بول كاغامي... مُنقذ رواندا وقائد مسيرة تنميتها الاقتصادية

فاز بولاية رابعة وجعل من بلاده «سنغافورة أفريقيا»

بول كاغامي... مُنقذ رواندا وقائد مسيرة تنميتها الاقتصادية
TT

بول كاغامي... مُنقذ رواندا وقائد مسيرة تنميتها الاقتصادية

بول كاغامي... مُنقذ رواندا وقائد مسيرة تنميتها الاقتصادية

أعاد فوز بول كاغامي الكاسح بولاية رئاسية رابعة في رواندا، ذلك البلد الجبلي في قلب وسط أفريقيا، فتح «صندوق» شخصية أحد أطول القادة الأفارقة بقاءً في الحكم منذ عام 2000. ولقد حرص الرجل، في سيرته الذاتية بموقعه الإلكتروني، على التذكير بأنه «كان قائداً لقوات الجبهة الوطنية الرواندية»، ولقد قاد النضال لتحرير رواندا. ثم الإشارة إلى دور تلك «الجبهة» في وقف حرب الإبادة الجماعية ضد شعب التوتسي (الذي ينتمي إليه) في عام 1994. كذلك ركّز في سيرته الذاتية، بخلاف رئاسته لرواندا، على شغل منصب رئيس الاتحاد الأفريقي من عام 2018 إلى 2019، وترؤس مجموعة شرق أفريقيا من عام 2018 إلى عام 2021.

ميلاد رئيس

يوم 23 أكتوبر (تشرين الأول) عام 1957، ووسط صرخات تنادي باستقلال مستعمرة «رواندا – أوروندي» عن الاستعمار البلجيكي، تفتحت أعين كاغامي رضيعاً في بلدة تامبوي لعائلة من شعب التوتسي، الذي إن كان يشكل أقلية صغيرة في البلاد مقارنة مع غالبية الهوتو، فإنه تمتع طويلاً بالزعامة والسلطة.

ولم يصل كاغامي لعامه الثالث، إلا وشقّ الطريق لاجئاً مع أسرته إلى أوغندا تجنباً لفصول اضطهادٍ واجهت التوتسي، وكأن القدر يحمل في العام الخامس من عمر كاغامي بشائر تحريرية لموطنه الأصلي.

وفي عام 1962، كانت أجواء التحرّر والاستقلال والاضطهاد، التي عاشها الطفل كاغامي، وقومه التوتسي، مع موعد نيل «رواندا – أوروندي» الاستقلال عن الاستعمار البلجيكي، بل كتابة رواندا يومذاك الأحرف الأول من مسيرتها السيادية على إثر انفصالها عن «توأمها» بوروندي، التي تماثلها تماماً لجهة تركيبتها الديمغرافية القبلية، بوجود غالبية من الهوتو، وأقلية من التوتسي... الذين كانت لهم هنا أيضاً الموقع الأبرز والمكانة الأرفع.

ومرت سنوات، وكاغامي في أوغندا ينهي دراسته الابتدائية بتفوّق، ساهمت في صنعه المعاناة، داخل مخيم للاجئين بأوغندا. وبالفعل، أنجز من المنفى دراسته الثانوية والجامعية خلال عقد السبعينات من القرن الماضي، وسجّل خطوته الأولى لتحرير بلاده، حين كان أحد من وقع عليه اختيارات في الجيش الأوغندي للدراسة المتقدمة في «كلية القيادة والأركان العامة للجيش الأميركي» في فورت ليفنوورث بولاية كانساس الأميركية.

صُعود مُبكر

في سن الثانية والعشرين، فعّل بول كاغامي خطوته الأولى، وشكّل مع عدد من الشبان التوتسي الروانديين خلال أكتوبر عام 1979 أحد بواكير مكوّنات «جيش المقاومة الوطنية الأوغندي» بزعامة يوري موسيفيني، الذي كافأهم في ما بعد بتولي مناصب مهمة بالدولة عقب توليه حكم أوغندا عام 1986، ولا يزال موسيفيني حتى اليوم في السلطة ليغدو أحد أطول الرؤساء الأفارقة حكماً.

