تيم والز «ابن الريف الأميركي»... هل يؤشر إلى تحالف سياسي واجتماعي جديد للديمقراطيين؟

هاريس اختارت «نائباً» يحتاجه حزبها منذ عقود

بدا أن هاريس، عبر اختيارها لتيم والز، لا تسعى جدياً إلى تغيير مسار حزبها فقط، بل ربما الولايات المتحدة أيضاً.
بدا أن هاريس، عبر اختيارها لتيم والز، لا تسعى جدياً إلى تغيير مسار حزبها فقط، بل ربما الولايات المتحدة أيضاً.
TT

تيم والز «ابن الريف الأميركي»... هل يؤشر إلى تحالف سياسي واجتماعي جديد للديمقراطيين؟

بدا أن هاريس، عبر اختيارها لتيم والز، لا تسعى جدياً إلى تغيير مسار حزبها فقط، بل ربما الولايات المتحدة أيضاً.
بدا أن هاريس، عبر اختيارها لتيم والز، لا تسعى جدياً إلى تغيير مسار حزبها فقط، بل ربما الولايات المتحدة أيضاً.

يوم الاثنين المقبل، الموافق 19 أغسطس (آب) الحالي، ينعقد المؤتمر الوطني للحزب الديمقراطي الأميركي «رسمياً»، لتثبيت ترشيح كامالا هاريس ونائبها تيم والز حاكم ولاية مينيسوتا على بطاقة الانتخابات الرئاسية الأميركية، وذلك في أجواء سيطغى عليها الطابع الاحتفالي، بعدما اختارهما مندوبو الحزب في اجتماع «افتراضي» في وقت سابق. وفي حين يرجح الديمقراطيون أن تحافظ هاريس على الزخم الذي اكتسبوه منذ انسحاب الرئيس جو بايدن من السباق، وسط أجواء «عاطفية» افتقدها الحزب منذ فترة طويلة، فهم يراهنون أيضاً على الدور المرشح للعبه والز، شخصياً، في الحفاظ على هذا الزخم الذي طرأ على مزاج الناخبين. فبجانب قدرات الرجل الخطابية وشخصيته المحبّبة، قد تلعب جذوره المتواضعة نسبياً في تمكين الديمقراطيين من كسب أصوات بعض الولايات المتأرجحة، ولا سيما ولايات ما يسمى اليوم «الجدار الأزرق»، بل قد تكون مؤشراً على تحوّلات كبيرة داخل الحزب الديمقراطي.

ولد تيموثي (تيم) جيمس والز عام 1964، في بلدة ويست بوينت بولاية نبراسكا، ونشأ فيها على المذهب الكاثوليكي. وهو من عائلة تتحدر من أصول ألمانية وسويدية وآيرلندية. الأم فيها دارلين روز ريمان سيدة منزل، أما الأب جيمس والز فكان مدرّساً ومدير مدرسة، ومحارباً قديماً في الجيش الأميركي، خدم إبان الحرب الكورية. وفي عام 1867، هاجر جدّ والز الأكبر، سيباستيان، من كوبنهايم في دوقية بادن الكبرى بألمانيا، إلى الولايات المتحدة، وكانت إحدى جداته سويدية، وله جدة أخرى آيرلندية.

بعد المدرسة الثانوية، خدم تيم والز في الحرس الوطني للجيش لمدة 24 سنة، درس خلالها لفترة في جامعة هيوستن بولاية تكساس، وعمل في أحد المصانع. ولاحقاً، تخرّج في كلية تشادرون ستيت، وهي كلية جامعية صغيرة في ريف ولاية نبراسكا، قبل أن ينتقل إلى ولاية مينيسوتا عام 1996. وقبل الترشح للكونغرس، عمل مدرّساً لمادة الدراسات الاجتماعية بإحدى المدارس الثانوية ومدرباً لكرة القدم.

