بول كاغامي... مُنقذ رواندا وقائد مسيرة تنميتها الاقتصادية

فاز بولاية رابعة وجعل من بلاده «سنغافورة أفريقيا»

بول كاغامي... مُنقذ رواندا وقائد مسيرة تنميتها الاقتصادية
TT

بول كاغامي... مُنقذ رواندا وقائد مسيرة تنميتها الاقتصادية

بول كاغامي... مُنقذ رواندا وقائد مسيرة تنميتها الاقتصادية

أعاد فوز بول كاغامي الكاسح بولاية رئاسية رابعة في رواندا، ذلك البلد الجبلي في قلب وسط أفريقيا، فتح «صندوق» شخصية أحد أطول القادة الأفارقة بقاءً في الحكم منذ عام 2000. ولقد حرص الرجل، في سيرته الذاتية بموقعه الإلكتروني، على التذكير بأنه «كان قائداً لقوات الجبهة الوطنية الرواندية»، ولقد قاد النضال لتحرير رواندا. ثم الإشارة إلى دور تلك «الجبهة» في وقف حرب الإبادة الجماعية ضد شعب التوتسي (الذي ينتمي إليه) في عام 1994. كذلك ركّز في سيرته الذاتية، بخلاف رئاسته لرواندا، على شغل منصب رئيس الاتحاد الأفريقي من عام 2018 إلى 2019، وترؤس مجموعة شرق أفريقيا من عام 2018 إلى عام 2021.

ميلاد رئيس

يوم 23 أكتوبر (تشرين الأول) عام 1957، ووسط صرخات تنادي باستقلال مستعمرة «رواندا – أوروندي» عن الاستعمار البلجيكي، تفتحت أعين كاغامي رضيعاً في بلدة تامبوي لعائلة من شعب التوتسي، الذي إن كان يشكل أقلية صغيرة في البلاد مقارنة مع غالبية الهوتو، فإنه تمتع طويلاً بالزعامة والسلطة.

ولم يصل كاغامي لعامه الثالث، إلا وشقّ الطريق لاجئاً مع أسرته إلى أوغندا تجنباً لفصول اضطهادٍ واجهت التوتسي، وكأن القدر يحمل في العام الخامس من عمر كاغامي بشائر تحريرية لموطنه الأصلي.

وفي عام 1962، كانت أجواء التحرّر والاستقلال والاضطهاد، التي عاشها الطفل كاغامي، وقومه التوتسي، مع موعد نيل «رواندا – أوروندي» الاستقلال عن الاستعمار البلجيكي، بل كتابة رواندا يومذاك الأحرف الأول من مسيرتها السيادية على إثر انفصالها عن «توأمها» بوروندي، التي تماثلها تماماً لجهة تركيبتها الديمغرافية القبلية، بوجود غالبية من الهوتو، وأقلية من التوتسي... الذين كانت لهم هنا أيضاً الموقع الأبرز والمكانة الأرفع.

ومرت سنوات، وكاغامي في أوغندا ينهي دراسته الابتدائية بتفوّق، ساهمت في صنعه المعاناة، داخل مخيم للاجئين بأوغندا. وبالفعل، أنجز من المنفى دراسته الثانوية والجامعية خلال عقد السبعينات من القرن الماضي، وسجّل خطوته الأولى لتحرير بلاده، حين كان أحد من وقع عليه اختيارات في الجيش الأوغندي للدراسة المتقدمة في «كلية القيادة والأركان العامة للجيش الأميركي» في فورت ليفنوورث بولاية كانساس الأميركية.

صُعود مُبكر

في سن الثانية والعشرين، فعّل بول كاغامي خطوته الأولى، وشكّل مع عدد من الشبان التوتسي الروانديين خلال أكتوبر عام 1979 أحد بواكير مكوّنات «جيش المقاومة الوطنية الأوغندي» بزعامة يوري موسيفيني، الذي كافأهم في ما بعد بتولي مناصب مهمة بالدولة عقب توليه حكم أوغندا عام 1986، ولا يزال موسيفيني حتى اليوم في السلطة ليغدو أحد أطول الرؤساء الأفارقة حكماً.