كاغامي وجد طريق الصعود السياسي مبكراً عقب تعيينه من جانب موسيفيني رئيساً للاستخبارات العسكرية الأوغندية، فور إعلان الأخير رئيساً لأوغندا. لكنه رغم ترسيخ وضعه لم ينس موطنه الأصلي، بل أسس مع أبناء وطنه من التوتسي الروانديين المنفيين «الجبهة الوطنية الرواندية» لخوض حرب ضد النظام السابق في رواندا، الذي اضطهد التوتسي. وبين هذا الصعود وتلك التحركات التحررية، تزوّج عام 1989 وهو في سن الـ32 من جانيت نييرامونجي، وهي من التوتسي أيضاً.

لقد كانت مطالب منع التمييز ضد التوتسي، بوصلة «الجبهة الوطنية الرواندية»، التي أسّسها كاغامي، والتي عززت نشاطها في أكتوبر عام 1990 وسط حرب أهلية قبلية بين شعبي التوتسي والهوتو على امتداد رواندا، قبل أن ترى تلك «الجبهة» كاغامي قائداً جديداً لها إثر إنهائه الصراعات على القيادة. ومن ثم، بين عامي 1991 و1993 قاد وفد «الجبهة» إلى مفاوضات السلام في أروشا بجمهورية تنزانيا لوقف تلك الحرب.

وعام 1994، إثر حملة تصفيات دموية وأجواء إبادة جماعية، طالت نحو 800 ألف شخص، معظمهم من التوتسي، بدأ التحول الدراماتيكي في صعود بول كاغامي نحو السلطة في رواندا، خصوصاً بعدما استغل تلك الإبادة لحشد التعاطف الإقليمي والدولي. وبالفعل، سرَّعت وحشية مجارز الإبادة وتيرة هجمات «الجبهة» التي سيطر عناصرها على العاصمة كيغالي في يونيو (حزيران) عام 1994، وتمكن بدعم دول أفريقية، أبرزها أوغندا الذي يرأسها موسيفيني «الأب الروحي» لكاغامي، بعد شهر، من السيطرة على البلاد برمتها.

بعدها، شُكّلت «حكومة وحدة وطنية» لقيادة رواندا، برئاسة باستور بيزيمونغو. وأُسند إلى كاغامي (كان يومذاك في الـ37 من عمره) منصب نائب الرئيس ورئيس الأمن الداخلي. وبعد أقل من 6 سنوات، بدأ فصل جديد في حياته السياسية، مع تزكية البرلمان له بتولي رئاسة رواندا خلال مارس (آذار) عام 2000، ومنذ ذلك الحين احتفظ بالحكم.

مسيرة التنميةتزكية البرلمان جاءت في الواقع بعد إطاحة كاغامي عام 2000 بحكم بيزيمونغو، وإحالته إلى المحاكمة بتهمة «الفساد ومخالفة توجه المصالحة الوطنية القاضي بنبذ آيديولوجيا التفرقة العرقية»، قبل أن يحُكم على الرئيس المخلوع بالسجن لمدة 15 سنة.

ومن هذه النقطة، باشر كاغامي بناء الدولة من جديد، وقاد الجهود الهادفة إلى سنّ دستور جديد لتجاوز «جرائم الإبادة، وحظر الإشارات العرقية»، وركّز على التنمية ودعم الاقتصاد. وفي عام 2003، أبصر دستور رواندا الجديد (دستور 2003) النور، وسمح له بفترة ولاية مدتها 7 سنوات، وفي العام ذاته، أعيد انتخابه بالاقتراع العام المباشر بنسبة 95 في المائة من الأصوات.

في هذه الأثناء، وجدت رواندا نفسها على موعد مع تحول لافت في ثرواتها الاقتصادية، وخصوصاً مع وضع «رؤية رواندا عام 2020»، التي كانت تتضمن تصوراً لمعدل نمو سنوي نسبته على الأقل 7 في المائة. وبعد 6 سنوات فقط، عام 2006 سجّلت رواندا معدل نمو اقتصادي بنسبة 8 في المائة، وحافظت بالمتوسط على هذا المعدل ليغدو اقتصادها أحد أسرع الاقتصادات نمواً في أفريقيا.

