مع انتصاف ليل الأحد الفائت كانت قد انقضت ست ساعات على إقفال آخر صناديق الاقتراع في العاصمة الفنزويلية كاراكاس عندما أعلن المجلس الوطني الانتخابي فوز الرئيس اليساري نيكولاس مادورو بولاية رئاسية ثالثة إثر حصوله على 51 في المائة من الأصوات مقابل 44 في المائة نالها مرشح المعارضة الموحدة إدموندو غونزاليس. وجاء في بيان الهيئة الانتخابية، التي يسيطر عليها الحزب الحاكم، أن النتيجة باتت بحكم النهائية بعد فرز 80 في المائة من الأصوات، وأن نسبة المشاركة في التصويت بلغت 59 في المائة.
المعارضة ترفض النتيجة
بعد صدور بيان الهيئة الانتخابية سارعت المعارضة التي تقودها ماريا كارينا، التي كانت المحكمة الانتخابية قد نزعت عنها أهلية الترشح، إلى رفض النتيجة التي وصفتها بأنها «انتهاك صارخ للحقيقة». وشددت على إدانتها «التلاعب بالفرز»، بينما راحت عواصم إقليمية وأوروبية تطالب بالكشف عن مضابط جميع أقلام الاقتراع للتحقق من النتائج. وحقاً، طلب وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن «نشر نتائج التصويت مفصلة مع السندات الثبوتية أمام المراقبين الدوليين»، وفي حين شكّك الرئيس التشيلي (اليساري) غابرييل بوريتش بصدقية النتائج الرسمية، قائلاً: «على نظام مادورو أن يعرف بأنه من الصعب جداً تصديق النتائج التي أعلن عنها»، أكّد أن تشيلي لن تعترف بها ما لم يجرِ التحقّق منها على يد جهات مستقلة ومحايدة.
ما يُذكر أنه قبل صدور بيان المجلس الانتخابي الذي أعلن فوز مادورو قبل نهاية عملية الفرز، كانت المعارضة اليمينية والليبرالية الفنزويلية قد شكت من أن الهيئة الانتخابية لم تطلعها سوى على 30 في المائة من المضابط بعدما توقفت عمليتا طبعها وتوزيعها. وأفاد مراقبون بأنه مع ظهور النتائج الأولى كان القلق قد بلغ ذروته في أوساط النظام، وراحت قيادات رسمية تدلي بتصريحات توحي بفوز مادورو مع أن عملية الفرز كانت لا تزال في بداياتها.
ومنذ فجر الاثنين بدأت بلدان أميركية لاتينية عدة، بينها البيرو والأوروغواي وكوستاريكا، تعرب عن شكها بشفافية النتائج، في حين كانت برقيات التهنئة تتوالى من كوبا ونيكاراغوا وبوليفيا وهوندوراس. لكن اثنتين من الدول الوازنة في المنطقة، البرازيل والمكسيك، اللتان تربط حكومتيها علاقات جيدة مع نظام مادورو، التزمتا الصمت لساعات طويلة، مع أن وزير الخارجية البرازيلي سلسو اموريم كان ضمن فريق المراقبين الدوليين الذين أشرفوا ميدانياً على سير الانتخابات وعمليات الفرز. كذلك كان الرئيس البرازيلي لويس إيغناسيو لولا قد أعرب منذ أيام عن أنه «شعر بالخوف من التصريحات التي صدرت عن مادورو وقال فيها إن فنزويلا ستشهد حمام دم في حال فوز المعارضة»، وحثّ الرئيس الفنزويلي على احترام العملية الانتخابية والرحيل في حال الخسارة.
وبينما صدر بيان عن لويس موريّو، وزير خارجية كولومبيا المجاورة لفنزويلا - والتي تربطها بها علاقات تاريخية واقتصادية واجتماعية وثيقة - طالب بتدقيق مستقل في نتائج الانتخابات، أعربت كوبا عن تهنئتها بلسان وزير خارجيتها برونو رودريغيز، الذي قال: «لا بد من احترام إرادة الشعب الفنزويلي».
وخارج أميركا اللاتينية، طالب الممثل الأعلى للسياسة الخارجية الأوروبية، جوزيب بورّيل، من جهته السلطات الفنزويلية «بأقصى درجات الشفافية في عملية الفرز»، داعياً إلى «احترام إرادة الناخبين» بالكشف عن مضابط جميع أقلام الاقتراع.