عام 2006، قرّر والز الترشح لعضوية مجلس النواب الأميركي، بعد إبعاده هو وبعض الطلاب عن إحدى فعاليات حملة جورج بوش «الابن» عام 2004، بمجرد اكتشاف المنظّمين أنهم ديمقراطيون. وحقاً، فاز يومها عن دائرة الكونغرس الأولى في مينيسوتا، متغلباً على منافس جمهوري شغل المنصب لـ6 فترات. ثم أعيد انتخاب والز لمجلس النواب 5 مرات قبل انتخابه حاكماً لمينيسوتا عام 2018، وثانية عام 2022.

طاقة جديدة

عموماً يندر أن يغيّر المرشحون لمنصب نائب الرئيس معادلات المعركة الرئاسية بشكل جذري. لكن والز، منذ اليوم الأول لاختياره، بدا أنه يمنح الديمقراطيين دفعة جديدة من الطاقة. وهذا ما أظهرته ردود الفعل بشكل خاص على وسائل التواصل الاجتماعي، حين حصدت منشوراته على منصة «تيك توك»، خلال ساعات من اختياره، أكثر من 43 مليون مشاهدة، جاءت نسبة 69 في المائة منها من مقاطع فيديو أنتجها منشئو محتوى «تقدميون» و28 في المائة جاءت من منشئي محتوى مستقلين سياسياً، وفقاً لشركة «كريدو آي كيو» المتخصصة في تحليل وسائل التواصل الاجتماعي. وبين ليلة وضحاها، تحوّل والز من شخصية «مغمورة» إلى اسم مألوف... في ظاهرة شبّهها البعض بجائحة «فيروسية».

يقول البعض إن الديمقراطيين، لعقود من الزمن، كانوا - كما يبدو - بحاجة إلى شخص مثل والز يستطيع التأكيد عملياً أن الطبقة العاملة البيضاء في الريف ليست كتلة واحدة. يضاف إلى ذلك تبيان أن وسط هذه الطبقة توجد أقلية كبيرة من العقلاء الذين يظلون، حتى في ظروفهم الاقتصادية الضعيفة، رافضين التأثر بالمحرّضين الذين يلقون باللوم على المهاجرين... بينما يجمعون ثروات الشركات.

شراكة سياسية جديدة

حقاً، عدّ كثيرون اختيار هاريس لوالز مراجعة «عميقة» أجراها الديمقراطيون بهدف تشكيل شراكة جديدة سترسم مسيرة الحزب الديمقراطي، ليس لانتخابات 2024 فقط، بل ربما مستقبله أيضاً.

فخلال العقود الأخيرة، لم يحظ الحزب الديمقراطي بجاذبية مباشرة عند الطبقة العاملة الريفية البيضاء، وغالباً ما شدّد مرشحوه على أنهم يمثلون مصالح «الطبقة الوسطى» التي تتمركز في المدن والمناطق الساحلية. إذ كانوا بالكاد يتطرقون إلى أبناء «الطبقة العاملة» المقيمين في الضواحي والأرياف وما يعانونه، جرّاء التحولات التكنولوجية والاقتصادية والإنتاجية، التي دفعت بهم إلى «الفقر».

في المقابل، منذ ذلك الوقت، ومع تحوّل هذه الطبقة إلى أهم كتلة سكانية «متأرجحة»، عمل الجمهوريون على استمالتها عبر خطاب شعبوي تجييشي، مستغلّين ظروفها الاقتصادية الصعبة، لقلب ما كان يسمى «ولايات الجدار الأزرق» - أو «ولايات الصدأ» – وانتزاع أصواتها من الديمقراطيين. وبالفعل، عندما صعد والز مع هاريس إلى منصة الحملة الانتخابية في بنسلفانيا، إحدى ولايات الجدار الأزرق، كانت المرة الأولى منذ زمن بعيد التي يتكلّم فيها سياسي ديمقراطي قيادي عن الطبقة العاملة والفقر في البلاد. وكان واضحاً أنه لا يريد إضاعة الفرصة في استغلال جذوره الطبقية والاجتماعية، لتقديم صورة جديدة عن التحالف الذي يطمع الديمقراطيون اليوم ببنائه.