ومع هذا التقدم الاقتصادي اللافت، ضمن كاغامي إعادة انتخابه عام 2010 بنسبة 93 في المائة من الأصوات، وقبيل انتهاء فترة رئاسته، قاد البلاد لاستفتاء عام 2015، ما سمح له بالترشح لأكثر من 3 فترات، بعدما كان «دستور 2003» يمنح الرئيس فترة ولاية مدتها 7 سنوات قابلة للتجديد، لكن لمرة واحدة. وفي المقابل، قلّص التعديل الجديد فترة الرئاسة من 7 إلى 5 سنوات، مع الإبقاء على الحد الحالي، وهو تولّي الرئاسة لولايتين، بيد أنه سمح باستثناء كاغامي، الذي يمكنه أن يسعى لفترة ولاية أخرى، مدتها 7 سنوات، ثم الترشح لفترتين، مدة كل منهما 5 سنوات.

الولاية الثالثة

وحقاً، ترشح كاغامي لولاية ثالثة، وحقّق في أغسطس (آب) 2017 فوزاً كاسحاً بنسبة 98.8 في المائة من الأصوات في انتخابات الرئاسة، وحصل على ولاية رئاسية جديدة تمتد 7 سنوات أخرى، انتهت في يوليو (تموز) 2024، وباتت أمامه ولايتان، مدة كل منهما 5 سنوات، وهو ما يمكّنه من البقاء في منصبه حتى عام 2034. أما على الصعيدين الاقتصادي والتنموي، فقد ارتفعت مكاسب رواندا إبّان عهد كاغامي من قطاع السياحة من 2.4 في المائة عام 1998 إلى 12.7 في المائة عام 2017، وارتفعت صادرات رواندا من المعادن، إذ بلغت عام 2017 نحو 373 مليون دولار أميركي، مقارنة بـ 166 مليون دولار في السنة السابقة.

أيضاً سجلت رواندا نمواً قوياً بلغ 7.2 في المائة في المتوسط بين عامي 2012 و2022 بفضل التطوير في البنى التحتية، ولا سيما الطرق والمستشفيات، والتقدّم في مجالي التعليم والصحة. ووفق تقديرات «صندوق النقد الدولي» في مارس (آذار) عام 2024، واصل اقتصاد رواندا نموه القوي في عام 2023، في حين تباطأ التضخم بشكل حاد، نتيجة تركيز السلطات على حماية استقرار الاقتصاد الكلي والاستقرار الخارجي من خلال إعادة بناء احتياطيات السياسات في أعقاب الصدمات المركبة، بما في ذلك الفيضانات المدمّرة.

في المقابل، مع ظهور أصوات معارضة ناشدت كاغامي بالامتناع عن الترشح وتشجيع تداول السلطة، «خشية العودة لفترة الاقتتال العرقي»، أعرب الرئيس عن نيته «مغادرة السلطة واختيار خليفة له»، متعهداً بأن «خطة الخلافة تناقش بنشاط داخل الحزب الحاكم». ووصف تقاعده بأنه «حتمي»، مكرراً ما قاله في أواخر 2022، من أنه لا مشكلة لديه في أن يصبح «مسنّاً عادياً».

وختاماً، نشير إلى أنه ليس أمام كاغامي - الذي يقترب الآن من سن الـ67 - غير احتمال الترشح لفترة رئاسية جديدة وأخيرة، ستكون في 2029، تنتهي حال نجاحه في 2034. ومعها وخلالها ترتفع وتهبط أسهم التساؤلات بين احتمال اختتام الرئيس الرواندي سيرته «بطلاً متقاعداً» في أذهان الروانديين، أو حدوث مفاجآت أخرى قد تكون فصل النهاية لحياته السياسية.