كاغامي وجد طريق الصعود السياسي مبكراً عقب تعيينه من جانب موسيفيني رئيساً للاستخبارات العسكرية الأوغندية، فور إعلان الأخير رئيساً لأوغندا. لكنه رغم ترسيخ وضعه لم ينس موطنه الأصلي، بل أسس مع أبناء وطنه من التوتسي الروانديين المنفيين «الجبهة الوطنية الرواندية» لخوض حرب ضد النظام السابق في رواندا، الذي اضطهد التوتسي. وبين هذا الصعود وتلك التحركات التحررية، تزوّج عام 1989 وهو في سن الـ32 من جانيت نييرامونجي، وهي من التوتسي أيضاً.

لقد كانت مطالب منع التمييز ضد التوتسي، بوصلة «الجبهة الوطنية الرواندية»، التي أسّسها كاغامي، والتي عززت نشاطها في أكتوبر عام 1990 وسط حرب أهلية قبلية بين شعبي التوتسي والهوتو على امتداد رواندا، قبل أن ترى تلك «الجبهة» كاغامي قائداً جديداً لها إثر إنهائه الصراعات على القيادة. ومن ثم، بين عامي 1991 و1993 قاد وفد «الجبهة» إلى مفاوضات السلام في أروشا بجمهورية تنزانيا لوقف تلك الحرب.

وعام 1994، إثر حملة تصفيات دموية وأجواء إبادة جماعية، طالت نحو 800 ألف شخص، معظمهم من التوتسي، بدأ التحول الدراماتيكي في صعود بول كاغامي نحو السلطة في رواندا، خصوصاً بعدما استغل تلك الإبادة لحشد التعاطف الإقليمي والدولي. وبالفعل، سرَّعت وحشية مجارز الإبادة وتيرة هجمات «الجبهة» التي سيطر عناصرها على العاصمة كيغالي في يونيو (حزيران) عام 1994، وتمكن بدعم دول أفريقية، أبرزها أوغندا الذي يرأسها موسيفيني «الأب الروحي» لكاغامي، بعد شهر، من السيطرة على البلاد برمتها.

بعدها، شُكّلت «حكومة وحدة وطنية» لقيادة رواندا، برئاسة باستور بيزيمونغو. وأُسند إلى كاغامي (كان يومذاك في الـ37 من عمره) منصب نائب الرئيس ورئيس الأمن الداخلي. وبعد أقل من 6 سنوات، بدأ فصل جديد في حياته السياسية، مع تزكية البرلمان له بتولي رئاسة رواندا خلال مارس (آذار) عام 2000، ومنذ ذلك الحين احتفظ بالحكم.

مسيرة التنميةتزكية البرلمان جاءت في الواقع بعد إطاحة كاغامي عام 2000 بحكم بيزيمونغو، وإحالته إلى المحاكمة بتهمة «الفساد ومخالفة توجه المصالحة الوطنية القاضي بنبذ آيديولوجيا التفرقة العرقية»، قبل أن يحُكم على الرئيس المخلوع بالسجن لمدة 15 سنة.

ومن هذه النقطة، باشر كاغامي بناء الدولة من جديد، وقاد الجهود الهادفة إلى سنّ دستور جديد لتجاوز «جرائم الإبادة، وحظر الإشارات العرقية»، وركّز على التنمية ودعم الاقتصاد. وفي عام 2003، أبصر دستور رواندا الجديد (دستور 2003) النور، وسمح له بفترة ولاية مدتها 7 سنوات، وفي العام ذاته، أعيد انتخابه بالاقتراع العام المباشر بنسبة 95 في المائة من الأصوات.

في هذه الأثناء، وجدت رواندا نفسها على موعد مع تحول لافت في ثرواتها الاقتصادية، وخصوصاً مع وضع «رؤية رواندا عام 2020»، التي كانت تتضمن تصوراً لمعدل نمو سنوي نسبته على الأقل 7 في المائة. وبعد 6 سنوات فقط، عام 2006 سجّلت رواندا معدل نمو اقتصادي بنسبة 8 في المائة، وحافظت بالمتوسط على هذا المعدل ليغدو اقتصادها أحد أسرع الاقتصادات نمواً في أفريقيا.

