روسيا وأوكرانيا في صميم هموم البرلمان الأوروبي الأكثر يمينية

تصرّفات الزعيم المجري أوربان تفاقم التجاذبات بين الكتل وفي داخلها

من لقاء أوربان - بوتين في موسكو (رويترز)
من لقاء أوربان - بوتين في موسكو (رويترز)
TT

روسيا وأوكرانيا في صميم هموم البرلمان الأوروبي الأكثر يمينية

من لقاء أوربان - بوتين في موسكو (رويترز)
من لقاء أوربان - بوتين في موسكو (رويترز)

مطلع الشهر الماضي ذهب الأوروبيون إلى صناديق الاقتراع لتجديد عضوية البرلمان الأوروبي، فيما أجمعت الآراء على وصفها بأنها أهمّ انتخابات في تاريخ الاتحاد، الذي منذ أكثر من سنتين تشتعل حرب على تخومه وتهدد باتساع دائرتها وإيقاظ أشباح الماضي الذي قام المشروع الأوروبي بهدف وأده، وهذا بينما تتنامى داخل حدوده القوى التي منذ ثمانية عقود أفرزت أقسى الحروب التي شهدتها القارة في الأزمنة الحديثة. ولقد جاءت النتائج لتؤكد الصعود المطّرد للموجة اليمينية المتطرفة التي كانت قد أمسكت بزمام الحكم منذ سنتين في إحدى الدول الأعضاء الكبرى المؤسسة، إيطاليا، وأصبحت قاب قوسين من الوصول إلى سدّة الرئاسة الفرنسية... فيما بدت جذورها راسخة في العديد من البلدان الأعضاء الأخرى. ولكن، على الرغم من الصاعقة التي ضربت الصرح السياسي الفرنسي، ظل صعود هذه الموجة دون منسوب الطوفان الذي كانت تنذر به الاستطلاعات ويهدد - وفقاً لأفضل الاحتمالات - بجنوح المركب الأوروبي عن مساره التأسيسي. أمام هذا المشهد المعقد، كان القرار الأول الذي اتخذه البرلمان الجديد في جلسته الافتتاحية يوم الثلاثاء الفائت بعد انتخاب رئيسة له، تأكيد الدعم لأوكرانيا وترسيخ الانقسام الحاد بين الكتل السياسية الذي لم يشهد له مثيلاً منذ تأسيسه في عام 1979.

صور بارديلا مرفوعة خلال حملة الانتخابات الفرنسية (إيبا/شاترستوك)

يتّسم البرلمان الأوروبي الجديد الذي افتتح ولايته الاشتراعية العاشرة هذا الأسبوع في العاصمة البلجيكية بروكسل بكونه الأكثر تشرذماً، على صعيد الكتل التي تشكلت داخله بعد انتخابات التاسع من الشهر الماضي، والأكثر جنوحاً نحو اليمين. إذ أصبح أكثر من نصف أعضائه ينضوون تحت الرايات اليمينية المحافظة واليمينية المتطرفة. بيد أن عجز القوى المتطرفة عن الانصهار ضمن كتلة واحدة، أدّى إلى تشكيل 8 كتل سياسية، للمرة الأولى منذ عشرين سنة، تتصدرها كتلة الحزب الشعبي الأوروبي الذي يضمّ 26 في المائة من الأعضاء. وحقاً، ينذر هذا التشرذم بولاية يتخلّلها المزيد من النقاش الحاد، يصعب فيها التوازن عند الاستحقاقات الحسّاسة ويتعذّر الاتفاق، ذلك أن القوى المعتدلة التي كانت تشكل مجتمعة 70 في المائة من أعضاء البرلمان الأول عام 1979، ما عادت تمثّل اليوم أكثر من 45 في المائة فقط.

أهمية الاستقرار السياسي

تعدّ هذه الولاية على جانب كبير من الأهمية بالنسبة للاستقرار السياسي داخل الاتحاد، خاصةً بعد صعود اليمين المتطرف والزلزال الذي نجم عن الانتخابات الأخيرة في فرنسا، حيث لا يزال المخاض مستمراً لتشكيل حكومة جديدة. وفي حين تجهد القوى المعتدلة للتأكيد بأنها تمكّنت من صدّ الموجة اليمينية المتطرفة - مع خشية كثيرين من أن تكون هذه آخر فرصة لقطع الطريق أمام الانقلاب السياسي الكبير - تكثّف هذه القوى مساعيها لفرض حظر على التعامل مع بعض القوى اليمينية المتطرفة التي تصنّفها قريبة من روسيا، وتعمل على منعها من تولّي مناصب حساسة في المؤسسات الأوروبية.