مقالات ذات صلة

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

حصاد الأسبوع الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

عقدت أخيراً في الرياض الجولة الثانية من المشاورات السياسية بين وزارة الخارجية السعودية ووزارة الخارجية الصينية، وترأس الجانب السعودي نائب وزير الخارجية وليد

وارف قميحة (بيروت)
حصاد الأسبوع صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في

راغدة بهنام (برلين)
حصاد الأسبوع  زارا فاغنكنيشت (رويترز)

وضع الليبراليين مُقلق في استطلاعات الرأي

يحلّ حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف راهناً في المركز الثاني في استطلاعات الرأي للانتخابات الألمانية المقبلة، وتصل درجة التأييد له إلى 18 في

حصاد الأسبوع روبيو play-circle 01:45

ترمب يختار روبيو وزيراً للخارجية بعدما تأكد من ولائه وتبنّيه شعارات «ماغا»

بينما يراقب العالم السياسات الخارجية للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، التي ستتحدّد على أساس شعاره «جعل أميركا عظيمة مرة أخرى» (ماغا)، بادر ترمب إلى تشكيل.

إيلي يوسف (واشنطن)
حصاد الأسبوع مواقف روبيو غير قاطعة من حرب أوكرانيا (غيتي)

نظرة إلى سجلّ سياسات روبيو الخارجية

يعد نهج وزير الخارجية الأميركي المرشح ماركو روبيو في السياسة الخارجية بأنه «تدخلي» و«متشدد». ذلك أن روبيو دعم غزو العراق عام 2003، والتدخل العسكري في ليبيا،

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

الإعتبارات العسكرية والأمنية تتصدر المشهد في تونس

الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
TT

الإعتبارات العسكرية والأمنية تتصدر المشهد في تونس

الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)

ضاعف الرئيس التونسي قيس سعيّد فور أداء اليمين بمناسبة انتخابه لعهدة ثانية، الاهتمام بالملفات الأمنية والعسكرية الداخلية والخارجية والتحذير من «المخاطر والمؤامرات» و«المتآمرين» على أمن الدولة. كما كثف سعيّد لقاءاته بمسؤولي وزارتي الدفاع والداخلية وأعضاء مجلس الأمن القومي الذي يضم كذلك أكبر قيادات القوات المسلحة العسكرية والمدنية إلى جانب رئيسَي الحكومة والبرلمان ووزراء السيادة وكبار مستشاري القصر الرئاسي. وزاد الاهتمام بزيادة تفعيل دور القوات المسلحة و«تصدرها المشهد السياسي» بمناسبة مناقشة مشروع ميزانية الدولة للعام الجديد أمام البرلمان بعد تصريحات غير مسبوقة لوزير الدفاع الوطني السفير السابق خالد السهيلي عن «مخاطر» تهدد أمن البلاد الداخلي والخارجي.

تصريحات وزير الدفاع التونسي خالد السهيلي تزامنت مع تصريحات أخرى صدرت عن وزير الداخلية خالد النوري وعن وزير الدولة للأمن القاضي سفيان بالصادق وعن الرئيس قيس سعيّد شخصياً. وهي كلها حذّرت من مخاطر الإرهاب والتهريب والمتفجرات والهجرة غير النظامية، ونبّهت إلى وجود «محاولات للنيل من سيادة تونس على كامل ترابها الوطني ومياهها الإقليمية» وعن «خلافات» لم تُحسم بعد و«غموض» نسبي في العلاقات مع بعض دول المنطقة.

وهنا نشير إلى أن اللافت في هذه التصريحات والمواقف كونها تأتي مع بدء الولاية الرئاسية الثانية للرئيس قيس سعيّد، ومع مصادقة البرلمان على مشروع الحكومة لموازنة عام 2025... وسط تحذيرات من خطر أن تشهد تونس خلال العام أزمات أمنية وسياسية واقتصادية اجتماعية خطيرة.