ومع هذا التقدم الاقتصادي اللافت، ضمن كاغامي إعادة انتخابه عام 2010 بنسبة 93 في المائة من الأصوات، وقبيل انتهاء فترة رئاسته، قاد البلاد لاستفتاء عام 2015، ما سمح له بالترشح لأكثر من 3 فترات، بعدما كان «دستور 2003» يمنح الرئيس فترة ولاية مدتها 7 سنوات قابلة للتجديد، لكن لمرة واحدة. وفي المقابل، قلّص التعديل الجديد فترة الرئاسة من 7 إلى 5 سنوات، مع الإبقاء على الحد الحالي، وهو تولّي الرئاسة لولايتين، بيد أنه سمح باستثناء كاغامي، الذي يمكنه أن يسعى لفترة ولاية أخرى، مدتها 7 سنوات، ثم الترشح لفترتين، مدة كل منهما 5 سنوات.

الولاية الثالثة

وحقاً، ترشح كاغامي لولاية ثالثة، وحقّق في أغسطس (آب) 2017 فوزاً كاسحاً بنسبة 98.8 في المائة من الأصوات في انتخابات الرئاسة، وحصل على ولاية رئاسية جديدة تمتد 7 سنوات أخرى، انتهت في يوليو (تموز) 2024، وباتت أمامه ولايتان، مدة كل منهما 5 سنوات، وهو ما يمكّنه من البقاء في منصبه حتى عام 2034. أما على الصعيدين الاقتصادي والتنموي، فقد ارتفعت مكاسب رواندا إبّان عهد كاغامي من قطاع السياحة من 2.4 في المائة عام 1998 إلى 12.7 في المائة عام 2017، وارتفعت صادرات رواندا من المعادن، إذ بلغت عام 2017 نحو 373 مليون دولار أميركي، مقارنة بـ 166 مليون دولار في السنة السابقة.

أيضاً سجلت رواندا نمواً قوياً بلغ 7.2 في المائة في المتوسط بين عامي 2012 و2022 بفضل التطوير في البنى التحتية، ولا سيما الطرق والمستشفيات، والتقدّم في مجالي التعليم والصحة. ووفق تقديرات «صندوق النقد الدولي» في مارس (آذار) عام 2024، واصل اقتصاد رواندا نموه القوي في عام 2023، في حين تباطأ التضخم بشكل حاد، نتيجة تركيز السلطات على حماية استقرار الاقتصاد الكلي والاستقرار الخارجي من خلال إعادة بناء احتياطيات السياسات في أعقاب الصدمات المركبة، بما في ذلك الفيضانات المدمّرة.

في المقابل، مع ظهور أصوات معارضة ناشدت كاغامي بالامتناع عن الترشح وتشجيع تداول السلطة، «خشية العودة لفترة الاقتتال العرقي»، أعرب الرئيس عن نيته «مغادرة السلطة واختيار خليفة له»، متعهداً بأن «خطة الخلافة تناقش بنشاط داخل الحزب الحاكم». ووصف تقاعده بأنه «حتمي»، مكرراً ما قاله في أواخر 2022، من أنه لا مشكلة لديه في أن يصبح «مسنّاً عادياً».

وختاماً، نشير إلى أنه ليس أمام كاغامي - الذي يقترب الآن من سن الـ67 - غير احتمال الترشح لفترة رئاسية جديدة وأخيرة، ستكون في 2029، تنتهي حال نجاحه في 2034. ومعها وخلالها ترتفع وتهبط أسهم التساؤلات بين احتمال اختتام الرئيس الرواندي سيرته «بطلاً متقاعداً» في أذهان الروانديين، أو حدوث مفاجآت أخرى قد تكون فصل النهاية لحياته السياسية.


