بدر عبد العاطي... «مهندس العلاقات الأوروبية» يترأس «الخارجية المصرية»

دبلوماسي مخضرم بدأ حياته باحثاً سياسياً

بدر عبد العاطي... «مهندس العلاقات الأوروبية» يترأس «الخارجية المصرية»
TT

بدر عبد العاطي... «مهندس العلاقات الأوروبية» يترأس «الخارجية المصرية»

بدر عبد العاطي... «مهندس العلاقات الأوروبية» يترأس «الخارجية المصرية»

متعهداً بـ«استكمال مسيرة من سبقوه»، تسلّم الدبلوماسي المخضرم الدكتور بدر عبد العاطي مهام عمله وزيراً للخارجيّة والهجرة وشؤون المصريين بالخارج، ضمن حكومة الدكتور مصطفى مدبولي الجديدة التي أدّت اليمين الدستورية في الثالث من يوليو (تموز) الحالي.

عبد العاطي، الذي لقبته الصحافة المحلية بـ«مهندس العلاقات المصرية - الأوروبية»، ووصفه سياسيون بـ«الرجل العصامي المجتهد»، تسلّم زمام الدبلوماسية المصرية في ظرف استثنائي يجعله مضطراً للتعامل مع تحديات عدة؛ بغية «الدفاع عن مصالح بلاده وأمنها القومي». وهو الهدف الذي وضعه الوزير الجديد نصب عينيه، مؤكداً في أول تصريحاته الصحافية بصفته وزيراً للخارجيّة اعتزامه «مواصلة مسيرة تعزيز العلاقات مع شركاء بلاده الإقليميين والدوليين والدفاع عن القضايا العربية والأفريقية في مختلف المحافل»، مقتنعاً بأن «الدبلوماسية المصرية العريقة قادرة على أن ترسو بالبلاد على بر الأمان وسط التحديات الإقليمية والدولية المتفاقمة».

ويقود عبد العاطي دفة السياسة الخارجية المصرية، وسط تعويل كبير على خبراته الدبلوماسية العملية التي امتدّت لنحو 35 سنة، وامتزجت بدراسة أكاديمية للعلوم السياسية، مع توقعات بأن تكون طريقته في الأداء أقرب لمدرسة وزير الخارجية الأسبق rnعمرو موسى.

باحث ودبلوماسي

ولد بدر عبد العاطي في الثامن من فبراير (شباط) عام 1966 في مدينة أسيوط بصعيد مصر، لأسرة متوسطة بسيطة. وكان متفوقاً في كل مراحل دراسته، الأمر الذي أهله للالتحاق بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، التي تعد إحدى «كليات القمة»، نظراً لاشتراطها حصول الطالب على درجات مرتفعة في امتحان الثانوية العامة.

تخرّج عبد العاطي في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية حاصلاً على درجة البكالوريوس في العلوم السياسية عام 1987. وبدأ حياته المهنية باحثاً في «مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية» خلال الفترة بين1987 و1989، والمركز واحد من أهم مراكز الأبحاث السياسية في الشرق الأوسط. وفي تلك الفترة كتب عبد العاطي العديد من الأوراق البحثية في مجال السياسة الدولية. غير أن وظيفة الباحث السياسي لم ترض طموحه المهني، ما دفعه للتقدم لاختبارات التوظيف بوزارة الخارجية في عام 1989، وهي الاختبارات التي نجح فيها بتفوق كعادته، وكان «الأول على دفعته رغم عدم امتلاكه واسطة ذات شأن»، بحسب تأكيد أصدقائه.

تنقلات بين القاهرة وعواصم عالمية

عمل بدر عبد العاطي في وظيفة ملحق بوزارة الخارجية المصرية حتى عام 1991، قبل أن ينتقل إلى العمل سكرتيراً ثالثاً في السفارة المصرية بتل أبيب حتى عام 1995، وهناك كان مسؤولاً عن شؤون إسرائيل الداخلية وعملية السلام في الشرق الأوسط. وعقب انتهاء عمله في تل أبيب عاد عبد العاطي إلى ديوان وزارة الخارجية بالقاهرة، بعدما ترقّى لدرجة سكرتير ثانٍ، وعمل مساعداً لوزير الخارجية لشؤون التعاون الاقتصادي الإقليمي في الشرق الأوسط.