كتلة الحزب الشعبي الأوروبي تضم اليوم في البرلمان الجديد 188 عضواً، تليها كتلة الحزب الاشتراكي التي تتكوّن من 136 عضواً لا يتجاوزون نسبة 20 في المائة من المجموع للمرة الأولى منذ انطلاق البرلمان. وتأتي في المرتبة الثالثة كتلة «وطنيون من أجل أوروبا» اليمينية المتطرفة بـ84 عضواً، التي يقودها رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان وزعيمة «التجمّع الوطني» الفرنسي مارين لوبان، ثم تأتي في المرتبة الرابعة الكتلة اليمينية الأخرى التي تتزعمها رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني وتضمّ 87 عضواً تحت شعار «المحافظون والديمقراطيون من أجل أوروبا»... التي فشلت حتى الآن كل محاولات ضمّها إلى كتلة الحزب الشعبي الأوروبي. أما الكتلة الأخيرة التي تتجاوز بقليل 10 في المائة من مجموع أعضاء البرلمان، فهي الكتلة الليبرالية الوسطية، التي كانت أكبر الخاسرين في الانتخابات الأخيرة بعدما فقدت المرتبة الثالثة التي كانت تحتلها عادةً بين الكتل السياسية في البرلمان الأوروبي.

"تشكّك أوساط برلمانية أوروبية في قدرة الكتلة اليمينية المتطرفة الجديدة على التأثير داخل البرلمان"

البرلمان الأكثر جنوحاً نحو اليمين

بذلك يكون هذا البرلمان الجديد الأكثر جنوحاً نحو اليمين في تاريخ الاتحاد الأوروبي. ويبقى الذكور يشكلون فيه أكثرية الأعضاء (60 في المائة)، مع أن بعض البلدان، مثل قبرص، لم تنتخب أي رجل للبرلمان الجديد، بينما تشكّل النساء ثلث الأعضاء المنتخبين في كلٍ من ألمانيا وإيطاليا.

من ناحية أخرى، كان التطور اللافت والمفاجئ في المعسكر اليميني المتطرف نجاح رئيس الوزراء المجري أوربان في لمّ شمل القوى اليمينية المتطرفة القريبة من موسكو ضمن كتلة برلمانية جديدة «وطنيون من أجل أوروبا». ولقد قامت هذه الكتلة على أنقاض كتلة «الهوية والديمقراطية»، وتضمّ كلاً من الحزب الليبرالي النمساوي و«التحالف المدني» الذي يقوده رئيس الوزراء التشيكي السابق أندريه بابيس، إلى جانب حزب «فوكس» الإسباني، وحزب «الرابطة» الإيطالي بزعامة ماتّيو سالفيني، واليمين الهولندي المتطرف، وحزب «التجمع الوطني» الفرنسي بزعامة مارين لوبان.

ويعود الفضل في تشكيل هذه الكتلة الجديدة، التي تعمّدت تهميش رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، إلى أوربان وحلفائه في أوروبا الشرقية. ويهدف هذا التجمع الجديد إلى التأثير في سياسات البرلمان الأوروبي وعرقلة مشروع الاندماج الذي يتجه نحو توسعة جديدة للاتحاد تشمل دول البلقان وبعض بلدان القوقاز، إلى جانب أوكرانيا.

رئيس الحكومة الإيطالية جورجيا ميلوني (رويترز)

دور فيكتور أوربان

وتأتي هذه الخطوة أيضاً، وسط تزايد القلق بين الشركاء الأوروبيين من الدور الذي يلعبه فيكتور أوربان في الرئاسة الدورية لمجلس الاتحاد، وجولاته على كييف وموسكو وبكين في «مهمة سلام» لم تكلفه بها الدول الأعضاء التي وجهت إليه انتقادات شديدة واتهمته بخدمة مصالح الكرملين، وبدأت أخيراً بمقاطعة الاجتماعات الوزارية التي تنظمها الرئاسة المجرية.