بين الريف والمدينة

لقد بدا أن هاريس، عبر اختيارها لتيم والز، لا تسعى جدياً إلى تغيير مسار حزبها فقط، بل ربما الولايات المتحدة أيضاً. فوالز كان من الديمقراطيين القلائل الذين انتقدوا الحزب بصدق وصراحة عندما وصفه إبان فترة عضويته في مجلس النواب الأميركي بأنه بات «حزب المدن والساحل».

وبالتالي، تظهر هاريس الآن كأنها، وحزبها، تردّ من جهة اليسار على الحزب الجمهوري الذي انزاح أكثر نحو اليمين، آيديولوجياً واجتماعياً وعرقياً، وعبّر عنه جزئياً في مؤتمره الوطني، حين اختار إلى جانب دونالد ترمب، نائبه جي دي فانس، الآتي من أصول لا تختلف كثيراً عن أصول والز. فهاريس أرادت والز إلى جانبها كشخص من ولاية زراعية في الغرب الأوسط، يستطيع أن يتكلم بثقة وأصالة عن الحقائق التي تعتقد أن ترمب ونائبه فانس لن يتكلّما عنها.

الديمقراطيون يرون أن أميركا الريفية الحقيقية متنوعة، على الرغم من كل العنصرية الصاخبة وكراهية المثلية الجنسية والشوفينية التي يتّسم بها الحزب الجمهوري اليوم، والتي بفضلها هيمن على الانتخابات خارج المناطق الحضرية.

كذلك يؤمن الديمقراطيون بأن أرياف البلاد مليئة بالمهاجرين والملوّنين والمثليين والمتحولين جنسياً والسكان الأصليين، حتى المغايرين جنسياً، الذين يعيشون مع البيض، ويعملون معاً بسعادة.

واستطراداً يعدّون أن الحقوق الإنجابية، وتشريع الماريغوانا القانونية، والمدارس العامة، والإجازات الطبية والعائلية مدفوعة الأجر، والتحقق من خلفية شراء الأسلحة، تحظى بدعم كثير من الناخبين عبر الخطوط الحزبية، حتى الأرياف التي تصوت للجمهوريين، وأن للمزارعين ومربّي الماشية ومشرفي الأراضي مصلحة حاسمة في معالجة تغير المناخ، ولو لم يستخدموا اللغة ذاتها التي يستخدمها الناشطون في مجال البيئة.

سجلّ محفّز للديمقراطيين

أيضاً يرى العديد من المشرّعين الديمقراطيين أن كل ما يجسّده سجل والز منذ بدأ حياته السياسية، يمثّل توازناً يمكن أن يساعد ويعزز جاذبية الحزب. إذ صوّت في مجلس النواب بشكل دائم، كديمقراطي معتدل، ثم بصفته حاكم ولاية وقّع على مشاريع القوانين التقدمية لتصبح قانوناً.

ومع أن والز يقتني السلاح، لكنه شدد على أن سكان ولايته - التي يحكمها منذ عام 2019 - يؤمنون أيضاً بـ«قوانين خفض العنف المسلح ذات المنطق السليم». موضحاً: «أنا محارب قديم، وصياد، وأمتلك السلاح. لكنني أيضاً أب، ولسنوات طويلة كنت مُدرِّساً. أعرف أن قواعد السلامة الأساسية المرتبطة باستخدام السلاح ليست تهديداً لحقوقي، فالأمر مرتبط بالحفاظ على سلامة أطفالنا».

ثم إن والز عمل ضمن تحالف من الحزبين، على تمرير تفويضات لمساعدة المزارعين، وعلى ضمان احتفاظ أعضاء الحرس الوطني برعايتهم الصحية عند الاستجابة لحالات الطوارئ في الولاية، رداً على الحملة التي شنت ضده بعد الاحتجاجات التي اندلعت عندما قتل شرطي أبيض الرجل الأسود جورج فلويد.

نصير للفقراء

أكثر من هذا، مرّر والز تشريعات واسعة النطاق، أثارت حماسة الديمقراطيين وغضب الجمهوريين، حين وقّع على قانون حماية الإجهاض، وأكبر ائتمان ضريبي للأطفال في البلاد، ووجبة إفطار وغداء مجانية في مدارس معينة، وإجازة عائلية وطبية مدفوعة الأجر «التي لا يستطيع أي فقير أن يرفضها». كما وقّع على أمر تنفيذي يحمي رعاية التحوّل بين الجنسين.