خلال تلك الفترة، حرص عبد العاطي على صقل مهاراته الدبلوماسية العملية بالدراسات الأكاديمية، حيث حصل على درجة الماجستير في العلاقات الدولية من جامعة القاهرة عام 1996، وقد ركز موضوعها على السياسة الخارجية المصرية تجاه فلسطين. وجاء حصوله على الدرجة العلمية الأكاديمية في العام ذاته الذي كان فيه عضواً في الوفد المصري إلى المؤتمر الاقتصادي للشرق الأدنى والأوسط وشمال أفريقيا بالقاهرة.

وبعدها، عام 1997 التحق عبد العاطي بالسفارة المصرية في طوكيو في وظيفة سكرتير ثاني، وكان مسؤولاً في الوقت ذاته عن الشؤون الأفريقية وعملية السلام في الشرق الأوسط وإيران. قبل أن يعود مرة أخرى إلى ديوان وزارة الخارجية عام 2001، سكرتيراً أول، مع احتفاظه بالمسؤولية عن الشؤون الأفريقية وعملية السلام في الشرق الأوسط. وفي تلك الفترة استكمل دراسته الأكاديمية، فحصل على درجة الدكتوراه في العلاقات الدولية من جامعة القاهرة عام 2003، كما عمل محاضراً في «أكاديمية ناصر العسكرية». وأيضاً، في ذلك العام انتقل إلى الولايات المتحدة الأميركية للعمل مستشاراً سياسياً في سفارة بلاده في واشنطن، وكان مسؤولاً عن ملفي الشؤون الأفريقية والكونغرس. ثم عاد إلى مصر عام 2007، لكن هذه المرة بصفته رئيساً لقسم فلسطين بوزارة الخارجية.

في عام 2008، أصبح عبد العاطي نائباً لرئيس البعثة الدبلوماسية المصرية في بروكسل، وظل هناك حتى عام 2012، حين عاد إلى مصر ليشغل منصب نائب وزير الخارجية المسؤول عن الاتحاد الأوروبي وأوروبا الغربية واتحاد التنسيق الوطني في البحر الأبيض المتوسط. ويرى مراقبون أن أسباب تنقل عبد العاطي في هذه المناصب المتعددة تعود أولاً إلى «جهده وعمله الدؤوب»؛ لأنه رجل «غير روتيني»، يمارس عمله بحب.

الناطق الرسمي

من جهة ثانية، على الرغم من كل الوظائف السابقة، لم يبرز اسم عبد العاطي على الساحة المحلية إلا عقب تعيينه ناطقاً باسم وزارة الخارجية في يونيو (حزيران)، وهي الوظيفة التي ظل فيها حتى عام 2015. وهذه الفترة جعلته يحتك بالأوساط الإعلامية، لا سيما مع «حرصه الدائم على التواصل ليلاً ونهاراً»، وفق كلام صحافيين وإعلاميين عاصروه في تلك الفترة. أيضاً، وبينما تثير طريقته الحماسيّة في الاشتباك مع الأحداث السياسية إعجابَ البعض كونها تكسب العمل الدبلوماسي «زخماً إعلامياً»، فإن البعض الآخر ربما يخشون «حدّته» في التعامل مع بعض القضايا أحياناً. وهم في هذا يستندون إلى حوار تلفزيوني أجراه عبر الهاتف عندما كان ناطقاً باسم الخارجية، أظهر خلاله حدة في الرد، في مسعى للتأكيد على سرعة استجابة وزارته لاتصالات المصريين العالقين في ليبيا.

... وسفيراً لدى ألمانيا

في سبتمبر (أيلول) عام 2015، عيّن عبد العاطي سفيراً لمصر لدى ألمانيا، في فترة كانت تشهد فتوراً في العلاقات بين البلدين عقب «ثورة 30 يونيو» التي أطاحت بحكم «الإخوان» في مصر عام 2013. وفي مايو (أيار) 2016، استدعته وزارة الخارجية الألمانية لـ«إبداء عدم فهمها السبب وراء إغلاق مكتب مؤسسة ألمانية في القاهرة». وطالبت بإعادة فتح مكتب مؤسسة «فريدريش نومان» المرتبطة بحزب الديمقراطيين الأحرار الليبرالي.