أكثر من هذا، يتساءل البعض عن مبرّر إثارة القضايا الخلافية مع ليبيا، والمخاطر الأمنية من قِبل كبار المسؤولين عن القوات المسلحة، في مرحلة تعذّر فيها مجدداً عقد «القمة المغاربية المصغرة التونسية - الليبية - الجزائرية»... التي سبق أن تأجلت مرات عدة منذ شهر يوليو (تموز) الماضي.

كلام السهيلي... وزيارة سعيّد للجزائركلام السهيلي، وزير الدفاع، جاء أمام البرلمان بعد نحو أسبوع من زيارة الرئيس قيس سعيّد إلى الجزائر، وحضوره هناك الاستعراض العسكري الضخم الذي نُظّم بمناسبة الذكرى السبعين لانفجار الثورة الجزائرية المسلحة. وما قاله الوزير التونسي أن «الوضع الأمني في البلاد يستدعي البقاء على درجة من اليقظة والحذر»، وقوله أيضاً إن «المجهودات العسكرية الأمنية متضافرة للتصدّي للتهديدات الإرهابية وتعقّب العناصر المشبوهة في المناطق المعزولة». إلى جانب إشارته إلى أن تونس «لن تتنازل عن أي شبر من أرضها» مذكراً - في هذا الإطار - بملف الخلافات الحدودية مع ليبيا.

من جهة ثانية، مع أن الوزير السهيلي ذكر أن الوضع الأمني بالبلاد خلال هذا العام يتسم بـ«الهدوء الحذر»، فإنه أفاد في المقابل بأنه جرى تنفيذ 990 عملية في «المناطق المشبوهة» - على حد تعبيره - شارك فيها أكثر من 19 ألفاً و500 عسكري. وأنجز هؤلاء خلال العمليات تفكيك 62 لغماً يدوي الصنع، وأوقفوا آلاف المهرّبين والمهاجرين غير النظاميين قرب الحدود مع ليبيا والجزائر، وحجزوا أكبر من 365 ألف قرص من المخدرات.

بالتوازي، كشف وزير الدفاع لأول مرة عن تسخير الدولة ألفي عسكري لتأمين مواقع إنتاج المحروقات بعد سنوات من الاضطرابات وتعطيل الإنتاج والتصدير في المحافظات الصحراوية المتاخمة لليبيا والجزائر.

مهاجرون عبر الصحراء الكبرى باتجاه اوروبا عبر ليبيا وتونس (رويترز)

تفعيل دور «القوات المسلحة»

تصريحات الوزير السهيلي لقيت أصداء كبيرة، محلياً وخارجياً، في حين اعترض على جانب منها سياسيون وإعلاميون ليبيون بارزون.

بيد أن الأمر الأهم، وفق البشير الجويني، الخبير التونسي في العلاقات بين الدول المغاربية والدبلوماسي السابق لدى ليبيا، أنها تزامنت مع «تأجيل» انعقاد القمة المغاربية التونسية - الليبية - الجزائرية التي سبق الإعلان أنه تقرر تنظيمها في النصف الأول من الشهر الأول في ليبيا، وذلك في أعقاب تأخير موعدها غير مرة بسبب انشغال كل من الجزائر وتونس بالانتخابات الرئاسية، واستفحال الأزمات السياسية الأمنية والاقتصادية البنكية في ليبيا من جديد.

والحال، أن الجويني يربط بين هذه العوامل والخطوات الجديدة التي قام بها الرئيس سعيّد وفريقه في اتجاه «مزيد من تفعيل دور القوات المسلحة العسكرية والمدنية» وسلسلة اجتماعاته مع وزيري الداخلية والدفاع ومع وزير الدولة للأمن الوطني، فضلاً عن زياراته المتعاقبة لمقر وزارة الداخلية والإشراف على جلسات عمل مع كبار كوادرها ومع أعضاء «مجلس الأمن القومي» في قصر الرئاسة بقرطاج. وهنا تجدر الإشارة إلى أنه إذ يسند الدستور إلى رئيس الدولة صفة «القائد العام للقوات المسلحة»، فإن الرئيس سعيّد حمّل مراراً المؤسستين العسكرية والأمنية مسؤولية «التصدي للخطر الداهم» ولمحاولات «التآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي».

