاوضوا مع قيادات نقابات العمال ورجال الأعمال والمزارعين وهيئات صناديق «الضمان الاجتماعي والتقاعد» التي تهم ملايين الموظفين والمتقاعدين في القطاعين العام والخاص في البلاد. وللعلم، شملت تلك المفاوضات الملفات «السياسية والاجتماعية الحارقة»، بينها القضايا الخلافية التي كانت تتسبب في تنظيم آلاف الإضرابات العمالية وغلق مئات الشركات أو نقل جانب من أنشطتها خارج تونس.

وبناءً عليه، عندما وقع عليه اختيار الرئيس سعيّد يوم 25 مايو (أيار) الماضي وزيراً للشؤون الاجتماعية، ثم يوم 7 أغسطس (آب) رئيساً للحكومة، فإنه لا بد أنه أخذ في الحساب خلفيته الإدارية وخبرته الطويلة في الملفات النقابية والسياسية. ثم إن تعيين المدّوري الآن يؤكد تزايد البُعد السياسي الاستراتيجي لقطاع «الأمن الاجتماعي»، وأيضاً اعتماد «نظام رئاسي مركزي» منذ 2021.

خلفيات أكاديمية وصلات خارجية

أكاديمياً، تخرّج المدّوري أولاً في الجامعة التونسية، وتحديداً في كلية الحقوق والعلوم السياسية والقانونية بتونس، التي كانت مناهجها الأقرب إلى مناهج الجامعات الفرنسية. وفي الوقت نفسه، تابع دراساته العليا في جامعات أوروبية، وحصل على شهادة «دكتوراه الحلقة الثالثة» في قانون المجموعة الأوروبية والعلاقات المغاربية الأوروبية. وأهّلته هذه الشهادة الجامعية الأوروبية لاحقاً للعب دور بارز خلال مفاوضات تونس مع الاتحاد الأوروبي ومع الدول المغاربية حول «المنطقة الحرة الأورو متوسطية» والشراكة الاقتصادية وبرامج «سياسة الجوار».

بالتوازي، يُعد الرجل من جيل «المخضرمين» كونه حصل أيضاً على شهادات عُليا من مؤسسات جامعية خاصة بكبار الكوادر السياسية للدولة، بينها شهادة ختم الدراسات بالمرحلة العليا في «المدرسة الوطنية للإدارة» في تونس، وأخرى من معهد الدفاع الوطني. ولقد مكّنته هذه الشهادات والخبرة من التدريس في جامعات إدارية مدنية وأمنية وعسكرية، منها المدرسة العليا لقوات الأمن الداخلي. وأيضاً، ساعدته هذه الخبرة المزدوجة الإدارية السياسية الأمنية العسكرية كي يكون «مفاوضاً دولياً»، بما في ذلك مع مؤسسات «مكتب العمل الدولي» في سويسرا ومكاتب العمل وصناديق التنمية العربية والإقليمية وغيرها من المؤسسات التي تجمع في الوقت عيّنه ممثلي الحكومات ومنظمات رجال الأعمال ونقابات العمال.

وبحكم خصوصية الشراكة بين تونس مع ليبيا والجزائر والمغرب، اقتصادياً وسياسياً وأمنياً واجتماعياً، ساهم المدّوري مطولاً في المفاوضات مع الشركاء المغاربيين حول ملفات «الأمن الاجتماعي».

مسؤوليات

من جانب آخر، نظراً لما تشكو منه آلاف المؤسسات العمومية والخاصة في تونس منذ عهد الرئيس زين العابدين بن علي من صعوبات مالية وعجز عن تسديد مساهماتها في «الصناديق الاجتماعية»، عيّن كمال المدّوري خلال العقدين الماضيين الماضية ليرأس «الإدارة العامة للضمان الاجتماعي» في وزارة الشؤون الاجتماعية ثم مؤسسات صناديق التقاعد والتأمين على المرض. وكانت مهمته سياسية بامتياز: إبرام اتفاقات بين الحكومة والقطاع الخاص والنقابات وتجنيب البلاد مزيداً من الإضرابات والاضطرابات، ثم إنقاذ الصناديق الاجتماعية من سيناريوهات الإفلاس والعجز عن دفع مستحقاتها لملايين العمال والموظفين والمتقاعدين.