وبالفعل، عمل عبد العاطي لمدة أربع سنوات أمضاها في ألمانيا بين عامي 2015 و2019 على استعادة العلاقات بين القاهرة وبرلين. وظهر مدافعاً عن صورة بلاده، وموجّهاً انتقادات علنية لمنظمات حقوقية دولية انتقدت أوضاع حقوق الإنسان في مصر. وبالنسبة لعبد العاطي، فإن العلاقات مع ألمانيا «تقوم على شراكة استراتيجية حقيقية، ووضع مربح يجلب منافع متبادلة، وهي ليست علاقة بين مانح ومتلقٍّ».

وبالفعل، شهدت العلاقات بين البلدين تطوراً ملحوظاً إبان فترة عمل عبد العاطي؛ إذ زار الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ألمانيا أربع مرات. وزارت المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل مصر مرتين. كما وُقعت أول اتفاقية بين القاهرة وبرلين لتعزيز التعاون في مجال مكافحة «الهجرة غير المشروعة».

ويبدو أن تقدير نجاح عبد العاطي في ألمانيا لم يكن مقصوراً على المصريين، ففي أكتوبر (تشرين الأول) 2020 منحته ألمانيا وسام «صليب الاستحقاق الأكبر»؛ لأنه «برهن خلال فترة عمله سفيراً لمصر في ألمانيا، على مدى أهمية مواصلة تعزيز العلاقات بين البلدين»، وفق سفير ألمانيا في القاهرة في ذلك الوقت سيريل نون.

حملة انتقادات

في المقابل، تعرّض عبد العاطي خلال فترة عمله سفيراً لمصر في ألمانيا لانتقادات وحملات «تشويه» تداولها نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي ونقلتها وسائل إعلام محلية، وصلت حد اتهامه بـ«الاختلاس» والادعاء بأنه جرى إبعاده عن منصبه في برلين، الأمر الذي دفع وزارة الخارجية المصرية لإصدار بيان في مايو 2017، أكّدت فيه «نفيها القاطع توجيه أي اتهامات بالاختلاس لسفير مصر في برلين، أو تسجيل إحدى سيارات السفارة باسم السفير المصري»، ليبقى عبد العاطي سفيراً لبلاده لدى ألمانيا سنتين أُخريين بعد هذه الواقعة.

ورداً على تلك الاتهامات، أصدرت الجالية المصرية في ألمانيا بياناً في الشهر ذاته، أعربت خلاله عن «رفضها لحملة التشويه التي يتعرّض لها عبد العاطي»، مؤكدة أنه «أفضل من تولى هذا المنصب الرفيع في توقيت حرج للغاية، ونجح بامتياز في تحسين صورة مصر والمصريين وإعادة العلاقات المصرية - الألمانية إلى سابق عهدها».

الشراكة الأوروبية

ومن ثم، بعد انتهاء عمله في ألمانيا عاد عبد العاطي إلى القاهرة، حيث شغل منصب مساعد الوزير للشؤون الأوروبية. ثم اختير سفيراً لدى بلجيكا ودوقية لوكسمبورغ، ومندوباً لمصر لدى «الاتحاد الأوروبي» وحلف شمال الأطلسي «الناتو»، خلال مارس (آذار) 2022. وحقاً، لم تمنعه علاقاته الطيبة مع أوروبا من توجيه انتقادات للغرب ولميوله من الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وهي انتقادات تناقلتها وسائل إعلام غربية أبرزت اتهامه للغرب بالانحياز لإسرائيل، ما يضر بسمعته في الشرق الأوسط.

هذه الانتقادات للسياسات الغربية لم تقف - بدورها - حائلاً دون تحسين علاقات بلاده مع أوروبا، وهي العلاقات التي يعدّها عبد العاطي «مهمة» لاعتبارات عدة؛ ذلك أنه يرى أن «أوروبا تحتاج إلى مصر بوصفها دولة محوَرية وركيزة الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، وبوابة الدخول إلى القارة الأفريقية، إضافة إلى دورها في مكافحة الإرهاب والهجرة غير المشروعة. وفي المقابل، تحتاج مصر لأوروبا بوصفها شريكاً مهماً في التنمية والتحديث، ومصدراً رئيساً للاستثمار والتكنولوجيا والتدريب وأكبر سوق مصدر للسياحة إلى مصر». وفعلاً نجح عبد العاطي في تعزيز علاقات مصر مع الاتحاد الأوروبي، وكان له دور بارز في المباحثات التي أدت في النهاية إلى ترفيع العلاقات بين الجانبين إلى مستوى «الشراكة الاستراتيجية والشاملة»، خلال قمة مصرية - أوروبية استضافتها القاهرة في مارس الماضي.