واعتبر سعيّد خلال زيارات عمل قام بها إلى مؤسسات عمومية موسومة بأنه «انتشر فيها الفساد» - بينها مؤسسات زراعية وخدماتية عملاقة - أن البلاد تواجه «متآمرين من الداخل والخارج» وأنها في مرحلة «كفاح جديد من أجل التحرر الوطني»، ومن ثم، أعلن إسناده إلى القوات المسلّحة مسؤولية تتبع المشتبه فيهم في قضايا «التآمر والفساد» والتحقيق معهم وإحالتهم على القضاء.

المسار نفسه اعتمده، في الواقع، عدد من الوزراء والمسؤولين الحكوميين التونسيين بينهم وزير الصحة والوزير المستشار السابق في قصر قرطاج الجنرال مصطفى الفرجاني، الذي أعلن بدوره عن إحالة مسؤولين متهمين بـ«شبهة الفساد» في قطاع الصحة على النيابة العمومية والوحدات الأمنية المركزية المكلّفة «الملفات السياسية والاقتصادية الخطيرة»، وبين هذه الملفات الإرهاب وسوء التصرّف المالي والإداري في أموال الدولة ومؤسساتها.

متغيرات في العلاقات مع ليبيا والجزائر وملفَي الإرهاب والهجرة

القمة المغاربية الأخيرة التي استضافتها الجزائر (لانا)

حملات غير مسبوقة

وفعلاً، كانت من أبرز نتائج «التفعيل الجديد» للدور الوطني للمؤسستين العسكرية والأمنية، وتصدّرهما المشهد السياسي الوطني التونسي، أن نظّمت النيابة العمومية وقوات الأمن والجيش حملات غير مسبوقة شملت «كبار الحيتان» في مجالات تهريب المخدرات والممنوعات، وتهريب عشرات آلاف المهاجرين من بلدان أفريقيا جنوب الصحراء سنوياً نحو تونس، عبر الحدود الليبية والجزائرية تمهيداً لترحيلهم بحراً نحو أوروبا عبر إيطاليا.

وحسب المعلومات التي ساقها كل من وزيري الدفاع والداخلية، وأيضاً رئاسة الحرس الوطني، تمكنت القوات العسكرية والأمنية لأول مرة من أن تحجز مئات الكيلوغرامات من الكوكايين إلى جانب «كميات هائلة من الحشيش» والأقراص المخدرة.

وفي الحصيلة، أدّت تلك العمليات إلى إيقاف عدد من كبار المهرّبين ومن رؤوس تجار المخدرات «بقرار رئاسي»، بعدما أثبتت دراسات وتقارير عدة أن مئات الآلاف من أطفال المدارس، وشباب الجامعات، وأبناء الأحياء الشعبية، تورّطوا في «الإدمان» والجريمة المنظمة. وجاء هذا الإنجاز بعد عقود من «تتبّع صغار المهرّبين والمستهلكين للمخدرات وغضّ الطرف عن كبار المافيات»، على حد تعبير الخبير الأمني والإعلامي علي الزرمديني في تصريح لـ«الشرق الأوسط».

تحرّكات أمنية عسكرية دوليةعلى صعيد آخر، جاء تصدّر القوات المسلحة العسكرية والأمنية التونسية المشهدين السياسي متلازماً زمنياً مع ترفيع التنسيقين الأمني والعسكري مع عواصم وتكتلات عسكرية دولية، بينها حلف شمال الأطلسي (ناتو) وقيادة القوات الأميركية في أفريقيا (أفريكوم). وما يُذكر هنا أنه في ظل عودة التوترات السياسية في ليبيا، وتفاقم الخلافات داخلها بين حلفاء روسيا وتركيا والعواصم الغربية، تزايدت الاهتمامات الأميركية والأوروبية والأطلسية بـ«ترفيع الشراكة الأمنية والعسكرية مع تونس».