هذا، وكان «التجمّع الوطني» الفرنسي الذي تقوده لوبان، والذي يشكّل القوة الرئيسية في هذه الكتلة الجديدة بعد حصوله على 30 مقعداً في انتخابات الشهر الماضي، قد تريّث في الإعلان عن انضمامه إلى الكتلة في انتظار نتائج الدورة الثانية من الانتخابات الاشتراعية الفرنسية التي كان يأمل أن يحصل فيها على الغالبية المطلقة ويكلّف نجمه الصاعد الشاب جوردان بارديلا تشكيل الحكومة الجديدة. إلا أنه بعد ظهور النتائج النهائية للانتخابات الفرنسية وتراجع «التجمع الوطني» إلى المرتبة الثالثة، صرّح بارديلا - الذي كان قد انتُخب عضواً في البرلمان الأوروبي – بـ«أن أعضاء (التجمع الوطني) في البرلمان الأوروبي الجديد سيلعبون دورهم كاملاً ضمن كتلة كبيرة سيكون لها تأثير واضح على موازين السلطة ومعادلاتها في أوروبا». وتعهّد بارديلا، بالتالي، مواصلة العمل من أجل «منع إغراق بلدان الاتحاد بالمهاجرين، ورفض السياسات البيئية المتطرفة، ومصادرة السيادة الوطنية».

وما يُذكر أنه على الرغم من تغيّب بارديلا عن الاجتماع التأسيسي للكتلة الجديدة، فإنه انتُخب رئيساً لها بالإجماع، يعاونه ستة نواب للرئيس، تبرز من بينهم المجرية كينغا غال كنائبة أولى.

تشكيك بإمكانية توحيد اليمين

في أي حال، تشكّك أوساط برلمانية أوروبية في قدرة هذه الكتلة اليمينية المتطرفة الجديدة على التأثير داخل البرلمان الجديد، وتستبعد نجاحها في العمل بتوجيهات موحدة في ضوء اختلاف مصالحها وأهدافها الخاصة. وكانت الكتلة السابقة «الهوية والديمقراطية»، التي قامت على أنقاضها الكتلة الجديدة، وكان ينتمي إليها حزب «البديل من أجل ألمانيا» - الذي طُرد منها بسبب التصريحات النازية لزعيمه - دائماً معزولة من القوى البرلمانية الأخرى، بما فيها الكتلة التي تتزعمها ميلوني. وهنا نشير إلى أنه رغم الانسجام العريض بين مواقف ميلوني ومواقف أوربان من معظم الملفات الأوروبية، فإن الزعيمين يختلفان بوضوح حول الحرب الدائرة في أوكرانيا؛ إذ تصطف ميلوني ضمن الموقف الرسمي للاتحاد، بعكس حليفها اللدود في الائتلاف الحكومي الذي ينافسها على زعامة المعسكر اليميني المتطرف في إيطاليا، زعيم حزب «الرابطة» ماتيو سالفيني.

جدير بالذكر، أن البرلمان الأوروبي الجديد انتخب في جلسته الافتتاحية يوم الثلاثاء الماضي المالطية روبرتا متسولا، من الحزب الشعبي، رئيسة لنصف الولاية الاشتراعية حتى مطلع عام 2027. ونالت متسولا، التي كانت ترأس البرلمان السابق منذ وفاة الإيطالي دافيد ساسولي، 562 صوتاً من أصل 720، وهذا رقم قياسي لم يحصل عليه أي من الرؤساء السابقين؛ الأمر الذي يدلّ على أنها حصلت أيضاً على تأييد عدد من نواب اليمين المتطرف بجانب تأييد الكتلتين الكبريين اللتين تتوافقان عادة على توزيع المناصب القيادية في مؤسسات الاتحاد.

ولقد قالت متسولا في كلمتها قبل البدء بالاقتراع السري: «أدعوكم إلى التمسك والالتزام بمبادئنا وقيمنا التأسيسية، والدفاع عن سيادة القانون، وعن الإنسانية في الشرق الأوسط ورفض اجتياح أوكرانيا». وشددت، كما فعلت عند انتخابها للمرة الأولى، على إعطاء البرلمان الأوروبي صلاحية اقتراح التشريعات المقصورة حالياً على المفوضية.