إنها حقبة جديدة في العمل الدبلوماسي المصري بدأت بتولي بدر عبد العاطي حقيبة الخارجية، وبينما لا يُنتظر أن تشهد الفترة المقبلة تغيّرات في السياسة الخارجية المصرية، المرتبطة بمدرسة دبلوماسية عريقة وثوابت لا تتغير بتغير الأشخاص، يتوقع مراقبون نشاطاً متزايداً في ملفات عدة على رأسها الشراكة مع أوروبا، إضافة إلى الملفات الرئيسة الأخرى على أجندة السياسة المصرية مثل فلسطين وليبيا والسودان و«سد النهضة» الإثيوبي. القاهرة: فتحية الدخاخني


مقالات ذات صلة

«صراع الأضداد» في فرنسا يحمى وطيسه

حصاد الأسبوع ميلونشون يحيي مناصريه اليساريين (آ ف ب /غيتي)

«صراع الأضداد» في فرنسا يحمى وطيسه

فرنسا غارقة اليوم في أزمة سياسية - مؤسساتية لم تعرف مثيلاً لها منذ ستينات القرن الماضي التي أفضت وقتها وتحديداً يوم 28 أبريل (نيسان) 1969 إلى استقالة رئيس الجمهورية، الجنرال شارل ديغول، مؤسس «الجمهورية الخامسة» الذي كان في السلطة في عامه الحادي عشر. وما بين ذلك التاريخ واليوم، تَعاقب على السلطة سبعة رؤساء: جورج بومبيدو وفاليري جيسكار ديستان وفرنسوا ميتران وجاك شيراك ونيكولا ساركوزي وفرنسوا ميتران والرئيس الحالي إيمانويل ماكرون الذي انتُخب لولاية أولى ربيع عام 2017. وخلال هذه العهود، استقر في قصر الأليزيه رؤساء من اليمين ومن اليسار وعرفت فرنسا ثلاث مراحل مما يسمى «التعايش» أو «المساكنة» بين رئيس للجمهورية ينتمي إلى معسكر سياسي ورئيس حكومة من معسكر آخر.

حصاد الأسبوع عمرو موسى

وزراء تعاقبوا على حقيبة الخارجية المصرية

> يمتد تاريخ وزارة الخارجية المصرية لأكثر من مائة سنة، تعاقب خلالها على قيادة دفة الدبلوماسية المصرية أكثر من 40 وزيراً.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
حصاد الأسبوع  رئيس الوزراء المنغولي في لقاء آخر مع الرئيس الصيني شي جينبينغ (تشينخوا)

انتخابات منغوليا وانعكاساتها مع «جاريها العملاقين»... الصين وروسيا

بعد الانتخابات البرلمانية الأخيرة في منغوليا، الدولة الآسيوية غير الساحلية، شُكّلت حكومة ائتلافية برئاسة رئيس الوزراء لوفسان نامسراي أويون-إردين، بعدما حرم الناخبون الساخطون «حزب الشعب المنغولي» الحاكم من الغالبية البرلمانية، وإرغام لوفسان نامسراي على تشكيل حكومة ائتلافية مع أحزاب المعارضة. وللعلم، حصل الحزبان المنافسان الرئيسان، أي «الحزب الديمقراطي» وحزب «خون»، على مقاعد كثيرة في البرلمان، لكنهما لم يتمكنا من تحدّي حكومة «حزب الشعب المنغولي».

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع المصفحة الرسمية بين الرئيسين فلاديمير بوتين وكيم جونغ أون في بيونغ يانغ (رويترز)

شراكة بوتين «الاستراتيجية» مع بيونغ يانغ توسّع المواجهة مع الغرب

قد تشكّل الزيارة «التاريخية»، كما وصفتها موسكو وبيونغ يانغ، للرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى كوريا الشمالية، نقطة تحوّل رئيسية في الصراع المتفاقم بين روسيا

رائد جبر (موسكو)
حصاد الأسبوع  اعتمد آرسي فور تسلمه السلطة «قسيمة الجوع» لجميع المواطنين البالغين من غير ذوي الدخل الثابت... وقرّر تمويلها من ضريبة فرضها على أصحاب الثروات الكبرى