وفي هذا الصدد، عدّد ديمقراطيون، عملوا سابقاً معه، كياسته ودرايته وذكاءه الحاد بين الأسباب التي تسهّل تواصله مع الناس عبر الخطوط الحزبية. وسرعان ما أثبت ذلك فعلياً، بعد تكراره وصف الرئيس السابق دونالد ترمب وزميله في البطاقة الجمهورية فانس بأنهما أناس «غريبو الأطوار»، ليتحول الوصف إلى اتجاه (ترند) ينتقدهما بوصفهما لا يمثلان القيم الأميركية.

وهكذا، من نافل القول إن اختيار والز أدى إلى إنعاش آمال الديمقراطيين في التمسك بساحات معركة «الجدار الأزرق» الحاسمة والمناطق المتأرجحة، أي ولايات مينيسوتا وويسكونسن وميشيغان وبنسلفانيا. وعبر تمتعه وهاريس بتأييد كاسح من التيار اليساري في الحزب ربما ضمنا ألا تتكرر هزيمة هيلاري كلينتون عام 2016، التي تُعزى إلى إحجام ناخبيه، وخصوصاً الشباب منهم، عن تأييدها.

وهذا ما يراه السيناتور «التقدمي» بيرني ساندرز الذي قال: «أعتقد أن الديمقراطيين كانوا ضعفاء للغاية في أرياف ولاية بنسلفانيا وفي جميع أنحاء هذا البلد. وأعتقد أن والز سيكون رصيداً حقيقياً آتياً من ولاية ريفية للفوز بالدعم الذي تحتاجه في بنسلفانيا وفي جميع أنحاء الغرب الأوسط وأجزاء أخرى من البلاد».

وللعلم، مع أن مينيسوتا، موطن فالز، لم تصوّت للجمهوريين في الانتخابات الرئاسية منذ عام 1972، فاز ترمب بمقاطعات ريفية فيها، وبولايات ويسكونسن وميشيغان وبنسلفانيا عام 2016، التي تعد مهمة لانتصار هاريس بعد أن قلبها بايدن في 2020.

السياسة الخارجية

يعد تيم والز يعد من أنصار ما يطلق عليه «المعسكر الواقعي» في السياسة الخارجية، وهو يدعم التعاون العالمي، وبخاصة مع الشركاء الأوروبيين، والاستثمار في العولمة كنموذج اقتصادي لنشر الرخاء وتحويل الصراع إلى تنافس. ويرى أن «العلاقة مع الصين لا ينبغي أن تكون على شكل خصومة»، وأن ثمة كثيراً من «مجالات التعاون» بين البلدين. ويؤيد بقوة مواصلة أميركا دعم أوكرانيا في «حربها الدفاعية» ضد روسيا.

أخيراً، بالنسبة للشرق الأوسط، يلتزم والز بالدفاع عن إسرائيل، لكنه يرفض تحوله إلى رخصة للتعدّي على حقوق المدنيين الفلسطينيين، ولذا يدعم حل الدولتين، لينعكس موقفه هذا بتراجع نسبة «غير الملتزمين» في الولايات المتأرجحة. ويُذكر أنه عارض حرب العراق ودعا إلى سحب القوات الأميركية منه، وطالب باستخدام الدبلوماسية في سوريا بدلاً من التورط في حربها الأهلية. وعارض الضربات الأميركية الجوية هناك في عهد الرئيس السابق باراك أوباما، ودعم الاتفاق النووي مع إيران.