مقالات ذات صلة

عضلات نتنياهو انتفخت... والنتيجة مخيفة

حصاد الأسبوع تشييع إسماعيل هنية في طهران قبل مراسم دفنه في قطر (الشرق الأوسط)

عضلات نتنياهو انتفخت... والنتيجة مخيفة

في البيت الأبيض أرشيفات سوداء مليئة بالقصص عن تبجّح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على القادة الأميركيين، وأشهرها ما قاله عنه الرئيس الأسبق باراك أوباما قبل نحو عشر سنوات؛ إذ تساءل: «مَن هنا يمثل الدولة العظمى؟». إلا أن جون بايدن، وإن شاطر أوباما في مقت نتنياهو، يتصرف بطريقة مختلفة. إنه يساير. يدلل. وحتى عندما يمارس عليه الضغوط تكون تلك ضغوطاً ناعمة. ويجد نفسه عالقاً في مطبات ومكائد وورطات حربية ووُحُول... فلا يضطر فقط إلى استقباله في البيت الأبيض بعد طول تمنع، ولا يقبل «ببلع ضفدع» وصوله إلى واشنطن تلبية لدعوة من الكونغرس - رغم معارضة الحزب الديمقراطي - بل يصبح شريكاً له، عن رضا أو عن إرغام، في أعمال كثيرة يدفع فيها البشر ثمناً باهظاً وتهدد بحرب لا يريدها أحد. واليوم، الخطر كبير فعلاً... خطر أن تكون الحرب واسعة جداً، ولا يكون بمقدور «الأخ الأكبر» في واشنطن منعها أو تطويقها. مقرّبون من نتنياهو، يقولون إنه «وضع بايدن والإدارة الأميركية كلها تحت إبطه» وطوّعها لصالح سياسة اليمين الإسرائيلي. ويضيفون: «مَن حاول في واشنطن رسم خريطة طريق للإطاحة بالحكومة الإسرائيلية وتنشئة بيني غانتس ليكون رئيس حكومة يطيح نتنياهو، وجد نفسه يسير وراءه. ولكن هذا في خدمة الولايات المتحدة وليس ضدها. فنتنياهو يقود بنجاح أهم معركة ضد الإرهاب في تاريخ الشرق الأوسط». ويؤكد المعجبون بنتنياهو أن هذا هو شعوره هو أيضاً. فهو يعتقد بأن الله حبا الشعب اليهودي وأيضاً الولايات المتحدة بقائد تاريخي سيحدث انعطافاً حاداً في المنطقة لخدمة «العالم الحر» والمعتدلين في الشرق الأوسط. وهو لا يقول هذا الكلام للسيدة سارة أو للمرآة في بيته، بل أيضاً يجاهر به أمام كثير ممّن يلتقيهم هذه الأيام، في واشنطن وفي إسرائيل.

نظير مجلي (القدس)
حصاد الأسبوع مادورو... يحتفل بانتصاره (رويترز)

انتخابات فنزويلا...الفتنة الدامية أو نهاية الثورة البوليفارية

توجّه الفنزويليون الأحد الماضي إلى صناديق الاقتراع في انتخابات رئاسية واشتراعية، كان إجراؤها محور مفاوضات طويلة ومتعثرة بين النظام والمعارضة وأطراف إقليمية ودولية؛ وذلك لوضع البلاد على مسار الخروج من أتون صراع سياسي مديد ومعقد تسبّب في أزمة اقتصادية طاحنة وضائقة معيشية خانقة دفعت بأكثر من ربع سكان البلد، الذي يملك أكبر احتياطي للنفط في العالم، إلى سلوك طرق المنافي القريبة والبعيدة. النظام اليساري لعب جميع أوراقه لتأجيل موعد الانتخابات غير مرة، وحاول زرع التفرقة في صفوف المعارضة التي، لأول مرة منذ عقود، توافقت جميع أطيافها حول مرشحة واحدة. وعندما شعر النظام بأن حظوظ تجديد ولاية رئيسه نيكولاس مادورو بدأت تتراجع، دفع بالمحكمة الانتخابية إلى اتخاذ قرار بنزع أهليتها للترشيح، ثم بنزع أهلية المرشحة التي اختارتها بديلة عنها قبل أن تعود المعارضة لاختيار مرشح آخر هو الدبلوماسي المتقاعد إدموندو غونزاليس. لكن الذين ظنّوا أن هذه الانتخابات، التي كانت معظم الاستطلاعات ترجّح فوز المعارضة فيها بفارق كبير، ستفتح الباب أمام مادورو وقيادات النظام للخروج من الحكم بعد ربع قرن من نجاح الثورة التي قادها هوغو تشافيز، أدركوا سريعاً مدى سذاجة الاعتقاد بأن ملايين الأصوات ستكون كافية لكي يقبل مادورو ومناصروه بالتخلي عن الحكم عندما تكون ثرواتهم وحريتهم، وحياة الكثير منهم، مرهونة بخروجهم من السلطة.