مقالات ذات صلة

ترمب اختار فانس للدفع بـ«الترمبية» قدماً... وتغيير هوية حزب ريغان

حصاد الأسبوع أكثر ما يثير قلق الخائفين على إرث «الريغانية» من فانس مواقفه في السياسة الخارجية

ترمب اختار فانس للدفع بـ«الترمبية» قدماً... وتغيير هوية حزب ريغان

لسنوات عدة، كان الحزب الجمهوري الأميركي يمرّ بتغيير جذري، حيث يتبنى بشكل متزايد الشعبوية الاقتصادية في الداخل والانعزالية في الخارج، ويغيّر مواقفه في العديد من

إيلي يوسف (واشنطن)
حصاد الأسبوع الرئيس ترمب وزوجته ميلانيا وجي دي فانس وزوجته أوشا خلال مؤتمر الحزب الجمهوري في ميلووكي (أ.ف.ب)

«حزب ترمب الجمهوري»... جديد الأولويات ومتعدد الأعراق

> أورين كاس، المستشار الاقتصادي السابق لحملة المرشح الجمهوري الرئاسي السابق السيناتور ميت رومني الرئاسية، توقّع في سنوات سابقة «نشوء تيار محافظ متعدّد الأعراق

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
حصاد الأسبوع صورة لداخل مجلس النواب الأردني (الديوان الملكي)

الأردن على طريق الانتخابات النيابية المقبلة

يتوجه الأردنيون في العاشر من سبتمبر (أيلول) المقبل لاختيار مجلسهم النيابي العشرين، الذي خصص من مقاعده 41 مقعداً للأحزاب من أصل 138 مقعداً، في تجربة هي الأولى من

محمد خير الرواشدة (عمّان)
حصاد الأسبوع ميلونشون يحيي مناصريه اليساريين (آ ف ب /غيتي)

«صراع الأضداد» في فرنسا يحمى وطيسه

فرنسا غارقة اليوم في أزمة سياسية - مؤسساتية لم تعرف مثيلاً لها منذ ستينات القرن الماضي التي أفضت وقتها وتحديداً يوم 28 أبريل (نيسان) 1969 إلى استقالة رئيس الجمهورية، الجنرال شارل ديغول، مؤسس «الجمهورية الخامسة» الذي كان في السلطة في عامه الحادي عشر. وما بين ذلك التاريخ واليوم، تَعاقب على السلطة سبعة رؤساء: جورج بومبيدو وفاليري جيسكار ديستان وفرنسوا ميتران وجاك شيراك ونيكولا ساركوزي وفرنسوا ميتران والرئيس الحالي إيمانويل ماكرون الذي انتُخب لولاية أولى ربيع عام 2017. وخلال هذه العهود، استقر في قصر الأليزيه رؤساء من اليمين ومن اليسار وعرفت فرنسا ثلاث مراحل مما يسمى «التعايش» أو «المساكنة» بين رئيس للجمهورية ينتمي إلى معسكر سياسي ورئيس حكومة من معسكر آخر.

حصاد الأسبوع بدر عبد العاطي... «مهندس العلاقات الأوروبية» يترأس «الخارجية المصرية»

بدر عبد العاطي... «مهندس العلاقات الأوروبية» يترأس «الخارجية المصرية»

تسلّم الدبلوماسي المخضرم الدكتور بدر عبد العاطي مهام عمله وزيراً للخارجيّة والهجرة وشؤون المصريين بالخارج، ضمن حكومة الدكتور مصطفى مدبولي الجديدة.

فتحية الدخاخني (القاهرة)

انتخابات منغوليا وانعكاساتها مع «جاريها العملاقين»... الصين وروسيا

 رئيس الوزراء المنغولي في لقاء آخر مع الرئيس الصيني شي جينبينغ (تشينخوا)
رئيس الوزراء المنغولي في لقاء آخر مع الرئيس الصيني شي جينبينغ (تشينخوا)
TT

انتخابات منغوليا وانعكاساتها مع «جاريها العملاقين»... الصين وروسيا

 رئيس الوزراء المنغولي في لقاء آخر مع الرئيس الصيني شي جينبينغ (تشينخوا)
رئيس الوزراء المنغولي في لقاء آخر مع الرئيس الصيني شي جينبينغ (تشينخوا)

كان الفساد القضية الأبرز في الانتخابات المنغولية، ولقد سبق أن شهدت العاصمة أولان باتار احتجاجات كبيرة في ديسمبر (كانون الأول) 2022؛ إثر الكشف عن فساد وصفقات جانبية في شركة مملوكة للدولة تزوّد العملاء الصناعيين الصينيين بالفحم.