مقالات ذات صلة

شركات أميركية معرضة لخسائر جمة مع قرب الانتخابات الرئاسية

الاقتصاد نائبة الرئيس كامالا هاريس على اليسار والمرشح الرئاسي الجمهوري الرئيس السابق دونالد ترمب (أ.ب)

شركات أميركية معرضة لخسائر جمة مع قرب الانتخابات الرئاسية

بينما بات المناخ السياسي أكثر استقطابا من أي وقت مضى في أميركا، تجد الشركات الكبرى نفسها في مرمى نيران الانتقادات والاتهامات بدعم مرشح ما في الانتخابات الرئاسية

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الاقتصاد كامالا هاريس مرشحة الرئاسة الأميركية تزور سوق «بايليف» في كارولاينا الشمالية - الجمعة 16 أغسطس 2024. (أ.ب)

هاريس تنتقد «تضخيم» الأسعار وتعد بـ«القتال» من أجل الطبقة الوسطى

كشفت نائبة الرئيس الأميركي كامالا هاريس عن بعض جوانب برنامجها الاقتصادي مع تركيزها على القدرة الشرائية، في حال فوزها بالانتخابات الرئاسية الأميركية في نوفمبر

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
شؤون إقليمية «أوبن إيه آي»: مجموعة إيرانية استخدمت «تشات جي بي تي» لاستهداف الانتخابات الأميركية

مجموعة إيرانية استخدمت «تشات جي بي تي» لاستهداف الانتخابات الأميركية

قالت شركة «أوبن إيه آي»، الجمعة، إنها أغلقت حسابات مجموعة إيرانية لاستخدامها روبوت الدردشة «تشات جي بي تي» للتأثير على الانتخابات الرئاسية الأميركية.

«الشرق الأوسط» (سان فرانسيسكو)
الولايات المتحدة​ مرشحة الحزب الديمقراطي نائبة الرئيس الأميركي كامالا هاريس (د.ب.أ)

هاريس تفتح مسارات جديدة للفوز بالرئاسة

في ظلّ استطلاعات تشير إلى أنها فتحت مسارات جديدة تعزز حظوظها الرئاسية، صبّ المرشح الجمهوري والرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب جام غضبه على منافسته الديمقراطية

علي بردى (واشنطن)

عضلات نتنياهو انتفخت... والنتيجة مخيفة

تشييع إسماعيل هنية في طهران قبل مراسم دفنه في قطر (الشرق الأوسط)
تشييع إسماعيل هنية في طهران قبل مراسم دفنه في قطر (الشرق الأوسط)
TT

عضلات نتنياهو انتفخت... والنتيجة مخيفة

تشييع إسماعيل هنية في طهران قبل مراسم دفنه في قطر (الشرق الأوسط)
تشييع إسماعيل هنية في طهران قبل مراسم دفنه في قطر (الشرق الأوسط)

كثيرون من شهود العيان، ينشرون تقارير تفيد بأن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، كان في حالة اكتئاب شديد وإحباط أشد، في صبيحة السبت 7 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، عندما أبلغه مستشاره العسكري بتفاصيل هجوم «حماس» على 11 موقعاً عسكرياً و22 بلدة في غلاف غزة.

هذه الحالة رافقته لأيام طويلة عدة. لكن الطريقة التي اختارها جيشه للرد على «حماس»، بالهجوم العسكري الجنوني الذي دمّر غزة بكل ما فيها من عمار وحضارة، وقصد قتل روح أهلها كباراً وصغاراً، أعجبت نتنياهو وأخافته في آن. ويقال إنه لم ينتعش ويبدأ العودة إلى طبيعته، إلا عندما جاءه الرئيس الأميركي جو بايدن إلى تل أبيب في زيارته التضامنية الشهيرة، بعد 11 يوماً من الهجوم. في حينه شوهد نتنياهو وهو لا يتمالك نفسه وحاشر رئيس الدولة يتسحاق هيرتسوغ لكي يسبقه على عناق بايدن. وقد انتقده الإسرائيليون على خرق «البروتوكول» الذي ينص على أن الرئيس (هيرتسوغ) يسبقه في استقبال الرئيس الضيف (بايدن). واعتبروا ذلك تصرفاً صبيانياً فحسب. لكن الأميركيين أدركوا أن الرجل منهار وقد اهترأت أعصابه وهو ينتظر وصول بايدن... وما إن رأته عيناه حتى ارتمى في حضنه كما يفعل طفل ضائع يلتقي والدته.