لويس آرسي... رئيس بوليفيا الاشتراكي قائد سفينة الاقتصاد

في صبيحة الأربعاء من الأسبوع الماضي، اقتحمت ناقلة جند مصفحة بوابة مقر رئاسة الحكومة البوليفية في العاصمة لاباز، وعلى متنها القائد العام للقوات المسلحة الجنرال

شوقي الريّس (مدريد)

قراءة في توجّه تونس شرقاً نحو الصين وآسيا

الرئيس التونسي قيس سعيّد مع مسنضيفه الرئيس الصيني شي جينبينغ في بكين - رويترز
الرئيس التونسي قيس سعيّد مع مسنضيفه الرئيس الصيني شي جينبينغ في بكين - رويترز
TT

قراءة في توجّه تونس شرقاً نحو الصين وآسيا

الرئيس التونسي قيس سعيّد مع مسنضيفه الرئيس الصيني شي جينبينغ في بكين - رويترز
الرئيس التونسي قيس سعيّد مع مسنضيفه الرئيس الصيني شي جينبينغ في بكين - رويترز

أعربت مصادر غربية خلال الأسابيع القليلة الماضية عن انشغالها «بتوجّه تونس شرقاً»، خصوصاً نحو الصين وروسيا وآسيا. وأثارت المصادر نفسها علامات استفهام حول امتناع الرئيس التونسي قيس سعيّد عن تلبية دعوة وُجِّهت له للمشارَكة في أشغال اليوم الثاني من قمة «مجموعة الدول السبع»، التي نُظّمت في إيطاليا، وحضرها كذلك «ضيوف شرف»، بينهم رؤساء الجزائر وموريتانيا وتركيا والبرازيل ودولة الإمارات العربية المتحدة. وللعلم، سعيّد كلّف رئيس حكومته أحمد الحشّاني تعويضه، في خطوة انتقدتها أوساط إعلامية وسياسية غربية، لا سيما أنها جاءت بعد أول زيارة رسمية قام بها الرئيس التونسي إلى بكين في مرحلة تعدّدت فيها «المؤشرات» على توجّه تونس بنسق أسرع نحو الصين وروسيا اللتين ازداد دوراهما في الجزائر وليبيا وعدد من الدول الأفريقية.

فسّرت مصادر دبلوماسية أوروبية في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» التوجّه المتزايد للسلطات التونسية نحو آسيا بأنه «رسالة احتجاج وتحذير لباريس وواشنطن وبقية العواصم الغربية»؛ بسبب امتناعها عن تقديم ما تحتاجه تونس من «دعم مالي» لاقتصادها المأزوم. وتابعت المصادر أن ثمة عنصراً آخر يمكن أن يفسّر «توجّه تونس شرقاً» هو الرد العملي «على انتقادات العواصم الغربية» للحكومة التونسية تحت يافطة «حقوق الإنسان».

مقابل ذلك، أعلنت قيادات عليا في بكين وموسكو، وأيضاً في بعض دول المشرق العربي الإسلامي، دعماً سياسياً «غير مشروط للسلطات التونسية في الخطوات التي قامت بها منذ قرارات 25 يوليو (تموز) 2021، التي تطوّرت إلى حلّ البرلمان السابق، والحكومة، ومؤسّسات منتخبة عدة.

في هذه الأثناء، كشف آخر الإحصاءات الرسمية التونسية أن كلاً من الصين وروسيا وتركيا والجزائر ضاعفت خلال العامين الماضيين مبادلاتها التجارية مع تونس، وأصبحت في المرتبة الأولى في قطاعات كثيرة.

هذا الأمر يطرح تساؤلات عمّا تعنيه هذه التطورات في علاقات تونس الخارجية... وهل تؤشر لـ«مسار جديد» هدفه تنويع الشركاء عالمياً، أم هي نوع من «التمرد» على «الشركاء التقليديين» في أوروبا الغربية والولايات المتحدة تمهيداً لانخراط في «محاور دولية جديدة» بقيادة بكين وموسكو، أم تراها مجرد «ورقة ضغط ذكية» على الشركاء الغربيين التقليديين، خصوصاً في باريس وبرلين وواشنطن؛ كي توقف انتقاداتها للسلطات التونسية بسبب «ملفات الحريات»؟

احترام السيادة الوطنية

وزير الخارجية التونسي نبيل عمّار ألقى أخيراً محاضرةً في الجامعة التونسية تكلمّ فيها عن زيارة الرئيس سعيّد إلى الصين، وعن «فتح آفاق جديدة أمام الدبلوماسية التونسية». وممّا قاله عمّار بوضوح أن تونس ستقيم علاقاتها مع شركائها في العالم وفق مقاييس عدة، من بينها «احترام سيادتها الوطنية، والإحجام عن التدّخل في سياستها الداخلية».