للعلم، السياسة في منغوليا تجري في إطار ديمقراطية تمثيلية شبه رئاسية متعددة الأحزاب. إذ تضطلع الحكومة بالسلطة التنفيذية التي يرأسها رئيس الوزراء، أما رئيس الجمهورية فهو رأس الدولة، لكنه يملك سلطة محدودة على السلطة التنفيذية للحكومة، كحال معظم الديمقراطيات في معظم أوروبا. وبينما السلطة التشريعية تتمثّل بالبرلمان، تستقل السلطة القضائية بعملها عن السلطتين التنفيذية والتشريعية.

السياسة الخارجية منذ إنشاء الدولة المنغولية الحديثة كانت سياستها الخارجية في الغالب تمليها العلاقات الدبلوماسية بين «جاريها العملاقين» الاتحاد السوفياتي والصين. وإبان الانقسام العقائدي بين موسكو وبكين، من الستينات إلى أواخر الثمانينات، اختارت منغوليا جانب موسكو ضد بكين، وكانت الحليف الأكثر موثوقية لدى الاتحاد السوفياتي في آسيا.

وفي ورقة بحثية بعنوان «أفضل صديق للسوفيات في آسيا: البُعد المنغولي للانقسام الصيني السوفياتي (2003)»، كتب المؤرخ الروسي البريطاني سيرغي رادتشينكو: «اتخذ المنغوليون إزاء بكين موقفاً عميقاً ومتجذراً من اللاثقة، مربوطاً بالإرث الاستعماري للصين في منغوليا والتاريخ الطويل للمواجهة الصينية المنغولية». لكن العلاقات الثنائية شهدت دفئاً خلال ثمانينات القرن الماضي، واليوم أصبحت الصين أكبر شريك تجاري لمنغوليا.

أما الكاتب الصحافي الهندي فيناكات أنانث فيقول «منغوليا كانت على مدى السنوات الثلاثين الماضية ناجحة إلى حد ما في اعتماد سياسة خارجية مستقلة تتحرك عبر تأثيرات الجارتين روسيا والصين. وفي الوقت نفسه، أبقت أيضاً على شراكات ثنائية استراتيجية مع روسيا والصين، للحفاظ على علاقات ودية ومتوازنة وتجنّب استفزاز جيرانها الأقوياء. واليوم تعود أهميتها المتزايدة - سيما في نظر الصين وروسيا - إلى الموارد الطبيعية التي تمتلكها. وبالفعل، زادت الضغوط المتزايدة التي مارستها الصين بعد الحرب الروسية الأوكرانية، ورغبتها في تنويع شركائها الاقتصاديين من أهمية منغوليا».العلاقات الروسية المنغوليةطوال القرن العشرين، كان النفوذ الروسي والسوفياتي على منغوليا عاملاً مهيمناً على تنميتها الوطنية، وسط تنافس الصينيين والروس على السيطرة على الأراضي الحدودية المنغولية. وما يذكر أن منغوليا غدت أول دولة شيوعية في آسيا، وثاني دولة شيوعية في العالم بعد روسيا، إثر استقلالها عن الصين عام 1921 بمساعدة روسيا وتشكيل حكومة شعبية عام 1924 تحت اسم «جمهورية منغوليا الشعبية». وعلى الأثر صارت منغوليا حليفاً وثيقاً لموسكو.