شوقي الريّس (مدريد)
حصاد الأسبوع كمالا هاريس... أمام الأختبار السياسي الأكبر (رويترز)

اختيار هاريس قد لا يكفي لتجنيب الديمقراطيين الهزيمة

هل نجح انسحاب الرئيس الأميركي جو بايدن من سباق الرئاسة في تجنيب الديمقراطيين هزيمة... كانت تتجمع نُذُرها حتى من قبل «مناظرته الكارثية» مع منافسه الجمهوري

حصاد الأسبوع ديفيد لامي

ديفيد لامي... وجه الدبلوماسية البريطانية الجديد يواجه قضايا عالمية شائكة

انتهت 14 سنة من حكم حزب المحافظين باتجاه بريطانيا يساراً مع تحقيق حزب العمال تحت زعامة السير كير ستارمر فوزاً ساحقاً منحه غالبية ضخمة بلغت 172 مقعداً. وفي حين توقف المحللون طويلاً عند حقيقة أن هذا الفوز الساحق لم يأت نتيجة زيادة كبرى في نسبة التأييد عما حصل عليه العمال في الانتخابات السابقة قبل 4 سنوات، بل بسبب انهيار الأحزاب والقوى المنافسة للحزب في عموم المناطق البريطانية التي كان يسعى إلى كسبها. وحقاً أدى تحدّي حزب الإصلاح الانعزالي اليميني المناوئ للهجرة وللتكامل الأوروبي إلى قضمه نسبة عالية وقاتلة من أصوات المحافظين ما أدى إلى انهيارهم في معاقلهم التقليدية. كذلك انهار الحزب القومي الأسكوتلندي في أسكوتلندا، وكانت الحصيلة إعادة العمال هيمنتهم عليها. ومن جهة ثانية، بينما كانت القضايا الداخلية - والاقتصادية بالذات - في اهتمامات الناخبين، فإن أنظار المتابعين الدوليين اتجهت إلى معالم السياسة الخارجية للحكومة العمالية الجديدة، أما الوجه الجديد الذي سيقود الدبلوماسية البريطانية للسنوات القليلة المقبلة فهو وزير الخارجية الجديد ديفيد لامي.

«الشرق الأوسط» (لندن)
حصاد الأسبوع جيريمي كوربن (رويترز)

سنوات المحافظين الـ14 الأخيرة غيّرت الكثير في بريطانيا

> شهدت السنوات الـ14 الأخيرة تغيّرات مهمة على مشهد الساحة السياسية البريطانية أثّرت في كيميائها داخلياً وبدلت الكثير من الأولويات والمقاربات لمعظم القضايا .