وفعلاً أبرمت الصناديق الاجتماعية والنقابات والحكومة بفضل تلك الجهود، قبل سنوات، اتفاقيات أثمرت «إصلاحات جذرية» تخلّت الدولة بفضلها عن «الحلول السهلة»، وبينها سياسة «التداين من البنوك التونسية» بصفة دورية بهدف تسديد رواتب الموظفين وجرايات المتقاعدين.

صعوبات وأوراق سياسية

في المقابل، لا يختلف اثنان على حجم المخاطر الاقتصادية الاجتماعية والسياسية الأمنية التي ستواجهها الحكومة الجديدة ورئيسها، في مرحلة تعمقت فيها التناقضات بين النقابات والمعارضات والسلطات المركزية، وتوشك أن تزداد عمقاً بعد انتخابات 6 أكتوبر.

ولا شك أن الرئيس سعيّد أدرك ذلك، ولذا أبعد شخصيات «مثيرة للجدل» من قصري قرطاج والقصبة، وغيّر أكثر من ثلثي الفريق الحكومي. وفي المقابل، اختار مزيداً من «التكنوقراط» الذين ليست لهم «صفة آيديولوجية وحزبية»، وطالبهم بالانسجام في الحكومة الجديدة. وبالفعل، أسفر «التعديل الحكومي الأول» الذي أجراه سعيّد ورئيس حكومته الجديد قبل أيام عن إبعاد مزيد من رموز المشهد السياسي والآيديولوجي القديم، وتعيين مزيد من «الخبراء المستقلين» الأكثر انسجاماً مع «دستور 2022»، الذي نصّ على كون مهمة رئيس الحكومة وكامل الفريق الحكومي «مساعدة رئيس الجمهورية» على إنجاز برامجه وسياسته، لا العكس.


مقالات ذات صلة

ليبيا: الصراع على المصرف المركزي يعمّق الأزمة السياسية

حصاد الأسبوع مصفاة راس لانوف على الساحل الليبي (آ ف ب)

ليبيا: الصراع على المصرف المركزي يعمّق الأزمة السياسية

بات «قوت الشعب» الليبي ومقدراته ورقة ضغط سياسي في لعبة الصراع على السلطة والنفوذ والمال بين «حكومتي» شرق ليبيا وغربها، وسط معركة تدور رحاها ظاهرياً حول شخص

فتحية الدخاخني (القاهرة)
حصاد الأسبوع الحبيب الصيد (الشرق الاوسط)

معظم رؤساء الحكومات التونسية ولدوا في منطقة «الساحل»

يتحدّر أغلب رؤساء الحكومات في تونس منذ أواسط خمسينات القرن الماضي من منطقة «الساحل» (وسط الشاطئ الشرقي لتونس)، موطن الرئيسين الأسبقين الحبيب بورقيبة

«الشرق الأوسط» (تونس)
حصاد الأسبوع مودي يصافح زيلينسكي إبان زيارته التاريخية لأوكرانيا (رويترز)

هل تتوسّط الهند لإحلال السلام بين أوكرانيا وروسيا؟

هل يسعى رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي إلى دفع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ونظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي للجلوس على طاولة المباحثات؟ بعد الزيارة

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع محمد يونس... حامل «جائزة نوبل للسلام» و«مصرفي الفقراء» يتولّى حكم بنغلاديش

محمد يونس... حامل «جائزة نوبل للسلام» و«مصرفي الفقراء» يتولّى حكم بنغلاديش

في محاولة لسد الفراغ القيادي في بنغلاديش، ولو بصفة مؤقتة، عُيّنَ محمد يونس الحائز على «جائزة نوبل» والخبير الاقتصادي، كبير مستشاري الحكومة المؤقتة المدعومة من

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع العاصمة دكا مسرحاً للاضطرابات قبل تنحي الشيخة حسينة ومغادرتها بنغلاديش (رويترز)

الشيخة حسينة ومحمد يونس... الطريق إلى الصدام الأخير

> تدريجياً، تعود بنغلاديش البالغ عدد سكانها 170 مليون نسمة، جلّهم من المسلمين، إلى الحياة الطبيعية بعد أشهر من الفوضى والاحتجاجات، واستقالة كبار المسؤولين من

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)

3 «سيناريوهات» لتطور الوضع حول كورسك


من آثار المعارك على جبهة كورسك (رويترز)
من آثار المعارك على جبهة كورسك (رويترز)
TT

3 «سيناريوهات» لتطور الوضع حول كورسك


من آثار المعارك على جبهة كورسك (رويترز)
من آثار المعارك على جبهة كورسك (رويترز)