أيضاً، ورغم الحملات الإعلامية الواسعة في تونس ضد الإدارة الأميركية وحلفائها منذ عملية «طوفان الأقصى»؛ بسبب انحيازها لإسرائيل ودعمها حكومة بنيامين نتنياهو، كثّفت واشنطن - عبر بعثاتها في المنطقة - دعمها التدريبات العسكرية والأمنية المشتركة مع قوات الجيش والأمن التونسية.

بل، لقد أعلن جوي هود، السفير الأميركي لدى تونس، عن برامج واسعة لترفيع دور «الشراكة» العسكرية والأمنية الأميركية - التونسية، وبخاصة في المحافظات التونسية الحدودية مع كل من ليبيا والجزائر، وأيضاً في ميناء بنزرت العسكري (شمال تونس) ومنطقة النفيضة (100 كلم جنوب شرقي العاصمة تونس).

وإضافة إلى ما سبق، أعلنت مصادر رسمية تونسية وأميركية عن مشاركة قوات تونسية ومغاربية أخيراً في مناورات عسكرية بحرية أميركية دولية نُظمت في سواحل تونس. وجاءت هذه المناورات بعد مشاركة الجيش التونسي، للعام الثالث على التوالي، في مناورات «الأسد الأفريقي» الدولية المتعددة الأطراف... التي نُظم جانب منها في تونس برعاية القوات الأميركية.

وحول هذا الأمر، أكد وزير الداخلية التونسي خالد النوري، قبل أيام في البرلمان، أن من بين أولويات وزارته عام 2025 «بناء أكاديمية الشرطة للعلوم الأمنية» في منطقة النفيضة من محافظة سوسة، وأخرى لحرس السواحل، وهذا فضلاً عن توسيع الكثير من الثكنات ومراكز الأمن والحرس الوطنيين وتهيئة مقر المدرسة الوطنية للحماية المدنية.

أبعاد التنسيقين الأمني والعسكري مع واشنطنوحقاً، أكد تصريح الوزير النوري ما سبق أن أعلن عنه السفير الأميركي هود عن «وجود فرصة لتصبح تونس ومؤسّساتها الأمنية والعسكرية نقطة تصدير للأمن وللتجارب الأمنية في أفريقيا وفي كامل المنطقة».

وفي هذا الكلام إشارة واضحة إلى أن بعض مؤسسات التدريب التي يدعمها «البنتاغون» (وزارة الدفاع الأميركية)، وحلفاء واشنطن في «ناتو»، معنية في وقت واحد بأن تكون تونس طرفاً في «شراكة أمنية عسكرية أكثر تطوراً» مع ليبيا وبلدان الساحل والصحراء الأفريقية والبلدان العربية.

وزير الداخلية خالد النوري نوّه أيضاً بكون جهود تطوير القدرات الأمنية لتونس «تتزامن مع بدء العهدتين الثانيتين للرئيس قيس سعيّد وأخيه الرئيس الجزائري عبد المجيد تبّون».

وفي السياق ذاته، نوّه عزوز باعلال، سفير الجزائر لدى تونس، بالشراكة الاقتصادية والأمنية والسياسية بين تونس والجزائر، وبنتائج زيارة الرئيس سعيّد الأخيرة للجزائر، وكذلك بجلسات العمل واللقاءات السبعة التي عقدها وزيرا خارجيتي البلدين محمد علي النفطي وأحمد عطّاف خلال الأسابيع القليلة الماضية في الجزائر وفي عواصم أخرى عدة.