روسيا وأوكرانيا في صميم هموم البرلمان الأوروبي الأكثر يمينية

من لقاء أوربان - بوتين في موسكو (رويترز)
من لقاء أوربان - بوتين في موسكو (رويترز)
TT

روسيا وأوكرانيا في صميم هموم البرلمان الأوروبي الأكثر يمينية

من لقاء أوربان - بوتين في موسكو (رويترز)
من لقاء أوربان - بوتين في موسكو (رويترز)

مطلع الشهر الماضي ذهب الأوروبيون إلى صناديق الاقتراع لتجديد عضوية البرلمان الأوروبي، فيما أجمعت الآراء على وصفها بأنها أهمّ انتخابات في تاريخ الاتحاد، الذي منذ أكثر من سنتين تشتعل حرب على تخومه وتهدد باتساع دائرتها وإيقاظ أشباح الماضي الذي قام المشروع الأوروبي بهدف وأده، وهذا بينما تتنامى داخل حدوده القوى التي منذ ثمانية عقود أفرزت أقسى الحروب التي شهدتها القارة في الأزمنة الحديثة. ولقد جاءت النتائج لتؤكد الصعود المطّرد للموجة اليمينية المتطرفة التي كانت قد أمسكت بزمام الحكم منذ سنتين في إحدى الدول الأعضاء الكبرى المؤسسة، إيطاليا، وأصبحت قاب قوسين من الوصول إلى سدّة الرئاسة الفرنسية... فيما بدت جذورها راسخة في العديد من البلدان الأعضاء الأخرى. ولكن، على الرغم من الصاعقة التي ضربت الصرح السياسي الفرنسي، ظل صعود هذه الموجة دون منسوب الطوفان الذي كانت تنذر به الاستطلاعات ويهدد - وفقاً لأفضل الاحتمالات - بجنوح المركب الأوروبي عن مساره التأسيسي. أمام هذا المشهد المعقد، كان القرار الأول الذي اتخذه البرلمان الجديد في جلسته الافتتاحية يوم الثلاثاء الفائت بعد انتخاب رئيسة له، تأكيد الدعم لأوكرانيا وترسيخ الانقسام الحاد بين الكتل السياسية الذي لم يشهد له مثيلاً منذ تأسيسه في عام 1979.

صور بارديلا مرفوعة خلال حملة الانتخابات الفرنسية (إيبا/شاترستوك)

يتّسم البرلمان الأوروبي الجديد الذي افتتح ولايته الاشتراعية العاشرة هذا الأسبوع في العاصمة البلجيكية بروكسل بكونه الأكثر تشرذماً، على صعيد الكتل التي تشكلت داخله بعد انتخابات التاسع من الشهر الماضي، والأكثر جنوحاً نحو اليمين. إذ أصبح أكثر من نصف أعضائه ينضوون تحت الرايات اليمينية المحافظة واليمينية المتطرفة. بيد أن عجز القوى المتطرفة عن الانصهار ضمن كتلة واحدة، أدّى إلى تشكيل 8 كتل سياسية، للمرة الأولى منذ عشرين سنة، تتصدرها كتلة الحزب الشعبي الأوروبي الذي يضمّ 26 في المائة من الأعضاء. وحقاً، ينذر هذا التشرذم بولاية يتخلّلها المزيد من النقاش الحاد، يصعب فيها التوازن عند الاستحقاقات الحسّاسة ويتعذّر الاتفاق، ذلك أن القوى المعتدلة التي كانت تشكل مجتمعة 70 في المائة من أعضاء البرلمان الأول عام 1979، ما عادت تمثّل اليوم أكثر من 45 في المائة فقط.

أهمية الاستقرار السياسي

تعدّ هذه الولاية على جانب كبير من الأهمية بالنسبة للاستقرار السياسي داخل الاتحاد، خاصةً بعد صعود اليمين المتطرف والزلزال الذي نجم عن الانتخابات الأخيرة في فرنسا، حيث لا يزال المخاض مستمراً لتشكيل حكومة جديدة. وفي حين تجهد القوى المعتدلة للتأكيد بأنها تمكّنت من صدّ الموجة اليمينية المتطرفة - مع خشية كثيرين من أن تكون هذه آخر فرصة لقطع الطريق أمام الانقلاب السياسي الكبير - تكثّف هذه القوى مساعيها لفرض حظر على التعامل مع بعض القوى اليمينية المتطرفة التي تصنّفها قريبة من روسيا، وتعمل على منعها من تولّي مناصب حساسة في المؤسسات الأوروبية.