لا شك في أن التوغل الأوكراني المباغت داخل الأراضي الروسية في منطقة كورسك الحدودية الأسبوع الفائت، شكّل مفاجأة صادمة لموسكو، التي انشغلت خلال الأشهر الأخيرة بتسجيل إنجازاتها على الأرض، ومستوى التقدم البطيء ولكن المتواصل، على عدد من الجبهات. كانت كييف تصارع خلال أشهر لتأكيد قدرتها على الصمود أمام الهجمات الروسية الناجحة على محوري خاركيف ودونيتسك، ولتوصل رسالة إلى الغرب مفادها أن المساعدات التي تقدم إلى أوكرانيا فعالة وضرورية، وأن مقولة «الانتصار الروسي المؤلم ولكن المحتوم» التي بدأت تأخذ رواجاً أكثر في الغرب، ليست أكيدة. في هذه الظروف جاء هجوم كورسك ليقلب موازين القوى، ويضع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أمام إحراج غير مسبوق منذ اندلاع الحرب قبل ثلاثين شهراً.

وجّهت أوكرانيا ضربة للكرملين، حين سلّطت الضوء على فشله في حماية أراضي روسيا وحطّمت رواية الرئيس فلاديمير بوتين أن روسيا ظلت إلى حد كبير غير متأثرة بالأعمال الحربية على الجبهات البعيدة.

التوغّل الأوكراني في روسيا أرسل أيضاً إشارة قوية إلى حلفاء كييف أن الجيش الأوكراني يمكن أن ينتزع زمام المبادرة ويلحق هزيمة ولو محدودة حتى الآن، بالجيش الروسي. وهذه رسالة مهمة بشكل خاص قبل الانتخابات الرئاسية الأميركية. وفي إطار السجالات الغربية المتزايدة حول آفاق دعم أوكرانيا وتداعيات الحرب المتواصلة على البلدان الأوروبية.

مجريات العملية وأهدافها

بعد أشهر من التراجع على الجبهة الشرقية، أطلقت أوكرانيا عملية واسعة النطاق غير مسبوقة في منطقة كورسك الحدودية الروسية، سمحت لقواتها بالتوغل، حسب محلّلين، حتى عمق 35 كيلومتراً على الأقل، والسيطرة على نحو 80 بلدة وقرية روسية بمساحة إجمالية تزيد على 1000 كيلومتر.

يوم 6 أغسطس (آب) الحالي، تدفقت القوات الأوكرانية إلى منطقة كورسك من اتجاهات عدة، وسرعان ما اجتاحت عدداً قليلاً من نقاط التفتيش والتحصينات الميدانية التي يحرسها حرس الحدود الروس المسلحون تسليحاً خفيفاً. وتخطّت القوات الأوكرانية كذلك وحدات المشاة الروسية على حدود المنطقة الروسية التي يبلغ طولها 245 كيلومتراً (152 ميلاً) مع أوكرانيا.

وعلى النقيض من الهجمات السابقة التي شنّتها مجموعات صغيرة من المتطوّعين الروس الذين يقاتلون إلى جانب القوات الأوكرانية، ورد أن التوغّل الأوكراني في منطقة كورسك شمل هذه المرة وحدات من ألوية عدة من الجيش الأوكراني المخضرم.

وأفاد مدوّنون عسكريون روس بأن مجموعات أوكرانية متنقّلة تتألف من مركبات مدرعة عدة، قادت كل منها بسرعة عشرات الكيلومترات (الأميال) إلى داخل الأراضي الروسية، متجاوزة التحصينات الروسية، وزرعت الذعر في جميع أنحاء المنطقة. وشكّل هذا التطور ضربة واسعة لثقة الروس بتقدّم قواتهم على الجبهات، لا سيما أن هذه المساحة التي تحققت السيطرة عليها في أسبوع واحد، تعادل تقريباً المساحة التي سيطرت عليها روسيا في أوكرانيا منذ بداية العام.

الهدف النهائي

ما زال الهدف النهائي من عملية كورسك غير واضح تماماً، رغم الخطوات الأوكرانية على الأرض، بما في ذلك على صعيد الحديث عن إعلان منطقة عسكرية وفتح ممرات إنسانية لخروج المدنيين، أو الخطة التي تكلمت عن إنشاء «منطقة عازلة» في كورسك لتخفيف الضغط المدفعي والصاروخي الروسي على المناطق الأوكرانية المحاذية للحدود. لكن الأكيد وفقاً لتقدير خبراء عسكريين أن درجة نجاح الهجوم المباغت فاجأت حتى الأوكرانيين أنفسهم، الذين بدأوا نقاشات لتحديد آليات الإفادة من الوضع الجديد.