وهنا علّق السفير منذر الظريف، مدير عام المعهد الدبلوماسي سابقاً، في تصريح لـ«الشرق الأوسط» قائلاً إن «الصين شريك مميّز لتونس منذ أن كانت أول دولة اعترفت باستقلال تونس عن فرنسا عام 1956». وأردف موضحاً أنه سبق لبكين أن موّلت مشاريع زراعية وصحية وتجارية ضخمة في تونس، وهي راهناً تعدّ لإبرام صفقات مهمة في قطاعات الجسور والطرقات والبنية الأساسية والتعليم والدفاع والأمن.

«نظام دولي جديد»

وحقاً، يلاحظ أن كلمات الرئيس قيس سعيّد في العاصمة الصينية، وأيضاً في تونس والجزائر تضمّنت دعوات مباشرة إلى بناء «نظام دولي جديد». ومشيراً هنا إلى أن تونس عزّزت أخيراً شراكتها الاقتصادية مع الجزائر، التي تتعرّض بدورها إلى انتقادات فرنسية وأوروبية وغربية؛ بسبب مضاعفة مبادلاتها واستثماراتها المشتركة مع الصين وروسيا وتركيا وقطر على حساب علاقاتها التقليدية مع فرنسا ودول الاتحاد الأوروبي.

كذلك دخلت تونس في «حلف ثلاثي مؤقت»، مع الجزائر وليبيا، كان قد أُعلن في أعقاب «القمة المغاربية المصغّرة» التي عُقدت قبل أسابيع في تونس، واختُتمت ببيان ختامي تكلّم عن «رفض التدخل الأجنبي في قضايا دول المنطقة»، بما فيها الأزمة الليبية، والنزاعات في أفريقيا.

«التموضع» التحالفي

وبالفعل، أثارت نتائج تلك «القمة المغاربية الثلاثية» انتقادات فرنسية وغربية جديدة لتونس والجزائر وحلفائهما في ليبيا. وأجرى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بعدها مباشرة مكالمةً هاتفيةً مع نظيره التونسي، فسّرها المراقبون بكونها «رسالة تطمينات» سياسية واضحة تحثّ تونس والجزائر على تحاشي الخروج من «الفضاء الفرنكوفوني والأوروبي المتوسطي».

وفي المقابل، صدرت أخيراً في كل من بكين وموسكو وطهران والجزائر انتقادات عديدة لما عدّته هذه العواصم «محاولة انتهاك للسيادة الوطنية التونسية» و«تدخلاً أجنبياً في شؤون البلاد»، وبالأخص، بعد البيانات الأوروبية والغربية الرسمية والحملات الصحافية على السلطات التونسية؛ بسبب ملفات الحريات وحقوق الإنسان».

القمة الفرنكوفونية المنعقدة عام 2022 في جزيرة جربة التونسية - رويترز

المواقف داخلياً

أما على الصعيد الداخلي، فقد دعّم زهير حمدي الأمين العام لحزب «التيار الشعبي»، وزهير المغزاوي الأمين العام لحزب «الشعب القومي»، ومعهما قياديون من حزب «مسار 25 يوليو»، في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» توجّه السلطات التونسية شرقاً وانفتاحها أكثر على الصين وروسيا وبقية الدول الآسيوية. ومن ناحية ثانية، رحّب هؤلاء أيضاً بقرار وزارة الخارجية التونسي أخيراً إلغاء تأشيرات الدخول بالنسبة للسياح الإيرانيين والعراقيين.

... وخارجياً

ولكن في سياق التطورات السريعة في علاقات تونس الخارجية مع «المحور الصيني – الروسي - الآسيوي» شنّ عددٌ من أبرز وسائل الإعلام الفرنسية والغربية حملة انتقادات جديدة للسلطات التونسية. وأبرزت مواقع تلفزيونية وصحافية قريبة من حكومة باريس تقارير جديدة عن الزيارة التي قام بها وزير الخارجية الروسي لافروف قبل أشهر إلى تونس والمنطقة، وأسفرت عن إعلان «ترفيع» الشراكة بين البلدين، والاتفاق على تبادل الزيارات بين الرئيسين فلاديمير بوتين وقيس سعيّد.