تحية لتشافيز في ذكرى ولادته الـ70
وبعد الإعلان عن النتائج صباح الاثنين توجّه مادورو من القصر الحكومي إلى «ثكنة الجبل»، حيث ضريح الرئيس الراحل هوغو تشافيز للاحتفال بذكرى مولده في اليوم نفسه الذي أجريت فيه الانتخابات، وقال: «هذا الفوز هو تكريم لقائدنا في ذكرى ميلاده السبعين». لكن زعيمة المعارضة مارينا كورينا، كانت تواصل التأكيد: «نحن من فاز في الانتخابات، والكل يعرف ذلك... الفوز كان كاسحاً في جميع الولايات، والبيانات التي في حوزتنا تبيّن بما لا يترك مجالاً للشك أن غونزاليس نال 70 في المائة من الأصوات مقابل 30 في المائة لمادورو». وأردفت أن المعارضة «على أتمّ الاستعداد للدفاع عن الحقيقة؛ لأن ما حصل ليس مجرد تزوير آخر، بل هو انتهاك صارخ للإرادة الشعبية».
في أي حال، بعد تطوّرات اليوم الأول بعد الإعلان عن نتيجة الانتخابات، ظلت الأمور محصورة ضمن الإطار السياسي. إذ تراوحت بين تأكيد المعارضة على فوز مرشحها وتنديدها بالتلاعب بعملية الفرز وتزوير النتائج، ومطالبة عواصم إقليمية ودولية بإعادة الفرز تحت إشراف مراقبين محايدين، واستدعاء سفراء عدد من الدول الأميركية اللاتينية بعدما دعت «منظمة البلدان الأميركية» مادورو إلى الاعتراف بهزيمته أو الدعوة لإجراء انتخابات جديدة، في موقف انتقده الرئيس المكسيكي أندريس مانويل لوبيز أوبرادور. لكن، لاحقاً، دخلت الأزمة مرحلة جديدة على وقع الاحتجاجات الشعبية التي عمّت جميع أنحاء البلاد وتخللتها أعمال عنف وصدامات بين المتظاهرين والقوى الأمنية أوقعت حتى الآن أكثر من 15 قتيلاً ومئات الجرحى.
غضب شعبي... وتطورات متسارعة
وبينما كان الغضب الشعبي يجتاح المدن الفنزويلية، حيث أسقط المتظاهرون تماثيل للرئيس السابق هوغو تشافيز وبتروا رأس أحدها وجرّوه في الشوارع، كان الرئيس الأميركي جو بايدن يجري اتصالاً مطولاً مع نظيره البرازيلي لولا حول الوضع في فنزويلا. ولقد وصفه بيان صدر لاحقاً عن البيت الأبيض بأنه يشكّل «لحظة حرجة جداً بالنسبة للديمقراطية والاستقرار في شبه القارة». ثم اتفق الطرفان الأميركي والبرازيلي على مواصلة التنسيق الوثيق حول الوضع الفنزويلي مع الجهات الإقليمية والدولية. غير أن البيرو ذهبت أبعد؛ إذ اعترفت بمرشح المعارضة غونزاليس رئيساً جديداً لفنزويلا، وعرضت كوستاريكا اللجوء السياسي لمرشح المعارضة ولزعيمتها كورينا، بعد الدعوات التي صدرت عن قيادات في النظام الفنزويلي لاعتقالهما وإحالتهما إلى المحاكمة بتهمة التحريض على أعمال العنف وزعزعة السلم الأهلي.
كذلك، تزامنت إدانة «منظمة البلدان الأميركية» مع إعلان «مركز كارتر»، - الذي سمحت له الحكومة الفنزويلية بمراقبة العملية الانتخابية - عجزه عن التحقق من نتائج الانتخابات التي قال إنها «افتقدت أدنى درجات الشفافية». واعتبر لويس ألماغرو، الأمين العام لـ«المنظمة» أن إصرار مادورو على رفض الاعتراف بهزيمته «يترك أمامه مخرجاً واحداً من الأزمة هو الدعوة لإجراء انتخابات جديدة بإشراف مراقبين من الاتحاد الأوروبي و(منظمة البلدان الأميركية) وهيئة انتخابية جديدة مستقلة».
ومنذ صباح الأربعاء، تسارعت التطورات بشكل يبعث على القلق والخوف من صدامات دامية بين الأجهزة الأمنية والمحتجين، لا سيما بعد إعلان وزير الدفاع فلاديمير بادرينو «تأييد القوات المسلحة بلا شرط لمادورو»، وتحذيره من أن الجيش «سيتصرف بحزم من أجل صون السلم الداخلي في البلاد». في المقابل، أمام إصرار مادورو على موقفه أعلن لناطق بلسان البيت الأبيض «أن صبر واشنطن والأسرة الدولية بدأ ينفد»، وتابع القول إن مرشح المعارضة إدموندو غونزاليس «فاز بفارق ملايين الأصوات على مادورو المنتهية ولايته»، وتزامن هذا الموقف من واشنطن، مع حض زعيمة المعارضة اليمينية أنصارها على مواصلة التحرك للضغط على النظام من أجل إجباره على التراجع وتسليم السلطة لمرشحها، وتشديدها على أنها لن تلجأ إلى أي بلد وستواصل النضال بجانب مؤيديها.