تقارير روسية تشير إلى أن التقدم السريع للقوات الأوكرانية في كورسك تحقَّق بفضل مُعدات حرب إلكترونية قطعت الاتصالات الروسية، وسمحت بتقدم سريع للآليات داخل المناطق الروسية، مدعومة بهجمات من الطائرات المُسيّرة وحماية الدفاع الجوي. وهذا يعكس أن كييف حصلت حتماً على مساعدة لوجستية واستخباراتية قوية من جانب الغرب، الذي ربما يكون، بدوره، فوجئ بتوقيت العملية وحجمها، لكنه بالتأكيد كان على علم بجانب من التخطيط لعملية كبيرة محتملة.

لقد ربح الأوكرانيون عملياً مع السيطرة على مساحة من الأرض الروسية موطئ قدم في روسيا يمكّنهم من إرسال مجموعات استطلاع للبحث عن نقاط ضعف هناك، واستقدام قِطع المدفعية لقصف أهداف داخل عمق أراضيها.

في المقابل، قال مسؤول أميركي إن واشنطن ترى أن أحد أهداف عملية كورسك هو قطع خطوط الإمداد الروسية للجبهة الشرقية، حيث ينفّذ الجيش الروسي هجوماً منذ مايو (أيار) الماضي.

وتقول مصادر إنه بعيداً عن الانتصارات التكتيكية، أظهرت أوكرانيا قدرتها على التخطيط بسرّية لعملية هجومية وتنفيذها، خصوصاً بعد فشل هجومها المضاد الصيف الماضي، الذي طرح تساؤلات في الداخل والخارج حول قدرتها على مواصلة «حرب الخنادق» الطاحنة أمام الهجوم الروسي.

وفقاً لخبراء، سعت كييف عبر شن هذا التوغّل إلى إجبار الكرملين على تحويل الموارد من منطقة دونيتسك (في شرق أوكرانيا)، حيث شنّت القوات الروسية هجمات في قطاعات عدة وحققت مكاسب بطيئة ولكن ثابتة، معتمدةً على تفوقها في القوة النارية. وإذا تمكنت أوكرانيا من التمسك ببعض مكاسبها من التوغّل داخل روسيا، فمن شأن هذا تعزيز موقف كييف في مباحثات السلام المستقبلية، وقد يسمح لها بتبادل هذه المكاسب مقابل الأراضي الأوكرانية التي تحتلها موسكو.

وعلى الرغم من النجاحات الأولية للتوغّل الأوكراني داخل روسيا، فإنه قد يتسبب في استنزاف بعض أكثر الوحدات قدرةً في أوكرانيا، ويترك القوات الأوكرانية في دونيتسك من دون تعزيزات حيوية، كما أن محاولة تأسيس وجود أوكراني دائم في منطقة كورسك قد تشكّل تحدياً للقوات الأوكرانية، التي ستغدو خطوط إمدادها عُرضة للنيران الروسية.

رد فعل موسكو

لا شك أن التوغل المباغت أحرج الرئيس فلاديمير بوتين، الذي وصف أكبر هجوم بري تتعرض له بلاده منذ الحرب العالمية الثانية بأنه مجرد «استفزاز واسع النطاق»؛ أي إن الكرملين لم يتعامل مباشرة مع التطور بصفته حدثاً كبيراً يمكن أن يؤثر على مسار الحرب وعلى استراتيجيات إدارة الصراع.

ولعل الفشل الروسي في توقع الهجوم أولاً، وفي مواجهته ثانياً، سيخلّفان تداعيات واسعة على المستوى الداخلي؛ إذ لم يكن الروس يتوقعون قبل ثلاثين شهراً عندما أطلق بوتين «العملية العسكرية الخاصة» أن يكونوا يوماً أمام مشهد الدبابات الألمانية وهي تتجوّل فوق أراضيهم، ولا ناقلات الجنود والمدرعات الغربية وهي تبني تحصينات ومواقع دفاعية في مدنهم.

هذا المشهد مع قسوته سيشكّل حافزاً لرفض أي تسويات، ووضع موارد ضخمة بهدف إعادة تحرير المناطق التي دخلتها القوات الأوكرانية.