منذ تلك اللحظات مرت عشرة أشهر، والطفل المنهار صار «طاووساً» أرعن مستأسداً... لا يتردد في مهاجمة بايدن في عقر داره ويعود إلى إسرائيل كما لو أنه حقق الانتصار عليه. وحقاً عاد من واشنطن أكثر تشدداً في مواقفه من الحرب. يتكلم عن ضرورة استمرارها بلا خجل ولا تردد. ويعمل بشكل واضح على توسيعها. وصادق على اغتيالات مشكوك في جدواها العسكرية والاستراتيجية. وأتت هذه الاغتيالات، بالصدفة أو بالتخطيط المقصود، لتتوّج زيارته إلى الولايات المتحدة.

خطط لنقل رسالة

اليوم، يتضح أن الحوارات الدائرة بين تل أبيب وواشنطن، تدل على أن نتنياهو ليس فقط نسي المشهد الذي ارتمى فيه على أحضان بايدن، بل يتصرف كما لو أنه هو صاحب الحضن. وعندما التقى الرئيس بايدن، شاءت الأقدار أن يكون الأخير في عز اضطراره إلى التنازل عن الترشيح للرئاسة.

الأميركيون يسمّون وضع الرئيس في حالة كهذه «بطة عرجاء». ومع أن رئيس الوزراء الإسرائيلي امتدحه وشكره على دعمه، فإنه لم يتردد في انتقاده أيضاً على ضغوطه لوقف الحرب. وبالفعل، لليمين الإسرائيلي خطاب سياسي واضح مع الأميركيين، وقد حرص نتنياهو على أن يصل إلى كل أذن في الولايات المتحدة. ملخص الخطاب، أن ما تفعله إسرائيل في غزة أقل بكثير مما فعلته الولايات المتحدة في العراق أو أفغانستان أو فيتنام. وأحد كتاب اليمين المشهورين، أليكس غوردون، صاغ هذا الموقف قائلاً: «في 4 يونيو (حزيران) 2024، قال الرئيس بايدن في مقابلة مع مجلة (تايم) إن (الناس لديهم سبب للاعتقاد) بأن رئيس الوزراء نتنياهو يطيل الحرب في غزة لأسباب تتعلق بالبقاء السياسي». ولكن من يدري إلى متى يجب أن تستمر هذه الحملة؟ ففي نهاية المطاف، لا يوجد ذكاء اصطناعي أو ذكاء طبيعي يعرف على وجه اليقين الفترة الزمنية الدقيقة والأمثل للحروب، بما في ذلك الحرب ضد الإرهابيين في غزة. وبما أن الذكاء الفائق الذي يعرف كل شيء غير موجود، فإننا مضطرون إلى إجراء تقدير زمني لمدة الحرب ضد الإرهابيين من خلال مقارنتها بحروب أخرى مع إرهابيين آخرين. فقد بدأت الحرب مع إرهابيي تنظيم (داعش) في مدينة الموصل العراقية يوم 24 مارس (آذار) 2016 واستمرت حتى 9 يوليو (تموز) 2017. وفي هذه الحرب التي قادها الجيش العراقي شاركت القوات الجوية الأميركية والبريطانية وفرنسا وألمانيا وتركيا والإمارات العربية المتحدة إلى جانب العراقيين. وهزم هذا التحالف الإرهابيين وطردهم من الموصل. كان يعيش في الموصل نحو 1.5 مليون نسمة. وبلغت مساحة الموصل 180 كيلومتراً مربعاً. أما في غزة فيبلغ عدد السكان نحو 2.23 مليون نسمة. وتساوي مساحة غزة 362 كيلومتراً مربعاً، أي ضعف مساحة الموصل. من حيث حجم المنطقة وحجم السكان وحدهم، من المتوقع أن تكون الحرب في غزة أطول بـ1.5 - 2 مرة من الحملة في الموصل، أي ما بين سنة و11 شهراً وسنتين و6 أشهر».