أخيراً، مع تصاعد الضغوط الإقليمية والدولية، بما في ذلك من حكومات يسارية كحكومات البرازيل وكولومبيا وتشيلي والمكسيك، ردّ مادورو بقوله أمام صحافيين إنه جاهز لتقديم جميع سجلات التصويت، والتجاوب مع استدعائه للتحقيق من لدن الهيئة الانتخابية حول كل ما يتعلق بعملية الفرز. لكن مراقبين في العاصمة الفنزويلية يستبعدون تراجع مادورو عن موقفه بعدما ضمن تأييد الجيش؛ لأنه يدرك جيداً مدى أهمية هذه الانتخابات بالنسبة لاستمرارية «الثورة البوليفارية» التي أطلقها هوغو تشافيز منذ 25 سنة، وأيضاً بالنسبة لمستقبله السياسي ومصيره القانوني. دخلت الأزمة مرحلة جديدة على وقع الاحتجاجات الشعبية التي عمّت
جميع أنحاء البلاد
مادورو... جدار الثورة الأخير
> عندما قام الضابط الفنزويلي هوغو تشافيز بمحاولته الانقلابية ضد حكم الاشتراكي المعتدل كارلوس أندريس بيريز يوم 3 فبراير (شباط) 1992، وانتهت بفشلها سريعاً بعد وقوع عشرات القتلى في محيط القصر الرئاسي، كان نيكولاس مادورو في الثلاثين من عمره ويعمل سائقاً لإحدى قاطرات مترو العاصمة الفنزويلية كاراكاس. بعد تلك المحاولة دخل تشافيز السجن، حيث كان يمضي وقته بمطالعة أعمال وسيرة بطل التحرير الأميركي اللاتيني سيمون بوليفار، ويجري «محاورات» وهمية مع تمثال صغير له صُنع من الجبس الأبيض، كما يروي كاتب سيرته. تلك كانت بذرة «الأسطورة» التي نمت مع خروج تشافيز من السجن نتيجة عفو رئاسي بعد سنتين من اعتقاله، ثم تأسيسه «حزب الجمهورية الخامسة» وفوزه في الانتخابات الرئاسية عام 1998. أما مادورو، فمنذ وصوله إلى الحكم في انتخابات عام 2013، حاول الارتقاء بمسيرته إلى مستوى تشافيز الذي كان بلغ من الشهرة و«الكاريزما» ما جعله أقرب الزعماء إلى ملهمه الراحل فيدل كاسترو. وللعلم، كان تشافيز يزور كاسترو في هافانا عشرات المرات كل سنة، ويضخّ في عروق الثورة الكوبية المترهلة الملايين من عائدات النفط بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. بيد أن المقارنة بين تشافيز ومادورو كانت مستحيلة منذ بدايتها رغم المحاولات الكثيرة التي بذلها الأخير منذ وصوله إلى الحكم للمرة الأولى عام 2013. إذ تلقى مادورو علومه الابتدائية والثانوية عند الراهبات، ونشأ في عائلة من الطبقة المتوسطة، حيث كان والده ناشطاً يسارياً في حزب «العصبة الاشتراكية»، الذي انضمّ إليه نيكولاس لاحقاً، قبل أن يسافر إلى كوبا ويلتحق بمعهد إعداد الكوادر السياسية اليسارية في هافانا الذي أسسه فيدل كاسترو. وبعد عودته إلى كاراكاس انخرط مادورو في الحركة التي كان أسسها تشافيز بمساعدة مستشارين كوبيين. ومن ثم ساهم إلى جانب طارق صعب وآخرين في تنظيم الحملة التي أثمرت في نهايتها الحصول على عفو رئاسي للإفراج عن هوغو تشافيز بعد اعتقاله إثر محاولة الانقلاب الفاشلة. شغل مادورو مناصب عدة في كنف زعامة تشافيز، فكان نائباً ثم رئيساً للبرلمان، ووزيراً للخارجية، ونائباً لرئيس الجمهورية ورئيساً للحزب الاشتراكي الموحّد.
وفي عام 2012 عندما كان تشافير في آخر مراحل المرض الذي قضى عليه دعا أنصاره إلى تأييد مادورو في الانتخابات الرئاسية المقررة في العام التالي. وفعلاً، يوم 14 أبريل (نيسان) 2013 انتُخب مادورو رئيساً للجمهورية، ثم أعيد انتخابه عام 2018 في انتخابات لم تشارك فيها المعارضة ورفضت دول كثيرة الاعتراف بشرعيتها، على غرار ما حصل مع نتائج انتخابات الأحد الماضي التي قد تكون إما «رصاصة الرحمة» في جسم الثورة البوليفارية، أو شرارة أزمة دامية كما حذّر مادورو قبل أيام في حال فوز المعارضة.