حقائق

قضايا الحدود التونسية... شرقاً وغرباً

اقترن بدء الولاية الرئاسية الثانية التونسي للرئيس قيس سعيّد بتحرّكات قام بها مسؤولون كبار في الدولة إلى مؤسسات الأمن والجيش في المحافظات الحدودية، وبالأخص من جهة ليبيا، ضمن جهود مكافحة الإرهاب والتهريب والمخدرات.ومعلوم أنه زاد الاهتمام بالأبعاد الأمنية في علاقات تونس بجارتيها ليبيا والجزائر بعد إثارة وزير الدفاع خالد السهيلي أمام البرلمان ملف «رسم الحدود» الشرقية لتونس من قِبل «لجنة مشتركة» تونسية - ليبية. وكما سبق، كان الوزير السهيلي قد تطرّق إلى استغلال الأراضي الواقعة بين الحاجز الحدودي بين ليبيا وتونس، قائلاً إن «تونس لم ولن تسمح بالتفريط في أي شبر من الوطن». وفي حين رحّبت أطراف ليبية ومغاربية بهذا الإعلان، انتقده عدد من المسؤولين والخبراء الليبيين بقوة واعتبروا أن «ملف الخلافات الحدودية أغلق منذ مدة طويلة».ولكن، حسب تأكيدات مصادر مطلعة لـ«الشرق الأوسط»، فإن السلطات الليبية أعلنت عن تغيير موقع العلامة الحدودية الفاصلة بين ليبيا وتونس «جزئياً» في منطقة سانية الأحيمر، التي تتبع ليبيا. إذ أورد بيان مديرية أمن السهل الغربي في يوليو (تموز) 2022، أنها رصدت ضم سانية الأحيمر إلى الأراضي التونسية، من خلال وضع العلامة الدالة على الحدود بذلك المكان (شرق السانية) بمسافة تقدر بنحو 150 متراً شرقاً ونحو 6 كيلو جنوباً.‏ما يستحق الإشارة هنا أن اللجنة الخاصة بترسيم الحدود الليبية مع تونس، والمكلفة من قِبل وزارة الدفاع في حكومة طرابلس، كشفت عن وجود عملية «تحوير» للعلامة. لكن مصادر دبلوماسية من الجانبين أكدت أن هذه القضية، وغيرها من «الخلافات والمستجدات»، جارٍ بحثها على مستوى اللجنة المشتركة ومن قِبل المسؤولين السياسيين والديبلوماسيين «بهدوء».في أي حال، أعادت إثارة هذه القضية إلى الواجهة تصريحاً سابقاً قال فيه الرئيس سعيّد بشأن الحدود مع ليبيا: «إن تونس لم تحصل إلا على الفتات» بعد خلافها الحدودي البحري مع ليبيا في فترة سبعينات القرن الماضي.والحقيقة، أنه سبق أن شهدت علاقات تونس وليبيا في أوقات سابقة توترات محورها الحدود والمناطق الترابية المشتركة بينهما؛ وذلك بسبب خلافات حدودية برّية وبحرية تعود إلى مرحلة الاحتلالين الفرنسي لتونس والإيطالي لليبيا، ثم إلى «التغييرات» التي أدخلتها السلطات الفرنسية على حدود مستعمراتها في شمال أفريقيا خلال خمسينات القرن الماضي عشية توقيع اتفاقيات الاستقلال. وهكذا، بقيت بعض المناطق الصحراوية الحدودية بين تونس وكل من ليبيا والجزائر «مثار جدل» بسبب قلة وضوح الترسيم وتزايد الأهمية الاستراتيجية للمناطق الحدودية بعد اكتشاف حقول النفط والغاز.وعلى الرغم من توقيع سلطات تونس وليبيا والجزائر اتفاقيات عدة لضبط الحدود والتعاون الأمني، تضاعف الاضطرابات الأمنية والسياسية في المنطقة منذ عام 2011 بسبب اندلاع حروب جديدة «بالوكالة» داخل ليبيا ودول الساحل والصحراء، بعضها بين جيوش و«ميليشيات» تابعة لواشنطن وموسكو وباريس وأنقرة على مواقع جيو - استراتيجية شرقاً غرباً.مع هذا، وفي كل الأحوال، تشهد علاقات تونس وكل من ليبيا والجزائر مستجدات سريعة على المجالين الأمني والعسكري. وربما تتعقد الأوضاع أكثر في المناطق الحدودية بعدما أصبحت التوترات والخلافات تشمل ملفات أمنية دولية تتداخل فيها مصالح أطراف محلية وعالمية ذات «أجندات» مختلفة وحساباتها للسنوات الخمس المقبلة من الولاية الثانية للرئيسين سعيّد وعبد المجيد تبّون.