واضاف غوردون: «لقد قاتل نحو 8000 من إرهابيي (داعش) في الموصل، وعدد إرهابيي (حماس) أكبر بثلاث أو حتى أربع مرات من إرهابيي (داعش). ومن الواضح أيضاً من هذه الأرقام أن الحملة في غزة من المتوقع أن تكون أطول بكثير من تلك التي حدثت في الموصل. لكن في الموصل، لم يكن لدى إرهابيي (داعش) أنفاق تحت الأرض يصل طولها إلى نحو 500 كيلومتر كما هو الحال في غزة. ولهذا السبب لم يكن لديهم إمكانية المناورة تحت الأرض، ونقل سريع للقوات وهناك عدد لا يحصى من الكمائن كما هو الحال في غزة. لذلك؛ لا مفر من أن يؤدي تأثير الأنفاق إلى إطالة أمد الحرب في غزة أكثر بكثير من مدّتها في الموصل. لكن هناك عاملاً آخر يطيل أمد الحرب؛ لأن الجيش الإسرائيلي يتعامل مع السكان المدنيين في غزة بشكل أبطأ وأكثر حذراً من الجيش العراقي وحلفائه في الموصل».

ومع أن نتنياهو لم يلتقِ مسؤولاً أميركياً واحداً يشجعه على سياسته، وحتى المرشح الجمهوري دونالد ترمب، حثّه على إنهاء الحرب، عاد إلى إسرائيل رافعاً حدة تهديداته وراح يصعّد اجراءاته الحربية.

تغيّر توجه الجيش

من جهة ثانية، بشكل مفاجئ، وجد الأجهزة الأمنية الإسرائيلية التي عارضت سياسته، وقد غيّرت توجهها. ففي يوم هبوط طائرة نتنياهو بمطار تل أبيب، تعرّضت ثلاث قواعد عسكرية إسرائيلية لهجوم من نحو ألفي شخص من ميليشيات اليمين المتطرف يحتجون على قيام الشرطة العسكرية التابعة للجيش باعتقال تسعة جنود للتحقيق معهم في شكاوى أسرى فلسطينيين تعرّضوا للتعذيب والتنكيل والاغتصاب الوحشي. ولقد اعتدى هؤلاء على الجنود وراحوا يطالبون بإقالة رئيس أركان الجيش هرتسي هليفي. ورافقهم في الهجوم عدد من الوزراء والنواب أعضاء أحزاب اليمين الحاكم، الليكود بقيادة نتنياهو والصهيونية الدينية بقيادة وزير المالية بتسلئيل سموتريتش ووزير الأمن القومي إيتمار بن غفير.

هذه أول مرة في تاريخ إسرائيل يحصل فيها هجوم على الجيش من مواطنين. لكنه تطور حتمي. فهو حصيلة تحريض شرس من اليمين على قيادة الجيش، مستمر منذ أكثر من عشر سنوات، بعدما اختلفت هذه القيادة مع نتنياهو ومنعته من إطلاق خطة للهجوم على إيران، واتهمته بالتخلي عن عقيدة القتال والاشتباك والإقدام.

ولكي نأخذ فكرة عن مضمون هذا الهجوم نقتبس ما قاله سموتريتش في مؤتمر حزب «تكوما» (البعث)، في أول الشهر الفائت: «نحن نحتاج إلى قيادة عسكرية مع حمض نووي (DNA) مختلف، لا يخاف من صنع النصر». وسموتريتش، الذي لم يخدم في الجيش، ومع ذلك وضعه نتنياهو وزيراً ثانياً في وزارة الدفاع، هاجم عدداً من الجنرالات، مثل عاموس يدلين وتمير هايمان، الرئيسين الأسبقين لشعبة الاستخبارات العسكرية، والمحرر العسكري لصحيفة «هآرتس»، عاموس هرئيل، «الذين بدلاً من أن يدفنوا أنفسهم في البيت خجلاً وحياءً بسبب مفاهيمهم التي أوصلت الجيش إلى حالة الترهل، يواصلون حرث استديوهات التلفزيونات للتحليل والتعليق وتقديم النصائح المخزية التي تشجع على وقف الحرب وتقبل الهزيمة».