كتلة الحزب الشعبي الأوروبي تضم اليوم في البرلمان الجديد 188 عضواً، تليها كتلة الحزب الاشتراكي التي تتكوّن من 136 عضواً لا يتجاوزون نسبة 20 في المائة من المجموع للمرة الأولى منذ انطلاق البرلمان. وتأتي في المرتبة الثالثة كتلة «وطنيون من أجل أوروبا» اليمينية المتطرفة بـ84 عضواً، التي يقودها رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان وزعيمة «التجمّع الوطني» الفرنسي مارين لوبان، ثم تأتي في المرتبة الرابعة الكتلة اليمينية الأخرى التي تتزعمها رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني وتضمّ 87 عضواً تحت شعار «المحافظون والديمقراطيون من أجل أوروبا»... التي فشلت حتى الآن كل محاولات ضمّها إلى كتلة الحزب الشعبي الأوروبي. أما الكتلة الأخيرة التي تتجاوز بقليل 10 في المائة من مجموع أعضاء البرلمان، فهي الكتلة الليبرالية الوسطية، التي كانت أكبر الخاسرين في الانتخابات الأخيرة بعدما فقدت المرتبة الثالثة التي كانت تحتلها عادةً بين الكتل السياسية في البرلمان الأوروبي.

"تشكّك أوساط برلمانية أوروبية في قدرة الكتلة اليمينية المتطرفة الجديدة على التأثير داخل البرلمان"

البرلمان الأكثر جنوحاً نحو اليمين

بذلك يكون هذا البرلمان الجديد الأكثر جنوحاً نحو اليمين في تاريخ الاتحاد الأوروبي. ويبقى الذكور يشكلون فيه أكثرية الأعضاء (60 في المائة)، مع أن بعض البلدان، مثل قبرص، لم تنتخب أي رجل للبرلمان الجديد، بينما تشكّل النساء ثلث الأعضاء المنتخبين في كلٍ من ألمانيا وإيطاليا.

من ناحية أخرى، كان التطور اللافت والمفاجئ في المعسكر اليميني المتطرف نجاح رئيس الوزراء المجري أوربان في لمّ شمل القوى اليمينية المتطرفة القريبة من موسكو ضمن كتلة برلمانية جديدة «وطنيون من أجل أوروبا». ولقد قامت هذه الكتلة على أنقاض كتلة «الهوية والديمقراطية»، وتضمّ كلاً من الحزب الليبرالي النمساوي و«التحالف المدني» الذي يقوده رئيس الوزراء التشيكي السابق أندريه بابيس، إلى جانب حزب «فوكس» الإسباني، وحزب «الرابطة» الإيطالي بزعامة ماتّيو سالفيني، واليمين الهولندي المتطرف، وحزب «التجمع الوطني» الفرنسي بزعامة مارين لوبان.

ويعود الفضل في تشكيل هذه الكتلة الجديدة، التي تعمّدت تهميش رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، إلى أوربان وحلفائه في أوروبا الشرقية. ويهدف هذا التجمع الجديد إلى التأثير في سياسات البرلمان الأوروبي وعرقلة مشروع الاندماج الذي يتجه نحو توسعة جديدة للاتحاد تشمل دول البلقان وبعض بلدان القوقاز، إلى جانب أوكرانيا.

رئيس الحكومة الإيطالية جورجيا ميلوني (رويترز)

دور فيكتور أوربان

وتأتي هذه الخطوة أيضاً، وسط تزايد القلق بين الشركاء الأوروبيين من الدور الذي يلعبه فيكتور أوربان في الرئاسة الدورية لمجلس الاتحاد، وجولاته على كييف وموسكو وبكين في «مهمة سلام» لم تكلفه بها الدول الأعضاء التي وجهت إليه انتقادات شديدة واتهمته بخدمة مصالح الكرملين، وبدأت أخيراً بمقاطعة الاجتماعات الوزارية التي تنظمها الرئاسة المجرية.