ولكن، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991 ونهاية «الحرب الباردة»، فجأة تراجع النفوذ السوفياتي. ولاحقاً، خرجت أولان باتار على الخط التقليدي المتمثل في الاعتماد على الروس في بناء علاقات مع الصين، أقله في المجال الاقتصادي والتجاري. وكان الأمر كذلك، لأنه في السنوات الأولى من فترة ما بعد الاتحاد السوفياتي، وقعت روسيا في أزمات سياسية واقتصادية عميقة جعلتها منشغلة بإصلاح مشاكلها.زيارة بوتينشاراد سوني، الأستاذ في جامعة «جواهر لال نهرو» في العاصمة الهندية نيودلهي، والخبير في الشؤون المنغولية، يرى أن «الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اتخذ مواقف إيجابية تجاه منغوليا في السنوات الأخيرة، وأدرك كلا البلدين أن التعاون القائم على حسن الجوار بينهما ضروري لإبعاد الصينيين عن ممارسة أي دور مهيمن في منغوليا. وبدأت ممارسة إحياء العلاقات بين الجانبين عملياً عندما زار بوتين منغوليا عام 2000، وكانت الزيارة الأولى لزعيم روسي منذ زيارة الرئيس ليونيد بريجينيف عام 1974. وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي، طغت الديون الضخمة التي كانت مستحقة لروسيا على منغوليا من الحقبة السوفياتية على العلاقات الاقتصادية والتجارية الثنائية لمنغوليا إلى حد ما. وألغت الحكومة الروسية 98 في المائة من هذه الديون، التي كانت تُقدر قيمتها في السابق بـ11 مليار دولار أميركي». وتابع سوني «يمكن تصوّر التقارب في العلاقات الروسية المنغولية من حقيقة أن منغوليا قد أحجمت مراراً وتكراراً عن إدانة الهجوم الروسي على أوكرانيا».العلاقات مع الصين

في المقابل، وسط الوضع الحالي للعلاقات الصينية الروسية أضعف إلى حد كبير الدور الذي تلعبه أولان باتار في السياسات الأمنية للصين وروسيا، مع أن الصين لا تزال تعتبر منغوليا دولة ذات أهمية جيوسياسية. فالحدود البرّية الصينية المنغولية هي الأطول بالنسبة للصين. وعليه، فالحفاظ على علاقات ثنائية طيبة يُعد قضية أساسية تتعلّق بالأمن والاستقرار في شمال الصين، خصوصاً شينجيانغ (سنكيانغ) ومنغوليا الداخلية، بجانب مقاطعات شمال شرقي الصين.

جدير بالذكر أنه في عام 1946 بعد استقلال منغوليا عن الصين، اعترفت القيادة الصينية بمنغوليا، وبادلتها أولان باتار عام 1949.

ثم إن منغوليا والصين وقّعتا «معاهدة الصداقة والمساعدة المتبادلة» عام 1960، وأعاد البلدان ترسيم الحدود الطويلة بينهما ودياً. لكن النزاع الآيديولوجي بين موسكو وبكين أدى إلى توتر علاقات منغوليا مع الصين. وتصاعدت حدة التوتر خلال السبعينات. واتهمت منغوليا الصين بالسعي لضم أراضيها، وردت الصين، خلال احتفالاتها بالذكرى السنوية الثمانمائة لتأسيسها، بانتقاد السوفيات على «احتلال» منغوليا عبر نشرهم قوات ومعدات عسكرية هناك.

في أبريل (نيسان) 1978 دعت بكين إلى الانسحاب السوفياتي من منغوليا، وسرعان ما زار رئيس الوزراء المنغولي يومجاغين تسيدينبال وحدة من الجيش السوفياتي المتمركزة في منغوليا؛ «لشكرها على حماية البلاد من التهديد الصيني». وباشرت منغوليا، في أوائل عام 1979، بطرد المهاجرين الصينيين متهمة إياهم بممارسة «مؤامرات توسعية»؛ ما أدى إلى تفاقم العلاقات بين البلدين. ولم تخف حدة التوتر بشكل كبير إلا منتصف الثمانينات عندما اتخذ القادة السوفيات والمنغوليون خطوات لتطبيع العلاقات مع الصين. فعلاً عادت العلاقات الدبلوماسية بين منغوليا والصين عام 1986.تطوّرات السنوات الأخيرةعزّزت منغوليا والصين علاقاتهما خلال السنوات الأخيرة عبر مبادرات مختلفة. وتعمل الدولتان اليوم في مشاريع منها خط أنابيب الطاقة «سيبيريا 2»، ومشاريع أخرى لتوليد الطاقة والإنتاج الصناعي وتنمية «الطاقة الخضراء».

وحقاً بين 1990 و2019، استثمرت الصين ما مجموعه 5.4 مليار دولار في منغوليا، وهو ما يمثّل 19 في المائة من إجمالي الاستثمارات الأجنبية المباشرة في منغوليا، مع أن التعاون المتزايد يجلب معه عدداً من الصعوبات.