بل ذهبت تقارير جديدة، نشرتها وسائل إعلام رسمية فرنسية، تلفزيونية ومكتوبة، حد نشر «إشاعات» عن فتح مطارات تونسية لقوات روسية نظامية وغير نظامية بينها ميليشيا «فاغنر»، بيد أن سفارة تونس في باريس كذّبت هذه «الإشاعات». وعدّ محسوبون على قصر قرطاج الرئاسي في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» أن هذه الحملة الإعلامية على السلطات التونسية جزء من ضغوط خارجية؛ رداً على رفض الرئيس سعيّد الانصياع لـ«الشروط المجحفة» لصندوق النقد والبنك الدوليَّين.

ويذكر، هنا، أن سعيّد برّر موقفه الرافض بحرصه على ألا تشهد تونس اضطرابات أمنية واجتماعية خطيرة شبيهة بما وقع خلال المواجهات الدامية مع النقابات العمالية والعاطلين عن العمل والفقراء في عهدَي الرئيسَين الأسبقَين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي.

السفارة الفرنسية تتحرك

في أي حال، وفي تزامن مثير للانتباه مع تكثيف اجتماعات الرئيس التونسي ووزير خارجيته مع مسؤولين صينيين وروس وجزائريين وليبيين وإيرانيين وكوريين، ودعواته إلى «نظام عالمي جديد»، كثّفت السفارة الفرنسية في تونس تحركاتها ميدانياً وإعلامياً.

كذلك، نظّم المركز الثقافي التابع للسفارة معرضاً، بالاشتراك مع سفارة فلسطين في تونس و«معهد العالم العربي» بباريس، حول ما يقدمه الفن الفلسطيني والتراث الفلسطيني للعالم بحضور سفير فلسطين في تونس هائل الفاهوم. وجاء هذا التحرك بعد أشهر من المظاهرات أمام مقرَي السفارتَين الفرنسية والأميركية رُفعت فيها شعارات تتهم فرنسا بـ«المشارَكة في العدوان على غزة»، وتطالب بغلق السفارات والمصالح الفرنسية والغربية بتونس... والتوجه نحو الصين وآسيا.

هذه الشعارات والمظاهرات ذكّرت المراقبين الغربيين في تونس بتحركات مماثلة تشهدها منذ مدة دول الساحل والصحراء الكبرى، وكذلك بعض المناطق في ليبيا بـ«دعم من روسيا والصين، وميليشيا فاغنر الروسية غير النظامية».

ومن جانب آخر، أدلت السفيرة الفرنسية آن جيجين، بتصريح لقناة تونسية بالتزامن مع زيارة سعيّد إلى الصين، قالت فيه إن «فرنسا تظل الشريك الاقتصادي الأول لتونس» وإنها «المستثمر الصناعي الأجنبي الأول عام 2023». وأوضحت أن من بين 3800 شركة أجنبية مُستثمِرة في تونس فإن 1560 فرنسية، ومن ثم، أعلنت أن التجارة بين فرنسا وتونس تحقق فائضاً سنوياً مهماً بحجم يفوق مليارَي يورو لصالح تونس؟

نعم... ولكن

ولكن عدداً من أعضاء البرلمان التونسي الحالي، بينهم قادة الأحزاب والمنظمات التونسية اليسارية والقومية المساندة للرئيس سعيّد وللسلطات، يواصلون الضغط إعلامياً وسياسياً على السلطات كي «تتوجّه نحو الصين وبلدان آسيا». ولقد نظّم آلاف من النقابيين اليساريين والنشطاء في «التنسيقية التونسية لمساندة فلسطين»، قبل فترة قصيرة، مظاهرات جديدة أمام سفارات عدة تطالب بـ«قطع العلاقات مع عواصم الدول المشارِكة في حرب الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني» بينها فرنسا والولايات المتحدة وألمانيا. غير أن البعض يقلل من قيمة هذه المظاهرات ويتهمها بـ«الظرفية»، رغم القرار الذي اتخذته طهران بإلغاء تأشيرة الدخول على المسافرين من 28 دولة بينها تونس. وجاء تفاعل تونس مع هذا القرار بإلغاء مقابل، وغير مسبوق، لشرط التأشيرة بالنسبة للسياح الإيرانيين والعراقيين.