على المستوى العسكري، حيّر المراقبين فشل روسيا بشن هجوم مضاد سريع ضد الأوكرانيين والحلفاء الغربيين. ولم تنقل وزارة الدفاع الروسية حتى الآن قواتها على نطاق واسع من الدونباس إلى منطقة كورسك.

تبرير ذلك بسيط للغاية، وهو أن موسكو ترى أنه بين أبرز أهداف تخفيف الضغط عن قطاعي خاركيف ودونيتسك، لذلك حرص بوتين خلال اجتماعات القيادة العسكرية على تأكيد أن الهجوم الروسي في العمق الأوكراني لم ولن يتأثر. لكن إلى أي درجة يمكن أن تحافظ موسكو على هذه الوتيرة في التعامل مع الحدث؟

هذا سؤال ما زالت السلطات المختصة في روسيا لم تقدم جواباً بشأنه.

لقد تحرك الهجوم بسرعة كبيرة، وكان رد الروس بطيئاً للغاية لدرجة أن أوكرانيا ربما بدأت تعيد النظر في أهدافها. وبدايةً كانت كييف مدفوعة بالرغبة في رفع معنويات الأوكرانيين وتحفيز الدعم العسكري من حلفائها الغربيين. وبالإضافة إلى ذلك، سعت القوات الأوكرانية إلى تحويل القوات الروسية عن خط المواجهة في منطقة دونيتسك، حيث تتقدم القوات الروسية بالقرب من توريتسك وبوكروفسك وتشاسوفوي يار. وهذا يفسر كلام العسكريين الأوكرانيين بعد مرور أسبوع على بدء الهجوم عن خطط لإنشاء «منطقة عازلة» على الأراضي الروسية أو تعزيز تحصينات إضافية فيها.

زيلينسكي (رويترز)

مغامرة زيلينسكي تقلق الغرب

في هذه الأثناء، يقول خبراء غربيون إن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي اتخذ بإطلاق العملية قراراً جريئاً للغاية، يكاد يقترب من أن يكون مغامرة حقيقية؛ إذ قال زيلينسكي خلال أيام من بدء الهجوم إن كييف «تسعى إلى نقل الحرب» داخل روسيا، وإن أوكرانيا «تثبت أنها قادرة على ممارسة الضغط الضروري؛ الضغط على المعتدي».

وعندما بدأ التوغل، في 6 أغسطس، بدا الأمر كأنه «عرض آخر للشجاعة العسكرية» من قِبل «الفيلق الروسي»، وهو واحدة من مجموعات الميليشيات المناهضة لبوتين، لكن بعد مرور يومين فقط أصبح من الواضح أن كييف نفسها تحاول توجيه ضربة استراتيجية مضادة لروسيا.

المرجح أن وراء الهجوم قراراً مباشراً من زيلينسكي، الذي ضغط وفقاً لتقارير لعدة أشهر على قادته العسكريين لشنّ هجوم صيفي. ونظراً للمشاكل المتعلقة بالقوى البشرية والموارد في أوكرانيا، كان القادة متردّدين، لكن زيلينسكي كان يسعى جاهداً إلى عكس السرد القائل إن أوكرانيا تخسر الحرب. بل حاول فعلاً إيجاد طريقة لوقف خسارة المزيد من الأراضي في شرق أوكرانيا، وتعطيل هذه الديناميكية أو عكسها. وهذا الخيار العسكري الاستراتيجي «أسلوب إلى حد كبير جريء ومحفوف بالمخاطر»، وفقاً لتعبير معلق عسكري.

أما القادة الغربيون فيشعرون الآن بالقلق، وبخاصة مع استخدام بعض المعدات الأرضية (مركبات قتالية مدرّعة، ومركبات مشاة مدرّعة، وقاذفات صواريخ، ومدافع هاون، ووحدات دفاع جوي أرضية) لحلف شمال الأطلسي (ناتو) داخل روسيا، الأمر الذي يمثّل تجاوزاً لعتبة أو «خط أحمر» آخر، ولو أن القادة الأوكرانيين طلبوا الإذن الغربي مسبقاً لما حصلوا عليه. لذلك أقدم زيلينسكي على الهجوم من دون تنسيق واسع، وفقاً لتقديرات مع الغرب. وهذا يفسر أن واشنطن في الأيام التالية قالت إنها تنتظر معلومات إضافية من كييف حول الهجوم.

مع هذا، مغامرة زيلينسكي محفوفة بالمخاطر؛ فليس أمام موسكو الآن من خيارات سوى فعل كل ما يلزم لوقف التوغل، ولا يمكن للضربة المضادة الأوكرانية في كورسك أن تحقّق سوى أهداف محدودة.