وبين أكثر القضايا حساسية بين الجانبين اعتراف أولان باتار بالدالاي لاما وغيره من القادة البوذيين التيبتيين. وكانت سلطة بكين قد تأثرت عندما أعلن القادة الدينيون في منغوليا رسمياً إعادة تجسيد «جيبتسوندامبا خوتوغتو العاشر»، وهو رأس البوذية التيبتية في منغوليا؛ الأمر الذي هدّد بزجّ منغوليا بشكل أعمق في اللعبة السياسية بين الصين والدالاي لاما. وكانت بكين حذرت أولان باتار من عواقب وخيمة إذا ما اقترب «جيبتسوندامبا خوتوغتو» الجديد من الدالاي لاما.

وهنا يوضح السفير الهندي السابق موهان لال تريفيدي، الذي خدم في منغوليا، أن «زيارات الدالاي لاما إلى منغوليا كانت دائماً مصدر ضغط على العلاقات مع الصين، خاصة أن بكين وأولان باتار تنظران إليه من زاويتين مختلفتين. فالدين السائد في منغوليا شكل من أشكال البوذية ذي صلة بالبوذية التيبتية، بينما تعتبر بكين الدالاي لاما مصدر تهديد انفصالي. وبالفعل فرضت بكين رسوماً جمركية على الصادرات المنغولية (90 في المائة منها موجهة إلى الصين) إبان الزيارة الأخيرة للدالاي لاما عام 2016، ولم تُوجه له أي دعوة للزيارة منذ ذلك الحين...».

هذا، وتكافح منغوليا لتسديد ديونها، ولقد مددت اتفاقية تبادل العملات مع الصين حتى عام 2025. أما الرصيد المتبقي من هذه المبادلة فهو 15 مليار يوان (2 مليار دولار أميركي). ثم إن اقتصاد منغوليا لا يزال يعتمد بشكل مفرط على الأسواق والاستثمارات والبنية التحتية الصينية. وتحتفظ الصين بنسبة 91.5 في المائة من إجمالي صادرات منغوليا، وجاءت نسبة 62.3 في المائة من إجمالي عائدات التصدير من صادرات الفحم وحدها. وفي الأمد القريب، ستواجه منغوليا صعوبات في اجتذاب المستثمرين الأجانب، نظراً لضعفها أمام الصدمات الجيوسياسية، والأعباء التنظيمية المرتفعة، والبنية التحتية المتخلفة.سياسة «الجار الثالث»في المقابل، على الرغم من التحديات السياسية والاقتصادية، أظهرت منغوليا مرونة حافظت معها على سياسة خارجية مستقلة، وتغلّبت على التأثيرات الخارجية من القوى الكبرى كالصين وروسيا، مع تعزيزها العلاقات مع دول كالولايات المتحدة وفرنسا وبولندا واليابان وكوريا الجنوبية، التي هي دول في منافسة جيوسياسية مباشرة مع «جارتي»... روسيا والصين.

وفي هذا السياق، زار منغوليا عدد من القادة العالميين البارزين عام 2023، بينهم البابا فرنسيس (أصبح أول بابا يزور البلاد) ورئيسا فرنسا وبولندا. كذلك زار رئيس وزراء منغوليا الولايات المتحدة، واستضافت وزارة خارجيتها اجتماعاً لوزيرات الخارجية النساء في أولان باتار. وعام 2023، أيضاً، عزّزت الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية شراكتيهما الاستراتيجيتين مع منغوليا، ودشنتا آلية حوار ثلاثية مع التركيز على المعادن الحيوية. وبدأت الشركات الفرنسية مفاوضات لتطوير منجم لليورانيوم في منغوليا، بهدف التصدير إلى السوق الصينية.

وبالنسبة للعلاقات مع واشنطن بالذات، زار رئيس وزراء منغوليا لوفسان نامسراي أويون-إردين وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) وأجرى مباحثات رسمية، ووقّعت منغوليا والولايات المتحدة مذكرة تفاهم بشأن إدارة وتطوير الموارد المعدنية. وفي السنوات الأخيرة، تطرّقت القيادة المنغولية مراراً لـ«القيم الأميركية المشتركة، من حيث حقوق الإنسان، وتنمية الحرية»، مؤكدة أن الولايات المتحدة ليست جارتها الثالثة الاستراتيجية فحسب، بل أيضاً «النجم القطبي المرشد في رحلة منغوليا صوب الديمقراطية».