عبد الله العبيدي، الدبلوماسي التونسي السابق في ألمانيا، قال في حوار مع «الشرق الأوسط» إنه لا يوافق على «تضخيم» التقارب بين تونس والصين وروسيا ودول آسيا.

ورجّح العبيدي تمسّك السلطات التونسية «بثوابت الدبلوماسية التونسية الكلاسيكية لأسباب موضوعية»، من بينها أن أكثر من 70 في المائة من شراكات تونس الاقتصادية الخارجية، تجارة واستثماراً وسياحة، لا تزال مع أوروبا وأميركا وبقية الدول الغربية. وتابع أن «الانفتاح أكثر على الأصدقاء لا يكون على حساب الشراكة الاستراتيجية مع الحلفاء». ومن ثم، توقّع العبيدي أن تكون «السلطات التونسية بصدد استخدام ذكي لورقة الضغط» على شركائها الأوروبيين والأميركيين، بهدف حثهم على تقديم ما تحتاجه من دعم مالي، وتحذيرهم من سيناريو «اقترابها أكثر من بكين وموسكو وطهران والدول الآسيوية».

وفي حين قال الوزير السابق خالد شوكات في حديث لـ«الشرق الأوسط» إن الدبلوماسية التونسية انخرطت رسمياً في مسار «تنويع الشركاء» والانفتاح أكثر على الصين وبلدان آسيا، بما فيها «مجموعة شنغهاي» التي أُسست قبل 15 سنة بزعامة الصين، وتطوّرت إلى «تكتل تضم أسواقه نحو ثُلث سكان الكرة الأرضية»، فإن معظم المؤشرات ترجّح انتصار «الواقعية» على «المغامرات»، خصوصاً في مرحلة تتأهب فيها البلاد لتنظيم دورة جديدة من الانتخابات الرئاسية. على الرغم

من كل شيء... مراقبون يتوقّعون انتصار «الواقعية» على «المغامرات»

أضواء على التجارة التونسية مع الصين وروسيا

> أعلنت مصادر غربية وتونسية أن عجز الميزان التجاري سنوياً بين تونس وكل من الصين وروسيا ارتفع عام 2023 إلى أكثر من 15 مليار دينار تونسي، أي نحو 5 مليارات دولار أميركي، بينما قُدّر العجز مع الجزائر وتركيا بنحو 8 مليارات دينار تونسي، أي بأكثر من ملياري دولار ونصف.في المقابل تورد الإحصائيات الجديدة لـ«معهد الإحصاء الحكومي» التونسي أن تونس حققت فائضاً تجارياً مع فرنسا وبلدان الاتحاد الأوروبي، بفضل صادرات المؤسسات الصناعية التونسية المشتركة. وهذه الصادرات «تحتل المرتبة الأولى بين موارد الدولة التونسية من العملات الأجنبية قبل السياحة وتحويلات نحو مليوني تونسي مهاجر غالبيتهم في أوروبا»، حسب تصريح الخبير غازي معلى لـ«الشرق الأوسط». وما يستحق الإشارة السفيرة الفرنسية لدى تونس آن جيجين ذكرت أن «المجلس الأعلى للتعاون والشراكة التونسية الفرنسية» سيعقد قريباً.هذا، ودعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نظيره الرئيس التونسي قيس سعيّد لحضور «القمة السنوية للبلدان الفرنكوفونية» في أكتوبر (تشرين الأول) المقبل في باريس، وكانت القمة الأخيرة قد عقدت في جزيرة جربة التونسية. ومن المقرّر أن يحضر سعيّد هذه القمة لتسليم الرئاسة إلى الرئيس الفرنسي، وهذا رغم مؤشرات تراجع الدور العالمي لماكرون وحلفائه الأوروبيين بعد «زلزال» فوز اليمين المتطرف في الانتخابات.بالتوازي، كشف السفير السابق أحمد بن مصطفى عن تراجع إقبال السياح الروس على تونس من نحو 700 ألف سائح إلى بضعة مئات بسبب «حرب أوكرانيا» والحصار الدولي المفروض على روسيا. وهذا الواقع، يقرأه رضا الشكندالي أستاذ الاقتصاد في الجامعة التونسية لـ«الشرق الأوسط»، بأن الإحصائيات الرسمية تبرّر مواصلة الرهان على فرنسا والشركاء الأوروبيين.