هذا، وكان «التجمّع الوطني» الفرنسي الذي تقوده لوبان، والذي يشكّل القوة الرئيسية في هذه الكتلة الجديدة بعد حصوله على 30 مقعداً في انتخابات الشهر الماضي، قد تريّث في الإعلان عن انضمامه إلى الكتلة في انتظار نتائج الدورة الثانية من الانتخابات الاشتراعية الفرنسية التي كان يأمل أن يحصل فيها على الغالبية المطلقة ويكلّف نجمه الصاعد الشاب جوردان بارديلا تشكيل الحكومة الجديدة. إلا أنه بعد ظهور النتائج النهائية للانتخابات الفرنسية وتراجع «التجمع الوطني» إلى المرتبة الثالثة، صرّح بارديلا - الذي كان قد انتُخب عضواً في البرلمان الأوروبي – بـ«أن أعضاء (التجمع الوطني) في البرلمان الأوروبي الجديد سيلعبون دورهم كاملاً ضمن كتلة كبيرة سيكون لها تأثير واضح على موازين السلطة ومعادلاتها في أوروبا». وتعهّد بارديلا، بالتالي، مواصلة العمل من أجل «منع إغراق بلدان الاتحاد بالمهاجرين، ورفض السياسات البيئية المتطرفة، ومصادرة السيادة الوطنية».

وما يُذكر أنه على الرغم من تغيّب بارديلا عن الاجتماع التأسيسي للكتلة الجديدة، فإنه انتُخب رئيساً لها بالإجماع، يعاونه ستة نواب للرئيس، تبرز من بينهم المجرية كينغا غال كنائبة أولى.

تشكيك بإمكانية توحيد اليمين

في أي حال، تشكّك أوساط برلمانية أوروبية في قدرة هذه الكتلة اليمينية المتطرفة الجديدة على التأثير داخل البرلمان الجديد، وتستبعد نجاحها في العمل بتوجيهات موحدة في ضوء اختلاف مصالحها وأهدافها الخاصة. وكانت الكتلة السابقة «الهوية والديمقراطية»، التي قامت على أنقاضها الكتلة الجديدة، وكان ينتمي إليها حزب «البديل من أجل ألمانيا» - الذي طُرد منها بسبب التصريحات النازية لزعيمه - دائماً معزولة من القوى البرلمانية الأخرى، بما فيها الكتلة التي تتزعمها ميلوني. وهنا نشير إلى أنه رغم الانسجام العريض بين مواقف ميلوني ومواقف أوربان من معظم الملفات الأوروبية، فإن الزعيمين يختلفان بوضوح حول الحرب الدائرة في أوكرانيا؛ إذ تصطف ميلوني ضمن الموقف الرسمي للاتحاد، بعكس حليفها اللدود في الائتلاف الحكومي الذي ينافسها على زعامة المعسكر اليميني المتطرف في إيطاليا، زعيم حزب «الرابطة» ماتيو سالفيني.

جدير بالذكر، أن البرلمان الأوروبي الجديد انتخب في جلسته الافتتاحية يوم الثلاثاء الماضي المالطية روبرتا متسولا، من الحزب الشعبي، رئيسة لنصف الولاية الاشتراعية حتى مطلع عام 2027. ونالت متسولا، التي كانت ترأس البرلمان السابق منذ وفاة الإيطالي دافيد ساسولي، 562 صوتاً من أصل 720، وهذا رقم قياسي لم يحصل عليه أي من الرؤساء السابقين؛ الأمر الذي يدلّ على أنها حصلت أيضاً على تأييد عدد من نواب اليمين المتطرف بجانب تأييد الكتلتين الكبريين اللتين تتوافقان عادة على توزيع المناصب القيادية في مؤسسات الاتحاد.

ولقد قالت متسولا في كلمتها قبل البدء بالاقتراع السري: «أدعوكم إلى التمسك والالتزام بمبادئنا وقيمنا التأسيسية، والدفاع عن سيادة القانون، وعن الإنسانية في الشرق الأوسط ورفض اجتياح أوكرانيا». وشددت، كما فعلت عند انتخابها للمرة الأولى، على إعطاء البرلمان الأوروبي صلاحية اقتراح التشريعات المقصورة حالياً على المفوضية.