الموقع الحيوي الحساسواستطراداً، في بيان له قال السياسي والصحافي المنغولي إلبغدورغ تساخيا، الذي شغل منصب رئيس منغوليا من عام 2009 إلى عام 2017 «إن موقعنا استراتيجي، لأن منغوليا تقع على العمود الفقري للصين، في حين تضرب الجزء السفلي من روسيا».

أيضاً، قال ميندي جارغالسيخان، عميد الأبحاث في معهد الدراسات الاستراتيجية في منغوليا، في مقال له «لقد أظهرت منغوليا المرونة في إطار سياستها الخارجية المستقلة، والديمقراطية، والاقتصاد. لكن السياسات المحلية التنافسية والسياسات الاقتصادية الشعوبية غير الفعالة من المرجح أن تشكل التحدي الأكبر. وفي حين لا تتورّط منغوليا غالباً بصورة مباشرة في الصراعات الدولية، فإنها تتأثر بها. ويتعيّن على أولان باتار أن تستجيب لهذا التحديات عبر تحقيق التوازن بين العلاقات الإقليمية والدولية في حين تُحافظ على الديمقراطية والاستقرار والنمو الاقتصادي».

إبان الانقسام العقائدي بين موسكو وبكين، من الستينات إلى أواخر الثمانينات، اختارت منغوليا جانب موسكو ضد بكين، وكانت الحليف الأكثر موثوقية لدى الاتحاد السوفياتي في آسيا

منغوليا... جغرافيا وتاريخ وسياسة وموارد

> منغوليا دولة غير ساحلية في شمال شرق آسيا، تهيمن عليها السهوب شبه الصحراوية القليلة السكان. وتحدّها روسيا من الشمال والصين من الجنوب. ونحو 40 في المائة من قوة العمل في البلاد من البدو الرحل، الذين يرعون الماشية في المراعي الواسعة. * العاصمة وأكبر مدن البلاد، أولان باتار، يقطنها نحو نصف سكان البلاد البالغ عددهم 3.4 مليون نسمة. * امتدت الإمبراطورية المنغولية في كل الاتجاهات أيام البطل الوطني جنكيز خان، وحكم نسله الصين لما يقرب من قرن من الزمان تحت اسم سلالة يوان. * في القرن العشرين، حصلت منغوليا على مساعدة من الاتحاد السوفياتي في سعيها للاستقلال عن الصين. * تاريخياً، من النادر تحوّل دولة من الاشتراكية إلى ديمقراطية انتخابية كاملة. لكن منغوليا نجحت عام 1990 في التخلي عن نظام الحزب الواحد (الشيوعي) الذي استمر 70 سنة على النمط السوفياتي لصالح التغييرات السياسية والاقتصادية والانتخابات المتعددة الأحزاب. من الناحية الجيوسياسية، كانت منغوليا لقرون كثيرة كياناً يُعتبر على نطاق واسع «عازلاً» بين روسيا والصين. إلا أنها اليوم تتمتع بقدر عظيم من الأهمية الاقتصادية العالمية بعدما أصبحت تمتلك مواد خام ذات أهمية استراتيجية مثل اليورانيوم. * احتياطي منغوليا من اليورانيوم يصل إلى نحو 62 ألف طن؛ ما يجعلها من بين أكبر 15 دولة من حيث الاحتياطي، لكنها لا تمتلك محطة للطاقة النووية ولا أسلحة نووية. وكانت روسيا هي أول دولة توقّع اتفاقاً مع منغوليا حول العمليات المشتركة لتخصيب اليورانيوم. * الانتخابات البرلمانية هذا العام كانت واحدة من أهم الانتخابات في تاريخ منغوليا الحديث. إذ منذ اعتماد الدستور الديمقراطي لمنغوليا عام 1992، كان البرلمان (يضم 76 عضواً) يهيمن عليه معظم الوقت حزبان سياسيان رئيسيان «الحزب الديمقراطي» و«حزب الشعب المنغولي». لكن في الصيف الماضي، أجري تغييران دستوريان مهمان؛ إذ زيدت مقاعد البرلمان من 76 مقعداً إلى 126 مقعداً، مع شغل 78 مقعداً من خلال الانتخابات المباشرة و48 مقعداً عبر التمثيل النسبي. * ضم البرلمان الجديد ممثلين عن عدد من الأحزاب، وللمرة الأولى انتُخبت 32 نائبة، أي 25 في المائة من العدد الإجمالي للأعضاء، وهذه أعلى نسبة من النساء في برلمانات آسيا.