وكحد أقصى، قد تأمل القوات الأوكرانية حول كورسك في توسيع نطاق وصولها إلى ما هو أبعد من احتلال محطة الطاقة النووية فيها، مقابلاً لاحتلال روسيا لمحطة زابوريجيا الأوكرانية عام 2022، لكن هذه الأهداف ستعتمد على المدة التي ستستغرقها العملية، وبأي طريقة يمكن للأوكرانيين الصمود داخل كورسك.

تشير تقارير إلى أن التقدم السريع للقوات الأوكرانية تحقَّق بفضل مُعدات حرب إلكترونية قطعت الاتصالات الروسية

ماذا بعد كورسك؟

يقول المحلل العسكري فرانتز ستيفان غادي، من جنيف، إن المرحلة المقبلة من عملية كورسك تعتمد على الاحتياطي المُتاح لدى كل طرف، وكيف سيستخدمه على الجبهة. ويتابع: «ستحتاج أوكرانيا إلى نقل جنود وموارد عسكرية إضافية للجبهة كي تحافظ على زخم الهجوم، في حين ستسعى روسيا لصدّ الهجوم بسرعة، واستخدام قوتها النارية كالقنابل المنزلقة».

ويرى غادي، كما نقلت عنه «وول ستريت جورنال»، أن المشكلة الرئيسية في عملية كورسك أنها لا تُغير الوضع على الجبهة الشرقية، حيث ما زالت القوات الروسية تتقدم، وإن كان بوتيرة أبطأ. ويضيف: «عملية كورسك تتطلب قدراً كبيراً من الموارد، خصوصاً جنود المشاة، الذين قد تحتاج إليهم أوكرانيا على جبهة أخرى». وعلى الجبهة الشرقية يعاني الضباط الأوكرانيون قلة عدد الجنود، ويتساءلون عن مغزى مهاجمة الأراضي الروسية، رغم أنهم يأملون أن تؤدي هذه العملية الهجومية في كورسك إلى تخفيف الضغط على جبهتهم.

وهنا، يرجّح أن الجيش الأوكراني يفضّل الوقوف والقتال في الجيب الذي أنشأه، وربما يتم تعزيزه، لكن الأعداد الهائلة من الجنود الذين سترسلهم موسكو ستُنبئنا في نهاية المطاف بشكل القتال المقبل. واستمرار وجود هذا التوغل داخل الأراضي الروسية سيكون أمراً غير مقبول بالنسبة للرئيس بوتين.

 

بوتين (رويترز)

الخيارات الثلاثة: مزيد من التقدم، تراجع أو انسحاب جزئي

يتوقع الجنرال الأسترالي المتقاعد، ميك رايان، 3 سيناريوهات لتطور الأحداث في منطقة كورسك. يتضمن السيناريو الأول، الأكثر اندفاعاً، محاولة التمسك بالأراضي التي أمكن الاستيلاء عليها، حتى التقدم أكثر من أجل سحب مزيد من القوات الروسية من أوكرانيا، والحصول على أوراق مساومة في المفاوضات المستقبلية. لكن هذا أمر محفوف بالمخاطر، وفق المحلل، لأنه سيكون من الصعب على القوات الأوكرانية توفير غطاء للحرب الإلكترونية والدفاع الجوي، حتى للقوات المتمركزة جيداً في مثل هذه المنطقة الواسعة.أما السيناريو الثاني فهو التراجع وإنقاذ القوات والمعدات وإعادة تجهيزها، وقد تسلحت بروح معنوية عالية، في محاولة تحرير أراضيهم العام المقبل. وأما الخيار الثالث فيقوم على الانسحاب جزئياً إلى مواقع أكثر أمناً أقرب إلى الحدود الأوكرانية. وسيتطلب الأمر قوات أقل عدداً، وتوفير دعم مدفعي أفضل ولوجستيات أفضل، وتأمين قاعدة لمزيد من الهجمات في المستقبل. ويشير مصدر لمجلة «الإيكونوميست» في هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الأوكرانية إلى أن هذا الخيار هو الأكثر ترجيحاً. وقد جرى بالفعل نقل جزء من الخدمات اللوجستية - قوات الهندسة والوقود والمستشفيات الميدانية وقواعد الغذاء والإصلاح - على بعد عدة كيلومترات إلى عمق الأراضي الروسية.