ما يُذكر، يعيش الجيش ومعه بقية أجهزة الأمن في إسرائيل كارثة معنوية منذ 7 أكتوبر الماضي؛ بسبب الإخفاق في منع هجوم «حماس». ولقد حاول الجيش التغلب على الكارثة بحرب جنونية دمر فيها قطاع غزة بشكل شبه كامل... اتضح أنها ليست موجهة ضد «حماس»، بل ضد الشعب الفلسطيني كله. إذ قتل نحو 40 ألفاً، ثلثاهم من النساء والأطفال والمسنين والعجزة، ودمّر كل الجامعات والمستشفيات ومعظم المدارس والجوامع والكنائس. وقَتَل علماء وصحافيين وأطباء ومعلمين وباحثين ومخترعين وفقهاء ورجال دين ومسعفين وطواقم إغاثة. لكن هذا كله لم يحقق أياً من أهداف الحرب. وبقيت الصورة الختامية أن هذا الجيش بعظمة قوته (ثلاثة أرباع المليون جندي ومئات الطائرات الحديثة والصواريخ الجبارة وآلاف الأطنان من المتفجرات) وبضخامة وحداثة أسلحته ودعم الولايات المتحدة وحكومات الغرب له، يدير حرباً تستغرق 10 أشهر ضد تنظيم مسلح محدود القوة (30 - 40 ألف عنصر) وفقير الأسلحة، ولم يستطع حسمها.

التصعيد ... لاستعادة هيبة مهدورة

هذه المشكلة أضعفت الجيش وأثارت تساؤلات كثيرة لدى الحلفاء والأصدقاء، الذين كانوا يأتون لتعلم دروس الحرب منه. وفي الوقت عينه، أثارت أسئلة كثيرة لدى الجمهور الإسرائيلي. وكلما عاد الجنود من الجبهة، ازدادت الأسئلة وأصبحت استنكارية أكثر. وبسبب الصراعات الداخلية داخل المجتمع الإسرائيلي، ومحاولات حكومة اليمين درء الاتهامات عنها بالمسؤولية عن الإخفاق، زاد اليمين على الوقود زيتاً فراح يحرّض على قيادة الجيش ويتهمها بالفشل وبالجبن. وفعلاً دلّت الاستطلاعات على أن ثقة الجمهور الاسرائيلي بالأجهزة الأمنية انخفضت بشكل حاد من 90 في المائة إلى 70 و60 في المائة. وصار رئيس أركان الجيش وجنرالاته يتعرضون لإهانات حتى في جلسات الحكومة، من وزراء كثيرين وليس فقط بن غفير وسموتريتش. وكان نتنياهو يسمع ويسكت. ومن هنا تفاقم الاستخفاف بالجيش لدرجة أن المستوطنين اعتدوا على جنوده في الضفة الغربية، ونشطاء اليمين هاجموا القواعد العسكرية.

لذا؛ قررت الأجهزة الأمنية استعادة هيبتها المهدورة أياً كان الثمن. فانتهزت فرصة التراخي الأمني في الضاحية وفي طهران، ووجهت ضربتيها، باغتيال رئيس حركة «حماس»، إسماعيل هنية في قلب مجمع «الحرس الثوري» الإيراني، واغتيال قائد أركان «حزب الله» فؤاد شكر. وخرج نتنياهو يعلن بتفاخر مخضّب بسكرة نصر: «لقد أغلقنا حسابات مع (القائد العسكري بـ«حزب الله»، فؤاد شكر) محسن، وسنغلق الحسابات مع أي شخص يسيء إلى بلادنا». وأردف: «منذ هجوم بيروت، سمعت التهديدات من جميع الجهات. نحن مستعدّون لأي سيناريو، وسنقف مركّزين، ومصمّمين ضدّ أي تهديد، وستجبي إسرائيل ثمناً باهظاً، إزاء أي عدوان علينا من أي ساحة. قلت بالفعل في الأيام الأولى للحرب إن الأمر سيستغرق وقتاً ويتطلّب الصبر منّا جميعاً، وسأكرّر ذلك اليوم أيضاً».

وبعدما ألقى هذا الحجر في البئر، واستعرض العضلات المنفوخة على أقصى حد، دخلت المنطقة برمتها في توتر خطير، وتصعيد مخيف، باتجاه توسيع الحرب نحو مدى يصعب تقديره.